أحلى الحكايات من كتاب الأذكياء
لابن الجوزي
في ذكر من وقع في آفة فتخلص منها بالحيلة
ومن استخدم بذكائه المعاريض
· وعن الأصمعي عن أبيه قال : أتي عبد الملك بن مروان برجل كان مع بعض من خرج عليه , فقال : اضربوا عنقه .
فقال : يا أمير المؤمنين , ما كان هذا جزائي منك .
قال : وما جزاؤك ؟
قال: والله ما خرجت مع فلان إلا بالنظر لك , وذلك أني رجل مشئوم , ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم , وقد بان لك صحة ما ادّعيت , و كنت لك خيرا من مئة ألف معك .
فضحك وخلّى سبيله .
· حدّث القاضي أبو الحسين بن عتبة قال :
كانت لي ابنة عم موسرة تزوّجتها, فلم أوثرها لشيء من جمالها , ولكني كنت أستعين بمالها وأتزوّج سرّا, فإذا فطنت بذلك هجرتني و طرحتني وضيّقت عليّ إلى أن أطلّق من تزوجتها , ثم تعود إلي .
فطال ذلك علي , وتزوجت صبيّة حسناء موافقة لطباعي مساعدة على اختياري , فمكثت معي مدة يسيرة , وسعي بها إلى ابنة عمي , فأخذت في المناكدة والتضييق عليّ , فلم يسهل عليّ فراق تلك الصبيّة فقلت لها :
استعيري من كل جارة قطعة من أفخر ثيابها , حتى يتكامل لك خلعة تامّة الجمال , وتبخري بالعنبر, واذهبي إلى ابنة عمي فابكي بين يديها , وأكثري من الدعاء لها والتضرّع إليها إلى أن تضجريها, فإذا سألتك عن حالك, فقولي لها: " إن ابن عمي قد تزوّجني , وفي كل وقت يتزوّج عليّ واحدة , وينفق مالي عليها, وأريد أن تسألي القاضي معونتي وإنصافي منه ", فإنها سترفعك إلي .
ففعلت , فلما دخلت عليها واتصل بكاؤها رحمتها , وقالت لها : فالقاضي شرّ من زوجك , وهكذا يفعل بي .
و قامت فدخلت عليّ , وأنا في مجلس لي , وهي غضبى ويد الصبيّة في يدها, فقالت :
هذه المشئومة حالها مثل حالي , فاسمع مقالها واعتمد إنصافها .
فقلت : ادخلا .
فدخلتا جميعا , فقلت لها : ما شأنك؟
فذكرت ما وافقتها عليه , فقلت لها : هل اعترف ابن عمّك بأنه قد تزوّج عليك ؟
فقالت : لا , والله , وكيف يعترف بما يعلم لا أني لا أقاره عليه ؟
قلت : فشاهدت أنت هذه المرأة ووقفت على مكانها وصورتها ؟
فقالت : لا والله .
فقلت: يا هذه اتقي الله ولا تقبلي شيئا سمعته, فان الحسّاد كثير والطلاب كثير لإفساد النساء كثيرو الحيل والتكذيب , فهذه زوجتي قد ذكر لها أني قد تزوجت عليها , وكل زوجة لي وراء هذا الباب طالق ثلاثا .
فقامت ابنة عمي فقبّلت رأسي وقالت : قد علمت أنه مكذوب عليك أيها القاضي .
ولم يلزمني حنث لاجتماعها بحضرتي .
· حدثنا الأصمعي قال : أتي المنصور برجل ليعاقبه على شيء بلغه عنه , فقال له :
يا أمير المؤمنين , الانتقام عدل , والتجاوز فضل , ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين .
فعفا عنه .
· أخذ زياد رجلا من الخوارج , فأفلت منه , فأخذ أخا له فقال:
إن جئت بأخيك و إلا ضربت عنقك.
قال: أرأيت ان جئت بكتاب من أمير المؤمنين , تخلي سبيلي ؟
قال : نعم .
قال : فأنا آتيك بكتاب من العزيز الرحيم , وأقيم عليه شاهدين : إبراهيم وموسى عليهما السلام :
{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }.
قال زياد : خلوا سبيله , هذا رجل لقن حجته .
· أتى الحجاج برجل ليقتله و بيده لقمة , فقال : والله لا أكلتها حتى أقتلك.
قال : أو خير من ذلك , تطعمينها ولا تقتلني , فتكون قد بررت في يمينك ومننت علي.
فقال : ادن مني . فأطعمه إياه وخلاه .
· وأتي الحجاج برجل من الخوارج , فأمر بضرب عنقه , فاستنظره يوما , فقال : ما تريد بذلك ؟
قال : أؤمل عفو الأمير مع ما تجري به المقادير .
فاستحسن قوله وخلاه .
· خرج واصل بن عطاء يريد سفرا في رهط , فاعترضهم جيش من الخوارج, فقال واصل :
لا ينطقن أحد ودعوني معهم .
فقصدهم واصل , فلما قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا, فقال :
كيف تستحلون هذا وما تدرون من نحن ولا لأي شيء جئنا ؟
فقالوا : نعم . فما أنتم ؟
قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله.
فكفوا عنهم , وبدأ رجل منهم يقرأ عليهم القرآن , فلما أمسك قال واصل :
قد سمعنا كلام الله , فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه , وكيف ندخل في الدين ؟
فقال : هذا واجب . سيروا .
فسرنا والخوارج والله معنا يحموننا فراسخ , حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه , فانصرفوا .
· روي أن الحجاج قال لغلام له : تعال نتنكّر وننظر ما لنا عند الناس .
فتنكّرا وخرجا , فمرّا على المطلب غلام أبي لهب , فقالا :
يا هذا , أي شيء على الحجاج ؟
قال : على الحجاج لعنة الله .
قالا : فمتى يخرج ؟
قال : أخرج الله روحه من بين جنبيه , ما يدريني ؟
قال : أتعرفني ؟
قال : لا .
قال : أنا الحجاج بن يوسف .
قال المطلب : أتعرفني أنت .
قال : لا .
قال : أنا المطلب غلام أبي لهب , أصرع في كل شهر ثلاثة أيام أولها اليوم , فتركه ومضى .
· و بلغنا أن الحجاج انفرد يوما عن عسكره , فلقي أعرابيا فقال :
يا وجه العرب , كيف الحجاج ؟
قال : ظالم غاشم .
قال : فهلا شكوته إلى عبد الملك ؟
فقال : لعنه الله , وهو أظلم منه وأغشم .
فأحاط به العسكر, فقال : أركبوا البدوي .
فأركبوه , فسأل عنه , فقالوا : هو الحجاج , فركض من الفرس خلفه , وقال : يا حجاج !
قال : ما لك؟
قال : السر الذي بيني وبينك لا يطلع عليه أحد .
فضحك وخلاه .
· كان أبو الحسين بن السمّاك يتكلّم على الناس بجامع المدينة , وكان لا يحسن من العلوم شيئا إلا ما شاء الله , وكان مطبوعا يتكلّم على مذهب الصوفية , فكتبت إليه رقعة :" ما يقول السادة الفقهاء في رجل مات وخلف كذا وكذا ؟" .
ففتحها فتأمّلها فقرأ : ما تقول السادة الفقهاء في رجل مات ؟
فلما رآها في الفرائض رماها من يده , وقال : أنا أتكلم على مذاهب قوم إذا ماتوا لم يخلفوا شيئا .
فعجب الحاضرون من حدّة خاطره .
منقول