منتديات ياسمين الشام
اهلا وسهلا زائرنا الكريم التسجيل مجاني وسهل ومتاح للجميع
ان كانت زيارتك لموقعنا هي الاولى بامكانك التسجيل
بالضغط على زر التسجيل بهذه الصفحة او اعلى المنتدى



وسنقوم بتفعيل حسابك يدويا ان لم تستطع العودة لايميلك
لنتشرف بك كاحد اعضاء اسرة منتدانا
نرحب بكم اعضاء وزوار
مع تحيات ادارة منتديات ياسمين الشام
منتديات ياسمين الشام
اهلا وسهلا زائرنا الكريم التسجيل مجاني وسهل ومتاح للجميع
ان كانت زيارتك لموقعنا هي الاولى بامكانك التسجيل
بالضغط على زر التسجيل بهذه الصفحة او اعلى المنتدى



وسنقوم بتفعيل حسابك يدويا ان لم تستطع العودة لايميلك
لنتشرف بك كاحد اعضاء اسرة منتدانا
نرحب بكم اعضاء وزوار
مع تحيات ادارة منتديات ياسمين الشام
منتديات ياسمين الشام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


ثقافة منوعات مجتمع علوم تسلية
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 05, 2012 6:08 pm

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

المقدمة
كتاب اللؤلؤة في السلطان
السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا؛ وهو حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده؛ به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم، وينقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم.
قالت الحكماء: إمام عادل، خير من مطر وابل؛ وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم؛ ولما يزع الله بالسلطان أكثر ما يزع بالقرآن.
وقال وهب بن منبه: فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السلام: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.
فحق على من قلده الله أزمة حكمه، وملكه أمور خلقه؛ واختصه بإحسانه، ومكن له في سلطانه، أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيته، والاعتناء بمرافق أهل طاعته؛ بحيث وضعه الله عز وجل من الكرامة، وأجرى له من أسباب السعادة. قال الله عز وجل: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر والله عاقبة الأمور " .
وقال حذيفة بن اليمان: ما مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل موتهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته.
وقال الشاعر:
فكلكم راع ونحن رعية ... وكل سيلقى ربه فيحاسبه
ومن شأن الرعية قلة الرضا عن الأئمة، وتحجر العذر عليهم، وإلزام اللائمة لهم؛ ورب ملوم لا ذنب له. ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة، إذ كان رضا جملتها، وموافقة جماعتها؛ من المعجز الذي لا يدرك، والممتنع الذي لا يملك؛ ولكل حصته من العدل، ومنزلته من الحكم.
فمن حق الإمام على رعيته أن تقضي عليه بالأغلب من فعله، والأعم من حكمه. ومن حق الرعية على إمامها حسن القبول لظاهر طاعتها، وإضرابه صفحاً عن مكاشفتها، كما قال زياد لما قدم العراق والياً عليها: أيها الناس، قد كانت بيني وبينكم إحن، فجعلت ذلك دبر أذني، وتحت قدمي، فمن كان محسناً فليزد في إحسانه، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته. إني والله لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي صفحته لي.
وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر.
وقال كعب الأحبار: مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد، فالفسطاط الإسلام؛ والعمود السلطان؛ والأطناب والأوتاد الناس. ولا يصلح بعضها إلا ببعض.
وقال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إلا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
نصيحة السلطان ولزوم طاعته
قال الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " .
وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة. وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من فارق الجماعة، أو خلع يداً من طاعة، مات ميتة جاهلية.
وقال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم.
فنصح الإمام ولزوم طاعته وإتباع أمره ونهيه في السر والجهر فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.
الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال لي أبي: أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً.
قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحد خير من ألف. قال: إي والله، ومن عشرة آلاف.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم



عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 9:37 pm

وروي أن عامر بن عبد القيس في نسكه وزهده وتقشفه وإخباته وعبادته كلمه حمران مولى عثمان بن عفان عند عبد الله بن عامر صاحب العراق في تشنيع عامر على عثمان وطعنه عليه، فأنكر ذلك، فقال له حمران: لا كثر الله فينا مثلك؛ فقال له عامر: بل كثر الله فينا مثلك؛ فقيل له أيدعو عليك وتدعو له؟ قال: نعم، يكسحون طرقنا ويخرزون خفافنا ويحوكون ثيابنا. فاستوى ابن عامر جالسا وكان متكئا، فقال: ما كنت أظنك تعرف هذا الباب لفضلك وزهادتك؛ فقال: ليس كل ما ظننت أني لا أعرفه لا أعرفه. وقالوا: إن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد لما وجه أخاه عبد العزيز إلى قتال الأزارقة هزموه، وقتلوا صاحبه مقاتل بن مسمع، وسبوا امرأته أم حفص بنت المنذر بن الجارود العبدي، فأقاموها في السوق حاسرة بادية المحاسن، غالوا فيها، وكانت من أكمل الناس كمالا وحسنا، فتزايدت فيها العرب والموالى، وكانت العرب تزيد فيها على العصبية، والموالى تزيد فيها على الولاء، حتى بلغتها العرب عشرين ألفا، ثم تزايدوا فيها حتى بلغوها تسعين ألفا، فأقبل رجل من الخوارج من عبد القيس من خلفها بالسيف فضرب عنقها، فأخذوه ورفعوه إلى قطري بن الفجاءة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا استهلك تسعين ألفا من بيت المال، وقتل أمة من إماء المؤمنين؛ فقال له: ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت هؤلاء الإسماعيلية والإسحاقية. قد تنازعوا عليها حتى ارتفعت الأصوات واحمرت الحدق، فلم يبق إلا الخبط بالسيوف، فرأيت أن تسعين ألفا في جنب ما خشيت من الفتنة بين المسلمين هينة. فقال قطري: خلوا عنه، عين من عيون الله أصابتها. قالوا: فأقد منه؛ قال: لا أقيد من وزعة؛ الله ثم قدم هذا العبدي بعد ذلك البصرة وأتى المنذر بن الجارود يستجديه بذلك السبب، فوصله وأحسن إليه.
قال أبو عبيدة: مر عبد الله بن الأهتم بقوم من الموالي وهم يتذاكرون النحو، فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. قال أبو عبيدة: ليته سمع لحن صفوان وحاقان ومؤمل بن خاقان. الأصمعي قال: قدم أبو مهدية الأعرابي من البادية، فقال له رجل: أبا مهدية، أتتوضأون بالبادية؟ قال: والله يا بن أخي، لقد كنا نتوضأ فيكفينا التوضؤ الواحد الثلاثة الأيام والأربعة، حتى دخلت علينا هذه الحمراء، يعني الموالي، فجعلت تليق أستاهها بالماء كما تلاق الدواة. ونظر رجل من الأعراب إلى رجل من الموالي يستنجي بماء كثير، فقال له: إلى كم تغسلها، ويلك! أتريد أن تشرب بها سويقا؟ وكان عقيل بن علفة المري أشد الناس حمية في العرب، وكان ساكنا في البادية، وكان يصهر إليه الخلفاء. وقال لعبد الملك بن مروان إذ خطب إليه ابنته الجرباء: جنبني هجناء ولدك. وهو القائل:
كنا بني غيظ رجالا فأصبحت ... بنو مالك غيظا وصرنا لمالك
لحى الله دهرا ذعذع المال كله ... وسود أشباه الإماء العوارك
وقال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى، وكان جائرا شديد العصبية.

(1/419)

من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين؛ قال: فما هما؟ قلت: موليان؛ قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار؛ قال: فما هؤلاء؟ قلت: موإلى، قال: فمن فقهاء المدينة؟ قلت: زيد بن أسلم ومحمد ابن المنكدر ونافع بن أبي نجيح؛ قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالى. فتغير لونه، ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي وابن الزناد؛ قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي. فاربد وجهه، ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاووس وابنه وهمام بن منبه؛ قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي. فانتفخت أوداجه وانتصب قاعدا ثم قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني، قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى. فازداد وجهه تربدا واسود اسودادا حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول؛ قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى. فازداد تغيظا وحنقا، ثم قال: فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران؛ قال؛ فما كان؟ قلت: مولى. قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قال: فوالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عيينة وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت: إبراهيم والشعبي؛ قال: فما كانا؟ قلت عربيان، قال: الله أكبر، وسكن جأشه.
وذكر عمرو بن بحر الجاحظ، في كتاب الموالي والعرب: أن الحجاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبد الله بن الجارود، ولقي ما لقي من قرى أهل العراق، وكان أكثر من قاتله وخلعه وخرج عليه الفقهاء والمقاتلة والموالى من أهل البصرة، فلما علم أنهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم، أحب أن يسقط ديوانهم، ويفرق جماعتهم حتى لا يتألفوا، ولا يتعاقدوا، فأقبل على الموالي، وقال، أنتم علوج وعجم، وقراكم أولى بكم، ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب، وسيرهم كيف شاء، ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها، وكان الذي تولى ذلك منهم رجل من بني سعد بن عجل بن لجيم، يقال له خراش بن جابر. وقال شاعرهم:
وأنت من نقش العجلي راحته ... فر شيخك حتى عاد بالحكم
يريد الحكم بن أيوب الثقفي عامل الحجاج على البصرة. وقال آخر، وهو يعني أهل الكوفة، وقد كان قاضيهم رجل من الموالي يقال له نوح بن دراج:
إن القيامة فيما أحسب اقتربت ... إذ كان قاضيكم نوح بن دراج
لو كان حيا له الحجاج مابقيت ... صحيحة كفه من نقش حجاج
وقال آخر:
جارية لم تدر ما سوق الإبل ... أخرجها الحجاج من كن وظل
لو كان شاهدا حذيف وحمل ... ما نقشت كفاك من غير جدل
ويروى أن أعرابيا من بني العنبر دخل على سوار القاضي، فقال: إن أبي مات وتركني وأخا لي، وخط خطين، ثم قال: وهجينا، ثم خط خطا ناحية، فكيف يقسم المال؟ فقال له سوار: ها هنا وارث غيركم؟ قال: لا؟ قال: فالمال أثلاثا؛ قال: ما أحسبك فهمت عني، إنه تركني وأخي وهجينا، فكيف يأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي؟ قال: أجل؛ فغضب الإعرابي، ثم أقبل على سوار، فقال: والله لقد علمت أنك قليل الخالات بالدهناء؛ قال سوار: لا يضرني ذلك عند الله شيئا.
//كلام العرب قال أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النسب الذي هو سبب إلى التعارف، وسلم إلى التواصل، وفي تفضيل العرب. وفي كلام بعض الشعوبية، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كلام الأعراب خاصة إذ كان أشرف الكلام حسبا، وأكثره رونقا، وأحسنه ديباجا، وأقله كلفة، وأوضحه طريقة، وإذ كان مدار الكلام كله عليه، ومنتسبة إليه

(1/420)

قال رجل من منقر: تكلم خالد بن صفوان بكلام في صلح لم يسمع الناس كلاما قبله مثله، وإذا بأعرابي في بت ما في رجليه حذاء، فأجابه بكلام وددت أبي مت قبل أن أسمعه، فلما رأى خالد ما نزل به قال لي: ويحك! كيف نجاريهم وإنما نحكيهم، أم كيف نسابقهم وإنما نجري بما سبق إلينا من أعراقهم؛ قلت له: أبا صفوان، والله ما ألومك في الأولى، ولا أدع حمدك على الأخرى.
وتكلم ربيعة الرأي يوما بكلام في العلم فأكثر، فكأن العجب داخله، فالتفت إلى أعرابي إلى جنبه، فقال: ما تعدون البلاغة يا أعرابي؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب؛ قال: فما تعدون العي؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم، فكأنما ألقمه حجرا.
قول الأعراب في الدعاء

(1/421)

قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما قوم أشبه بالسلف من الأعراب لولا جفاء فيهم. وقال غيلان: إذا أردت أن تسمع الدعاء فاسمع دعاء الأعراب. قال أبو حاتم: أملى علينا أعرابي! يقال له مرثد: اللهم اغفر لي والجلد بارد، والنفس رابطة، واللسان منطلق، والصحف منشورة، والأقلام جارية، والتوبة مقبولة، والأنفس مريحة، والتضرع مرجو، قبل أز العروق، وحشك النفس، وعلز الصدر، وتزيل الأوصال، ونصول الشعر، وتحيف التراب. وقبل ألا أقدر على استغفارك حين يفنى الأجل، وينقطع العمل، أعني على الموت وكربته، وعلى القبر وغمته، وعلى الميزان وخفته وعلى الصراط وزلته، وعلى يوم القيامة وروعته، اغفر لي مغفرة واسعة، لا تغادر ذنبا، ولا تدع كربا، اغفر لي جميع ما افترضت علي ولم أؤده إليك، اغفر لي جميع ما تبت إليك منه ثم عدت فيه. يا رب، تظاهرت علي منك النعم، وتداركت عندك مني الذنوب، فلك الحمد على النعم التي تظاهرت، وأستغفرك للذنوب التي تداركت، وأمسيت عن عذابي غنيا، وأصبحت إلى رحمتك فقيرا؟ اللهم إني أسألك نجاح الأمل عند انقطاع الأجل، اللهم اجعل خير عملي ما ولي أجلي، اللهم اجعلني من الذين إذا أعطيتهم شكروا، وإذا ابتليتهم صبروا، إذا هم ذكرتهم ذكروا، واجعل لي قلبا توابا أوابا، لا فاجرا ولا مرتابا، اجعلني من الذين إذا أحسنوا ازدادوا، وإذا أساءوا استغفروا، اللهم لا تحقق علي العذاب، ولا تقطع بي الأسباب، واحفظني في كل ما تحيط بن شفقتي، وتأتي من ورائه سبحتي، وتعجز عنه قوتي، أدعوك دعاء خفيف عمله، متظاهرة ذنوبه، ضنين على نفسه، دعاء من بدنه ضعيف، ومنته عاجزة، قد انتهت عدته، وخلقت جدته، وتم ظمؤه. اللهم لا تخيبني وأنا أرجوك، ولا تعذبني وأنا أدعوك، والحمد لله على طول النسيئة، وحسن!التباعة، وتشنج العروق، وإساغة الريق، وتأخر الشدائد، والحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته، والحمد لله الذي لا يودي قتيله، ولا يخيب سوله، ولا يرد رسوله، اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، وأعوذ بك أن أقول زورا، أو أغشى فجورا، أو أكون بك مغرورا، أعوذ بك من شماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجاء، وزوال النعمة، أو فجاءة النقمة، دعا أعرابي وهو يطوف بالكعبة، فقال: إلهي، من أولى بالتقصير والزلل مني وأنت خلقتني، ومن أولى بالعفو منك عني، وعلمك بي محيط، وقضاؤك في ماض. إلهي أطعتك بقوتك والمنة لك، ولم أحسن حين أعطيتني، وعصيتك بعلمك، فتجاوز عن الذنوب التي كتبت علي، وأسألك يا إلهي بوجوب رحمتك، وانقطاع حجتي، وافتقاري إليك، وغناك عني، أن تغفر لي وترحمني. اللهم إنا أطعناك في أحب الأشياء إليك، شهادة أن لا إله إلا أنت وحدك، لا شريك لك، ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك، الشرك بك، فأغفر لي ما بين ذلك. اللهم إنك انس المؤنسين لأوليائك، وخير المعنيين للمتوكلين عليك. إلهي، أنت شاهدهم وغائبهم والمطلع على ضمائرهم وسر ي لك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، إذا أوحشتني الغربة، انسني ذكرك، وإذا أكبت علي الهموم لجأت إلى الاستجارة بك، علما بأن أزمة الأمور كلها بيدك، ومصدرها عن قضائك، فأقلني إليك مغفورا لي، معصوما بطاعتك باقي عمري، يا أرحم الراحمين.

(1/422)

الأصمعي قال: حججت فرأيت أعرابيا يطوف بالكعبة ويقول: يا خير موفود إليه سعى إليه الوفد، قد ضعفت قوتي وذهبت منتى، وأتيت إليك بذنوب لا تغسلها الأنهار، ولا تحملها البحار، أستجير برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك. ثم التفت فقال: أيها المشفعون، ارحموا من شملته الخطايا، وغمرته البلايا، ارحموا من قطع البلاد، وخفف ما ملك من التلاد، ارحموا عمن رنحته الذنوب، وظهرت منه العيوب، ارحموا أسير ضر، وطريد فقر، أسألكم بالذي أعملتكم الرغبة إليه، إلا ما سألتم الله أن يهب لي عظيم جرمي. ثم وضع في حلقة الباب خده وقال: ضرع خدي لك، وذل مقامي بين يديك، ثم أنشأ يقول:
عظيم الذنب مكروب ... من الخيرات مسلوب
وقد أصبحت ذا فقر ... وما عندك مطلوب
العتبي قال: سمعت أعرابيا بعرفات عشية عرفة وهو يقول: اللهم إن هذه عشية من عشايا محبتك، وأحد أيام زلفتك، يأمل فيها من لجأ إليك من خلقك، لا يشرك بك شيئا، بكل لسان فيها تدعى، ولكل خير فيها ترجى، أتتك العصاة من البلد السحيق، ودعتك العناة من شعب المضيق، رجاء مالا خلف له من وعدك، ولا انقطاع له من جزيل عطائك، أبدت لك وجوهها المصونة، صابرة على لفح السمائم، وبرد الليالي، ترجو بذلك رضوانك يا غفار، يا مستزادا من نعمه، ومستعاذا من كل نقمه، ارحم صوت حزين دعاك بزفير وشهيق. ثم بسط كلتا يديه إلى السماء، وقال: اللهم، إن كنت بسطت يدي إليك راغبا، فطالما كفيت ساهيا بنعمك التي تظاهرت علي عند الغفلة، فلا أيأس منها عند التوبة، فلا تقطع رجائي منك لما قدمت من اقتراف، وهب لي الإصلاح في الولد، والأمن في البلد، والعافية في الجسد، إنك سميع مجيب. ودعا أعرابي فقال: يا عماد من لا عماد له، ويا ركن من لا ركن له، ويا مجير الضعفاء، ويا منقذ الغرقى، ويا عظيم الرجاء، أنت الذي سبح لك سواد الليل وبياض النهار وضوء القمر وشعاع الشمس وحفيف الشجر ودوي الماء، يا محسن، يا مجمل، يا مفضل، لا أسألك الخير بخير هو عندي، ولكني أسألك برحمتك، فاجعل العافية لي شعارا ودثارا، وجنة دون كل بلاء.
الأصمعي قال: خرجت أعرابية إلى منى فقطع بها الطريق، فقالت: يا رب، أخذت وأعطيت وأنعمت وسلبت، وكل ذلك منك عدل وفضل، والذي عظم على الخلائق أمرك لا بسطت لساني بمسألة أحد غيرك، ولا بذلت رغبتي إلا إليك، يا قرة أعين السائلين، أغثني بجود منك أتبحبح في فراديس نعمته، وأتقلب في راووق نضرته، احملني من الرجلة، وأغنني من العيلة، وأسدل على سترك الذي لا تخرقه الرماح، ولا تزيله الرياح، إنك سميع الدعاء. قال: وسمعت أعرابيا في فلاة من الأرض وهو يقول في دعائه: اللهم إن استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي للؤم، وإن تركي الاستغفار مع معرفتي بسعة رحمتك لعجز. إلهي كم تحببت إلي بنعمك وأنت غني عني، وكم أتبغض إليك بذنوبي وأنا فقير إليك. سبحان من إذا توعد عفا، وإذا وعد وفي.
قال: وسمعت أعرابيا يقول في دعائه: اللهم إن ذنوبي إليك لا تضرك، وإن ر حمتك إياي لا تنقصك، فاغفر لي ما لا يضرك، وهب في ما لا ينقصك. قال: وسمعت أعرابيا وهو يقول في دعائه: اللهم إني أسألك عمل الخائفين، وخوف العاملين، حتى أتنغم بترك النعيم طمعا فيما وعدت، وخوفا مما أوعدت. اللهم أعذني من سطواتك

(1/423)

وأجرني من نقماتك، سبقت لي ذنوب وأنت تغفر لمن يتوب، إليك بك أتوسل، ومنك إليك أفر. قال: وسمعت أعرابيا يقول: اللهم إن أقواما آمنوا بك بألسنتهم ليحقنوا دماءهم، فأدركوا ما أملوا، وقد آمنا بك بقلوبنا لتجيرنا من عذابك، فأدرك بنا ما أملنا. قال: ورأيت أعرابيا متعلقا بأستار الكعبة رافعا يديه إلى السماء وهو يقول: رب، أتراك معذبنا وتوحيدك في قلوبنا وما إخالك تفعل، ولئن فعلت لتجمعننا مع قوم طالما أبغضناهم لك. الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول في صلاته: الحمد لله حمدا لا يبلى جديده، ولا يحمى عديده، ولا تبلغ حدوده. اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره، واجعل القبر خير بيت نعمره، واجعل ما بعده خيرا لنا منه. اللهم إن عيني قد اغرورقتا دموعا من خشيتك، فاغفر الزلة، وعد بحلمك على جهل من لم يرج غيرك. الأصمعي قال: وقف أعرابي في بعض المواسم فقال: اللهم إن لك علي حقوقا فتصدق بها على، وللناس قبلى تبعات فتحملها عني، وقد وجب لكل ضيف قرى، وأنا ضيفك الليلة، فاجعل قراي فيها الجنة. قال: ورأيت أعرابيا أخذ بحلقتي باب الكعبة وهويقول: سائلك عبد ببابك، ذهبت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته، وبقيت تبعته، فارض عنه، وإن لم ترض عنه فاعف عنه، فقد يعفو المولى عن عبده وهو عنه غير راض. قال: ودعا أعرابي عند الكعبة فقال: اللهم إنه لا شرف إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، فأعطني ما أستعين به على شرف الدنيا والآخرة. قال زيد بن عمر: سمعت طاووسا يقول: بينا أنا بمكة إذ رفعت إلى الحجاج بن يوسف، فثنى لي وسادا فجلست، فبينا نحن نتحدث إذ سمعت صوت أعرابي في الوادي رافعا صوته بالتلبية، فقال الحجاج: علي بالملبي، فآتي به، فقال: ممن الرجل؟ قال: من أفناء الناس؛ قال: ليس عن هذا سألتك، قال: فعم سألتني؟ قال: من أي البلدان أنت؟ قالت: من أهل اليمن؛ قال له الحجاج: فكيف خلفت محمد بن يوسف، يعني أخاه، وكان عامله على اليمن. قال: خلفته جسيما خراجا ولاجا؛ قال: ليس عن هذا سألتك. قالت: فعم سألتني؟ قال: كيف خلفت سيرته في الناس؟ قال: خلفته ظلوما غشوما عاصيا للخالق مطيعا للمخلوق. فازور من ذلك الحجاج وقال: لما أقدمك على هذا، وقد تعلم مكانه مني؟ فقال له الأعرابي: أفتراه بمكانه منك أعز مني بمكاني من الله تبارك وتعالى، وأنا وافد بيته وقاض دينه ومصدق نبيه صلى الله عليه وسلم قال: فوجم لها الحجاج! ولم يدر له جوابا حتى خرج الرجل بلا إذن. قال: طاووس: فتبعته حتى أتي الملتزم فتعلق بأستار الكعبة، فقال: بك أعوذ، وإليك ألوذ، فاجعل لي في اللهف إلى جوارك، الرضا بضمانك، مندوحة عن منع الباخليين، وغنى عما في أيدي المستأثرين. اللهم عد بفرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة. قال طاووس: ثم اختفى في الناس فألفيته بعرفات قائما على قدميه وهو يقول: اللهم إن كنت لم تقبل حجي ونصبي وتعبي، فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته، فلا اعلم مصيبة أعظم ممن ورد حوضك وانصرف محروما من سعة رحمتك الأصمعي قال: رأيت أعرابيا يطوف بالكعبة وهو يقول: إلهي، عجت إليك الأصوات بضروب من اللغات يسألونك الحاجات، وحاجتي إليك إلهي أن تذكرني على طول البلاء إذ نسيني أهل الدنيا. اللهم هب لي حقك، وأرض عني خلقك. للهم لا تعيني بطلب ما لم تقدره لي، وما قدرته لي فيسره لي. قال: ودعت أعرابية لابن وجهته إلى حاجة، فقالت: كان الله صاحبك في أمرك، وخليفتك في أهلك، وولي نجح طلبتك، امض مصاحبا مكلوءا، لا أشمت الله بك عدوا، ولا أرى محبيك فيك سوءا، قال: ومات ابن لأعرابي فقال: اللهم إني وهبت له ما قصر فيه من برى، فهب له ما قمر فيه من طاعتك، فإنك أجود وأكرم.
قولهم في الرقائق

(1/424)

العتبي قال: ذكر أعرابي مصيبة فقال: مصيبة والله تركت سود الرؤوس بيضا، بيض الوجوه سودا، وهونت المصائب بعدها أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال يرثي آل أبي سفيان:
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا
بكيت بكاء موجعة بحزن ... أصاب الدهر واحدها الفريدا،
قال: وقيل لأعرابية أصيبت بابنها: ما أحسن عزاءك؟ قالت: إن فقدي إياه أمنني كل فقد سواه، وإن مصيبتي به هونت علي المصائب بعده، ثم أنشأت تقول:
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
أكنت السواد لمقلتي ... فعليك يبكي الناظر
ليت المنازل والديا ... ر حفائر ومقابر
وقيل لأعرابي: كيف حزنك على ولدك؟ قال: ما ترك هم الغداة والعشاء لي حزنا. وقيل لأعرابي: ما أذهب شبابك؟ قال: من طال أمده وكثر ولده وذهب جلده ذهب شبابه. وقيل لأعرابي: ما أنحل جسمك؟ قال: سوء الغذاء، وجدوبة المرعى، واعتلاج الهموم في صدري، ثم أنشأ يقول:
الهم ما لم تمضه لسبيله ... داء تضمنه الضلوع عظيم
ولربما استيأست ثم أقول لا ... إن الذي ضمن النجاح كريم
وقيل لأعرابي قد أخذته السن: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت تقيدني الشعرة، وأعثر في البعرة، قد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره. وقال أعرابي: لقد كنت أنكر البيضاء فصرت أنكر السوداء، فيا خير مبدول ويا شر بدل. وقال أعرابي:
إذا الرجال ولدت أولادها ... وجعلت أسقامها تعتادها
واضطربت من كبر أعضادها ... فهي زروع قد دنا حصادها
وذكر أعرابي قطيعة بعض إخوانه، فقال: صفرت عياب الود بعد امتلائها، واكفهرت وجوه كانت بمائها، فأدبر ما كان مقبلا، وأقبل ما كان مدبرا. وذكر أعرابي منزلا باد أهله، فقال: منزل والله رحلت عنه ربات الخدور، وأقامت فيه أثافي القدر، وقد اكتسى بالنبات، كأنه ألبس الحلل. وكان أهله يعفون فيه آثار الرياح، فأصبحت الريح تعفو أثارهم، فالعهد قريب، والملتقى بعيد. وذكر أعرابي قوما تغيرت أحوالهم، فقال أعين والله كحلت بالعبرة بعد الحبرة، وأنفس لبست الحزن بعد السرور. وذكر أعرابي قوما تغيرت حالهم، فقال: كانوا والله في عيش رقيق الحواشي فطواه الدهر بعد سعة، حتى يبست أبدانهم من القر، ولم أر صاحبا أغر من الدنيا، ولا ظالما أغشم من الموت، ومن عصف به الليل والنهار أردياه، ومن وكل به الموت أفناه. وقف إعرابي على دار قد باد أهلها، فقال: دار والله معتصرة للدموع، حطت بها السحاب أثقالها، وجرت بها الرياح أذيالها. وذكر أعرابي رجلا تغيرت حاله، فقال: طويت صحيفته، وذهب رزقه، فالبلاء مسرع إليه، والعيش عنه قابض كفيه. وذكر أعرابي رجلا ضاق عيشه بعد سعة، فقال: كان والله في ظل عيش ممدود، فقدحت عليه من الدهر يد غير كابية الزند.
الأصمعي قال: أنشدني العقيلي لأعرابية ترثي ابنها:
ختلته المنون بعد اختيال ... بين صفين من قنا ونصال
في رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال
كنت أخبؤك لاعتداء يد الده ... ر ولم تخطر المنون ببالي
وقال أعرابي يرثي ابنه عند دفنه:
دفنت بكفي بعض نفسي فأصبحت ... وللنفس منها دافن ودفين
وقال أعرابي: إن الدنيا تنطق بغير لسان، فتخبر عما يكون بما قد كان. خرج أعرابي هاربا من الطاعون، فبينا هو سائر إذا لدغته أفعى فمات، فقال فيه أبوه:
طاف يبغي نجوة ... من هلاك فهلك
والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك

(1/425)

كل شيء قاتل ... حين تلقى أجلك
وذكر أعرابي بلدا، فقال: بلد كالترس ما تمشي فيه الرياح إلا عابرات سبيل، ولا يمر فيها السفر إلا بأدل دليل.
قولهم في الإستطعام
قدم أعرابي من بني كنانة على معن بن زائدة وهو باليمن، فقال: إني والله ما أعرف سببا بعد الإسلام والرحم أقوى من رحلة مثلى من أهل السن والحسب إليك من بلاده بلا سبب ولا وسيلة إلا دعاءك إلى المكارم، ورغبتك في المعروف، فإن رأيت أن تضعني من نفسك بحيث وضعت نفسي من رجائك فافعل. فوصله وأحسن إليه. الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: وقف أعرابي على قوم، فقال: إنا - رحمكم الله - أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وفلال سنة، رحم الله امرأ أعطى عن سعة، وواسى من كفاف. فأعطاه رجل درهما، فقال: آجرك الله من غير أن يبتليك. ووقف أعرابي بقوم، فقال: يا قوم تتابعت علينا سنون جماد شداد، لم يكن للسماء فيها رجع، ولا للأرض فيها صدع، فنصب العد، ونشف الوشل، وأمحل الخصب، وكلح الجدب، وشف المال، وكسف البال، وشظف المعاش، وذهبت الرياش، وطرحتني الأيام إليكم غريب الدار، نائي المحل، ليس لي ما لم أرجع إليه، ولا عشيرة ألحق بها، فرحم الله امرأ رحم اغترابي، وجعل المعروف جوابي.
خرج المهدي يطوف بعد هدأة من الليل، فسمع أعرابية من جانب المسجد، وهي تقول: قوم معوزون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون، باد رجالهم، وذهبت أموالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية رسوله، فهل من أمر بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله. فأمر نصيرا الخادم فدفع إليها خمسمائة درهم. الأصمعي قال: أغير على إبل خزيمة، فركب بحيرة، فقيل له: أتركب حراما؟ قال: يركب الحرام من لا حلال له. وقال أعرابي:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع
أبو الحسن قال: اعترض أعرابي لعتبة بن أبي سفيان وهو على مكة؛ فقال: أيها الخليفة، قال: لست به ولم تبعد؛ قال: فيا أخاه؛ قال: أسمعت فقل، قال: شك من بني عامر يتقرب إليك بالعمومة ويختص بالخئولة، ويشكو إليك كثرة العيال، ووطأة الزمان، وشدة فقر، وترادف ضر، وعندك ما يسعه ويصرف عنه بؤسه. فقال عتبة، أستغفر الله منك، وأستعينه عليك، قد أمرنا لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.
وسأل أعرابي فقال: رحم الله مسلما لم تمج أذناه كلامي، وقدم لنفسه معاذا من سوء، مقامي، فإن البلاد مجدبة، والدار مضيعة، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والعدم عاذر يدعو إلى إخباركم، والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله آمرا بمير وداعيا بخير. فقال له بعض القوم: ممن الرجل؟ فقال: ممن لا تنفعكم مغرفته، ولا تضركم جهالته، ذل الاكتساب يمنع من عز الانتساب. العتبي قال: قدم علينا أعرابي في فشاش قد أطردت اللصاص إبله، فجمعت له شيئا من أهل المسجد، فلما دفعت إليه الدراهم أنشأ يقول:
لا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماته أعداء ذوي إحن
ما سرني أن إبلي في مباركها ... وأن أمرا قضاه الله لم يكن
أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال:
لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... وأن أنال بنفعى من يرجيني
لما خطبت إلى الدنيا مطالبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني
لكن منافسة الأكفاء تحملني ... على أمور أراها سوف ترديني
وقد خشيت بأن أبقى بمنزلة ... لا دين عندي ولا دنيا تواتيني
العتبى قال: دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسرى، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم



عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 9:38 pm

أصلحك الله قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
أناخ دهر ألقى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
قال: أرسلوك وانتظروا! والله لا تجلس حتى تعود إليهم بما يسرهم، فأمر له بأربعة أبعرة موقورة برا وتمرا، وخلع عليه. الشيباني قال: أقبل أعرابي إلى مالك بن طوق، فأقام بالرحبة حينا، وكان الأعرابي من بني أسد، صعلوكا في عباءة صوف وشملة شعر، فكلما أراد الدخول منعه الحجاب، وشتمه العبيد، وضربه الأشراط، فلما كان في بعض الأيام خرج مالك بن طوق يريد التنزه حول الرحبة، فعارضه الأعرابي، فضربوه، ومنعوه، فلم يثنه ذلك حتى أخذ بعنان فرسه، ثم قال: أيها الأمير، إني عائذ بالله من أشراطك هؤلاء؛ فقال مالك: دعوا الأعرابي، هل من حاجة يا أعرابي؟ قال: نعم أصلح الله الأمير، أن تصغي إلي بسمعك، وتنظر إلي بطرفك، وتقبل إلي بوجهك؛ قال: نعم، فأنشأ الأعرابي يقول:
ببابك دون الناس أنزلت حاجتي ... وأقبلت أسعى حوله وأطوف
ويمنعني الحجاب والستر مسبل ... وأنت بعيد والشروط صفوف
يدورون حولي في الجلوس كأنهم ... ذئاب جياع بينهن خروف
فأما وقد أبصرت وجهك مقبلا ... فأصرف عنه إنني لضعيف
وما لي من الدنيا سواك ولا لمن ... تركت ورائي مربع ومصيف
وقد علم الحيان قيس وخندف ... ومن هو فيها نازل وحليف
تخطي أعناق الملوك ورحلتي ... إليك وقد أخنت علي صروف
فجئتك أبغي اليسر منك فمر بي ... ببابك من ضرب العبيد صنوف
فلا تجعلن في نحو بابل عودة ... فقلبي من ضرب الشروط محوف
فاستضحك مالك حتى كاد أن يسقط عن فرسه، ثم قالت لمن حوله: من يعطيه درهما بدرهمين، وثوبا بثوبين؟ فوقعت عليه الثياب والدراهم من كل جانب، حتى تحير الأعرابي، ثم قال له: هل بقيت لك حاجة يا أعرابي؟ قال: أما إليك فلا؛ قال: فإلى من؟ قال: إلى الله أن يبقيك للعرب، فإنها لا تزال بخير ما بقيت لها.

(1/427)

دخل أعرابي على هشام بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، أتت علينا ثلاثة أعوام: فعام أذاب الشحم، وعام أكل اللحم، وعام انتقى العظم، وعندكم أموال، فإن تكن لله فبثوها في عباد الله، وإن تكن للناس فلم تحجب عنهم؟ وإن تكن لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين. قال هشام: هل من حاجة غير هذه يا أعرابي؟ قال: ما ضربت إليك أكباد الإبل أدرع الهجير، وأخوض الدجا لخاص دون عام، ولا خير في خير لا يعم، فأمر له هشام بأموال فرقت في الناس، وأمر للأعرابي بمال فرقه في قومه. طلب أعرابي من رجل حاجة فوعده قضاءها، فقال الأعرابي: إن من وعد قضى الحاجة وإن كثرت، والمطل من غير عسر آفة الجود. وقال: أتي أعرابي رجلا لم تكن بينهما حرمة في حاجة له، فقال: إني امتطيت إليك الرجاء، وسرت على الأمل، ووفدت بالشكر، وتوصلت بحسن الظن فحقق الأمل، وأحسن المنزلة، وأكرم القصد، وأتم الود، وعجل المراد. وقف أعرابي على حلقة يونس النحوي، فقال: الحمد لله، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه، إنا أناس قدمنا هذه المدينة، ثلاثون رجلا لا ندفن ميتا، ولا نتحول من منزل وإن كرهنا، فرحم الله عبدا تصدق على ابن سبيل، ونضو طريق، وفل سنة، فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن الله، ولا عمل بعد الموت. يقول الله عز وجل: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا. إن الله لا يستقرض من عوز، ولكن ليبلو خيار عباده. وقف أعرابي في شهر رمضان على قوم، فقال: يا قوم، لقد ختمت هذه الفريضة على أفواهنا من صبح أمس، ومعي بنتان لي والله ما علمتهما تخلتا بخلال، فهل رجل كريم يرحم اليوم ذلنا، وبرد حشاشتنا، منعه الله أن يقوم مقامنا، فإنه مقام ذل وعار وصغار. فافترق القوم ولم يعطوه شيئا، فالتفت إليهم حتى تأملهم جميعا، ثم قال: أشد والله علي من سوء حالي وفاقتي توهمي فيكم المواساة، انتعلوا الطريق لا صحبكم الله. الأصمعي قال: وقف أعرابي علينا، فقال: يا قوم تتابعت علينا سنون بتغيير وإنتقاص، فما تركت لنا هبعا ولا ربعا، ولا عافطة ولا نافطة، ولا ثاغية ولا راغية، فأماتت الزرع، وقتلت الضرع، وعندكم من مال الله فضل نعمة، فأعينوني من عطية لله إياكم، وأرحموا أبا أيتام، ونضو زمان، فلقد خلفت أقواما ما يمرضون مريضهم، ولا يكفنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزل إلى منزل، وإن كرهوه. ولقد مشيت حتى انتعلت الدماء، وجعت حتى أكلت النوى. الأصمعي قال: وقفت أعرابية من هوازن على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، فقالت: إني أتيت من أرض شاسعة، تهبطني هابطة، وترفعني رافعة، في بواد برين لحمي، وهضن عظمي، وتركنني والهة قد ضاق بي البلد بعد الأهل والولد وكثرة من العدد، لا قرابة تؤويني، ولا عشيرة تحمين، فسألت أحياء العرب: المرتجى سيبه، المأمون غيبه، الكثير نائله، المكفي سائله، فدللت عليك، وأنا امرأة هوازن فقدت الولد والوالد، فاصنع في أمري واحدة من ثلاث: إما أن تحسن صفدي، وإما أن تقيم أودي، وإما أن تردني إلى بلدي، قال: بل أجمعهن لك. ففعل ذلك بها أجمع، وقال أعرابي:
يا عمر الخير رزقت الجنة ... اكس بنياتي وأمهنه
وكن لنا من الرمان جنة ... واردد علينا إن إن إنه
أقسمت بالله لتفعلنه

(1/428)

الأصمعي قال: وقفت أعرابية بقوم فقالت: يا قوم، سنة جردت، وأيد جمدت، وحال جهدت، فهل من فاعل خير، وآمر بمير، رحم الله من رحم، وأقرض من يقرض. الأصمعي قال: أصابت الأعراب أعوام جدبة وشدة وجهد، فدخلت طائفة منهم البصرة، وبين أيديهم أعرابي وهو يقول: أيها الناس، إخوانكم في الدين وشركاؤكم في الإسلام، عابرو سبيل، وفلال بؤس، وصرعى جدب، تتابعت علينا سنون ثلاث غيرت النعم، وأهكت النعم، فأكلنا ما بقي من جلودها فوق عظامها، فلم نزل نعلل بذلك أنفسنا، ونمني بالغيث قلوبنا، حتى عاد مخنا عظاما، وعاد إشراقنا ظلاما، وأقبلنا إليكم يصرعنا الوعر، وينكبنا السهل، وهذه آثار مصائبنا، لائحة في سماتنا، فرحم الله متصدقا من كثير، ومواسيا من قليل، فلقد عظمت الحاجة، وكسف البال، وبلغ المجهود، والله يجزي المتصدقين. الأصمعي قال: كنت في حلقة بالبصرة إذ وقف علينا أعرابي سائلا، فقال: أيها الناس، إن الفقر يهتك الحجاب، ويبرز الكعاب، وقد حملتنا سنو المصائب ونكبات الدهور على مركبها الوعر، فواسوا أيا أيتام، ونضو زمان، وطريد فاقة، وطريح هلكة، رحمكم الله. أتي أعرابي عمر بن عبد العزيز فقال: رجل من أهل البادية ساقته إليك الحاجة، وبلغت به الغاية، والله سائلك عن مقامي هذا. فقال عمر: ما سمعت أبلغ من قائل، ولا أوعظ لمقول له من كلامك هذا. سمع عدي بن حاتم رجلا من الأعراب وهو يقول: يا قوم، تصدقوا على شيخ معيل، وعابر سبيل، شهد له ظاهره، وسمع شكواه خالقه، بدنه مطلوب، وثوبه مسلوب؟ فقال له: من أنت؟ قال: رجل من بني سعد سعى في دية لزمتني؛؟ قال: فكم هي؟ قال: مائة بعير؛ قال: دونكها في بطن الوادي. سأل أعرابي رجلا، فأعطاه، فقال: جعل الله للمعروف إليك سبيلا، وللخير عليك دليلا، ولا جعل حظ السائل منك عذرة صادقة. وقف أعرابي بقوم فقال: أشكو إليكم أيها الملأ زمانا كلح لي وجهه، وأناخ علي كلكله، بعد نعمة من البال، وثروة من المال، وغبطة من الحال، اعتورتني شدائده بنبل مصائبه، عن قسي نوائبه، فما ترك لي ثاغية أجتدى ضرعها، ولا راغية أرتجى نفعها، فهل فيكم من معين على صرفة، أو معد على حيفه؛ فرده القوم ولم ينيلوه شيئا. فأنشأ يقول:
قد ضاع من. يأمل من أمثالكم ... جودا وليس الجود من فعالكم
لا بارك الله لكم في مالكم ... ولا أزاح السوء عن عيالكم
فالفقر خير من صلاح حالكم
الأصمعي قال: سأل أعرابي، فلم يعط شيئا، فرفع يديه إلى السماء وقال:
يا رب أنت ثقتي وذخري ... لصبية مثل صغار الذر
جاءهم البرد وهم بشر ... بغير لحف وبغير أزر
كأنهم خنافس في جحر ... تراهم بعد صلاة العصر
وكلهم ملتصق بصدري ... فاسمع دعائي وتول أجري
سأل أعرابي ومعه ابنتان له، فلم يعط شيئا، فأنشأ يقول:
أيا ابنتي صابرا أباكما ... إنكما بعين من يراكما
الله مولاي وهو مولاكما ... فأخلصا لله من نجواكما
تضرعا لا تذخرا بكاكما ... لعله يرحم من أواكما
إن تبكيا فالدهر قد أبكاكما

(1/429)

العتبي قال: كانت الأعراب تنتجع هشام بن عبد الملك بالخطب كل عام، فتقدم إليهم الحاجب يأمرهم بالإيجاز، فقام أعرابي فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن الله تبارك وتعالى جعل العطاء محبة، والمنع مبغضة، فلأن نحبك خير من أن نبغضك. فأعطاه وأجزل له. الأصمعي قال: وقف أعرابي غنوي على قوم، فقال بعد التسليم: أيها الناس، ذهب النيل، وعجف الحيل، وبخس الكيل، فمن يرحم نضو سفر وفل سنة، ويقرض الله قرضا حسنا. لا يستقرض الله من عدم ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، ثم أنشأ يقول:
هل من فتى مقتدر معين ... على فقير بائس مسكين
أبي بنات وأبي بنين ... جزاه ربي بالذي يعطيني
أفضل ما يجزي به ذو الدين
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول لرجل: أطعمك الله الذي أطعمتني له، فقد أحييتني بقتل جوعي، ودفعت عنى سوء ظني بيومي، فحفظك الله على كل جنب، وفرج عنك كل كرب، وغفر لك كل ذنب. وسأل أعرابي رجلا فاعتل عليه، فقال: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا. وقال أعرابي للمأمون:
قل للإمام الذي ترجى فضائله ... رأس الأنام وما الأذناب كالراس
إني أعوذ بهارون وخفرته ... وبابن عم رسول الله عباس
من أن تشد رحال العيس راجعة إلى ... اليمامة بالحرمان والياس
الأصمعي قال: أصابت الأعراب مجاعة، فمررت برجل منهم قاعد مع زوجته بقارعة الطريق وهو يقول:
يا رب إني قاعد كما ترى ... وزوجتي قاعدة كما ترى
والبطن مني جائع كما ترى ... فما ترى يا ربنا فيما ترى
الأصمعي قال: حدثني بعض الأعراب قال: أصابتنا سنة وعندنا رجل من غني وله كلب، فجعل كلبه يعوي جوعا فأنشأ يقول:
تشكى إلي الكلب شدة جوعه ... وبي مثل ما بالكلب أو بي أكثر
فقلت لعل الله يأتي بغيثه ... فيضحي كلانا قاعدا يتكبر
كأني أمير المؤمنين من الغنى ... وأنت من النعمى كأنك جعفر
الأصمعي قال: سأل أعرابي رجلا يقال له عمرو، فأعطاه درهمين، فردهما عليه وقال:
تركت لعمرو درهميه ولم يكن ... ليغني عني فاقتي درهما عمرو
وقلت لعمرو خذهما فاصطرفهما ... سريعين في نقص المروءة والأجر
أبو الحسن قال: وقف علينا أعرابي، فقال: أخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، وطالب خير من رزق الله، فهل فيكم من مواس في الله؟ الأصمعي قال: ضجر أعرابي بكثرة العيال والولد وبلغه أن الوباء بخيبر شديد فخرج إليها يعرضهم للموت، وأنشأ يقول:
قلت لحمى خيبر استعدي ... هاك عيالي فاجهدي وجدي
وباكري بصالب وورد ... أعانك الله على ذي الجند
فأخذته الحمى، فمات هو وبقي عياله. سأل أعرابي شيخا من بني مروان وحوله قوم جلوس، فقال: أصابتنا سنة ولي بضيم عشرة بنتا فقال الشيخ: أما السنة فوددت والله أن بينكم وبين السماء صفائح من حديد، ويكون مسيلها مما يلي البحر فلا تقطر عليكم قطرة، وأما البنات فليت الله أضعفهن لك أضعافا كثيرة، وجعلك بينهن مقطوع اليدين والرجلين ليس لهن كاسب غيرك؛ قال: فنظر إليه الأعرابي ثم قال: والله ما أدري ما أقول لك، ولكن أراك قبيح المنظر، سيء الخلق، فأعضك الله ببظور أمهات هؤلاء الجلوس حولك. وقف أعرابي على رجل شيخ من أهل الطائف، فذكر له سنة، وسأله، فقال: وددت والله أن الأرض لا تنبت شيئا؛ قال: ذلك أيبس لجعر أمك في آستها.
قولهم في المواعظ والزهد

(1/430)

أبو حاتم عن الأصمعي، قال: دخل أعرابي على هشام بن عبد الملك، فقال له: عظني يا أعرابي، فقال: كفى بالقرآن واعظا، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمي " ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذا جزاء من يطفف في الكيل والميزان، فما ظنك بمن أخذه كله. وقال أعرابي لأخيه: يا أخي، أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب ما قد كفيته، فكأن ما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، فأمهد لنفسك، وأعد زادك، وخذ في جهازك. ووعظ أعرابي أخا له أفسد ماله في الشراب، فقال: لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، ولا الشيب يزجرك، والساعات تحصى عليك، والأنفاس تعد منك، والمنايا تقاد إليك، وأحب الأمور إليك أعودها بالمضرة عليك. وقيل لأعرابي: ما لك لا تشرب النبيذ؟ قال: لثلاث خلال فيه، لأنه متلف للمال، مذهب للعقل، مسقط للمروءة. وقال أعرابي لرجل: أي أخي، إن يسار النفس أفضل من يسار المال، فإن لم ترزق غنى فلا تحرم تقوى، فرب شبعان من النعم غرثان من الكرم، واعلم أن المؤمن على خير، ترحب به الأرض، وتستبشر به السماء، ولن يساء إليه في بطنها، وقد أحسن على ظهرها. وقال أعرابي: الدراهم مياسم تسم حمدا أو ذما، فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له، ما كان من أعطى مالا أعطي حمدا، ولا كل عديم ذميم. أخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك

(1/431)

وهذا نظير قول ابن عباس، ونظر إلى درهم في يد رجل، فقال: إنه ليس لك حتى يخرج من يدك. وقال أعرابي لأخ له: يا أخي، إن مالك إن لم يكن لك كنت له، وإن لم تفنه أفناك فكله قبل أن يأكلك. وقال أعرابي: مضى لنا سلف، أهل تواصل، اعتقدوا مننا، واتخذوا الأيادي ذخيرة لمن بعدهم، يرون اصطناع المعروف عليهم فرضا لازما، وإظهار البر واجبا، ثم جاء الزمان ببنين اتخذوا مننهم بضاعة، وبرهم مرابحة، وأياديهم تجارة، واصطناع المعروف مقارضة، كنقد السوق خذ مني وهات. وقال أعرابي لولده: يا بني، لا تكن رأسا ولا تكن، ذنبا، فإن كنت رأسا فتهيأ للنطاح، وإن كنت ذنبا فتهيأ للنكاح. قال: وسمعت أعرابيا يقول لابن عمه: سأتخطى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على شك، ومن الآخر على يقين، ولكن ليتم المعروف مني إليك، ولتقوم الحجة لي عليك. قال: وسمعت أعرابيا يقول: إن الموفق من ترك أرفق الحالات به لأصلحها لدينه نظرا لنفسه إذا لم تنظر نفسه لها. قال: وسمعت أعرابيا يقول: الله مخلف ما أتلف الناس، والدهر متلف ما اخلفوا، وكم من ميتة علتها طلب الحياة، وكم من حياة سببها التعرض للموت. وقال أعرابي: إن الآمال قطعت أعناق الرجال كالسراب غر من رآه، وأخلف من رجاه. وقال أعرابي: لا تسأل من يفر من أن تسأله ولكن سل من أمرك أن تسأله، وهو الله تعالى. وقيل لأعرابي في مرضه: ما تشتكي؟ قال: تمام العدة، وانقضاء المدة. ونظر أعرابي إلى رجل يشكو ما هو فيه من الضيق والضر، فقال: يا هذا، أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك. وقالت أعرابية لابنها: يا بني، إن سؤالك الناس ما في أيديهم من أشد الإفتقار إليهم، ومن افتقرت إليه هنت عليه، ولا تزال تحفظ وتكرم حتى تسأل وترغب، فإذا ألحت عليك الحاجة ولزمك سوء الحال، فأجعل سؤالك إلى من إليه حاجة السائل والمسئول، فإنه يغني السائل ويكفي العائل. وقالت أعرابية توصي ابنا لها أراد سفرا: يا بني، عليك بتقوى الله، فإنها أجدى عليك من كثير عقلك، وإياك والنمائم، فإنها تورث الضغائن، وتفرق بين المحبين، ومثل لنفسك مثالا تستحسنه من غيرك فاحذ عليه واتخذه إماما واعلم أنه من جمع بين السخاء والحياء، فقد أجاد الحلة إزارها ورداءها. قال الأصمعي: لا تكون الحلة إلا ثوبين: إزارا ورداء. أنشد الحسن لأعرابي كان يطوف بأمه على عاتقه حول الكعبة:
إن تركبي على قذالي فاركبي ... فطالما حملتني وسرت بي
في بطنك المطهر المطيب ... كم بين هذاك وهذا المركب
وأنشد لآخر كان يطوف بأمه:
ما حج عبد حجة بأمه ... فكان فيها منفقا من كده إلا استتم الأجر

(1/432)

عند ربه وقال: وسمعت أعرابيا يقول: ما بقاء عمر تقطعه الساعات، وسلامة بدن معرض للآفات. ولقد عجبت من المؤمن كيف يكره الموت وهو ينقله إلى الثواب الذي أحيا له ليله وأظمأ له نهاره. وذكر أهل السلطان عند أعرابي فقال: أما والله لئن عزوا في الدنيا بالجور فقد ذلوا في الآخرة بالعدل، ولقد رضوا بقليل فإن عوضا عن كثير باق، وإنما تزل القدم حيث لا ينفع الندم. ووصف أعرابي الدنيا، فقال: هي رنقة المشارب، جمة المصائب، لا تمتعك الدهر بصاحب. وقال أعرابي: من كانت مطيتاه الليل والنهار سارا به وإن لم يسر، وبلغا به وإن لم يبلغ. قال: وسمعت أعرابيا يقول: الزهادة في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة، والزهادة في الآخرة مفتاح الرغبة في الدنيا. وقيل لأعرابي وقد مرض: إنك تموت، قال: وإذا مت فإلى أين يذهب بي؟ قالوا: إلى الله، قال: فما كراهتي أن يذهب بي إلى من لم أر الخير إلا منه. وقال أعرابي: من خاف الموت بادر الفوت، ومن لم ينح النفس عن الشهوات أسرعت به إلى الهلكات، والجنة والنار أمامك. وقال أعرابي لصاحب له: والله لئن هملجت إلى الباطل إنك لعطوف عن الحق، ولئن أبطأت ليسر عن إليك، وقد خسر أقوام وهم يظنون أنهم رابحون، فلا تغرنك الدنيا فإن الآخرة من ورائك. وقال أعرابي: خير من الحياة ما إذا فقدته أبغضت له الحياة، وشر من الموت ما إذا نزل بك أحببت له الموت. وقال أعرابي: حسبك من فساد أنك ترى أسنمة توضع، وأخفافا ترفع، والخير يطلب عند غير أهله، والفقير قد حل غير محله. وقدم أعرابي إلى السلطان، فقال له: قل الحق وإلا أوجعتك ضربا؛؟ قال له: وأنت فاعمل به، فوالله لما أوعدك الله على تركه أعظم مما توعدني به. وقيل لأعرابي: من أحق الناس بالرحمة؟ قال: الكريم يسلط عليه اللئيم، والعاقل يسلط عليه الجاهل. وقيل له: أي الداعين أحق بالإجابة؟ قال: المظلوم الذي لا ناصر له إلا الله قيل له: فأي الناس أغنى عن الناس؟ قال: من أفرد الله بحاجته. ونظر عثمان إلى أعرابي في شملة، غائر العينين، مشرف الحاجبين، ناتيء الجبهة، فقال له: يا أعرابي. أين ربك؟ قال: بالمرصاد. الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول: إذا أشكل عليك أمران فانظر أيهما أقرب من هواك فخالفه، فإن أكثر ما يكون الخطأ عليك مع متابعة الهوى. قال: وسمعت أعرابيا يقول: من نتج الخير أنتج له فراخا تطير بأجنحة السرور، ومن غرس الشر أنبت له نباتا مرا مذاقه، قضبانه الغيظ وثمرته الندم. وقال أعرابي: الهوى عاجله لذيذ، وأجله وخيم. وقيل لأعرابي: إنك لحسن الشارة؛ قال: ذلك عنوان نعمة الله عندي. قال الأصمعي: ورأيت أعرابيا أمامه شاء، فقلت له، لمن هذا الشاء؟ قال: هي لله عندي. وقيل؛ لأعرابي: كيف أنت في دينك؟ قال: أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار. وقال أعرابي: من كساه الحياء ثوبه، خفي على الناس عيبه. وقال: بئس الزاد التعدي على العباد. وقال: التلطف بالحيلة أنفع من الوسيلة. وقال: من ثقل على صديقه خف على عدوه، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعلمون. قال: وسمعت أعرابيا يقول لابنه وهو يعاتبه: لا تتوهمن على من يستدلى على غائب الأمور يشاهدها الغفلة عن أمور يعاينها فتكون بنفسك بدأت وحظك أخطأت. ونظر أعرابي إلى رجل حسن الوجه بضه، فقال: إني أرى وجها ما علقه برد وضوء السحر، ولا هو بالذي قال فيه الشاعر:
من كل مجتهد يرى أوصاله ... صوم النهار وسجدة الأسحار
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا ينشد:
وإذا أظهرت أمرا حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسر
فمسر الخير موسوم به ... ومسر الشر مرسوم بشر

(1/433)

وقول الأعرابي هذا على ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسر امرؤ سريرة إلا ألبسه الله رداءها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، قال: وأنشدني أعرابي:
وما هذه الأيام إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزود
فإنك لا تدري بأية بلدة ... تموت ولا ما يحدث الله في غد
يقولون لا تبعد ومن يك مسدلا ... على وجهه ستر من الأرض يبعد
وقال أعرابي: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم. وقال أعرابي لإبنه: لا يسرك أن تغلب بالشر، فإن الغالب بالشر هو المغلوب. وقال أعرابي لأخ له: لقد نهيتك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه، فإن حظك من عطيته السؤال. قال: وسمعت أعرابيا يقول: إن حب الخير خير وإن عجزت عنه المقدرة، وبغض الشر خير وإن فعلت أكثره. وشهد أعرابي عند سوار القاضي بشهادة، فقال له: يا أعرابي: إن ميداننا لا يجري من العتاق، فيه إلا الجياد؛ قال: لئن كشفت عني لتجدني عثورا فسأل عنه سوار فأخبر بفضل وصلاح، فقال له: يا أعرابي، إنك ممن يجري في ميداننا؛ قال: ذلك بستر الله. وقال أعرابي: والله لولا أن المروءة ثقيل محملها، شديدة مؤونتها، ما ترك اللئام للكرام شيئا. احتضر أعرابي، فقال له بنوه: عظنا يا أبانا؛ فقال: عاشروا الناس معاشرة إن غبتم حنوا إليك، وإن متم بكوا عليكم. ودخل أعرابي على بعض الملوك في شملة شعر، فلما رآه أعرض عنه، فقال له: إن الشملة لا تكلمك هانما يكلمك من هو فيها. ومر أعرابي بقوم يدفنون جارية، فقال: نعم الصهر ما صاهرتم، وأنشد:
وفي الأعياص أكفاء لليلى ... وفي لحد لها كفء كريم
وقال أعرابي: رب رجل سره منشور على لسانه، وآخر قد التحف عليه قلبه التحاف الجناح على الخوافي. ومر أعرابيان برجل صلبه بعض الخلفاء، فقال أحدهما: أنبتته الطاعة وحصدته المعصية. وقال الآخر: من طلق الدنيا فالآخرة صاحبته، ومن فارق الحق فالجذع راحلته. العتبي عن زيد بن عمارة قال: سمعت أعرابيا يقول لأخيه وهو يبتني منزلا: يا أخي
أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك
واطلب الفوز بعيش الز ... هد من طول حياتك
ثم أطرق حينا ورفع رأسه وهو يقول:
قائد الغفلة الأمل ... والهوى قائد الزلل
قتل الجهل أهله ... ونجا كل من عقل
فاغتنم دولة السلا ... مة واستانف العمل
أيها المبتني القصو ... ر وقد شاب واكتهل
أخبر الشيب عنك أن ... ك في آخر الأجل
فعلام الوقوف في ... عرصة العجز والكسل
أنت في منزل إذا ... حله نازل رحل
منزل لم يزل يضي ... ق وينبو بمن نزل
فتأهب لرحلة ... ليس يسعى بها جمل
رحلة لم تزل على الدهر ... مكروهة القفل

(1/434)

وقيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال: ما جوفي له إلا قبر. وقال أعرابي: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل، ودوام عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه. وقال أعرابي: إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه، ضاعت الأمور. وسئل أعرابي عن القدر فقال: الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس، يعرف ضوءها ولا يقف على حدودها. وسئل آخر عن القدر، فقال: علم اختصمت فيه العقول، وتقاول فيه المختلفون، وحق علينا أن نردما التبس علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه. وقال أعرابي: تكوير الليل والنهار، لا تبقى عليه الأعمار، ولا لأحد فيه الخيار. أبو حاتم عن الأصمعي قال: خرج الحجاج ذات يوم فأصحر، وحضر غداؤه، فقال: اطلبوا من يتغدى معنا، فطلبوا، فلم يجدوا إلا أعرابيا في شملة فأتوه به؛ فقال له: هلم؛ قال له: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته؛ قال: ومن هو؟ قال: الله تبارك وتعالى، دعاني إلى الصيام فأنا صائم؛ قال: صوم في مثل هذا اليوم على حر؛ قال: صمت ليوم هو أحر منه؛ قال: فأفطر اليوم وصم غدا؛ قال: ويضمن لي الأمير أن أعيش إلى غد؛ قال: ليس ذلك إلي؛ قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل ليس إليه سبيل؛ قال: طعام طيب، قال: والله ما طيبه خبازك ولا طباخك، ولكن طيبته العافية؛ قال الحجاج: تالله ما رأيت كاليوم، أخرجوه عني. أبو الفضل الرياشي قال: أنشدنا أعرابي:
أباكية رزينة أن أتاها ... نعي أم يكون لها اصطبار
إذا ما أهل ودي ودعوني ... وراحوا والأكف بها غبار
وغودر أعظمي في لحد قبر ... تعاوره الجنائب والقطار
تظل الريح عاصفة عليه ... ويرعى حوله اللهق النوار
فذاك النأي لا الهجران حولا ... وحولا ثم تجتمع الديار
وهذا نظير قول ليلى الأخيلية:
لعمرك ما الهجران أن تشحط النوى ... ولكنما الهجران ما غيب القبر
ونظير قول الخنساء:
حسب الخليلين كون الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها رمما
وأنشد لآخر:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود
الرياشي، قال: مر عمر بن الخطاب بالجبانة، فإذا هو بأعرابي فقال له: ما تصنع هنا يا أعرابي في هذه الديار الموحشة؟ قال: وديعة لي هاهنا يا أمير المؤمنين، قال: ما وديعتك؟ قال: بني لي دفنته، فأنا أخرج إليه كل يوم أندبه؛ قال: فاندبه حتى أسمع، فأنشأ يقول:
يا غائبا ما يؤوب من سفره ... عاجله موته على صغره
يا قرة العين كأسا كنت لي سكنا ... في طول ليلي نعم وفي قصره
شربت كأسا أبوك شاربها ... لا بد يوما له على كبره
يشربها والأنام كلهم ... من كان في بدوه وفي حضره
فالحمد لله لا شريك له ... الموت في حكمه وفي قدره
قد قسم العمر في العباد فما ... يقدر خلق يزيد في عمره
قولهم في المدح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم



عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 9:40 pm

ذكر أعرابي قوما عبادا، فقال: تركوا والله النعيم ليتنعموا، لهم عبرات متدافعة، وزفرات متتابعة، لا تراهم إلا في وجه وجيه عند الله. وذكر أعرابي قوما، فقال: أدبتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، فلم تغرهم السلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي به قطع الناس مسافة آجالهم، فذلت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالوجد، فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال. وسئل أعرابي عن قومه، فقالت: كانوا إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام، وإذا تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها، فرب يوم عارم قد أحسنوا أدبه، أو حرب عبوس قد ضاحكتها أسنتهم، إنما قومي البحر ما ألقمته التقم. وذكر أعرابي قوما، فقال: ما رأيت أسرع إلى داع بليل على فرس حسيب وجمل نجيب منهم، ثم لا ينتظر الأول السابق الآخر اللاحق. وذكر أعرابي قوما، فقال: جعلوا أموالهم مناديل أعراضهم، فالخير بهم زائد، والمعروف لهم شاهد، فيعطونها بطيبة أنفسهم إذا طلبت إليهم، ويباشرون المعروف بإشراق الوجوه إذا بغي لديهم. وذكر أعرابي قوما، فقال: والله ما نالوا شيئا بأطراف أناملهم إلا وطئناه بأخماص أقدامنا، وإن أقصى همهم لأدنى فعالنا. وذكر أعرابي أميرا، فقال: إذا ولى لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم، شاهد معهم، فالمحسن راج، والمسيء خائف. ودخل أعرابي على رجل من الولاة، فقال: أصلح الله الأمير، اجعلني زماما من أزمتك لم التي تجر بها الأعداء، فإن مسعر حرب، وركاب نجب، شديد على الأعداء، لين على الأصدقاء، منطوي الحصيلة، قليل الثميلة، نومي غرار، قد غذتني الحرب بأفاويقها، وحلبت الدهر أشطره، ولا تمنعك عني الدمامة، فإن من تحتها شهامة. وذكر أعرابي رجلا ببراعة المنطق، فقال: كان والله بارع المنطق، جزل الألفاظ، عربي اللسان، فصيح البيان، رقيق حواشي الكلام، بليل الريق، قليل الحركات، ساكن الإشارات، وذكر أعرابي رجلا، فقال: رأيت رجلا له حلم وأناة، يحدثك الحديث على مقاطعه، وينشدك الشعر على مدارجه، فلا تسمع له لحنا ولا إحالة لعتبى قال: ذكر أعرابي قوما، فقال: آلت سيوفهم ألا تقضي دينا عليهم، ولا تضيع حقا لهم، فما اخذ منم مردود إليهم، وما أخذوا متروك لهم. ومدح أعرابي رجلا، فقال: ما رأيت عينا قط أخرق لظلمة الليل من عينه، ولحظة أشبه بلهيب النار من لحظته، له هزة كهزة السيف إذا طرب، وجرأة كجرأة الليث إذا غضب. ومدح أعرابي رجلا، فقال: كان الفهم منه ذا أذنين، والجواب ذا لسانين، لم أر أحدا أرثق لخلل الرأي منه، بعيد مسافة العقل ومراد الطرف، إنما يرمي بهمته حيث أشار إليه الكرم. ومدح أعرابي رجلا، فقال: ذاك والله فسيح النسب، مستحكم الأدب، من أي أقطاره أتيته انتهى إليك بكرم فعال وحسن مقال. ومدح أعرابي رجلا فقال: كانت ظلمة ليله كضوء نهاره، آمرا بإرشاد، وناهيا عن فساد، لحديث السوء غير منقاد وقال أعرابي: إن فلانا خلقت، نعم للسانه قبل أن يخلق لسانه لها، فما تراه الدهر إلا وكأنه لا غنى له عنك، وإن كنت إليه أحوج، إذا أذنبت إليه غفر وكأنه المذنب، وإذا أسأت إليه أحسن وكأنه المسيء. وذكر أعرابي رجلا، فقال: اشترى والله عرضه من الأذى، فلو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى بعدها عليه حقوقا، وكان منهاجا للأمور المشكلة إذا تناجز الناس باللائمة. ومدح أعرابي رجلا، فقال: كان والله يغسل من العار وجوها مسودة، ويفتح من الرأي عيونا منسدة. وذكر أعرابي رجلا، فقالت: ذاك والله ينفع سلمه، ولا يستمر ظلمه، إن قالت فعل، وإن ولي عدل. ومدح أعراب رجلا، فقال: ذاك والله يعنى في طلب المكارم، غير ضال في مسالك طرقها، ولا مشتغل عنها بغيرها. وذكر أعرابي رجلا، فقال: يسدد الكلمة إلى المعنى فتمرق مروق السهم من الرمية، فما أصاب قتل، وما أخطأ أشوى، وما عظعظ له سهم منذ تحرك لسانه في

(1/436)

فيه. وذكر أعرابي أخاه، فقال: كان والله ركوبا للأهوال، غير ألوف لربات الحجال إذا أرعد القوم من غير كر يهين نفسا كريمة على قومها، غير مبقية لغد ما في يومها. ومدح رجل رجلا، فقال: كان الألسن ريضت فما تنعقد إلا على وده، ولا تنطق إلا بثنائه. ومدح أعرابي رجلا، فقال؟ كان والله للإخاء وصولا؛ وللمال بذولا وكان الوفاء بهما عليه كفيلا، فمن فاضله كان مفضولا. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: التباعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير. ومدح أعرابي رجلا، فقال: يصم أذنيه عن استماع الخنا، ويخرس لسانه عن التكلم به، فهو الماء الشريب، والمصقع الخطيب. وذكر أعرابي رجلا، فقال: ذاك رجال سبق إلي معروفه قبل طلبي إليه، فالعرض وافر، والوجه بمائه، وما استقل بنعمة إلا أثقلني بأخرى. وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك رضيع الجود، والمفطوم به، عيي عن الفحشاء، معتصم بالتقوى، إذا خرست الألسن عن الرأي حذف بالصواب، كما يحذف الأريب، فإن طالت الغاية، ولم يكن من دونها نهاية، تمهل أمام القوم سابقا. وذكر أعرابي رجلا، فقال: إن جليسه لطيب عشرته أطرب من الإبل على الحداء، والثمل على الغناء. وذكر أعرابي رجلا، فقال: كان له علم لا يخالطه جهل، وصدق لا يشوبه كذب، كأنه الوبل عند المحل. وذكر أعرابي رجلا، فقال: ذاك والله من شجر لا يخلف ثمره، ومن بحر لا يخاف كدره. وذكر أعرابي رجلا، فقالت: ذاك والله فتى رباه الله بالخير ناشئا فأحسن لبسه، وزين به نفسه. وذكر أعرابي رجلا، فقال: ما رأيت أعشق للمعروف منه، وما رأيت النكر أبغض لأحد منه. وقدم أعرابي البادية، وقد نال من بني برمك، فقيل له: كيف رأيتهم؟ قال: رأيتهم وقد أنست بهم النعمة كأنها من بناتهم. قال: وذكر أعرابي رجلا، فقال: مازال يبتني المجد، ويشتري الحمد، حتى بلغ منه الجهد. ودخل أعرابي على بعضيه. وذكر أعرابي أخاه، فقال: كان والله ركوبا للأهوال، غير ألوف لربات الحجال إذا أرعد القوم من غير كر يهين نفسا كريمة على قومها، غير مبقية لغد ما في يومها. ومدح رجل رجلا، فقال: كان الألسن ريضت فما تنعقد إلا على وده، ولا تنطق إلا بثنائه. ومدح أعرابي رجلا، فقال؟ كان والله للإخاء وصولا؛ وللمال بذولا وكان الوفاء بهما عليه كفيلا، فمن فاضله كان مفضولا. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: التباعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير. ومدح أعرابي رجلا، فقال: يصم أذنيه عن استماع الخنا، ويخرس لسانه عن التكلم به، فهو الماء الشريب، والمصقع الخطيب. وذكر أعرابي رجلا، فقال: ذاك رجال سبق إلي معروفه قبل طلبي إليه، فالعرض وافر، والوجه بمائه، وما استقل بنعمة إلا أثقلني بأخرى. وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك رضيع الجود، والمفطوم به، عيي عن الفحشاء، معتصم بالتقوى، إذا خرست الألسن عن الرأي حذف بالصواب، كما يحذف الأريب، فإن طالت الغاية، ولم يكن من دونها نهاية، تمهل أمام القوم سابقا. وذكر أعرابي رجلا، فقال: إن جليسه لطيب عشرته أطرب من الإبل على الحداء، والثمل على الغناء. وذكر أعرابي رجلا، فقال: كان له علم لا يخالطه جهل، وصدق لا يشوبه كذب، كأنه الوبل عند المحل. وذكر أعرابي رجلا، فقال: ذاك والله من شجر لا يخلف ثمره، ومن بحر لا يخاف كدره. وذكر أعرابي رجلا، فقالت: ذاك والله فتى رباه الله بالخير ناشئا فأحسن لبسه، وزين به نفسه. وذكر أعرابي رجلا، فقال: ما رأيت أعشق للمعروف منه، وما رأيت النكر أبغض لأحد منه. وقدم أعرابي البادية، وقد نال من بني برمك، فقيل له: كيف رأيتهم؟ قال: رأيتهم وقد أنست بهم النعمة كأنها من بناتهم. قال: وذكر أعرابي رجلا، فقال: مازال يبتني المجد، ويشتري الحمد، حتى بلغ منه الجهد. ودخل أعرابي على بعض

(1/437)

الملوك، فقال: إن جهلا أن يقول المادح بخلاف ما يعرف من الممدوح، وإني والله ما رأيت أعشق للمكارم في زمان اللؤم منك، ثم أنشد:
مالي أرى أبوابهم مهجورة ... وكأن بابك مجمع الأسواق
حابوك أم هابوك أم شاموا الندى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق
إني رأيتك للمكارم عاشقا ... والمكرمات قليلة العشاق
وأنشد أعرابي في مثل هذا المعنى:
بنت المكارم وسط كفك بيتها ... فتلادها بك للصديق مباح
وإذا المكارم أغلقت أبوابها ... يوما فأنت لقفها مفتاح
وأنشد أعرابي في بني المهلب:
قدمت على آل المهلب شاتيا ... قصيا بعيد الدار في زمن المحل
فما زال بي إلطافهم وافتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي
وأنشد أعرابي:
كأنك في الكتاب وجدت لاء ... محرمة عليك فما تحل
وما تدري إذا أعطيت مالا ... أتكثر من سماحك أم تقل
إذا دخل الشتاء فأنت شمس ... وإن دخل المصيف فأنت ظل
وقال أعرابي في مدح عمر بن عبد العزيز:
مقابل الأعراق في الطاب الطاب ... بين أبي العاص وآل الخطاب
وأنشد أعرابي:
لنا جواد أعار النيل نائله ... فالنيل يشكر منه كثرة النيل
إن بارز الشمس ألفي الشمس مظلمة ... أو أزحم الصم ألجاها إلى الميل
أهدى من النجم إن نابته مشكلة ... وعند إمضائه أمضي من السيل
والموت يرهب أن يلقى منيته ... في شده عند لف الخيل بالخيل
قولهم في الذم
الأصمعي: قال: ذكر أعرابي قوما، فقال: أولئك سلخت أقفاؤهم بالهجاء، ودبغت وجوههم باللؤم، لباسهم في الدنيا الملامة، وزادهم إلى الآخرة الندامة. قال: وذكر أعرابي قوما فقال: لهم بيوت تدخل حبوا إلى غير نمارق ولا وسائد، فصح الأسن برد السائل، جعد الأكف عن النائل. قال: وسمعت أعرابيا يقول: لقد صغر فلانا في عيني عظم الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل إذا أتاه ملك الموت إذا رآه وسئل أعرابي عن رجل، فقال: ما ظنكم بسكير لا يفيق، يتهم الصديق، ويعصي الشفيق في موضع إلا حرمت فيه الصلاة، ولو أفلتت كلمة سوء لم تصر إلا إليه،ولو نزلت لعنة من السماء لم تقع إلا عليه. وذكر أعرابي قوما فقال: أقل الناس ذنوبا إلى أعدائهم، وأكثرهم جرما إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء. وذكر أعرابي رجلا، فقال: إن فلانا ليعدي بإثمه من تسمى باسمه، ولئن خيبني فلرب قافية قد ضاعت في طلب رجل كريم. وذكر أعرابي رجلا فقال: تغدو إليه مواكب الضلالة فترجع من عنده ببدور الآثام، معدم مما تحب، مثر مما تكره، وصاحب السوء قطعة من النار. وقال أعرابي لرجل: أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوف، وإذا حدث حلف، وإذا وعد أخلف، تنظر نظر حسود، وتعرض إعراض حقود. وسافر أعرابي إلى رجل فحرمه، فقال لما سئل عن سفره: ما ربحنا في سفرنا إلا ما قصرنا من صلاتنا، فأما الذي لقينا من الهواجر، ولقيت منا الأباعر، فعقوبة لنا فيما أفسدنا من حسن ظننا، ثم أنشأ يقول:
رجعنا سالمين كما خرجنا ... وما خابت سرية سالمينا
وقال أعرابي يهجو رجلا:
ولما رأيتك لا فاجرا ... قويا ولا أنت بالزاهد
ولا أنت بالرجل المتقي ... ولا أنت بالرجل العابد
عرضتك في السوق سوق الرقيق ... وناديت هل فيك من زائد
على رجل خائن للصديق ... كفور بأنعمه جاحد
فما جاءني رجل واحد ... يزيد على درهم واحد

(1/438)

سوى رجل زادني دانقا ... ولم يك في ذاك بالجاهد
فبعتك منه بلا شاهد ... مخافة ردك بالشاهد
وأبت إلى منزلي غانما ... وحل البلاء على الناقد
وذكر أعرابي رجلا فقال: كان إذا رآني قرب من حاجب حاجبا، فأقول له؛ لا تقبح وجهك إلى قبحه، فوالله ما أتيتك لطمع راغبا، ولا لخوف راهبا. وذم أعرابي رجلا، فقال: عبد الفعال، حر المقال، عظيم الزواق، دنيء الأخلاق الدهر يرفعه ونفسه تضعه. وذم أعرابي رجلا، فقال: ضيق الصدر، صغير القدر عظيم الكبر، قصير الشبر، لئيم النجر، كثير الفخر. وقال أعرابي: دخلت البصرة فرأيت ثياب أحرار على أجساد عبيد، إقبال حظهم إدبار حظ الكرام، شجر أصوله عند فروعه، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر. وذكر أعرابي رجلا، فقال: ذاك يتيم المجالس، أعيا ما يكون عند جلسائه، أبلغ ما يكون عند نفسه. وذكر أعرابي رجلا فقال: ذلك إلى من يداوي عقله من الجهل أحوج منه إلى من يداوي بدنه من المرض إنه لا مرض أوجع من قلة عقل. وذكر أعرابي رجلا لم يدرك بثأره، فقال: كيف يدرك بثأره من في صدره من اللؤم حشو مرفقيه، ولو دقت بوجهه الحجارة لرضها، ولو خلا بالكعبة لسرقها. وذكر أعرابي رجلا، فقال: تسهر والله زوجته جوعا إذا سهر الناس شبعا، ثم لا يخاف مع ذلك عاجل عار ولا آجل نار، كالبهيمة أكلت ما جمعت، ونكحت ما وجدت. وسمع أعرابي رجلا يدعو، فقال: ويحك! إنما يستجاب لمؤمن أو مظلوم، ولست بواحد منهما، وأراك يخف عليك ثقل الذنوب فتحسن عندك مقابح العيوب. وذكر أعرابي رجلا بضعف، فقال: سيء الروية، قليل التقية، كثير السعاية، ضعيف النكاية. وذكر أعرابي رجلا، فقال: عليه كل يوم من فعله شاهد بفسقه، وشهادات الأفعال أعدل من شهادات الرجال. وذكر أعرابي رجلا بذلة، فقال: عاش خاملا ومات موتورا. وذكر قوما ألبسوا نعمة ثم عروا منها، فقال ما كانت النعمة فيهم إلا طيفا، لما انتبهوا لها ذهبت عنهم. وذم أعرابي رجلا، فقال: هو، كالعبد القن، يسرك شاهدا، ويسوءك غائبا. ودعت أعرابية على رجل، فقال: أمكن الله منك عدوا حسودا، وفجع بك صديقا ودودا، وسلط عليك هما يضنيك، وجارا يؤذيك. وقال أعرابي لرجل شريف البيت، دنيء الهمة: ما أحوجك إلى أن يكون عرضك لمن يصونه، فتكون فوق من أنت دونه. وذكر أعرابي رجلا. فقال: إن حدثته سابقك إلى ذلك الحديث، وإن سكت عنه أخذ في الترهات. وذكر أعرابي أميرا، فقال: يصل النشوة، ويقضي بالعشوة، ويقبل الرشوة. وذكر أعرابي رجلا راكبا هواه، فقال: لهو والله أسرع إلى ما يهواه، من الأسن إلى راكد، المياه، أفقره ذلك أو أغناه. وقال أعرابي: ليت فلانا أقالني من حسن ظني به فأختم بصواب إذ بدأت بخطأ، ولكن من لم تحكمه التجارب أسرع بالمدح إلى من يستوجب الذم، وبالذم إلى من يستوجب المدح. وقال أعرابي لرجل: هل أنت إلا أنت لم تتغير، ولو كنت من حديد ووضعت في أتون محمي لم تذب. وسمعت أعرابيا يقول لأخيه: قد كنت نهيتك أن تدنس عرضك بعرض فلان، وأعلمتك أنه سمين المال، مهزول المعروف، من المرزوقين فجاءة، قصير عمر الغنى، طويل عمر الفقر.
أقبل أعراب! إلى سوار فلم يصادف عنده ما أحب، فقال فيه:
رأيت لي رؤيا وعبرتها ... وكنت للأحلام عبارا
بأنني أخبط في ليلتي ... كلبا فكان الكلب سوارا
وقال أعرابي في ابن عم له يسمى زيادا:
من يقادر من يطافس ... من يناذل بزياد
من يبادلني قريبا ... ببعيد من إياد
وقال سعيد بن سلم الباهلي: مدحني أعرابي، فاستبطأ الثواب، فقال:

(1/439)

لكل أخي مدح ثواب يعده ... وليس لمدح الباهلي ثواب
مدحت سعيدا والمديح مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب
وقاد أيضا:
وإن من غاية حرص الفتى ... طلابه المعروف في باهله
كبيرهم وغد ومولودهم ... تلعنه من قبحه القابله
وقال أيضا:
سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
وقال فيه:
لما رآنا فر بوابه ... وانسد من غير يد بابه
وعنده من مقته حاجب ... يحجبه إن غاب حجابه
دخل أعرابي على المساور بن هند وهو على الري فلم يعطه شيئا، فخرج وهو يقول:
أتيت المساور في حاجة ... ما زال يسعل حتى ضرط
وحك قفاه بكر سوعه ... ومسح عثنونه وامتخط؟
فأمسكت عن حاجتي خيفة ... لأخرى تقطع شرج السفط
فأقسم لوعدت في حاجتي ... للطخ بالسلح وشي النمط
وقال غلطنا حساب الخراج ... فقلت من الضرط جاء الغلط
وكان كلما ركب صاح الصبيان: من الضرط جاء الغلط، حتى هرب من غير عزل إلى بلاد أصبهان.
أبو حاتم عن أبي زيد، قال: أنشدنا أعرابي في رجل قصير:
يكاد خليلي من تقارب شخصه ... يعض القراد باسته وهو قائم
وذكر أعرابي امرأة قبيحة، فقال: ترخى ذيلها على عرقوبي نعامة، وتسدل خمارها على وجه كالجعالة.
العتبي قال: سمعت أعرابيا يقول: لا ترك الله مخا في سلامى ناقة حملتني إليك، والداعي عليها أحق بالدعاء عليك، إذ كلفها المسير إليك؛ وقال أعرابي لابن الزبير بوركت ناقة حملتني إليك. قال: إن وصاحبها. قوله: إن، يريد: نعم. قال ابن قيس الرقيات:
ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
يريد: نعم. وذكر أعرابي رجلا، فقال: لا يؤنس جارا، ولا يؤهل دارا، ولا يثقب نارا. وسأل أعرابي رجلا فحرمه، فقال له أخوه: نزلت والله بواد غير ممطور، وبرجل غير مبرور، فارتحل بندم، أو أقم بعدم. ودخلت أعرابية على حمدونة بنت المهدي، فلما خرجت سئلت عنها، فقالت: والله لقد رأيتها، فما رأيت طائلا، كأن بطنها قربة، وكأن ثديها دبة، وكأن استها رقعة، وكأن وجهها وجه ديك، قد نفش عفريته يقاتل ديكا. وصاحب أعرابي امرأة، فقال لها: والله إنك لمشرفة الأذنين، جاحظة العينين، ذات خلق متضائل، يعجبك الباطل، إن شبعت بطرت، وإن جعت صخبت، وإن رأيت حسنا دفنته، وإن رأيت سيئا أذعته، تكرمين من حقرك، وتحمرين من أكرمك. وهجا أعرابي امرأته، فقال:
يا بكر حواء من الأولاد ... وأم آلاف من العباد
عمرك ممدود إلى التنادي ... فحدثينا بحديث عاد
والعهد من فرعون ذي الأوتاد ... يا أقدم العالم في البلاد
إني من شخصك في جهاده
وقال أعرابي في امرأة تزوجها، وذكر له أنها شابة طرية، ودسوا إليه عجوزا:
عجوز ترجى أن تكون فتية ... وقد نحل الجنبان واحدودب الظهر
تدسى إلى العطار سلعة أهلها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
تزوجتها قبل المحاق بليلة ... فكان محاقا كله ذلك الشهر
وما غرني إلاخضاب بكفها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
وقال فيها:
ولا تستطيع الكحل من ضيق عينها ... فإن عالجته صار فوق المحاجر
وفي حاجبيها حزة كغرارة ... فإن حلقا كانت ثلاث غرائر

(1/440)

وثديان أما واحد فهو مزود ... وآخر فيه قربة لمسافر
وقال فيها:
لها جسم برغوث وساقا بعوضة ... ووجه كوجه القرد أو هو أقبح
تبرق عينيها إذا ما رأيتها ... وتعبس في وجه الضجيع وتكلح
لها مضحك كالحش تحسب أنها ... إذا ضحكت في أوجه القوم تسلح
وتفتح لا كانت فما لو رأيتهتوهمته بابا من النار يفتح
إذا عاين الشيطان صورة وجهها ... تعوذ منها حين يمسى ويصبح
وقال أعرابي في سوداء:
كأنها والكحل في مرودها ... تكحل عينيها ببعض جلدها
وقال فيها:
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لاشك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده
ولآخر في عجوز:
عجوز تطيب لي نفسها ... وقد عطل الدهر مسواكها
فمن ناكها أبدا طائعا ... فناك أباه كما ناكها
وقال كثير في نصيب بن رباح، وكان أسود:
رأيت أبا الحجناء في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم
تراه على ما لاحه من سواده ... وإن كان مظلوما له وجه ظالم
وقال رجل من العمال لأعرابي: ما أحسبك تعرف كم تصلي في كل يوم وليلة؟ فقال له: فإن عرفت أتجعل لم على نفسك مسألة؟ قال: نعم؛ قال: إن الصلاة أربع وأربع ثم ثلاث بعدهن أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيع
قال: صدقت. هات مسألتك؟ قال له: كم فقار ظهرك؟ قال: لا أدري؟ قال: أفتحكم بين الناس وتجهل هذا من نفسك!
قولهم في الغزل

(1/441)

ذكر أعرابي امرأة، فقال: لها جلد من لؤلؤ مع رائحة المسك، وفي كل عضو منها شمس طالعة. وذكر أعرابي امرأة ودعها للمسير: والله ما رأيت دمعة ترقرق من عين بإثمد على ديباجة خد، أحسن من عبرة أمطرتها عينها فأعشب لها قلبي. وسمعت أعرابيا يقول: إن لي قلبا مروعا، وعينا دموعا، فماذا يصنع كل واحد منهما بصاحبه، مع أن داءهما دواؤهما، وسقمهما شفاؤهما وقال أعرابي: دخلت البصرة فرأيت أعينا دعجا، وحواجب زجا، يسحبن الثياب، ويسلبن الألباب. وذكر أعرابي امرأة، فقال: خلوت بهما ليلة يرينيها القمر، فلما غاب أرتنيه، قلت له؛ فما جرى بينكما؟ فقال: أقرب ما أحل الله مما حرم، الإشارة بغير باس، والتقرب من غير مساس. وذكر أعرابي امرأة، فقال: هي أحسن من السماء، وأطيب من الماء. قال: وسمعت أعرابيا يقول: ما أشد جولة الرأي عند الهوى، وفطام النفس عن الصبا، ولقد تقطعت كبدي للعاشقين، لوم العاذلين قرطة في آذانهم، ولوعات الحب حبرات على أبدانهم، مع دموع على المغاني، كغروب السواني. وذكر أعرابي امرأة، فقال: لقد نعمت عين نظرت إليها، وشقي قلب تفجع عليها، ولقد كنت أزورها عند أهلها، فيرحب بي طرفها، ويتجهمنى لسانها؛ قيل له: فما بلغ من حبك؟ لها قال: إني لذاكر لها وبيني وبينها عدوة الطائر، فأجد لذكرها ريح المسك. وذكر أعرابي نسوة خرجن متنزهات، فقال: وجوه كالدنانير، وأعناق كأعناق اليعافير، وأوساط كأوساط الزنابير، أقبلن إلينا بحجول تخفق، وأوشحة تقلق، فكم من أسير لهن وكم مطلق. قال: وسمعت أعرابيا يقول: أتبعت فلانة إلى طرابلس الشام، والحريص جاهد، والمضل ناشد، ولو خضت إليها النار ما ألمتها. قال: وسمعت أعرابيا يقول: الهوى هوان، ولكن غلط باسمه، وإنما يعرف ما أقول من أبكته المنازل والطلول. وقال أعرابي: كنت في شبابي أعض على الملام عض الجواد على اللجام، حتى أخذ الشيب بعنان شبابي. وذكر أعرابي امرأة، فقال، إن لساني بذكرها لذلول، وإن حبها لقلبي لقتول، وإن قصير الليل بها ليطول. وصف أعرابي نساء ببلاغة وجمال، فقال: كلامهن أقتل من النبل، وأو وقع بالقلب من الوبل بالمحل، وفروعهن أحسن من نروع النخل. ونظر أعرابي إلى امرأة حسناء جميلة تسمى ذلفاء، ومعها صبي يبكي، وكلما بكى قبلته، فأنشأ يقول:
يا ليتني كنت صبيا مرضعا ... تحملني الذلفاء حولا اكتعا
إذا بكيت قبلتني في أربعا ... فلا أزال الدهر أبكي أجمعا
وأنشد أبو الحسن علي بن عبد العزيز بمكة لأعرابي:
جارية في سفوان دارها ... تمشي الهوينى مائلا خمارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها ... يطير من غلمتها إزارها
العتبي قال: وصف أعرابي امرأة حسناء، فقال: تبسم عن حمش اللثات، كأقاحي النبات، فالسعيد من ذاقه، والشقي من أراقه. وقال العتبي: خرجت ليلة حين انحدرت النجوم، وشالت أرجلها، فما زلت أصدع الليل حتى إنصدع الفجر، فإذا بجارية كأنها علم، فجعلت أغازلها، فقالت: يا هذا، أما لك ناه من كرم إن لم يكن لك زاجر من عقل؟ قلت: والله ما ترانا إلا الكواكب؛ قالت: فأين مكوكبها؟ ذكر أعرابي امرأة، فقال هي السقم الذي لا برء منه، والبرء الذي لا سقم معه، وهي أقرب من الحشى، وأبعد من السما. قال أعرابي: وقد نظر إلى جارية بالبصرة في مأتم:
وبصرية لم تبصر العين مثلها ... غدت ببياض في ثياب سواد
غدوت إلى الصحراء تبكين هالكا ... فأهلكت حيا كنت أشأم عاد
فيا رب خذ لي رحمة من فؤادها ... وحل بين عينيها وبين فؤادي
وقال في جارية ودعها:
مالت تودعني والدمع يغلبها ... كما يميل نسيم الريح بالغصن

(1/442)

ثم استمرت وقالت وهي باكية ... يا ليت معرفتي إياك لم تكن
العتبي قال: أنشد أعرابي:
يا زين من ولدت حواء من ولد ... لولاك لم تحسن الدنيا ولم تطب
أنت التي من أراه الله رؤيتها ... نال الخلود فلم يهرم ولم يشب
وأنشد الرياشي لأعرابي:
من دمنة خلقت عيناك في هتن ... فما يرد البكا جهلا على الدمن
ما كنت للقلب إلا فتنة عرضت ... يا حبذا أنت من معروضة الفتن
تسيء سلمى وأجزيها به حسنا ... فمن سواي يجازي السوء بالحسن
قال: وسمعت أعرابيا يصف امرأة، فقال: بيضاء جعدة، لا يمس الثوب منها إلا مشاشة كتفيها، وحلمة ثدييها، ورضفتي ركبتيها، ورانفتي أليتيها، وأنشد:
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون و أن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيورا
وقال أعرابي: ليت فلانة حظي من أملي، ولرب يوم سرته إليها حتى قبض الليل بصري دونها، وإن من كلام النساء ما يقوم مقام الماء، فيشفي من الظمأ. وذكر أعرابي امرأة، فقال: تلك شمس باهت بها الأرض شمس سمائها. وليس لي شفيع في اقتضائها، وإن نفسي لكتوم لدائها، ولكنها تفيض عند امتلائها. أخذ هذا المعنى حبيب فقال:
ويا شمس أرضيها التي تم نورها ... فباهت بها الأرضون شمس سمائها
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها
وقيل لأعرابي: ما بال الحب اليوم على غير ما كان عليه قبل اليوم؟ قال: نعم، كان الحب في القلب فانتقل إلى المعدة، إن أطعمته شيئا أحبها، وإلا فلا. كان الرجل يحب المرأة، يطيف بدارها حولا ويفرح إن رأى من رآها، وإن ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار، وإنه اليوم يشير إليها وتشير إليه ويعدها وتعده، فإذا اجتمعا لم يشكوا حبا، ولم ينشدا شعرا، ولكن يرفع رجليها ويطلب الولد. وقال أعرابي:
شكوت فقالت كل هذا تبرما ... بحئي أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحب قالت لشدما ... صبرت وما هذا بفعل شجي القلب
وأدلو فتقصيني فأبعد طالبا ... رضاها فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعلمونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
قولهم في الخيل
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول: خرجت علينا خيل مستطيرة النقع، كأن هواديها أعلام، وآذانها أطراف أقلام، وفرسانها أسود آجام. أخذ هذا المعنى عدي بن الرقاع فقال:
تخرجن فرجات النقع دامية ... كأن آذانها أطراف أقلام
وقال أعرابي: خرجنا حفاة حين انتعل كل شيء بظله، وما زادنا إلا التوكل، ولا مطايانا إلا الأرجل، حتى لحقنا القوم. وذكر أعرابي فرسا وسرعته، فقال: لما خرجت الخيل أقبل شيطان في أشطان، فلما أرسلت لمع لمع البرق، فكان أقربها إليه الذي تقع عينه عليه. وقال أعرابي في فرس الأعور السلمي:
مر كلمع البرق سام ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمس الأرض منه حافره

(1/443)

سئل أعرابي عن سوابق الخيل، فقال: الذي إذا مشى ردى، وإذا عدا دحا، وإذا استقل أقعى، وإذا استدبر جبى، وإذا اعترض استوى. وذكر أعرابي خيلا، فقال: والله ما انحدرت في واد إلا ملأت بطنه، ولا ركبت بطن جبل إلا أسهلت حزنه. وقال أعرابي: خرجت على فرس يختال اختيال ابن العشرين، نسوف للحزام، مهارش للجام، فما متع النهار حتى أمتعنا برف ورفاهة.
قولهم في الغيث
الأصمعي قال: قلت لأعرابي: أي الناس أوصف للغيث؟ قال: الذي يقول - يعني امرأ القيس - :
ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر
قلت: فبعده مات؛ قال الذي يقول - يعني عبيد بن الأبرص - :
يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض مكفهر المزن دلاح
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام الراح
ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك، فقال له: أصابتك سماء في وجهك يا أعرابي؛ قال: نعم يا أمير المؤمنين، غير أنها سحاء طخياء وطفاء، كأن هواديها الدلاء، مرجحنة النواحي، موصولة بالآكام، تمس هام الرجال، كثير زجلها، قاصف رعدها، خاطف برقها، حثيث ودقها، بطىء سيرها، متفجر قطرها، مظلم نوؤها، قد ألجأت الوحش إلى أوطانها، تبحث عن أصولها بأظلافها، متجمعة بعد شتاتها، فلولا اعتصامنا يا أمير المؤمنين بعضاه الشجر، وتعلقنا بقنن الجبال، لكنا جفاء في بعض الأودية ولقم الطريق، فأطال الله لأمة بقاءك، ونسألها في أجلك، فهذا، ببركتك، وعادة الله بك على رعيتك، وصلى الله على سيدنا محمد. فقال سليمان: لعمر أبيك، لئن كانت بديهة لقد أحسنت، وإن كانت محبرة لقد أجدت؛ قال: بل محبرة مزورة يا أمير المؤمنين؟ قال: يا غلام، أعطه، فوالله لصدقه أعجب إلينا من وصفه.
قيل لأعرابي: أي الألوان أحسن؟ قال: قصور بيض في حدائق خضر.
وقيل لآخر: أي الألوان أحسن؟ قال: بيضة في روضة عن غب سارية والشمس مكبدة. وقال أعرابي: لقد رأيت بالبصرة برودا كأنها صبغت بأنوار الربيع، فهي تروع، واللابس لها أروع.
العتبي قال: سمعت أعرابيا يقول: مررت ببلدة ألقى بها الصيف بعاعه، فأظهر غديرا يقصر الطرف عن أرجائه، وقد نفت الريح القذى عن مائه، فكأنه سلاسل درع ذات فضول. وأنشد أبو عثمان الجاحظ لأعرابي:
أين إخواننا على السراء ... أين أهل القباب والدهناء
جاورنا والأرض ملبسة نو ... ر الأقاحي يجاد بالأنواء
كل يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء
قال ابن عمران المخزومي: أتيت مع أبي واليا على المدينة من قريش وعنده أعرابي يقال له ابن مطير، وإذا مطر جود، فقال له الوالي: صفه؟ فقال: دعني أشرف وأنظر. فأشرف ونظر، ثم نزل فقال:
كثرت لكثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلب فاضت الأطباء
وله رباب هيدب لرقيقه ... قبل التبعق ديمة وطفاء
وكأن بارقه حريق تلتقي ... ريح عليه وعرفج وألاء
وكأن ريقه ولما يحتفل ... دون السماء عجاجة طخياء
مستضحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزن ولا بمسرة ... ضحك يؤلف بينه وبكاء
حيران متبع صباه تقوده ... وجنوبه كف له ورهاء
ثقلت كلاه فبهرت أصلابه ... وتبعجت عن مائه الأحشاء
غدق تبعج بالأباطح مزقت ... تلك السيول ومالها أشلاء
غر محجلة دوالح ضمنت ... حمل اللقاح وكلها عذراء
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم



عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 9:43 pm

سحم فهن إذا عبسن فواحم ... سود وهن إذا ضحكن وضاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء
قال هشام بن عبد الملك لأعرابي: أخرج فانظر كيف ترى السحاب، فخرج فنظر، ثم انصرف فقال: سفائن وإن اجتمعن بععن.
قولهم في البلاغة والإيجاز
قيل لأعرابي: من أبلغ الناس؟ قال: أحسنهم لفظا وأسرعهم بديهة.
الأصمعي قال: خطب رجل في نكاح فأكثر وطول؛ فقيل من يجيبه؟ فقال أعرابي: أنا، قيل له: أنت وذاك؟ فالتفت إلى الخاطب، فقال: إني والله ما أنا من تخطيطك وتمطيطك في شيء، قدمتت بحرمة، وذكرت حقا، وعظمت مرجوا، فحبلك موصول، وفرضك مقبول، وأنت لها كفء كريم، وقد أنكحناك وسلمنا. وتكلم ربيعة الرأي يوما فأكثر، فكأن العجب داخله وأعرابي إلى جنبه، فأقبل على الأعرابي، فقال ما تعدون البلاغة يا أعرابي؟ قال:قلة الكلام وإيجاز الصواب، قال فما تعدون العي؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم فكأنما ألقمه حجرا. شبيب بن شيبة قال: لقيت أعرابيا في طريق مكة، فقال لي: تكتب؟ قلت: نعم، قال: ومعك دواة؟ قلت: نعم. فأخرج قطعة جراب من كمه، ثم قال: اكتب ولا تزد حرفا لا تنقص: هذا كتاب كتبه عبد الله بن عقيل الطائي، لأمته لؤلؤة: إني أعتقك لوجه الله واقتحام العقبة، فلا سبيل لي ولا لأحد عليك إلا سبيل الولاء والمنة علي وعليك من الله وحده، ونحن في الحق سواء، ثم قال: اكتب شهادتك. روي أن أعرابيا حضر مجلس ابن عباس فسمع عنده قارئا يقرأ: " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " . فقال الأعرابي: والله ما أنقذكم منها وهو يرجعكم إليها. فقال ابن عباس: خذوها من غير فقيه.
قولهم في حسن التوقيع وحسن التشبيه
قيل لأعرابي: مالك لا تطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل لأعرابي: كم بين بلد كذا وبلد، كذا؟ قال: عمر ليلة وأديم يوم. وقال آخر: سواد ليلة وبياض يوم. وقيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال؟ ما صدري له، إلا قبر. قال معاوية لأعرابية: هل من قرى؟ قالت: نعم؟ قال: وما هو؟ قالت: خبز خمير، ولبن فطير، وماء نمير. وقيل لأعرابي: فيم كنتم؟ قال: كنا بين قدر تفور، وكأس تدور، وحديث لا يحور. وقيل لأعرابي: ما أعددت للبرد؟ قال: شدة الرعدة، وقرفصاء القعدة، وذرب المعدة. وقيل لإعرابي: مالك من الولد؟ قال: قليل خبيث، قيل له: ما معناه؟ قال: إنه لا أقل من واحد، ولا أخبث من أنثى. وقال: أضل أعرابي الطريق ليلا، فلما طلع القمر اهتدى، فرفع رأسه إليه متشكرا، فقال: ما أدرى ما أقول لك وما أقول فيك؟ أقول: رفعك الله، فقد رفعك، أم أقول: نورك الله، فقد نورك، أم أقول: حسنك الله، فقد حسنك، أم أقول: عمرك الله، فقد عمرك، ولكني أقول: جعلني الله فداك. وقيل لأعرابي: ما تقول في ابن العم؟ قال: عدوك وعدو عدوك. وقيل لأعرابي، وقد أدخل ناقته في السوق ليبيعها: صف لنا ناقتك؛ قال: ما طلبت عليها قط إلا أدركت، وما طلبت إلا فت؛ قيل له: فلم تبيعها؟ قال: لقول الشاعر:
وقد تخرج الحاجات يا أم عامر ... كرائم من رب بهن ضنين
وقيل لأعرابي: كيف ابنك؟ - وكان له عاقا - قال: عذاب لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب في الشكر، فليتني قد استودعته القبر. قيل لشريح القاضي: هل كلمك أحد قط فلم تطق له جوابا؟ قال: ما أعلمه، إلا أن يكون أعرابيا خاصم عندي، وجعل يشير بيديه، فقلت له: أمسك فإن لسانك أطول من يدك؛ قال:
أسامري أنت لا تمس

(1/445)

وقيل لأعرابي: ما عندكم في البادية طبيب؟ قال: حمر الوحش لا تحتاج إلى بيطار. وقال أعرابي يصف خاتما: سيف تدوير حلقته، ودور كرسي قضته، وأحكم تركيبه، وأتقن تدبيره، فبه يتم الملك، وينفذ الأمر، ويكرم الكتاب، ويشرف المكتوب إليه.
وقال آخر يصف خاتما:
وأبيض أما جسمه فمنور ... نقي وأما رأسه فمعار
ولم يكتسب إلا لتسكن وسطه ... بزيعة رأس ما عليه خمار
لها أخوات أربع هن مثلها ... ولكنها الصغرى وهن كبار
قولهم في المناكح
يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحكم عن الشافعي قال: تزوج رجل من الأعراب امرأة جديدة على امرأة قديمة، وكانت جارية الجديدة تمر على باب القديمة فتقول:
وما تستوي الرجلان رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
ثم مرت بعد أيام فقالت:
وما يستوي الثوبان ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد
فخرجت إليها جارية القديمة فقالت:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما القلب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
الأصمعي قال: أخبرني أعرابي قال: خطب منا رجل مغموز امرأة مغموزة فزوجوه، فقال رجل لولي المرأة: تعمم لكم فلان فزوجتموه؛ فقال: ما تعمم لنا حتى تبرقعنا له.
أبو حاتم عن الأصمعي قال: قالت أعرابية لبنات عم لها: السعيدة منكن يتزوجها ابن عمها، فيمهرها بتيسين وكلبين وعيرين ورحيين، فينب التيسان، وينهق العيران، وينبح الكلبان، وتدور الرحيان، فيعج الوادي، والشقية منكن من يتزوجها الحضري، فيكسوها الحرير، ويطعمها الخمير، ويحملها ليلة الزفاف على عود، تعنى سرجا. الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يشار امرأته، فقالت لها أخته: أما والله أيام شرخه، إذ كان ينكتك كما ينكت العظم عن مخه، لقد كنت له تبوعا، ومنه سموعا، فلما لان منه ما كان شديدا، وأخلق منه ما كان جديدا، تغيرت له، وايم الله، لئن كان تغير منه البعض لقد تغير منك الكل. وقيل لأعرابي: كيف حبك لزوجتك؟ قال: ربما كنت معها على الفراش، فمدت يدها إلى صدري، فوددت والله أن آجرة خرت من السقف فقدت يدها وضلعين من أضلاع صدري، ثم أنشأ يقول:
لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السوء باق معمر
فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلا ... وعذبها فيه نكير ومنكر
وتزوج أعرابي امرأة، فطالت صحبتها له فتغير لها، وقد طعنت في السن، فقالت له: ألم تكن ترضى إذا غضبت، وتعتب إذا عتبت، وتشفى إذا أبيت، فما بالك لآن؟ قال: ذهب الذي كان يصلح بيننا. الأصمعي قال: كنت أختلف إلى أعرابي أقتبس منه الغريب، فكنت إذا استأذنت عليه يقول: يا أمامة، ائذني له، فتقول: ادخل. فاستأذنت ليه مرارا فلم أسمعه يذكر أمامة، فقلت له: يرحمك الله، ما أسمعك تذكر أمامة منذ حين؛ قال: فوجم وجمة، ندمت معها على ما كان مني، ثم قال:
ظعنت أمامة بالطلاق ... ونجوت من غل الوثاق
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تدمع مآقي
ودواء ما لا تشته ... يه النفس تعجيل الفراق
والعيش ليس يطيب بي ... ن اثنين من غير اتفاق
لو لم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالإباق
الأصمعي قال: تزوج أعرابي امرأة فآذته وافتدى منها بحمار وجبة، فقدم عليه ابن عم له من البادية، فسأله عنها، فقال:
خطبت إلى الشيطان للحين بنته ... فأدخلها من شقوتي في حباليا

(1/446)

فأنقذني منها حماري وجبتي ... جزى الله خيرا جبتي وحماريا
الأصمعي قال: خاصم أعرابي امرأته إلى زياد، فشدد على الإعرابي، فقال: أصلح الله الأمير، إن خير عمر الرجل آخره، يذهب جهله ويثوب حلمه، ويجتمع رأيه؛ وإن شر عمر المرأة آخره، يسوء خلقها، ويحتد لسانها، وتعقم رحمها. قال له؛ صدقت، اسفع بيدها. قال: وذكرت أعرابية زوجها، وكان شيخا، فقالت: ذهب ذفره وبقي بخره، وفتر ذكره. الأصمعي قال: كان أعرابي قبيح طويل خطب امرأة، فقيل له: أي ضرب تريدها؟ قالت أريدها قصيرة جميلة، فيأتي ولدها في جمالها وطولي، فتزوجها على تلك الصفة، فجاء ولدها في قصرها وقبحه. قدم أعرابي من طيء، فاحتلب لبنا ثم قعد مع زوجته ينتجعان، فقالت له: من أنعم عيشا أنحن أم بنو مروان؟ فقال لها: بنو مروان أطيب منا طعاما، إلا أنا أردأ منهم كسوة، وهم أظهر منا نهارا، إلا أنا أظهر منهم ليلا. الأصمعي قال: خاصم أعرابي امرأته إلى السلطان، فقيل له: ما صنعت؟ قال خيرا، أكبها الله لوجهها، ولو أمر بي إلى السجن. الأصمعي قال: استشارت أعرابية في رجل تتزوجه، فقيل لها: لا تفعلي فإنه وكلة تكلة، يأكل خلله، أي يأكل ما يخرج من بين أسنانه إذا تخلل. قال أبو حاتم: هو الخلالة، ووكلة تكلة، إذا كان يكل أمره إلى الناس ويتكل عليهم. العتبى قال: خطب إلى أعرابي رجل موسر إحدى ابنتيه، وكان للخاطب امرأة، فقالت الكبرى: لا أريده. قال أبوها: ولم؟ قالت: يوم عتاب، ويوم اكتئاب، يبلى فيما بين ذلك الشباب. قالت الصغرى زوجنيه؛ قال لها: على ما سمعت من أختك؟ قالت: نعم، يوم تزين، ويوم تسمن، وقد تقر فيما بين ذلك الأعين. الأصمعي قال: رأيت امرأة ترقص طفلا لها، وتقول:
أحبه حب الشحيح ماله ... قد كان ذاق الفقر ثم ناله
إذا أراد بذله بدا له
الأصمعي قال: هلك أعرابي، فأدمنت امرأته البكاء عليه، فقال لها بعض بنيها
أتفقدين من أبينا غيره ... أتفقدين نفعه وخيره
أراك ما تبكين إلا أيره
قال: فأمسكت عن البكاء. جلس أعرابي إلى أعرابية، فعلمت أنه ما جلس إلا لينظر إلى محاسنها، فأنشأت تقول:
وما نلت منها غير أنك نائك ... بعينيك عينيها وأيرك خائب
الرياشي قال: أنشدني العتبي لأعرابي:
ماذا تظن بسلمى إن ألم بها ... مرجل الرأس ذو بردين مزاح
حلو فكاهته خز عمامته ... في كفه من رقى إبليس مفتاح
أبو حاتم عن الأصمعي قال: خطب أعرابي امرأة، فقالت له: سل عني بني فلان وبنى فلان؛ قال لها: وما علمهم بذلك؟ قالت: في كلهم نكحت؟ قال: أراك جلنفعة قد خزمتك الخزائم؛ قالت: لا، ولكن جوالة بالرحل عنتريس. تزوج رجل من الأعراب امرأة منهم عجوزا ذات مال، فكان يصبر عليها لمالها، ثم ملها وتركها، فكتبت إليه تسترده، فكتب إليها يقول:
ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلا وضرب الرقاب
فكتبت إليه: إنه والله ما يريد قيس غير طعن الكلا.
المفضل الضبي قال: خطب أعرابي امرأة، فجعل يخطبها وينعظ، فضرب ذكره بيده، وقال: مه، إليك يساق الحديث، فأرسلها مثلا. علي بن عبد العزيز قال: كان أبو البيداء عنينا، وكان يتجلد ويقول لقومه: زوجوني امرأتين، فيقال له: إن في واحدة كفاية؛ فيقول: أما لي فلا؛ فقالوا نزوجك واحدة فإن كفتك وإلا زوجناك أخرى، فزوجوه إعرابية، فدما دخل بها أقام معها أسبوعا، فلما كان في اليوم السابع أتوه، فقالوا له: يا أبا البيداء، ما كان أمرك في اليوم الأول؟ قال: عظيم جدا، قالوا: ففي الثاني؟ قال: أجل وأعظم؟ قالوا: ففي الثالث؟ قال: لا تسألوا. فأجابت المرأة من وراء الستر، فقالت:

(1/447)

كان أبو البيداء ينزو في الوهق ... حتى إذا أدخل في البيت أبق
فيه غزال حسن الدل خرق ... مارسه حتى إذا ارفض العرق
انكسر المفتاح وانسد الغلق
كانت لأعرابي امرأة لا ترد يد لامس، فقيل له: مالك لا تفارقها؟ قال: إنها حسناء فلا تفرك، وأم بنين فلا تترك. قال شيخ من الإعراب:
أنا شيخ ولي امرأة عجوز ... تراودني على ما لا يجوز
تريد أنيكها في كل يوم ... وذلك عند أمثالي عزيز
وقالت رق إيرك مذ كبرنا ... فقلت لها بل اتسع القفيز
الأصمعي قال: قال أعرابي في امرأة تزوجها، وقد تزوجت قبله خمسة، وتزوج هو قبلها أربعا، فلاحته يوما، فقال فيها:
لو لابس الشيطان ما ألابس ... أو مارس الغول التي أمارس
لأصبح الشيطان وهو عابس ... زوجها أربعة عمارس
فانفلتوا منها ومات الخامس ... وساقني الحين فها أنا السادس
وقال فيها:
بويزل أعوام أذاعت بخمسة وتعتدني إن لم يق الله ساديا
ومن قبلها غيبت في الترب أربعا ... وأعتدها مذ جئتها في رجائيا
كلانا مطل مشرف لغنيمة ... يراها ويقضي الله ما كان قاضيا
وقال أعرابي:
أشكو إلى الله عيالا دردقا ... مقرقمين وعجوزا شملقا
الدردق: الصغار. والمقرقم: البطيء الشباب. والشملق: السيئة الخلق.
قولهم في الإعراب الأصمعي قال: قلت لأعرابي، أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذا لرجل سوء؛ قلت له: أفتجر فلسطين؟ قال: إني إذا لقوي. وسمع أعرابي إماما يقرأ: ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا. قال: ولا إن آمنوا أيضا لن ننكحهم؛ فقيل له: إنه يلحن وليس هكذا يقرأ؛ فقال: أخروه قبحه الله لا تجعلوه إماما، فإنه يحل ما حرم الله. وسمع أعرابي أبا المكنون النحوي، وهو يقول في دعائه يستسقي: اللهم ربنا وإلهنا وسيدنا ومولانا، فصل على محمد نبينا، ومن أراد بنا سوءا فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد بأعناق الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على هام أصحاب الفيل، اللهم اسقنا غيثا مريئا، مريعا مجلجلا مسحنفرا هزجا سحا سفوحا طبقا غدقا مثعنجرا صخبا نافعا لعامتنا وغير ضار بخاصتنا. فقال الأعرابي: يا خليفة نوح، هذا، الطوفان ورب الكعبة، دعني حتى آوى إلى جبل يعصمني من الماء. الأصمعي قال: أصابت الأرض مجاعة، فلقيت رجلا منهم خارجا من الصحراء كأنه جذع محترق، فقلت له: أتقرأ مني كتاب الله شيئا؟ قال: لا؛ قلت: فأعلمك؟ قال: ما شئت؛ قلت: اقرأ: " قل يا أيها الكافرون " قال: كل يا أيها الكافرون؛ قلت: " قل يا أيها الكافرون " كما أقول لك؛ قال: ما أجد لساني ينطلق بذلك. قال: ورأيت أعرابيا ومعه بني له صغير ممسك بفم قربة، وقد خاف أن تغلبه القربة، فصاح: يا أبت، أدرك فاها غلبني فوها لا طاقة لي بفيها.
قولهم في الدين
قال أعرابي: الدين ذل بالنهار، وهم بالليل. وقال أعرابي في غرماء له يطلبونه بدين:
جاءوا إلي غضابا يلغطون معا ... فقلت موعد كم ابن هبار
وما أواعدهم إلا لأدرأهم ... عني فيحرجني نقضي وإمراري
وما جلبت إليهم غير راحلة ... تخدي برحلى وسيف جفنه عاري
إن القضاء سيأتي دونه زمنفاطو الصحيفة واحفظها من النار الأصمعي قال: كان لرجل من يحصب على رجل من باهلة دين، فلما حل دينه هرب الأعرابي، وأنشأ يقول:
ذا حل دين اليحصبي فقل له ... تزود بزاد واستعن بدليل
سيصبح فوقي أقتم الريش واقعا ... بقالي قلا أو من وراء دبيل

(1/448)

الأصمعي قال: فأخبرني رجل أنه رآه مقتولا بقالي قلا وعليه نسر أقتم الريش. الأصمعي قال: اختصم أعرابيان إلى بعض الولاة في دين لأحدهما على صاحبه، فجعل المدعى عليه يحلف بالطلاق والعتاق، فقال له المدعي: دعني من هذه الأيمان، واحلف بما أقول لك: لا ترك الله لك خفا يتبع خفا، ولا ظلفا يتبع ظلفا، وحتك من أهلك حت الورق من الشجر، إن لم يكن لي هذا الحق قبلك. فأعطاه حقه ولم يحلف له. الهيثم بن عدي قال: يمين لا يحلف بها أعرابي أبدا: لا أورد الله لك صادرة، ولا أصدر لك واردة، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك.
قولهم في النوادر والملح
الشيباني قال: خرج أبو العباس أمير المؤمنين متنزها بالأنبار فأمعن في نزهته وانتبذ من أصحابه، فوافى خباء لأعرابي، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ قال: من كنانة، قال: من أي كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة، قال: فأنت إذا من قريش؛ قال: نعم؛ قال: فمن أي قريش؛ قال: من أبغض قريش إلى قريش؟ قال: فأنت إذا من ولد عبد المطلب؟ قال؛ نعم؛ قال: فمن أي ولد عبد المطلب؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى عبد المطلب؟ قال: فأنت إذا أمير المؤمنين، ووثب إليه، فاستحسن ما رأى منه، وأمر له بجائزة. الشيباني قال: خرج الحجاج متصيدا بالمدينة فوقف على أعرابي يرعى إبلا له، فقال له: يا أعرابي، كيف. رأيت سيرة أميركم الحجاج؛ قال له الأعرابي: غشوم ظلوم لا حياه الله، فقال: فلم لا شكوتموه إلى أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: فأظلم وأغشم. فبينما هو كذلك إذ أحاطت به الخيل، فأومأ الحجاج إلى الأعرابي، فأخذ وحمل، فلما صار معهم، قال: من هذا؟ قالوا له: الحجاج، فحرك دابته حتى صار بالقرب منه، ثم ناداه: يا حجاج، قال: ما تشاء يا أعرابي؟ قال: السر الذي بيني وبينك أحب أن يكون مكتوما؛ قال: فضحك الحجاج، وأمر بتخلية سبيله: الأصمعي قال: ولى يوسف بن عمر صاحب العراق أعرابيا على عمل له، فأصاب عليه خيانة فعزله، فلما قدم عليه قال له: يا عدو الله، أكلت مال الله، قال الأعرابي: فمال من آكل إذا لم آكل مال الله؟ لقد راودت إبليس أن يعطيني فلسا واحدا فما فعل. فضحك منه وخلى سبيله. الشيباني قال: نزل عبد الله بن جعفر إلى خيمة أعرابية ولها دجاجة وقد دجنت عندها، فذبحتها وجاءتها بها إليه، فقالت: يا أبا جعفر، هذه دجاجة لي كنت أدجنها وأعلفها من قوتي، وألمسها في آناء الليل، فكأنما ألمس بنتى زلت عن كبدي، فنذرت لله أن أدفنها في أكرم بقعة تكون، فلم أجد تلك البقعة المباركة إلا بطنك، فأردت أن أدفنها فيه. فضحك عبد الله بن جعفر وأمر لها بخمسمائة درهم.
ونظر أعرابي إلى قوم يلتمسون هلال شهر رمضان، فقال: والله لئن أريتموه لتمسكن منه بذناب عيش أغبر. الأصمعي قال: رأيت أعرابيا واقفا على ركية ملحة، فقلت: كيف هذا الماء يا أعرابي؟ قال: يخطيء القلب ويصيب الأست. ونظر أعرابي إلى رجل سمين، فقال: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك. قال: وسمعت أعرابيا يقول: اللهم إني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة أكل بذجا وشرب معسلا، ونام في الشمس، فمات دفيئا شبعان ريان. محمد بن وضاح يرفعه إلى أبي هريرة رضي الله عنه. قال: دخل أعرابي المسجد والنبي جالس، فقام يصلي، فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد حجرت واسعا يا أعرابي. قال: وسمعت أعرابيا وهو يقول في الطواف: اللهم اغفر لأمي؛ فقلت له: مالك لا تذكر أباك؛ فقال أبي رجل يحتال لنفسه، وأما أمي فبائسة ضعيفة.

(1/449)

أبو حاتم عن أبي زيد قال: رأيت أعرابيا كأن أنفه كوز من عظمه، فرآنا نضحك منه، فقال: ما يضحككم؟ فوالله لقد كنت في قوم ما كنت فيهم إلا أفطس. قال: وجيء بأعرابي إلى السلطان ومعه كتاب قد كتب فيه قصته، وهو يقول: هاؤم اقرؤا كتابيه. فقيل له: يقال هذا يوم القيامة؛ قال: هذا والله شر من يوم القيامة، إن يوم القيامة يؤتي بحسناتي وسيأتي، وأنتم جئتم بسيآتي وتركتم حسناتي.
قيل لأبي المخش الأعرابي: أيسرك أنك خليفة وأن أمتك حرة؛ قال: لا والله ما يسرني؟ قيل له: ولم؟ قال: لأنها كانت تذهب الأمة وتضيع الأمة. اشترى أعرابي غلاما، فقيل للبائع: هل فيه من عيب؟ قال: لا، إلا أنه يبول في الفراش؛ قال: هذا ليس بعيب، إن وجد فراشا فليبل فيه. أخذ الحجاج أعرابيا لصا بالمدينة فأمر بضربه، فلما قرعه بسوط قال: يا رب شكرا، حتى ضربه سبعمائة سوط؟ قال: لماذا؟ قال: لكثرة شكرك، إن الله تعالى يقول: " لئن شكرتم لأزيدنكم " . قال: وهذا في القرآن؟ قال: نعم. فقال الأعرابي:
يا رب لا شكر فلا تزدني ... أسأت في شكري فاعف عني
باعد ثواب الشاكرين مني
مر أعرابي بقوم وهو ينشد ابنا له، فقالوا له: صفه؛ قال: كأنه دنينير، قالوا: لم نره. ثم لم يلبث القوم أن أقبل الأعرابي وعلى عنقه جعل، فقالوا: هذا الذي قلت فيه كأنه دنينير؟ فقال: القرنبي في عين أمها حسناء. والقرنبي دويبة من خشاش الأرض إذا مسها أحد تقبضت فصارت من الكرة.
قيل لأعرابي: ما يمنعك أن تغزو؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أمضي إليه ركضا! وغزا أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما رأيت مع رسول الله في غزاتك هذه؟ قال: وضع عنا نصف الصلاة، وأرجو في الغزاة الأخرى أن يضع النصف الباقي.
جلس أعرابي إلى مجلس أيوب السختياني، فقيل له: يا أعرابي، لعلك قدري؛ قال: وما القدري؟ فذكر له محاسن قولهم؛ قال: أنا ذاك، ثم ذكر له ما يعيب الناس من قولهم، فقال: لست بذاك، قال: فلعلك مثبت؟ قال: وما المثبت؟ فذكر محاسنهم، فقال: أنا ذاك، ثم ذكر له ما يعيب الناس منهم، فقال: لست بذاك! قال أيوب: هكذا يفعل العاقل، يأخذ من كل شيء أحسنه.
الأصمعي قال: سمع أعرابي جريرا ينشد:
كاد الهوى يوم سلمانين يقتلني ... وكاد يقتلني. يوما بنعمان
وكاد يقتلني يوما بذي خشب ... وكاد يقتلني يوما بسلمان
فقال: هذا رجل أفلت من الموت أربع مرات، لا يموت هذا أبدا. الشيبان قال: بلغني أن أعرابيين ظريفين من شياطين العرب حطمتهما سنة فانحدرا إلى العراق، فبينما هما يتماشيان في السوق، واسم أحدهما خندان، إذا فارس قد أوطأ دابته رجل خندان، فقطع إصبعا من أصابعه، فتعلقا به حتى أخذا أرش الإصبع، وكانا جائعين مقرورين، فلما صار المال بأيديهما قصدا إلى بعض الكرابج فابتاعا من الطعام ما اشتهيا، فلما شبع صاح خندان أنشأ يقول:
فلا غرثة ما دام في الناس كربج ... وما بقيت في رجل خندان إصبع
وهذا شبيه قول أعرابية في إبنها، وكان لها ابن شديد العرام، كثير القتال للناس، مع ضعف أسر، ورقة عظم، فواثب مرة فتى من الأعراب، فقطع الفتى أنفه، فأخذت أمه دية أنفه، فحسن حالها بعد فقر مدقع، ثم واثب آخر فقطع شفته، ثم أخذت دية شفته، فلما رأت ما صار عندها من الإبل والبقر والغنم والمتاع بجوارح ابنها ذكرته في أرجوزة لها تقول فيها:
أحلف بالمروة حلفا والصفا ... أنك خير من تفاريق العصا
فقلت لأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تقطع ساجورا، ثم يقطع الساجور أوتادا، ثم تقطع الأوتاد أشظه.

(1/450)

الأصمعي قال: خرج أعرابي إلى الحج مع أصحاب له، فلما كان ببعض الطريق راجعا يريد أهله لقيه ابن عم له، فسأله عن أهله ومنزله، فقال: أعلم أنك لما خرجت وكانت لك ثلاثة أيام وقع في بيتك الحريق. فرفع الأعرابي يديه إلى السماء، وقال: ما أحسن هذا يا رب! تأمرنا بعمارة بيتك وتخرب أنت بيوتنا. وخرجت أعرابية إلى الحج، فلما كانت ببعض الطريق عطبت راحلتها، فرفعت يديها إلى السماء، وقالت: يا رب، أخرجتني من بيتي إلى بيتك، فلا بيتي ولا بيتك. الأصمعي قال: عرضت السجون بعد هلاك الحجاج، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا، لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب، وفيهم أعرابي أخذ وهو يبول في أصل سور، مدينة واسط، فكان فيمن أطلق، فانشأ يقول:
إذا ما خرجنا من مدينة واسط ... خرينا وبلنا لا نخاف عقابا
ذكر عند أعرابي الأولاد والانتفاع بهم، فقال: زوجوني امرأة أولدها ولدا أعلمه الفروسية حتى يحوى الرهان، والنزع عن القوس حتى يصيب الحدق، ورواية الشعر حتى يفحم الفحول. فزوجوه امرأة، فولدت له ابنة، فقال فيها:
قد كنت أرجو أن تكوني ذكرا ... فشقك الرحمن شقا منكرا
شقا أبى الله له أن يجبرا ... مثل الذي لامها أو أكبرا
ثم حملت حملا آخر، فدخل عليها وهي في الطلق، وكانت تسمى ربابا، فقال:
أيا ربابى طرقى بخير ... وطرقى بخصيه وأير
ولا ترينا طرف البظير
ثم ولدت له أخرى، فهجر فراشها. وكان يأتى جارة لها، فقالت فيه، وكان يكنى أبا حمزة:
ما لأبى حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ... وإنما نأخذ ما أعطينا
فألانه قولها، ورجع إليها.
وقال سعيد بن أبي الفرج: سمعت أعرابيا يطوف بالبيت و هو يقول:
لا هم رب الناس حين لببوا ... وحين راحوا من منى وحصبوا
لا سقيت عثبثب وغلب ... والمستزار لا سقاه الكوكب
فقلت: يا أعرابي، ما لهذه المواضع تدعو عليها في هذا الموضع، فنظر إلي كالغضبان، وقال:
من أجل حماهن ماتت زينب
قولهم في التلصص
أبو حاتم قال: أنشدنا أبو زيد لأعرابي وكان لصا:
ثلاث خلال لست عنهن تائبا ... وإن لامني فيهن كل خليل
فمنهن أني لا أزال معانقا ... حمائل ماضي الشفرتين صقيل
به كنت أستعدي وأعدى صحابتي ... إذا صرخ الزحفان باسم قتيل
ومنهن سوق النهب في ليلة الدجى ... يحار بها في الليل كل مميل
وهذا المعنى سبقه إليه الأول:
فلولا ثلاث هن عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام رامس
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كأن أخاها مطلع الشمس ناعس
ومنهن تقريط الجراد عنانه ... إذا ابتدر الشخص الصفي االفوارس
ومنهن تجريد الكواعب كالدمى ... إذا ابتز عن أكفالهن الملابس
وأول من قال هذا المعنى طرفة حيث يقول:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنبا ... كسيد الغضى نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمد
قولهم في الطعام
الأصمعي قال: اصطحب شيخ وحدث في سفر، وكان لهما قرص في كل يوم

(1/451)

وكان الشيخ منخلع الأضراس بطيء الأكل. وكان الحدث يبطش بالقرص ثم يجلس يشتكي العشق، ويتضور الشيخ جوعا، وكان الحدث يسمى جعفرا، فقال الشيخ:
لقد رابني من جعفر أن جعفرا ... بطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له لو مسك الحرب لم تبت ... بطينا ونساك الهوى شدة الأكل
الأصمعي قال: أنشدني أعرابي لنفسه:
ألا ليت لي خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البر في فرسانها الزبد
فاطلب فيما بينهن شهادة ... بموت كريم لا يعد له لحد
الشيباني عن العتبي عن أبيه قال: قال أعرابي: كنت أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات حفافين من اللحم، لها جناحان من العراق، أضرب فيها كما يضرب ولي السوء في مال اليتيم. وقال رجل لأعرابي: ما يسرني لو بت ضيفا لك؟ فقال له الأعرابي: لو بت ضيفا لي لأصبحت أبطن من أمك لبل أن تلدك بساعة.
حضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك، فجعل يمر إلى ما بين يديه، فقال له الحاجب: مما يليك فكل يا أعرابي؛ فقال: من أجدب انتجع. فشق ذلك على سليمان، فقال للحاجب: إذا خرج عنا فلا يعد إلينا. وشهد بعد هذا سفرته أعرابي آخر، فمر إلى ما بين يديه أيضا، فقال له الحاجب: مما يليك فكل يا أعرابي؛ قال: من أخصب تخير. فأعجب ذلك سليمان، فقربه وأكرمه وقضى حوائجه.
مر أعرابي بقوم من الكتبة في متنزه لهم وهم يأكلون، فسلم، ثم وضع يده

(1/452)

يأكل معهم، فقالوا: أعرفت فينا أحدا؟ قال: بلى، عرفت هذا، وأشار إلى الطعام. فقال بعض الكتاب يصف أكله: لم أر مثل سرطه ومطه قال الثاني: وأكله دجاجة ببطه قال الثالث: ولفه رقاقه بإقطه. قال الرابع: كأن جالينوس تحت إبطه. فقالوا للرابع: أما الذي وصفنا من فعله فمعلوم فما يصنع جالينوس من تحت إبطه؟ قال: يلقمه الجوارش كلما خاف عليه التخمة يهضم بها طعامه. وقال رجل من أهل المدينة لأعرابي: ما تأكلون وما تعافون؟ قال له الأعرابي: نأكل كل ما دب وهب إلا أم حبين. قال المدني: تهنيء، أم حبين العافية. قال رجل من الأعراب لولده: اشتروا لي لحما، فاشتروا، وطبخه حتى تهرأ، فأكل منه حتى انتهت نفسه، ولم يبق إلا عظمه، وشرعت إليه عيون ولده، فقال: ما. أنا مطعمه أحدا منكم إلا من أحسن أكله. فقال له الأكبر: ألوكه يا أبت حتى لا أدع فيه للذرة مقيلا؟ قال: لست بصاحبه، قال الآخر: ألوكه حتى لا تدري ألعامه هو أم لعام أول؛ قال: لست بصاحبه. قال له الأصغر: أدقه يا أبت وأجعل إدامه المخ، قال: أنت صاحبه وهو لك. بلغني عن محمد بن يزيد بن معاوية أنه كان نازلا بحلب على الهيثم بن عدي فبعث إلى ضيف له من عذرة أعرابي، فقال له: حدث أبا عبد الله بما رأيت في حضر المسلمين من الأعاجيب؛ قال: نعم، رأيت أمورا معجبة، منها: أنني دخلت قرية بكر بن عاصم الهلالي، وإذا أنا بدور متباينة، وإذا خصاص بيض بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون، وعليهم ثياب حكوا بها أنواع الزهر، فقلت لنفسي: هذا أحد العيدين، الفطر أو الأضحى، ثم رجع إلي ما عزب من عقلي فقلت: خرجت من أهلي في عقب صفر وقد مضى العيدان قبل ذلك. فبينا أنا واقف أتعجب إذ أتاني رجل: فأخذ بيدي فأدخلني بيتا قد نجد، وفي وجهه فرش ممهدة، وعليها شاب ينال فرع شعره كتفيه، والناس حوله سماطين، فقلت في نفسي: هذا الأمير الذي يحكى لنا جلوسه وجلوس الناس حوله، فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله؛ قال: فجذب رجل بيدي، وقال: ليس بالأمير، اجلس؛ قلت: فمن هو؟ قال: عروس؛ قلت: واثكل أماه! لرب عروس بالبادية قد رأيته أهون على أصحابه من هن أمه. فلم ألبث أن أدخلت الرجال علينا هنات مدورات من خشب، أما ما خف منها فتحمل حملا، وأما ما ثقل فيدحرج، فوضعت أمامنا وحلق القوم عليها حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت عليها، فهممت والله أن أسأل القوم خرقة منها أرقع بها قميصي، وذلك أني رأيت لها نسجا متلاحما لا تتبين له سدى ولا لحمة، فلما بسط القوم أيديهم، إذا هو يتمزق سريعا، وإذا صنف من الخبز لا أعرفه. ثم أتينا بطعام كثير من حلو وحامض، وحار وبارد، فأكثرت منه وأنا لا أعلم ما في عقبه من التخم والبشم. ثم أتينا بشراب أحمر في عساس بيض، فلما نظرت إليه، قلت: لا حاجة لي به، لأني أخاف أن يقتلني، وكان إلى جانبي رجل ناصح لي، أحسن الله عني جزاءه، كان ينصحني بين أهل المجلس، فقال لي: يا أعرابي، إنك قد كثرت من الطعام، فإن لضربت الماء همى بطنك. فلما ذكر البطن ذكرت شيئا أوصاني به الأشياخ، قالوا: لا تزال حيا ما دام بطنك شديدا، فإذا اختلف فأوص، فلم أزل أتداوى بذلك الشراب ولا أمله حتى داخلني به صلف لا أعرفه من نفسي، ولا عهد لي به، ولا اقتدار على أمري؛ وكان إلى جانبي الرجل الناصح لي، فجعلت نفسي محدثني بهتم أسنانه مرة وهشم أنفه أخرى، وأهم أحيانا أن أقول له: يا بن الزانية. فبينا نحن كذلك، إذ هجم علينا شياطين أربعة: أحدهم قد علق جعبة فارسية مفتحة الطرفين، قد شبكت بالخيوط، وقد ألبست قطعة فرو كأنهم يخافون عليها القر، ثم بدا الثاني فاستخرج من كفه هنة كفيشلة الحمار، فوضع طرفها في فيه فضرط فيها، ثم جس على حجزتها فاستخرج منها صوتا مشاكلا بعضه بعضا، ثم بدا الثالث وعليه قميص وسخ، وقد غرق رأسه بالدهن، معه مرآتان، فجعل يمر إحداهما على الأخرى، ثم بدا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم



عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 9:45 pm

الرابع عليه قميص قصير وسراويل قصيرة. فجعل يقفز صلبه ويهز كتفيه، ثم التبط بالأرض، فقلت: معتوه ورب الكعبة، ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي. ثم أرسلت إلينا النساء أن أمتعونا من لهوكم، فبعثوا بهم إليهن، وبقيت الأصوات تدور في آذاننا. وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات له بالدعاء، فخرج فجاء بخشبة في يده، عينها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من جوانبها عودا فوضعه على آذنه، ثم زم الخيوط الظاهرة فلما أحكمها عرك أذنها، فنطق فوها، فإذا هي أحسن قينة رأيتها قط، فاستخفني حتى قمت - من مجلسي، فجلست إليه فقلت: بأبي أنت وأمي، ما هذه الدابة؟ قال: يا أعرابي هذا البربط؟ قلت: ما هذه الخيوط؟ قال: أما الأسفل فزير، والذي يليه مثنى، والذي يليه مثلث، والذي يليه بم، فقلت: آمنت بالله. وقال أعرابي: تمرنا خرس فطس، يغيب فيهن الضرس، كأن فاها ألسن الطير،ابع عليه قميص قصير وسراويل قصيرة. فجعل يقفز صلبه ويهز كتفيه، ثم التبط بالأرض، فقلت: معتوه ورب الكعبة، ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي. ثم أرسلت إلينا النساء أن أمتعونا من لهوكم، فبعثوا بهم إليهن، وبقيت الأصوات تدور في آذاننا. وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات له بالدعاء، فخرج فجاء بخشبة في يده، عينها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من جوانبها عودا فوضعه على آذنه، ثم زم الخيوط الظاهرة فلما أحكمها عرك أذنها، فنطق فوها، فإذا هي أحسن قينة رأيتها قط، فاستخفني حتى قمت - من مجلسي، فجلست إليه فقلت: بأبي أنت وأمي، ما هذه الدابة؟ قال: يا أعرابي هذا البربط؟ قلت: ما هذه الخيوط؟ قال: أما الأسفل فزير، والذي يليه مثنى، والذي يليه مثلث، والذي يليه بم، فقلت: آمنت بالله. وقال أعرابي: تمرنا خرس فطس، يغيب فيهن الضرس، كأن فاها ألسن الطير، تقع التمرة منها في فيك فتجد حلاوتها في كعبك. وحضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك، فلما أتي بالفالوذج جعل يسرع فيه، فقال سليمان: أتدري ما تأكل يا أعرابي؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأجد ريقا هنيئا ومزدردا لينا، وأظنه الصراط المستقيم الذي ذكره الله في كتابه. قال: فضحك سليمان، وقال: أريدك منه يا أعرابي، فإنهم يذكرون أنه يزيد في الدماغ؟ قال: كذبوك يا أمير المؤمنين، لو كان كذلك لكان رأسك مثل رأس البغل. قال: ومررت بأعرابي يأكل في رمضان، فقلت له: ألا تصوم يا أعرابي؟ فقال:
وصائم هب يلحاني فقلت له ... أعمد لصومك واتركني وإفطاري
واظمأ فإني سأروى ثم سوف ترى ... من ذا يصير إذا متنا إلى النار
وحضر سفرة سليمان أعرابي، فنظر إلى شعرة في لقمة الأعرابي، فقال: أرى شعرة في لقمتك يا أعرابي؟ قال: وإنك لتراعيني مراعاة من يبصر الشعرة في لقمتي، والله لا واكلتك أبدا، فقال استرها علي يا أعرابي، فإنها زلة ولا أعود إلى مثلها أبدا.
أخبار أبي مهدية الأعرابي

(1/454)

أبو عثمان المازني قال: قال أبو مهدئة: بلغني أن الأعراب والأعزاب هجاؤها واحد، قلت: نعم؛ قال: فاقرأ الأعزاب أشد كفرا ونفاقا، ولا تقرأ: الأعراب ولا يغرك العزب وإن صام وصلى. وتوفي بني لأبي مهدية صغير، فقيل له: أبشر أبا مهدية، فإنا نرجو أن يكون شفيع صدق يوم القيامة؛ قال: لا وكلنا الله إلى شفاعته، إذا والله يكون أعيانا لسانا، وأضعفنا حجة، ليته المسكين كفانا نفسه. وقيل لأبي مهدية: أكنتم تتوضئون بالبادية؟ قال: نعم والله، لقد كنا نتوضأ فتكفي التوضئة الرجل منا الثلاثة الأيام والأربعة، حتى دخلت علينا هذه الحمراء - يعني الموالي - فجعلت تليق أستاهها كما تلاق الدواة. وقيل لأبي مهدية: أتقرأ من كتاب الله تعالى شيئا؟ قال: نعم، ثم افتتح يقرأ: " والضحى والليل إذا سجى " حتى انتهى إلى " ووجدك ضالا فهدى " ، فالتفت إلى صاحب له فقال: إن هؤلاء العلوج يقولون: ووجدك ضالا فهدى، والله لا أقولها أبدا. ولما أسن أبو مهدية ولي جانبا من اليمامة، وكان به قوم من اليهود أهل عطاء وجدة فأرسل إليهم، فقال: ما عندكم في المسيح؟ قالوا: قتلناه وصلبناه؛ قال: فهل غرمتم ديته؟ قالوا: لا؛ قال: إذا والله لا تبرحوا حتى تغرموا ديته، فأرضوه حتى كف عنهم. وقيل لأبي مهدية، ما أصبركم معشر العرب على البدو؟ قال: كيف لا يصبر على البدو من طعامه الشمس، وشرابه الريح. ونظر أبو مهدية إلى رجل يستنجي ويكثر من الماء فقال له: إلى كم تغسلها ويحك! أتريد أن تشرب فيها سويقا. ومات طفل لأبي مهدية، فقيل له: اصبر يا أبا مهدية، فإنه فرط افترطته، وخير قدمته، وذخر أحرزته، فقال: بل ولد دفنته، وثكل تعجلته، والله لئن لم أجزع للنقص لا أفرح بالمزيد. قال أبو عبيدة: سمع أبو مهدية رجلا يقول بالفارسية: ذود ذود، فقال: ما يقول هذا؟ فقيل له: يقول، عجل عجل؛ فقال: أفلا يقول: حيهلا؟
خبر أبي الزهراء
المعلى بن المثنى الشيباني قال: حدثنا سويد بن منجوف قال: أقبل أعرابي من بنى تميم حتى دخل الكوفة من ناحية جيانة السبيع تحته أتان له تخب، وعليه ذلاذل وأطمار من سحق صوف، وقد اعتم بما يشبه ذلك، من أشوه الناس منظرا، وأقبحهم شكلا، وهو يهدر كما يهدر البعير، وهو يقوله: ألا سبد ألا لبد، ألا مؤو ألا سعدي ألا يربوعي ألا دارمي؟ هيهات هيهات، وما يغنى أصل حوض الماء صاديا معنى؟ قال سويد: فدخل علينا في درب الكناسة فلم يجد منفذا، وقد تبعه صبيان كثيرون وسواد من سواد الحي، فسمعت سواديا يقول له: يا عماه يا إبليس، متى أذن لك بالظهور؟ فالتفت إليهم، فقال: منذ سرق آباؤكم وفسقت أمهاتكم. قال: وكان معنا أبو حماد الخياط، وكان من أطلب الناس لكلام الأعراب، وأصبرهم على الإنفاق على أعرابي يدخل علينا، وكان مع؛ ذلك مولى لبني تميم، فأتيته فأخبرته، فخرج مبادرا كأني قد أفدته فائدة عظيمة، وقد نزل الأعرابي عن الأتان واستند إلى بعض الحيطان، وأخذ قوسه بيده، فتارة يشير بها إلى الصبيان، وتارة يذب بها الشذا عن الأتان، وهو يقول لأتانه:
قد كنت بالأمعز في خصب خصب ... ما شئت من حمض وماء منسكب
فربك اليوم ذليل قد نصب ... يرى وجوها حوله ما ترتقب
ولا عليها نور إشراق الحسب ... كأنها الزنج وعبدان العرب
إلى عجيل كان كالرغل السرب ... ولو أمنت اليوم من هذا اللجب
رميت أفواقا قويمات النصب ... الريش أولاها وأخراها العقب

(1/455)

قال: فلم يزل أبو حماد يلطفه ويتلطف به ويبخله إلى أن أدخله منزله، فمهد له وحطه عن أتانه، ودعا بالعلف، فجعل الأعرابي يقول: أين الليف والنئيف والوساد والنجاد. يعني بالليف: الحصير، وبالنئيف: عشبة عندهم، يقال لها البهمى. وبالوساد: جلد عنز يسلخ ولا يشق ويحشى وبرا وشعرا ويتكأ عليه، وبالنجاد، مسح شعر يستظل تحته. قال: فلما نزع القتب عن الأتان إذا ظهرها قد دبر حتى أضرت بنا رائحته. فجعل الأعرابي يتنهد ويقول:
إن تنحضي أو تدبري أو تزحري ... فذاك من دؤوب ليل مسهر
أنا أبو الزهراء من آل السري ... مشمخ الأنف كريم العنصر
إذا أتيت خطة لم أفسر
وكان يسمى الأعرابي صلتان بن عوسجة، من بني سعد بن دارم، ويكنى بأبي الزهراء. وما رأيت أعرابيا أعجب منه، كان أكثر كلامه شعرا، وأمثل أعرابي سمعته كلاما، إلا أنه ربما جاء باللفظة بعد الأخرى لا نفهمها، وكان من أضجر الناس وأسوأهم خلقا، وإذا نحن سألناه عن الشيء، قال؛ ردوا علي القوس والأتان، يظن أنا نتلاعب به، وكنا نجتمع معه في مجلس أبي حماد وما منا إلا من يأتيه بما يشتهيه فلا يعجبه ذلك، حتى أتيناه يوما بخربز، وكانت أمامه، فلما أبصرها تأملها طويلا وجعل يقول.
بدلت والدهر قديما بدلا ... من قيض بيض القفر فقعا حنظلا
أخبث ما تنبت أرض مأكلا
فكنا نقول له: يا أبا الزهراء، إنه ليس بحنظل، ولكنه طعام هنيء مريء ونحن نبدؤك فيه إن شئت؛ قال: فخذوا منه حتى أرى. فبدأنا نأكل وهو ينظر لا يطرف، فلما رأى ذلك بسط يده، فأخذ واحدة، فنزع أعلاها، وقور أسفلها؛ فقلنا لها: ما تريد أن تصنع يا أبا الزهراء؟ فقال: إن كان السم يا بن أخي ففيما ترون. فلما طعمه استخفه واستعذبه واستحلاه، فلم يكن يؤثر عليه شيئا، وما كنا نأتيه بعد بغيره، وجعل في خلال ذلك يقول:
هذا طعام طيب يلين ... في الجوف والحلق له سكون
الشهد والزبد به معجون
فلما كان إلى أيام، قلت له: يا أبا الزهراء، هل لك في الحمام؟ دال: وما الحمام يا بن أخي؛ قلنا له: دار فيها أبيات حار وفاتر وبارد، تكون في أيها شئت، تذهب عنك قشف السفر، ويسقط عنك هذا الشعر. قال: فلم نزل به حتى أجابنا، فأتينا به الحمام وأمرنا صاحب الحمام أن لا يدخل علينا أحدا، فدخل وهو خائف مترقب لا ينزع يده من يد أحدنا حتى صار في داخل الحمام، فأمرنا من طلاه بالنورة، وكان جلده أشعر كجلد عنز، فقلق ونازع للخروج، وبدأ شعره يسقط؛ فقلنا: أحين طاب الحمام وبدأ شعرك يسقط تخرج؟ قال: يا بن أخي، وهل بقي إلا أن أنسلخ كما ينسلخ الأديم في احتدام القيظ، وجعل يقول:
وهل يطيب الموت يا إخواني ... هل لكم في القوس والأتان
خذوهما مني بلا أثمان ... وخلصوا المهجة يا صبياني
فاليوم لو أبصرني جيراني ... عريان بل أعرى من العريان
قد سقط الشعر عن الجثمان ... حسبت في المنظر كالشيطان
قال: ثم خرج مبادرا، وأتبعه أحداث لنا لولاهم لخرج بحاله تلك ما يستره شيء، ولحقناه في وسط البيوت، فأتيناه بماء بارد، فشرب وصب على رأسه، فارتاح واستراح، وأنشأ يقول:
الحمد للمستحمد القهار ... أنقذني من حر بيت النار
إلى ظليل ساكن الأوار ... من بعد ما أيقنت بالدمار

(1/456)

قال: فدعونا بكسوة غير كسوته فألبسناه، وأتينا به مجلس أبي حماد وكان أبو حماد يبيع الحنطة والتمر وجميع الحبوب، وكان يجاوره قوم يبيعون أنبذة التمر، وكان أبو الحسن التمار ماهرا، فإذا خضنا في النحو وذكرنا الرواسي والكسائي وأبا زيد جعل ينظر بفقه الكلام، ولا يفهم التأويل فقلنا له: ما تقول يا أبا الزهراء؟ فقال: يا بن أخي، إن كلامكم هذا لا يسد عوزا مما تتعلمونه له؛ فقال أبو الحسن: إن بهذا تعرف العرب صوابها من خطئها؛ فقال له: ثكلت وأثكلت، وهل تخطىء العرب؛ قال: بلى؛ قال: على أولئك لعنة الله، وعلى الذين أعتقوا مثلك، قال سويد: وكنت أحدثهم سنا، قالت: فقلت: جعلت فداك، أنا رجل من بني شيبان وربيعة، ما نعلم أنا على مثل الذي أنت عليه من الإنكار عليهم، فقال فيهم:
يسائلني بياع تمر وجردق ... ومازج أبوال له في إنائه
عن الرفع بعد الخفض لا زال خافضا ... ونصب وجزم صيغ من سوء رائه
فقلت له هذا كلام جهلته ... وذو الجهل يروي الجهل عن نظرائه
فقال بهذا يعرف النحو كله ... يرى أنني في العجم من نظرائه
فأما تميم أو سليم وعامر ... ومن حل غمر الضال أو في إزائه
ففيهم وعنهم يؤثر العلم كله ... ودع عنك من لا يهتدي لخطائه
فمن ذا الرؤاسي الذي تذكرونه ... ومن ذا الكسائي سالح في كسائه
ومن ثالث لم أسمع الدهر باسمه ... يسمونه من لؤمه سيبوائه
فكيف يحيل القوم من كان أهله ... ويهدي له من ليس من أوليائه
فلست لبياع التميرات مغضيا ... على الضيم إن واقفت بعد عشائه
ولقد قلنا له: يا أبا الزهراء ... هل قرأت من كتاب الله شيئا؟
قال: أي وأبيك، آيات مفصلات، أرددهن في الصلوات، أباء وأمهات، وعمات وخالات ثم أنشأ يقول:
قرأت قول الله في الكتاب ... ما أنزل الرحمن في الأحزاب
لعظم ما فيها من الثواب ... الكفر والغلظة في الأعراب
وأنا فاعلم من ذوي الألباب ... أومن بالله بلا ارتياب
بعرشه المستور بالحجاب ... والموت والبعث وبالحساب
وجنة فيها من الثياب ... ما ليس بالبصرة في حساب
وجاحم يلفح بالتهاب ... أوجه أهل الكفرو والتباب
ودفع رحل الطارق المنتاب ... في ليلة ساكنة الكلاب
ولما أحضرناه ذات يوم جنازة، قلنا له: يا أبا الزهراء، كيف رأيت الكوفة؟ فقال: يا بن أخي، حضرا حاضرا، ومحلا أهلا، أنكرت من أفعالكم الأكيال والأوزان، وشكل النسوان، ثم نظر إلى الجبانة، فقال: ما هذه التلال يا بن أخي؟ قلت له: أجداث الموتى: فقال: أماتوا أم قتلوا؟ فقلت: قد ماتوا بآجالهم، ميتات مختلفات، قال: فماذا ننتظر نحن يا بن أخي؟ قلت: مثل الذي صاروا إليه، فاستعبر وبكى، وجعل يقول:
يا لهف نفسي أن أموت في بلد ... قد غاب عني الأهل فيه والولد
وكل ذي رحم شفيق معتقد ... يكون ما كنت سقيما كالرمد
يا رب يا ذا العرش وفق للرشد ... ويسر الخير لشيخ منحصد
ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى أخذته الحمى والبرسام، فكنا لا نبارحه عائدين متفقدين، فبينا نحن عنده ذات يوم، وقد اشتد كربه وأيقنى بالموت، جعل يقول:
أبلغ بناتي اليوم أبلغ بالصوى ... قد كن يأملن إيابي بالغنى
وقر تمنين وما تفنى المنى ... بأن نفسي وردت حوض الردى
يا رب يا ذا العرش في أعلى السما ... إليك قدمت صيامي في الظما
ومن صلاتي في صباح ومسا ... فعد على شيخ كبير ذي انحنا

(1/457)

كفاه ما لاقاه في الدنيا كفى
قلنا له: يا أبا الزهراء، ما تأمرنا في القوس والأتان، وفيما قسم الله لك عندنا من رزق؟ فقال: يا بن أخي، أما ما قسم الله لي عندكم، فمردود إليكم وأما القوس والأتان فبيعوها وتصدقوا بثمنهما في فقراء صلبة بني تميم، وما بقي ففي مواليهم، ثم جعل يقول: اللهم اسمع دعاء عبدك إليك، وتضرعه بين يديك، وأعرف له حق إيمانه بك، وتصديقه برسلك الذين صليت عليهم وسلمت، اللهم إني جان مقترف، وهائب معترف، لا أدعي براءة، ولا أرجو نجاة إلا برحمتك إياي، وتجاوزك عني، اللهم إنك كتبت علي في الدنيا التعب والنصب، وكان في قضائك وسابق علمك قبض روحي في غير أهلي وولدي، اللهم فبدل لي التعب والنصب روحا وريحانا وجنة نعيم فضل كريم. ثم صار يتكلم بما لا نفقهه ولا نفهمه، حتى مات رحمه الله. فما سمعت دعاء أبلغ من دعائه، ولا شهدت جنازة أكثر باكيا وداعيا من جنازته، رحمه الله.
عودة إلى كلام الأعراب
وقال أعرابي يصف كساء:
ن كان ذابت فهذا بتي ... مقيظ مصيف مشتي
سجته من نعجات ست
وقال أعرابي:
قالت سليمى ليت لي بعلا بمن ... يغسل أسي ويسلبني الحزن
حاجة ليس لها عندي ثمن ... مشهورة قضاؤها منه وهن
قالت جواري الحي يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قلت وإن
قال الإعرابي:
جاريتان حلفت أماهما ... وأن ليس مغبونا من أشتراهما
والله لا أخبركم أسماهما ... إلا بقولي هكذا هما هما
ما اللتان صادني سهماهما ... حيا وحيا الله من حياهما
أمات ربي عاجلا أباهما ... حتى تلاقي منيتي مناهما
وقال أعرابي:
إن لنا لكنه ... معنة مفنه
سمعنة نظرنه ... إلا تره تظنه
السمعنة النظرنة: المرأة التي إذا سمعت أو نظرت فلم تر شيئا تظنت تظنيا. وأنشد أبو عبد الله بن لبانة لأعرابي:
كريمة يحبها أبوها ... مليحة العينين عذبا فوها
لا تحسن السب وإن سبوها
قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد وبين يديه بدرة، فقال: يا أصمعي، إن حدثتني بحديث العجز فأضحكتني وهبتك هذه البدرة، قلت: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا في صحارى الأعراب في يوم شديد البرد والريح، إذا أنا بأعرابي قاعد إلى أجمة، قد احتملت الريح كساءه فألقته على الأجمة وهو عريان، فقلت له: يا أعرابي، ما أجلسك ها هنا على هذه الحال؟ فقال: جارية واعدتها يقال لها سلمى أنا منتظر لها؛ فقلت وما يمنعك من أخذ كسائك؟ قال: العجز يوقفني عن أخذه؛ قلت له: فهل قلت في سلمى شيئا؟ قال: نعم: قلت له: أسمعني لله أبوك؛ قال: لا أسمعك حتى تأخذ كسائي وتلقيه علي. قال: فأخذته فألقيته عليه، فأنشأ يقول:
لعل الله أن يأتي بسلمى ... فيبطحها ويلقيني عليها
ويأتي بعد ذاك سحاب مزن ... يطهرنا ولا نسعى إليها
فاستضحك هارون حتى استلقى على ظهره، وقال: خذ البدرة لا بورك لك فيها أذكروا أن أعرابيا أتى عينا من ماء صاف في شهر رمضان، فشرب حتى روي، ثم أومأ بيده إلى السماء فقال:
إن كنت قدرت الصيا ... م فأعفنا من شهر آب
أولا فإنا مفطرو ... ن وصابرون على العذاب
خلا أعرابي بامرأة ليفسق بها فلم ينتشر له. فقالت له: قم خائبا؛ فقال: الخائب من فتح فم الجراب ولم يكل له دقيق. فخجلت ولم ترد جوابا.
كتاب المجنبة في الأجوبة
قال أحمد بن محمد بن، عبد ربه: قد مضى قولنا في كلام الأعراب خاصة

(1/458)

ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الجوابات التي هي أصعب الكلام كله مركبا، وأعزه مطلبا، وأغمضه مذهبا، وأضيقه مسلكا، لأن صاحبه يعجل مناجاة الفكرة، واستعمال! القريحة؛ يوم في بديهة، نقض ما أبرم في روية؛ فهو كمن أخذت عليه الفجاج، وسدت عليه المخارج؛ قد تعرض للأسنة، واستهدف للمرامي؛ لا يدري ما يقرع به فيتأهب له، ولا ما يفجؤه من خصمه فيقرعه بمثله. ولا سيما إذا كان القائل قد أخذ بمجامع الكلام فقاده بزمامه، بعد أن روى فيه وأحتفل، وجمع خواطره وأجتهد، وترك الرأي يغب حتى يختمر، فقد كرهوا الرأي الفطير، كما كرهوا الجواب الدبري؛ فلا يزال في نسج الكلام واستئناسه، حتى إذا اطمأن شارده، وسكن نافره، صك به خصمه جملة واحدة؟ ثم إذا قيل له: أجب ولا تخطىء، وأسرع ولا تبطىء، تراه يجاوب من غير أناة ولا استعداد، يطبق المفاصل، وينفذ إلى، المقاتل، كما يرمى الجندل بالجندل، ويقرع الحديد بالحديد؟ فيحل به عراه، وينقض به مرائره، ويكون جوابه على كلامه، كسحابة لبدت عجاجة. فلا شيء أعضل من الجواب الحاضر، ولا أعز من الخصم الألد، الذي يقرع صاحبه، ويصرع منازعه
بقول كمثل النار في الحطب الجزل
قال أبو الحسن: أسرع الناس جوابا عند البديهة قريش ثم بقية العرب؛ وأحسن الجواب كله ما كان حاضرا مع إصابة معنى وإيجاز لفظ. وكان يقال: اتقوا جواب عثمان بن عفان. وقالت النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن الأهتم: أخبرني عن الزبرقان؛ قال: مطاع في أدانيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. قال الزبرقان: والله يا رسول الله، لقد علم مني أكثر من هذا، ولكن حسدني. قال عمروبن الأهتم: أما والله يا رسول الله، إنه لزمر المروءة، ضيق العطن أحمق الوالد، لئيم الخال والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى؟ رضيت عن ابن عمي فقلت فيه أحسن ما فيه ولم أكذب، وسخطت عليه فقلت أقبح ما فيه ولم أكذب. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن من البيان سحرا.
جواب عقيل بن أبي طالب لمعاوية
وأصحابه

(1/459)

لما قدم عقيل بن أبي طالب على معاوية، أكرمه وقربه وقضى حوائجه وقضى عنه دينه، ثم قال له في بعض الأيام: والله إن عليا غير حافظ لك، قطع قرابتك وما وصلك ولا اصطنعك. قال له عقيل: والله لقد أجزل العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنه بالله إذ ساء به ظنك، وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أبالك، فإنه عما تقول بمعزل. وقال له معاوية يوما: أبا يزيد، أنا لك خير من أخيك علي. قال: صدقت، إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك، فأنت خير لي من أخي، وأخي خير لنفسه منك. وقال له ليلة الهرير: أبا يزيد، أنت الليلة معنا؟ قال: نعم، ويوم بدر كنت معكم. وقال رجل لعقيل: إنك لخائن حيث تركت أخاك وترغب إلى معاوية. قال: أخون مني والله من سفك دمه بين أخي وابن عمي أن يكون أحدهما أميرا. ودخل عقيل على معاوية، وقد كف بصره، فأجلسه معاوية على سريره، ثم قال له: أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم. قال: وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم. ودخل عتبة بن أبي سفيان، فوسع له معاوية بينه وبين عقيل، فجلس بينهما، فقال عقيل، من هذا الذي اجلس أمير المؤمنين بيني وبينه؟ قال: أخوك وابن عمك عتبة. قال: أما إنه إن كان أقرب إليك مني إني لأقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم منك ومنه، ومنه، وأنتما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ونحن سماء. قال عتبة: أبا يزيد، أنت كما وصفت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ما ذكرت، وأمير المؤمنين عالم بحقك، ولك عندنا مما تحب أكثر مما لنا عندك مما نكره. ودخل عقيل على معاوية، فقال لأصحابه: هذا عقيل عمه أبو لهب. قال له عقيل: وهذا معاوية عمته حمالة الحطب؛ ثم قال: يا معاوية إذا دخلت النار فاعدل ذات اليسار، فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة الحطب، فانظر أيهما خير: الفاعل أو المفعول به؟ وقال له معاوية يوما: ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في نسائكم أبين يا بني أمية. وقال له معاوية يوما: والله إن فيكم لخصلة ما تعجبني يا بني هاشم؟ قال: وما هي؟ قال: لين فيكم؛ قال: لين ماذا؛ قال: هو ذاك؛ قال: إيانا تعير يا معاوية! أجل والله، إن فينا للينا من غير ضعف، وعزا من غير جبروت؛ وأما أنتم يا بني أمية، فإن لينكم غدر، وعزكم كفر؛ قال معاوية: ما كل هذا أردنا يا أبا يزيد. قال عقيل:
لذى اللب قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
قال معاوية:
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده ... وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: لم جفوتمونا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول:
إني امرؤ مني التكرم شيمة ... إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا
ثم قال: وايم الله يا معاوية، لئن كانت الدنيا مهدتك مهادها، وأظلتك بحذافيرها، ومدت عليك أطناب سلطانها، ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة، ولا تخشعا لرهبة. قال معاوية: لقد نعتها أبا يزيد نعتا هش له قلبي، وإني لأرجو أن يكون الله تبارك وتعالى ما رداني برداء ملكها، وحباني بفضيلة عيشها، إلا لكرامة ادخرها لي؛ وقد كان داود خليفة، وسليمان ملكا، وإنما هو لمثال يحتذى عليه، والأمور أشباه؛ وايم الله يا أبا يزيد، لقد أصبحت علينا كريما، وإلينا حبيبا، وما أصبحت أضمر لك إساءة. ويقال إن امرأة عقيل، وهي بنت عتبة بن ربيعة خالة معاوية، قالت لعقيل: يا بني هاشم، لا يحبكم قلبي أبدا، أين أبي؟ أين أخي؟ أين عمي؛ كأن أعناقهم أباريق فضة. قال عقيل: إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك.
جواب ابن عباس لمعاوية
رضي الله عنهما لمعاوية وأصحابه

(1/460)

اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية وفيهم عبد الله بن عباس، وكان جريئا على معاوية، حقارا له، فبلغه عنه بعض ما غمه، فقال معاوية: رحم الله أبا سفيان والعباس، كانا صفيين دون الناس، فحفظت الميت في الحي والحي في الميت؛ استعملك علي يا بن عباس على البصرة واستعمل أخاك عبيد الله على اليمن، واستعمل أخاك تماما على المدينة، فلما كان من الأمر ما كان هنأتكم بما في أيديكم، ولم أكشفكم عما وعت غرائركم، وقلت: أخذ اليوم وأعطى غدا مثله؟ وعلمت أن بدء اللؤم يضر بعاقبة الكرم، ولو شئت لأخذت بحلاقيمكم، وقيأتكم ما أكلتم، ولا يزال يبلغني عنكم ما تبرك به الإبل؟ وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم: خذلتم عثمان بالمدينة، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وحاربتموني بصفين؛ ولعمري لبنو تيم وعدي أعظم ذنوبا منا إليكم، إذ صرفوا عنكم هذا الأمر، وسنوا فيكم هذه السنة؛ فحتى متى أغضي الجفون على القذى، وأسحب الذيول على الأذى، وأقول: لعل الله وعسى! ما تقول يا بن عباس؟ قال: فتكلم ابن عباس فقال: رحم الله أبانا وأباك، كانا صفيين متقارضين، لم يكن لأبي من مال إلا ما فضل أباك، وكان أبوك كذلك لأبي، ولكن من هنأ أباك بإخاء أبي أكثر من هنأ أبي بإخاء أبيك؛ نصر أبي أباك في الجاهلية، وحقن دمه في الإسلام؛ وأما استعمال علي إيانا، فلنفسه دون هواه، وقد استعملت أنت رجالا لهواك لا لنفسك منهم ابن الحضرمي على البصرة، فقتل؛ وابن بشر بن أرطأة على اليمن، فخان، وحبيب بن مرة على الحجاز، فرد، والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة، فحصب؛ ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا؛ وليس الذي يبلغك عنا بأعظم من الذي يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لمحقها، ولو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسنها؛ وأما خذلنا عثمان، فلو لزمنا نصره لنصرناه، وأما قتلنا أنصاره يوم الجمل، فعلى خروجهم مما دخلوا فيه؛ وأما حربنا إياك بصفين، فعلى تركك الحق وأدعائك الباطل؛ وأما إغراؤك إيانا بتيم وعدي، فلو أردناها ما غلبونا عليها، وسكت. فقال في ذلك ابن أبي لهب:
كان ابن حرب عظيم القدر في الناس ... حتى رماه بما فيه ابن عباس
ما زال يهبطه طورا ويصعده ... حتى استقاد وما بالحق من باس
لم يتركن خطة مما يذلله ... إلا كواه بها في فروة الرأس
وقال ابن أبي مليكة: ما رأيت مثل ابن عباس! إذا رأيت أصح الناس، وإذا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم



عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 9:48 pm

تكلم فأعرب الناس، وإذا أفتى فأفقه الناس، ما رأيت أكثر صوابا، ولا أحضر جوابا من ابن عباس. ابن الكلبي قال: أقبل معاوية يوما على ابن عباس، فقال: لو وليتمونا ما أتيتم إلينا ما أتينا إليكم من الترحيب والتقريب، وإعطائكم الجزيل، وإكرامكم على القليل، وصبري على ما صبرت عليه منكم؛ وإني لا أريد أمرا إلا أظمأتم صدره، ولا آتي معروفا إلا صغرتم خطره، وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم فتأخذونها متكارهين عليها، تقولون: قد نقص الحق دون الأمل؛ فأي أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم، ثم أكون أسر بإعطائها منه بأخذها. والله لئن انخدعت لكم في مالي، وذللت لكم في عرضي، أرى انخداعي كرما، وذلي حلما. ول وليتمونا رضينا منكم بالانتصاف، ولا نسألكم أموالكم، لعلمنا بحالنا وحالكم، ويكون أبغضها إلينا وأحبها إليكم أن نعفيكم. فقال ابن عباس: لو ولينا أحسنا المواساة، وما ابتلينا بالأثرة، ثم لم نغشم الحي، ولم نشتم الميت، ولستم بأجود منا أكفا، ولا أكرم أنفسا، ولا أصون لأعراض المروءة؛ ونحن والله أعطى الآخرة منكم للدنيا، وأعطى في الحق منكم في الباطل، وأعطى على التقوى منكم على الهوى؛ والقسم بالسوية والعدل في الرعية يأتيان على المنى والأمل. ما رضاكم منا بالكفاف! فلو رضيتم به، منا لم ترض أنفسنا به لكم والكفاف رضا من لا حق له فلا تبخلونا حتى تسألونا، ولا تلفظونا حتى تذوقونا. أبو عثمان الحزامي قال: اجتمعت بنو هاشم عند معاوية فأقبل عليهم، فقال: يا بني هاشم، والله إن خيري لكم لممنوح، وإن بابي لكم لمفتوح، فلا يقطع خيري عنكم علة، ولا يوصد بابي دونكم مسألة، ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمرا مختلفا، إنكم لترون أنكم أحق بما في يدي مني، وإذا أعطيتم عطية فيها قضاء حقكم، قلتم: أعطانا دون حقنا، وقصر بنا عن قدرنا، فصرت كالمسلوب، المسلوب لا حمد له، وهذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم. قال: فأقبل عليه ابن عباس فقال: والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه، ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه، ولئن قطعت عنا خيرك لله أوسع منك، ولئن أغلقت دوننا لنكفن، أنسفنا عنك. وأما هدا المال، فليس لك منه إلا ما لرجل من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان: حق في الغنيمة، وحق في الفيء، فالغنيمة ما غلبنا عليها، والفيء ما اجتنيناه. ولولا حقنا في هذا المال لم ياتك منا زائر، يحمله خف ولا حافر، أكفاك أم أزيدك؛ قال: كفاني، فإنك لا تهر ولا تنبح. وقال يوما معاوية، وعنده ابن عباس: إذا جاءت هاشم بقديمها وحديثها، وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها، وبنو أسد بن عبد العزي برفادتها ودياتها، وبنو عبد الدار بحجابها ولوائها، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها، وبنو تيم بصديقها وجوادها، وبنو عدي بفاروقها ومتفكرها، وبنو سهم بأرائها ودهائها، وبنو جمح بشرفها وأنفتها، وبنو عامر بن لؤي بفارسها وقريعها، فمن ذا يجلي في مضمارها، ويجري إلى غايتها؟ ما تقول يا بن عباس؟ قال: أقول: ليس حي يفخرون بأمر إلا وإلى جنبهم من يشركهم، إلا قريشا فإنهم يفخرون بالنبوة التي لا يشاركون فيها، ولا يساوون بها، ولا يدفعون عنها؛ وأشهد أن الله لم يجعل محمدا من قريش إلا وقريش خير البرية، ولم يجعله في بني عبد المطلب إلا وهم خير بني هاشم، ما نريد أن نفخر عليكم إلا بما تفخرون به، إن بنا فتح الأمر وبنا يختم، ولك ملك معجل، ولنا مؤجل، فإن يكن ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين أبو مخنف قال: حج عمرو بن العاص فمر بعبد الله بن عباس فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم، فقال له: يا بن عباس، مالك إذا رأيتني وليتني القصرة، وكان بين عينيك دبرة، وإذا كنت في ملأ من الناس كنت الهوهاة الهمزة! فقال ابن عباس: لأنك من اللئام الفجرة، ولقريش الكرام البررة

(1/462)

لا ينطقون بباطل جهلوه، ولا يكتمون حقا علموه، وهم أعظم الناس أحلاما، وأرفع الناس أعلاما. دخلت في قريش ولست منها، فأنت الساقط بين فراشين، لا في بني هاشم رحلك ولا في بني عبد شمس راحلتك، فأنت الأثيم الزنيم، الضال المضل، حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطو بحلمه وتسمو بكرمه. فقال عمرو: أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟ قال ابن عباس: حيث مال الحق ملنا، وحيث سلك قصدنا. المدائني قال: قام عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب، فأطرى معاوية بن أبي سفيان وبني أمية وتناول بني هاشم، وذكر مشاهده بصفين، واجتمعت قريش، فأقبل عبد الله بن عباس على عمرو، فقال: يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية، وأعطيته ما بيدك، ومناك ما بيد غيرك، وكان الذي أخذ منك أكثر من الذي أعطاك، والذي أخذت منه دون الذي أعطيته، حتى لو كانت نفسك في يدك ألقيتها، وكل راض بما أخذ وأعطى، فلما صارت مصر في يدك كدرها عليك بالعذل والتنقص، وذكرت مشاهدك بصفين، فوالله ما ثقلت علينا يومئذ وطأتك، ولقد كشفت فيها عورتك، وإن كنت فيها لطويل اللسان، قصير السنان، آخر الخيل إذا أقبلت، وأولها إذا أدبرت، لك يدان: يد لا تبسطها إلى خير وأخري لا تقبضها عن شر، ولسان غادر ذو وجهين؛ وجهان وجه موحش، ووجه مؤنس؛ ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره، لحري أن يطول عليها ندمه. لك بيان وفيك خطل، ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد، وأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك. فأجابه عمرو بن العاص: والله ما في قريش أثقل علي مسئلة، ولا أمر جوابا منك، ولو استطعت ألا أجيبك لفعلت، غير أني لم أبع ديني من معاوية، ولكن بعت الله نفسي، ولم أنس نصيبي من الدنيا، وأما ما أخذت من معاوية وأعطيته، فإنه لا تعلم العوان الخمرة؛ وأما ما أتى إلي معاوية في مصر، فإن ذلك لم يغيرني له؛ وأما خفة وطأتي عليكم بصفين، فلم استثقلتم حياتي واستبطأتم وفاتي؛ وأما الجبن، فقد علمت قريش أني أول من يبارز، وأمر من ينازل؛ وأما طول لساني، فإني كما قال هشام بن الوليد لعثمان بن عفان رضي الله عنه:ا ينطقون بباطل جهلوه، ولا يكتمون حقا علموه، وهم أعظم الناس أحلاما، وأرفع الناس أعلاما. دخلت في قريش ولست منها، فأنت الساقط بين فراشين، لا في بني هاشم رحلك ولا في بني عبد شمس راحلتك، فأنت الأثيم الزنيم، الضال المضل، حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطو بحلمه وتسمو بكرمه. فقال عمرو: أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟ قال ابن عباس: حيث مال الحق ملنا، وحيث سلك قصدنا. المدائني قال: قام عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب، فأطرى معاوية بن أبي سفيان وبني أمية وتناول بني هاشم، وذكر مشاهده بصفين، واجتمعت قريش، فأقبل عبد الله بن عباس على عمرو، فقال: يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية، وأعطيته ما بيدك، ومناك ما بيد غيرك، وكان الذي أخذ منك أكثر من الذي أعطاك، والذي أخذت منه دون الذي أعطيته، حتى لو كانت نفسك في يدك ألقيتها، وكل راض بما أخذ وأعطى، فلما صارت مصر في يدك كدرها عليك بالعذل والتنقص، وذكرت مشاهدك بصفين، فوالله ما ثقلت علينا يومئذ وطأتك، ولقد كشفت فيها عورتك، وإن كنت فيها لطويل اللسان، قصير السنان، آخر الخيل إذا أقبلت، وأولها إذا أدبرت، لك يدان: يد لا تبسطها إلى خير وأخري لا تقبضها عن شر، ولسان غادر ذو وجهين؛ وجهان وجه موحش، ووجه مؤنس؛ ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره، لحري أن يطول عليها ندمه. لك بيان وفيك خطل، ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد، وأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك. فأجابه عمرو بن العاص: والله ما في قريش أثقل علي مسئلة، ولا أمر جوابا منك، ولو استطعت ألا أجيبك لفعلت، غير أني لم أبع ديني من معاوية، ولكن بعت الله نفسي، ولم أنس نصيبي من الدنيا، وأما ما أخذت من معاوية وأعطيته، فإنه لا تعلم العوان الخمرة؛ وأما ما أتى إلي معاوية في مصر، فإن ذلك لم يغيرني له؛ وأما خفة وطأتي عليكم بصفين، فلم استثقلتم حياتي واستبطأتم وفاتي؛ وأما الجبن، فقد علمت قريش أني أول من يبارز، وأمر من ينازل؛ وأما طول لساني، فإني كما قال هشام بن الوليد لعثمان بن عفان رضي الله عنه:

(1/463)

لساني طويل فاحترس من شذاته ... عليك وسيفي من لساني أطول
وأما وجهاي ولساناي، فإن ألقى كل ذي قدر بقدره، وأرمي كل نابح بحجره، فمن عرف قدره كفاني نفسه، ومن جهل قدره كفيته نفسي. ولعمري ما لأحد من قريش مثل قدرك ما خلا معاوية، فما ينفعني ذلك عندك؛ وأنشأ عمرو يقول:
بني هاشم مالي أراكم كأنكم ... بي اليوم جهال وليس بكم جهل
ألم تعلموا أني جسور على الوغى ... سريع إلى الداعي إذا كثر القتل
وأول من يدعو نزال، طبيعة ... جبلت عليها، والطباع هو الجبل
وأني فصلت الأمر بعد اشتباهه ... بدومة إذ أعيا على الحكم الفصل
وأني لا أعيا بأمر أريده ... وأني إذا عجت بكاركم فحل
محمد بن سعيد عن إبراهيم بن حويطب قال: قال عمرو بن العاص لعبد الله ابن عباس بعد قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن هذا الأمر، الذي نحن فيه وأنتم، ليس بأول أمر قاده البلاء، وقد بلغ الأمر بنا وبكم إلى ما ترى، وما أبقت لنا هذه الحرب حياء ولا صبرا، ولسنا نقول!: ليت الحرب عادت، لكنا نقول: ليتها لم تكن كانت، فانظر فيما بقي بغير ما مضى، فإنك رأس هذا الأمر بعد علي، فإنك أمير مطاع، ومأمور مطيع، ومشاور مأمون، وأنت هو.
مجاوبة بني هاشم وبني عبد شمس لابن الزبير
الشعبي قال: قال ابن الزبير لعبد الله بن عباس: قاتلت أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتيت بزواج المتعة. فقال: أما أم المؤمنين فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سميت أم المؤمنين، وكناها خير بنين، فتجاوز الله عنها. وقاتلت أنت وأبوك عليا، فإن كان علي مؤمنا، فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين؛ هان كان علي كافرا، فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزحف؛ وأما المتعة، فإن عليا رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها فأفتيت بها، ثم سمعته ينهي عنها فنهيت عنها؟ وأول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير. دخل الحسن بن علي على معاوية، وعنده ابن الزبير وأبو سعيد بن عقيل ابن أبي طالب، فلما جلس الحسن، قال معاوية: يا أبا محمد، أيهما كان أكبر: علي أم الزبير؛ قال: ما أقرب ما بينهما! علي كان أسن من الزبير، رحم الله عليا. فقال ابن الزبير: ورحم الله الزبير. فتبسم الحسن. فقال أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب: دع عنك عليا والزبير، إن عليا دعا إلى أمر فاتبع، وكان فيه رأسا، ودعا الزبير إلى أمر كان فيه الرأس امرأة، فلما تراءت الفئتان والتقى الجمعان نكص الزبير على عقيبه وأدبر منهزما قبل أن يظهر الحق فيأخذه أو يدحض الباطل فيتركه، فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر، فضرب عنقه، وأخذ سلبه وجاء برأسه، ومضى علي قدما كعادته من ابن عمه ونبيه صلى الله عليه وسلم، فرحم الله عليا ولا رحم الزبير. فقال ابن الزبير: أما والله لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم، قال: إن الذي تعرض به يرغب عنك. وأخبرت عائشة بمقالتهما، فمر أبو سعيد بفنائها فنادته: يا أحول يا خبيث! أنت القائل لابن أختي كذا وكذا؛ فالتفت أبو سعيد فلم يعر شيئا، فقال: إن الشيطان ليراك من حيث لا تراه. فضحكت عائشة وقالت: لله أبوك! ما أخبث لسانك!

(1/464)

الشعبي قال: دخل الحسين بن علي يوما على معاوية ومعه مولى له يقال له ذكوان، وعند معاوية جماعة من قريش فيهم ابن الزبير، فرحب معاوية بالحسين وأجلسه على سريره، وقال: ترى هذا القاعد - يعني ابن الزبير - فإنه ليدركه الحسد لبني عبد مناف. فقال ابن الزبير لمعاوية: قد عرفنا فضل الحسين وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن إن شئت أن أعلمك فضل الزبير على أبيك أبي سفيان فعلت. فتكلم ذكوان مولى الحسين ابن علي، فقال: يا بن الزبير، إن مولاي ما يمنعه من الكلام أن لا يكون طلق اللسان، رابط الجنان، فإن نطق نطق بعلم، وإن صمت صمت بحلم غير أنه كف الكلام وسبق إلى السنان، فأقرت بفضله الكرام، وأنا الذي أ قول:
فيم الكلام لسابق في غاية ... والناس بين مقصر ومبلد
إن الذي يجري ليدرك شأوه ... ينمى بغير مسود ومسدد
بل كيف يدرك نور بدر ساطع ... خير الأنام وفرع آل محمد
فقال معاوية: صدق قولك يا ذكوان، أكثر الله في موالي الكرام مثلك. فقال

(1/465)

ابن الزبير: إن أبا عبد الله سكت، وتكلم مولاه، ولو تكلم لأجبناه، أو لكففنا عن جوابه إجلالا له، ولا جواب لهذا العبد. قال ذكوان: هذا العبد خير. منك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مولى القوم منهم " . فأنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت ابن الزبير بن العوام بن خويلد، فنحن أكرم ولاء وأحسن فعلا. قال ابن الزبير: إني لست أجيب هذا، فهات ما عندك يا معاوية. فقال معاوية: قاتلك الله يا بن الزبير! ما أعياك وأبغاك! أتفخر بين يدي أمير المؤمنين وأبي عبد الله! إنك أنت المتعدي لطورك، الذي لا تعرف قدرك، فقس شبرك بفترك، ثم تعرف كيف تقع بين عرانين بني عبد مناف. أما والله لئن دفعت في بحور بني هاشم وبني عبد شمس لقطعتك باع مواجها، ثم لترمين بك في لججها. فما بقاؤك في البحور إذا غمرتك، وفي الأمواج إذا بهزتك هنالك تعرف نفسك، وتندم على ما كان من جرأتك، وتمنى ما أصبحت فيه من أمان، وقد حيل بين العير والنزوان. فأطرق ابن الزبير مليا! ثم رفع رأسه فالتفت إلى من حوله، ثم قال: أسألكم بالله، أتعلمون أن أبي حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أباه أبا سفيان حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأمه هند الأكباد؛ وجدي الصديق، وجده المشدوخ ببدر ورأس الكفر، وعمتي خديجة ذات الخطر والحسب، وعمته أم جميل حمالة الحطب، وجدتي صفية، وجدته حمامة، وزوج عمتي خير ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم وزوج عمته شر ولد آدم أبو لهب سيصلى نارا ذات لهب، وخالتي عائشة أم المؤمنين. وخالته أشقى الأشقين، وأنا عبد الله وهو معاوية. قال له معاوية: ويحك يا بن الزبير! كيف تصف نفسك بما وصفتها؟ والله مالك في القديم من رياسة، ولا في الحديث من سياسة، ولقد قدناك وسدناك قديما وحديثا، لا تستطيع لذلك إنكارا، ولا عنه فرارا، وإن هؤلاء الخصوم ليعلمون أن قريشا قد اجتمعت يوم الفجار على رياسة حرب بن أمية، وأن أباك وأسرتك تحت رايته راضون بإمارته، غير منكرين لفضله ولا طامعين في عزله، إن أمر أطاعوا، وإن قال أنصتوا؛ فلم تزل فينا القيادة وعز الولاية حتى بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم فأنتخبه من خير خلقه، من أسرتي لا من أسرتك، وبني أبي لابني أبيك، فجحدته قريش أشد الجحود، وأنكرته أشد الإنكار، وجاهدته أشد الجهاد، إلا من عصم الله من قريش؛ فما ساد قريشا وقادهم إلا أبو سفيان ابن حرب، فكانت الفئتان تلتقي، ورئيس الهدى منا ورئيس الضلالة منا، فمهديكم تحت راية مهدينا، وضالكم تحت راية ضالنا، فنحن الأرباب وأنتم الأذناب، حتى خلص الله أبا سفيان بن حرب بفضله من عظيم شركه، وعصمه بالإسلام من عبادة الأصنام، فكان في الجاهلية عظيما شأنه، وفي الإسلام معروفا مكانه، ولقد أعطي يوم الفتح ما لم يعط أحد من آبائك، وإن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو أمن؛ وكانت داره حرما، لا دارك ولا دار أبيك؛ وأما هند، فكانت امرأة من قريش، في الجاهلية عظيمة الخطر، وفي الإسلام كريمة الخبر؛ وأما جدك الصديق، فبتصديق عبد مناف سمي صديقا لا بتصديق عبد العزي؛ وأما ما ذكرت من جدي المشدوخ ببدر فلعمري لقد دعا إلى البراز هو وأخوه وابنه، فلو برزت إليه أنت وأبوك ما بارزوكم ولا رأوكم لهم أكفاء، كما قد طلب ذلك غيركم فلم يقبلوهم، حتى برز إليهم أكفاؤهم من بني أبيهم، فقضى الله مناياهم بأيديهم، فنحن قتلنا ونحن قتلنا، وما أنت وذاك؟ وأما عمتك أم المؤمنين، فبنا شرفت وسميت أم المؤمنين، وخالتك عائشة مثل ذلك، وأما صفية، فهي أدنتك من الظل ولولاها لكنت ضاحيا؛ وأما ما ذكرت من عمك وخال أبيك سيد الشهداء، فكذلك كانوا رحمهم الله، وفخرهم وإرثهم لي دونك، ولا فخر لك فيهم، ولا إرث بينك وبينهم؛ وأما قولك أنا عبد الله وهو معاوية، فقد

(1/466)

علمت قريش أينا أجود في الإزم، وأمضى في القدم وأمنع للحرم، لا والله ما أراك منتهيا حتى تروم من بني عبد مناف ما رام أبوك، فقد طالبهم بالذحول، وقدم إليهم الخيول، وخدعتم أم المؤمنين، ولم تراقبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مددتم على نساءكم السجوف، وأبرزتم زوجته للحتوف، ومقارعة السيوف، فلما التقى الجمعان نكص أبوك هاربا، فلم ينجه ذلك أن طحنه أبو الحسين بكلكله طحن الحصيد بأيدي العبيد، وأما أنت، فأفلت بعد أن خمشتك براثنه ونالتك مخالبه. وايم الله، ليقومنك بنو عبد مناف بثقافها أو لتصيحن منها صياح أبيك بوادي السباع، وما كان أبوك المرهوب جانبه، ولكنه كما قال الشاعر:علمت قريش أينا أجود في الإزم، وأمضى في القدم وأمنع للحرم، لا والله ما أراك منتهيا حتى تروم من بني عبد مناف ما رام أبوك، فقد طالبهم بالذحول، وقدم إليهم الخيول، وخدعتم أم المؤمنين، ولم تراقبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مددتم على نساءكم السجوف، وأبرزتم زوجته للحتوف، ومقارعة السيوف، فلما التقى الجمعان نكص أبوك هاربا، فلم ينجه ذلك أن طحنه أبو الحسين بكلكله طحن الحصيد بأيدي العبيد، وأما أنت، فأفلت بعد أن خمشتك براثنه ونالتك مخالبه. وايم الله، ليقومنك بنو عبد مناف بثقافها أو لتصيحن منها صياح أبيك بوادي السباع، وما كان أبوك المرهوب جانبه، ولكنه كما قال الشاعر:
أكيلة سرحان فريسة ضيغم ... فقضقضه بالكف منه وحطما
نازع مروان بن الحكم يوما ابن الزبير عند معاوية، فكان معاوية مع مروان، فقال ابن الزبير: يا معاوية: إن لك حقا وطاعة، وإن لك صلة وحرمة، فأطع الله نطعك، فإنه لا طاعة لك علينا إن لم تطع الله، ولا تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر. وقال معاوية يوما وعنده ابن الزبير، وذكر له مروان فقال: إن يطلب هذا الأمر فقد يطمع فيه من هو دونه، وان يتركه يتركه لمن هو فوقه، وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا تعطفه قرابة، ولا ترده مودة، يسومكم خسفا، ويوردكم تلفا. قال ابن الزبير: إذا والله نطلق عقال الحرب بكتائب تمور كرجل الجراد، حافاتها الأسل، لها دوي كدوي الريح، تتبع طريفا من قريش، لم تكن أمه براعية ثلة قال معاوية: أنا ابن هند، أطلقت عقال الحرب، وأكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع، وليس للآكل بعدي إلا الفلذة، ولا للشارب إلا الرنق.
مجاوبة الحسن بن علي لمعاوية
وأصحابه

(1/467)

وفد الحسن بن علي على معاوية، فقال عمرو لمعاوية: يا أمير المؤمنين: إن الحسن لفه، فلو حملته على المنبر فتكلم وسمع الناس كلامه عابوه وسقط من عيونهم، ففعل. فصعد المنبر وتكلم وأحسن، ثم قال: أيها الناس، لو طلبتم ابنا لنبيكم ما بين لابتيها لم تجدوه غيري وغير أخي، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. فساء ذلك عمرا وأراد أن يقطع كلامه، فقال له: أبا محمد، أتصف الرطب؟ فقال: أجل، تلحقه الشمال، وتخرجه الجنوب. وتنضجه الشمس، ويصبغه القمر. قال: أبا محمد، هل تنعت الخراءة؟ قال: نعم، تبعد المشي في الأرض الصحصح حتى تتوارى من القوم، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستنج بالقمامة والرمة - يريد الروث والعظم - ولا تبل في الماء الراكد. بينما معاوية بن أبي سفيان جالس في أصحابه إذ قيل له: الحسن بالباب؟ فقال معاوية: إن دخل أفسد علينا ما نحن فيه؛ فقال له مروان بن الحكم: ائذن لي، فإني أسأله ما ليس عنده فيه جواب؛ قال معاوية: لا تفعل، فإنهم قوم قد. ألهموا الكلام، وأذن له. فلما دخل وجلس، قال له مروان: أسرع الشيب إلى شاربك يا حسن، ويقال إن ذلك من الخرق، فقال الحسن: ليس كما بلغك، ولكنا - معشر بني هاشم - أفواهنا عذبة شفاهها، فنساؤنا يقبلن علينا بأنفاسهن وقبلهن، وأنتم معشر بني أمية فيكم بخر شديد، فنساؤكم يصرفن أفواههن وأنفاسهن عنكم إلى أصداغكم، فإنما يشيب منكم موضع العذار من أجل ذلك. قال مروان: إن فيكم يا بني هاشم خصلة سوء؟ قال: وما هي؟ قال: الغلمة؟ قال: أجل، نزعت الغلمة من نسائنا ووضعت في رجالنا، ونزعت الغلمة من رجالكم ووضعت في نسائكم، فما قام؟ لأموية إلا هاشمي. فغضب معاوية، وقال: قد كنت أخبرتكم فأبيتم حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم، وأفسد عليكم مجلسكم. فخرج الحسن وهو يقول:
ومارست هذا الدهر خمسين حجة ... وحمسا أزجي، قائلا بعد قائل
فلا أنا في الدنيا بلغت جسيمها ... ولا في الذي أهوى كدحت بطائل
وقد شرعت دوني المنايا أكفها ... وأيقنت أني رهن موت معاجل
قال الحسن بن علي لحبيب بن مسلمة الفهري: رب مسير لك في غير طاعة الله؛ قال: أما مسيري إلى أبيك فلا، قال: بلى، ولكنك أطعت معاوية عن دنيا قليلة، فلئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك، ولو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا كنت كما قال الله عز وجل: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولكنك كما قال الله: " بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " . قدم عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان، فقال له يحيى بن الحكم: ما فعلت خبيثة؛ فقال: سبحان الله! يسميها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وتسميها خبيثة! لقد اختلفتما في الدنيا وستختلفان في الآخرة؛ قال يحيى: لأن أموت بالشام أحب إلي من أن أموت بها؛ قال: اخترت جوار النصارى على جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يحيى: ما تقول في علي وعثمان؛ قال: أقول ما قاله من هو خير مني فيمن هو شر منهما: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
مجاوبة بين معاوية وأصحابه

(1/468)

قال معاوية يوما وعنده الضحاك بن قيس وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص: ما أعجب الأشياء؟ قال الضحاك بن قيس: إكداء العاقل وإجداء الجاهل. وقالت سعيد بن العاص: أعجب الأشياء ما لم ير مثله. وقالت عمرو بن العاص: أعجب الأشياء غلبة من لا حق له ذا الحق على حقه. فقال معاوية: أعجب من هذا أن تعطي من لاحق له ما ليس له بحق من غير غلبة. حضر قوم من قريش مجلس معاوية، فيهم عمرو بن العاص وعبد الله بن صفوان ابن أمية وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال عمرو: أحمد الله يا معشر قريش إذ جعل أمركم إلى من يغضي على القذى، ويتصام عن العوراء، ويجر ذيله على الخدائع. قال عبد الله: لو لم يكن كذلك لمشينا إليه الضراء، ودببنا إليه الخمر، ورجونا أن يقوم بأمرنا من لا يطعمك مال مصر. قال معاوية: يا معشر قريش، حتى متى لا تنصفون من أنفسكم؛ قال عبد الرحمن بن الحارث: إن عمرا أفسدك علينا وأفسدنا عليك، ولو أغضبتك هذه. قال: إن عمرا لي ناصح؛ قال عبد الرحمن: فأطعمنا مثل ما أطعمته، وخذنا بمثل نصيحته؛ إنا رأيناك يا معاوية تضرب عوام قريش بأياديك في خواصها، كأنك ترى أن بكرامها قوتك دون لئامها، وإنك والله لتفرغ في إناء فعم من إناء ضخم، وكأنك بالحرب قد حل عقالها عليك من لا ينظرك قال معاوية: يا بن أخي، ما أحوج أهلك إليك، فلا تفجعهم بنفسك، ثم أنشد:
أغر رجالا من قريش تتايعوا ... على سفه مني الحيا والتكرم
وقال معاوية لابن الزبير: تنازعني هذا الأمر كأنك أحق به مني! قال: لم لا أكون أحق به منك يا معاوية، وقد اتبع أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان، واتبع الناس أباك على الكفر؛ قال له معاوية: غلطت يا بن الزبير، بعث الله ابن عمي نبيا، فدعا أباك فأجابه، فما أنت إلا تابع لي، ضالا كنت أو مهديا. العتبي قال: دعا معاوية مروان بن الحكم، فقال له: أشر علي في الحسين؛ قال: تخرجه معك إلى الشام فتقطعه عن أهل العراق وتقطعهم عنه؛ قال: أردت والله أن تستريح منه وتبتليني به، فإن صبرت عليه صبرت على ما أكره، وإن أسأت إليه كنت قد قطعت رحمه. فأقامه، وبعث إلى سعيد ابن العاص، فقال له: يا أبا عثمان، أشر علي في الحسين؟ قال: إنك والله ما تخاف الحسين إلا على من بعدك، وإنك لتخلف له قرنا إن صارعه ليصرعنه، هان سابقه ليسبقنه، فذر الحسين منبت النخلة، يشرب من الماء، ويصعد في الهواء، ولا يبلغ إلى السماء؛ قال: فما غيبك عني يوم صفين؟ قال: تحملت الحرم، وكفيت الحزم، وكنت قريبا، لو دعوتنا لأجبناك، ولو أمرت لأطعناك؛ قال معاوية: يأهل الشام، هؤلاء قومي وهذا كلامهم.
مجاوبة بين بني أمية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم



عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:03 pm

قال: لما أخرج أهل المدينة عمرو بن سعيد الأشدق، وكان واليهم بعد الوليد بن عتبة هو الذي، أمر أهل المدينة بإخراجي، فأرسل إليه وتوثقه. فأرسل إليه معاوية، فلما دخل عليه، قال له عمرو: أوليد، أنت أمرت بإخراجي؟ قال: لا، ورحمك أبا أمية، ولا أمرت أهل الكوفة بإخراج أبيك، بل كيف أطاعني أهل المدينة فيك إلا أن تكون عصيت الله فيهم، إنك لتحل عرى ملك شديدة عقدتها، وتمري أخلاف فيقة سريعة درتها، وما جعل الله صالحا مصلحا كفاسد مفسد. جلس يوما عبد الملك بن مروان وعند رأسه خالد بن عبد الله بن خالد بن، أسيد، وعند رجليه أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وأدخلت عليه الأموال التي جاءت من قبل الحجاج حتى وضعت بين يديه، فقال: هذا والله التوفير وهذه الأمانة! لا ما فعل هذا، وأشار إلى خالد، استعملته على العراق فاستعمل كل ملط فاسق، فأدوا إليه العشرة واحدا، وأدى إلي من العشرة واحدا؛ وأدى إلي من العشرة واحدا، واستعملت هذا على خراسان، وأشار إلى أمية، فأهدى إلى برذونين حطمين، فإن استعملتكم ضيعتم، وإن عزلتكم قلتم استخف بنا وقطع أرحامنا. فقال خالد بن عبد الله: استعملتني على العراق وأهله رجلان: سماع مطيع مناصح، وعدو مبغض مكاشح، فإنا داريناه ضغنه، وسللنا حقده، وكثرنا لك المودة في صدور رعيتك؟ وإن هذا جنى الأموال، وزرع لك البغضاء في قلوب الرجال، فيوشك أن تنبت البغضاء، فلا أموال ولا رجال. فلما خرج ابن الأشعث قال عبد الملك: هذا والله ما قال خالد.
قدم محمد بن عمرو بن سعيد بن العاص الشام فأتى عمته آمنة بنت سعيد بن العاص، وكانت عند خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل عليه خالد، فراه، فقال له: ما يقدم علينا أحد من أهل الحجاز إلا اختار المقام عندنا على المدينة. فظن محمد أنه يعرض به، فقال: وما يمنعهم وقد قدم من المدينة قوم على النواضح فنكحوا أمك، وسلبوك ملكك، وفرغوك لطلب الحديث، وقراءة الكتب، ومعالجة ما لا تقدر عليه، يعني الكيميا، وكان يعملها. لما عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن سرح، دخل عليه عمرو وعليه جبة، فقال له: ما حشو جبتك يا عمرو؛ قال: أنا؛ قال: قد علمت أنك فيها، ثم قال: أشعرت يا عمرو أن اللقاح درت بعدك ألبانها بمصر؟ قال: لأنكم أعجفتم أولادها. وقع بين ابن لعمر بن عبد العزيز وابن لسليمان بن عبد الملك كلام، فجعل ابن عمر يذكر فضل أبيه؛ قال له ابن سليمان: إن شئت فأقلل وإن شئت فأكثر، ما كان أبوك إلا حسنة من حسنات أبي. لأن سليمان هو ولى عمر بن عبد العزيز. ذكروا أن العباس بن الوليد وجماعة من بني مروان كانوا عند هشام، فذكروا الوليد بن يزيد فحمقوه وعابوه، وكان هشام يبغضه، ودخل الوليد، فقال له العباس بن الوليد: كيف حبك للروميات؟ فإن أباك كان مشغوفا بهن، قال: إني لأحبهن، وكيف لا يحببن وهن يلدن مثلك؟ قال: اسكت فلست بالفحل يأتي عسبه بمثلي؟ قال له هشام: يا وليد، ما شرابك؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين، وقام فخرج. فقال هشام: هذا الذي تزعمون أنه أحمق. وقرب إلى الوليد بن يزيد فرسه، فجمع جراميزه ووثب على سرجه، ثم التفت إلى ولد لهشام بن عبد الملك، فقال: يحسن أبوك أن يصنع مثل هذا؟ قال: لأبي مائة عبد يصنعون مثل هذا، فقال الناس: لم ينصفه في الجواب. خطب عبد الملك بن مروان بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقالت: والله لا تزوجني أبا الذباب. فتزوجها يحيى بن الحكم. فقال عبد الملك ليحيى: أما والله لقد تزوجت أسود أفوه، قال يحيى: أما إنها أبت مني ما كرهت منك. كان عبد الملك رديء الفم يدمى فيقع عليه الذباب، فسمي أبا الذباب.
الجواب القاطع
نظر ثابت بن عبد الله بن الزبير إلى أهل الشام، فقال: إني لأبغض هذه الوجوه؟ قال له سعيد بن عثمان: تبغضهم لأنهم قتلوا أباك؟ قال: صدقت، ولكن

(1/470)

الأنصار والمهاجرين قتلوا أباك. وقال الحجاج لرجل من الخوارج: والله إنك من قوم أبغضهم؛ قال له: أدخل الله أشدنا بغضا لصاحبه الجنة. وقال ابن الباهلي لعمرو بن معد يكرب: إن مهرك لمقرف؛ قال: هجين عرف هجينا مثله. وقال الحجاج لامرأة من الخوارج: والله لأعدنكم عدا ولاحصدنكم حصدا؛ قالت له: الله يزرع وأنت تحصد، فأين قدرة المخلوق من الخالق؟ وأني الحجاج بامرأة من الخوارج، فقال لأصحابه: ما تقولون فيها؟ قالوا: عاجلها القتل أيها الأمير، قالت الخارجية: لقد كان وزراء صاحبك خيرا من وزرائك يا حجاج؛ قال لها: ومن صاحبي؟ قالت: فرعون، استشارهم في موسى، فقالوا: أرجه وأخاه. وأتي زياد برجل من الخوارج، فقال له: ما تقول في وفي أمير المؤمنين؟ قال: أما الذي تسميه أمير المؤمنين فهو أمير المشركين؛ وأما أنت، فما أقول في رجل أوله لزنية وآخره لدعوة؟ فأمر به فقتل وصلب. قال الأشعث بن قيس لشريح القاضي: لشد ما ارتفعت! قال: فهل رأيت ذلك ضرك؟ قال: لا، قال: فأراك تعرف نعمة الله عليك وتجهلها على غيرك. نازع محمد بن الفضل بعض قرابته في ميراث، فقال له: يا بن الزنديق؛ قال له: إن كان أبي كما تقوله وأنا مثله، فلا يحل لك أن تنازعني في هذا الميراث، إذ كان لا يرث دين دينا.
وأتي الحجاج بامرأة من الخوارج، فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه، فقيل لها: الأمير يكلمك وأنت لا تنظرين إليه! قالت: إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. فأمر بها فقتلت. لقي عثمان بن عفان علي بن أبي طالب، فعاتبه في شيء بلغه عنه، فسكت عنه علي؟ فقال له عثمان: ما لك لا تقول؟ قال له علي: ليس لك عندي إلا ما تحب وليس جوابك إلا ما تكره. وتكلم الناس عند معاوية في يزيد ابنه، إذ أخذ له البيعة، وسكت الأحنف فقال له: ما لك لا تقول أبا بحر؟ قال: أخافك إن صدقت، وأخاف الله إن كذبت. قال معاوية يوما: أيها الناس إن الله فضل قريشا بثلاث، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: وانذر عشيرتك الأقربين فنحن عشيرته، وقال: وإنه لذكر لك ولقومك فنحن قومه، وقال: لإيلاف قريش إيلافهم إلى قوله الذي أطعمهم من جوع أمنهم من خوف ونحن قريش. فأجابه رجل من الأنصار، فقال: على رسلك يا معاوية، فإن الله يقول: " وكذب به قومك " وأنتم قومه، وقال: " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " وأنتم قومه، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، وأنتم قومه، ثلاثة بثلاثة، ولو زدتنا لزدناك، فأفحمه.
وقال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم، ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه.
مجاوبة الأمراء والرد عليهم
قال معاوية لجارية بن قدامة: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية!

(1/471)

قال: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية! وهي الأنثى من الكلاب، قال: لا أم لك! قال: أمي ولدتني للضيوف التي لقيناك بها في أيدينا؛ قال: إنك لتهددني؛ قال: إنك لم تفتتحنا قسرا، ولم تملكنا عنوة، ولكنك أعطيتنا عهدا وميثاقا، وأعطيناك سمعا وطاعة، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن فزعت إلى غير ذلك، فإنا تركنا وراءنا رجالا شدادا، وألسنة حدادا قال له معاوية: لا كثر الله في الناس أمثالك؛ قال جارية: قل معروفا وراعنا، فإن شر الدعاء المحتطب. عدد معاوية بن أبي سفيان على الأحنف ذنوبا، فقال: يا أمير المؤمنين، لا ترد الأمور على أعقابها، أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت فترا من غدر لنمدن باعا من ختر، ولئن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك، قال: فإني أفعل. قال معاوية لعدي بن حاتم: ما فعلت الطرفات يا أبا طريف؟ - يعني أولاده - قال: قتلوا؟ قال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قتل بنوك معه وبقي له بنوه؛ قال: لئن كان ذلك لقد قتل هو وبقيت أنا بعده؛ قال له معاوية: ألم تزعم أنه لا يخنق في قتل عثمان عنز؛ قد والله خنق فيه التيس الأكبر. ثم قال معاوية: أما إنه قد بقيت من دمه قطرة ولا بد أن أتبعها؛ قال عدي: لا أبا لك! شم السيف، فإن سل السيف يسل السيف. فالتفت معاوية إلى حبيب بن مسلمة، فقال: اجعلها في كتابك فإنها حكمة. الشيباني عن أبي الحباب الكندي عن أبيه: أن معاوية بن أبي سفيان بينما هو جالس وعنده وجوه الناس إذ دخل رجل من أهل الشام، فقام خطيبا، فكان آخر كلامه أن لعن عليا، فأطرق الناس وتكلم الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم، فاتق الله ودع عنك عليا، فقد لقي ربه، وأفرد في قبره، وخلا بعمله، وكان والله - ما علمنا - المبرز بسبقه، الطاهر خلقه، الميمون نقيبته، العظيم مصيبته؛ فقال له معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى، وقلت بغير ما ترى، وايم الله لتصعدن المنبر فلتلعنه طوعا أو كرها، فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إن تعفني فهو خير لك، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري به شفتاي أبدا؛ قال: قم فاصعد المنبر؛ قال الأحنف: أما والله مع ذلك لأنصفنك في القول والفعل، قال: وما أنت قائل يا أحنف إن أنصفتني؛ قال: أصعد المنبر فاحمد الله بما هو أهله، وأصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم أقوله: أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا، هان عليا ومعاوية اختلفا فاقتتلا، وأدى كل واحد منهما أنه بغي عليه وعلى فئته، فإذا دعوت فأمنوا رحمكم الله، ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه، وألعن الفئة الباغية، اللهم العنهم لعنا كثيرا، أمنوا رحمكم الله؛ يا معاوية، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه حرفا ولو كان فيه ذهاب نفسي. فقال معاوية: إذن نعفيك يا أبا بحر.

(1/472)

وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إن عليا قد قطعك ووصلتك، ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر؟ قال: أفعل. فإصعد فصعد، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب، فالعنوه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم نزل. فقال له معاوية: إنك لم تبين أبا يزيد من لعنت بيني وبينه؟ قال: والله لا زدت حرفا ولا نقصت آخر، والكلام إلى نية المتكلم. الهيثم بن عدي قال: قال معاوية لأبي الطفيل: كيف وجدك على علي؟ قال: وجد ثمانين مثكلا؛ قال: فكيف حبك له؟ قال: حب أم موسى، وإلى الله أشكو التقصير. وقال له مرة أخرى: أبا الطفيل؟ قال: نعم؟ قال: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا، ولكني ممن حضره ولم ينصره؟ قال وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرن والأنصار فلم أنصره؟ قال: لقد كان حقه واجبا، وكان عليهم أن ينصروه؟ قال: فما منعك من نصرته يا أمير المؤمنين وأنت ابن عمه؟ قال: أو ما طلبي بدمه نصره له؟ فضحك أبو الطفيل وقال: مثلك ومثل عثمان كما قال الشاعر:
لأعرقنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادا
العتبي قال: صعد معاوية المنبر فوجد من نفسه رقة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس: إن عمر ولأني أمرا من أمره، فوالله ما غششته ولا خنته، ثم ولاني الأمر من بعده ولم يجعل بيني وبينه أحدا، فأحسنت والله وأسأت، وأصبت وأخطأت، فمن كان يجهلني فإني أعرفه بنفسي. فقام إليه سلمة بن الخطل العرجي، فقال: أنصفت يا معاوية، وما كنت منصفا. قال: فغضب معاوية، وقال: ما أنت وذاك يا أحدب! والله لكأني انظر إلى بيتك بمهيعة، وبطنب تيس، وبطنب بهمة. بفنائه أعنز عشر، يحتلبن في مثل قوارة حافر العير، تهفو الرح منه بجانب، كأنه جناح نسر. قال: رأيت والله ذاك، في شر زماننا إلينا، والله إن حشوه يومئذ لحسب غير دنس، فهل رأيتني يا معاوية أكلت مالا حراما أو قتلت امرأ مسلما؟ قال: وأين كنت أراك وأنت لا تدب إلا في خمر، وأي مسلم يعجز عنك فتقتله؛ أم في مال تقوى عليه فتأكله؟ اجلس لا جلست؟ قال: بل اذهب حتى لا تراني؛ قال: إلى أبعد الأرض لا إلى أقربها، فمضى. ثم قال معاوية: ردوه علي، فقال الناس: يعاقبه؛ فقال له أستغفر الله منك يا أحدب، والله لقد بررت في قرابتك، وأسلمت فحسن إسلامك، وإن أباك لسيد قومه، ولا أبرح أقول بما تحب، فاقعد.
الأوزاعي قال: دخل خريم الناعم على معاوية فنظر إلى ساقيه، فقال: أي ساقين لو إنهما على جارية! قال: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين: قال معاوية: واحدة بأخرى والبادي أظلم. دخل عطاء المضحك على عبد الملك بن مروان، فقال له: أما وجدت لك أمك اسما إلا عطاء؟ قال: لقد استكثرت من ذلك ما استكثرته يا أمير المؤمنين، ألا سمتني باسم المباركة، صلوات الله عليها، مريم. قال معاوية لصحار بن العباس العبدي: يا أزرق؛ قال: البازي أزرق؛ قال:

(1/473)

يا أحمر؛ قال: الذهب أحمر، قال: ما هذه البلاغة فيكم عبد القيس؟ قال: شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا كما يقذف البحر الزبد، قال: فما البلاغة عندكم؟ قال: أن نقول فلا نخطىء، ونجيب فلا نبطىء. وقال عبد الله بن عامر بن كريز لعبد الله بن حازم: يا بن عجلى قال: ذاك اسمها؛ قال: يا بن السوداء؛ قال: ذاك لونها، قال: يا بن الأمة؛ قال: كل أنثى أمة، فاقصد بذرعك لا يرجع سهمك عليك، إن الإماء قد ولدتك. دخل عبيد الله بن زياد بن، ظبيان على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما هذا الذي يقول الناس؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون إنك لا تشبه أباك؟ قال: والله لأنا أشبه به من الماء بالماء، والغراب، ولكن أدلك على من لم يشبه أباه؟ قال: من هو؟ قال: من لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام؟ قاد: ومن هو؟ قال: ابن عمي سويد بن منجوف، وإنما أراد عبد الملك بن مروان، وذلك أنه ولد لستة أشهر.
دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك فلم يجد موضعا يقعد فيه، فعلم أن ذلك فعل به على عمد، فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله! قال: أو مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله؛ قال زيد إنه لا يكبر أحد فوق أن يوصى بتقوى الله، ولا يصغر دون أن يوصى بتقوى الله. قال له هشام: بلغني أنك تحدث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها لأنك ابن أمة؛ قال زيد: أما قولك إني أحدث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله؛ وأما قولك إني ابن أمة، فهذا إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، ابن أمة، من صلبه خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وإسحاق، ابن حرة، أخرج من صلبه القردة والخنازير وعبدة الطاغوت. قال له: قم، قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره، فلما خرج من عنده قال: ما أحب أحد قط الحياة إلا ذل. قال له حاجبه: لا يسمع هذا الكلام منك أحد. وقال زيد بن علي:
شرده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
محتفي الرجلين يشكو الوجى ... تقرعه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
ثم خرج بخراسان فقتل وصلب في كناسة. وفيه يقوله سديف بن ميمون في دولة بني العباس:
واذكروا مقتل الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس
يريده حمزة بن عبد المطلب المقتول بأحد.

(1/474)

دخل رجل من قيس على عبد الملك بن مروان فقال: زبيري! والله لا يحبك قلبي أبدا؛ قال: يا أمير المؤمنين، إنما يجزع من فقد الحب النساء، ولكن عدلا وإنصافا. وقال عمر بن الخطاب لأبي مريم الحنفي، قاتل زيد بن الخطاب: والله لا يحبك قلبي أبدا حتى تحب الأرض الدم؛ قال: يا أمير المؤمنين، فهل تمنعني لذلك حقا؟ قال: لا؛ قال: فحسبي. دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، فقال له: على امرىء أوطأك رسنك وسلطك على الأمة لعنة الله؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتني والأمر مدبر عني، ولو رأيتني والأمر مقبل علي لعظم في عينك ما استصغرت مني؟ قال: أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه من النار حيث شئت. وقال مروان بن الحكم لزفر بن الحارث: بلغني أن كندة تدعيك؛ قال: لا خير فيمن لا يتقى رهبة ولا يدعى رغبة. قال مروان بن الحكم للحسن بن دلجة: إني أظنك أحمق؟ قال: ما يكون الشيخ إذا أعمل ظنه؟ وقال مروان لحويطب بن عبد العزي: وكان كبيرا مسنا. أيها الشيخ، تأخر إسلامك حتى سبقك الأحداث؛ فقال: الله المستعان، والله لقد هممت بالإسلام غير مرة كل ذلك يعوقني عنه أبوك وينهاني ويقول: يضع من قدرك، وتترك دين آبائك لدين محدث، وتصير تابعا. فسكت مروان. قال عبد الملك بن مروان لثابت بن عبد الله بن الزبير: أبوك كان أعلم بك حيث كان يشتمك؛ قال: يا أمير المؤمنين، إنما كان يشتمني لأني كنت أنهاه أن يقاتل بأهل المدينة وأهل مكة، فإن الله لا ينصر بهما؛ أما أهل مكة فأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخافوه، ثم جاءوا إلى المدينة فآذوه، حتى سيرهم، يعرض بالحكم بن أبي العاصي طريد النبي صلى الله عليه وسلم وأما أهل المدينة فخذلوا عثمان حتى قتل بين أظهرهم ولم يدفعوا عنه، قال له: عليك لعنة الله. جلس معاوية يبايع الناس على البراءة من علي، فقال له رجل من بني تميم: يا أمير المؤمنين، نطيع أحياءكم ولا نبرأ من موتاكم؛ فالتفت معاوية إلى زياد فقال: هذا رجل فاستوص به. قال معاوية يوما: يا معشر الأنصار، لم تطلبون ما عندي، فوالله لقد كنتم قليلا معي كثيرا مع علي، ولقد فللتم حدى يوم صفين، حتى رأيت المنايا تتلظى من أسنتكم، ولقد هجوتموني بأشد من وخز الأسل، حتى إذا أقام الله منا ما حاولتم ميله، قلتم ارع فينا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هيهات! أبى الحقين العذرة. فأجابه قيس بن سعد، قال: أما قولك جئناك نطلب ما عندك، فبالإسلام الكافي به الله لا بما تمت به إليك الأحزاب؛ وأما استقامه الأمر، فعلى كره منا كان؛ وأما فلنا حدك يوم صفين، فأمر لا نعتذر منه؛ وأما عداوتنا لك، فلو شئت - كففتها عنك، وأما هجاؤنا إياك، فقول يثبت حقه، ويزول باطله؛ وأما وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يؤمن به يحفظها من بعده، وأما قولك: أبى الحقين العذرة، فليس دون الله يد تجزك منا، فدونك أمرك يا معاوية، فإنما مثلك كما قال الشاعر:
يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجر فبيضى واصفرى
وقال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن المهلب: فيمن العز بالبصرة؟ قال: فينا وفي حلفائنا من ربيعة. قال سليمان: الذي تحالفتما عليه أعز منكما.

(1/475)

مر عمر بن الخطاب بالصبيان يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير، ففروا، وثبت ابن الزبير؟ قال له عمر: كيف لم تفر مع أصحابك؟ قال: لم أجترم فأخافك، ولم يكن بالطريق من ضيق فأوسع لك. وقال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم: متى فقئت عينك؟ قال: يوم قتل أبوك، وهربت عن خالتك، وأنا للحق ناصر، وأنت له خاذل. وكان فقئت عينه يوم الجمل. وقال هارون الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخطباء في ربيعة؟ قال: نعم، ولكن منابرهم الجذوع. كان المسور بن مخرمة جليلا نبيلا، وكان يقول في يزيد بن معاوية: إنه يشرب الخمر. فبلغه ذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يجلده الحد، ففعل. فقال المسور في ذلك:
أيشربها صرفا يفض ختامها ... أبو خالد ويجلد الحد مسور
قال المأمون ليحمى بن أكثم القاضي: أخبرني من الذي يقول؟
قاض يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
قال: يقوله يا أمير المؤمنين الذي يقول:
لا أحسب الجور ينقضى وعلى ال ... أمة وال من آل عباس
قال: ومن يقوله؟ قال: أحمد بن نعيم، قال: ينفى إلى السند، وإنما مزحنا معك.
قال سليمان بن عبد الملك لعدي بن الرقاع: أنشدني قولك في الخمر:
كميت إذا شجت وفي الكأس وردة ... لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذى من دونها وهي دونهلوجه أخيها في الإناء قطوب فأنشده. فقال له سليمان: شربتها ورب الكعبة، قال عدي: والله يا أمير المؤمنين، لئن رابك وصفي لها قد رابتني معرفتك بها. فتضاحكا وأخذا في الحديث. الأصمعي قال: لما ولي بلال بن أبي بردة البصرة بلغ ذلك خالد بن صفوان، فقال:
سحابة صيف عن قليل تقشع
فبلغ ذلك بلالا فدعا به، فال له: أنت القائل:
سحابة صيف عن قليل تقشع

(1/476)

أما والله لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب برد، فضربه مائة سوط. وكان خالد يأتي بلالا في ولايته، ويغشاه في سلطانه، ويغتابه إذا غاب عنه، ويقول: ما في قلب بلال من الإيمان إلا ما في بيت أبي الزرد الحنفي من الجواهر. وأبو الزرد رجل مفلس. دخل عتبة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على خالد بن عبد الله القسري بعد حجاب شديد، وكان عتبة رجلا سخيا، فقال له خالد، يعرض به: إن هاهنا رجالا يداينون في أموالهم، فإذا فنيت يداينون في أعراضهم. فعلم القرشي أنه يعرض به، فقال: أصلح الله الأمير، إن رجالا تكون أموالهم أكثر من مرواتهم، فأولئك تبقى أموالهم، ورجالا تكون مرواتهم أكثر من أموالهم، فإذا نفدت دانوا على سعة ما عند الله. فخجل خالد وقال: أما إنك منهم ما علمت. كان شريك القاضي يشاحن الربيع صاحب شرطة المهدي، فحمل الربيع المهدي عليه، فدخل شريك يوما على المهدي، فقال له المهدي: بلغني أنك ولدت في قوصرة؛ فقال: ولدت يا أمير المؤمنين بخراسان والقواصر هناك عزيزة؛ قال: إني لأراك فاطميا خبيثا؛ قال: والله إني لأحب فاطمة وأبا فاطمة صلى الله عليه وسلم، قال: وأنا والله أحبهما، ولكني رأيتك في منامي مصروفا وجهك عني، وما ذاك إلا لبغضك لنا، وما أراني إلا قاتلك لأنك زنديق؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الدماء لا تسفك بالأحلام، ليس رؤياك رؤيا يوسف النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قولك بأني زنديق، فإن للزنادقة علامة وليس رؤياك رؤيا يوسف النبي صلى الله عليه وسلم وأما قولك بأني زنديق، فإن للزنادقة علامة يعرفون بها؟ قال: وما هي؟ قال: بشرب الخمر والضرب بالطنبور؛ قال: صدقت أبا عبد الله، وأنت خير من الذي عحملني عليك. قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص لما قدم عليه من مصر: لقد سرت سيرة عاشق، قال: والله ما تأبطتني الإماء، ولا حملتني البغايا! في غبرات المآلي؛ قال عمر: والله ما هذا جواب كلامي الذي سألتك عنه، وإن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل، والبيضة منسوبة إلى طرقها، وقام عمر فدخل. فقال عمرو: لقد فحش علينا أمير المؤمنين. وتزعم الرواة أن قتيبة بن مسلم لما افتتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وإلى آلات لم يسمع بمثلها، فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليهم، ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهروا عليهم، فأمر بدار ففرشت، وفي صحنها قدور أشتات، ترتقى بالسلالم. فإذا الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل، والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير، فلما رآه عبد الله ابن مسلم قال لقتيبة: إئذن لي في كلامه؛ فقال: لا ترده، فإنه خبيث الجواب فأبى عبد الله إلا أن يأذن له - وكان عبد الله يضعف، وكان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك - فأقبل على الحضين، فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، ضعف عمك عن تسور الحيطان؛ قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا ترى، قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها؟ قال: أجل، ولا عيلان، ولو كان رآها سمي شبعان ولم يسم عيلان، قال له عبد الله: أتعرف الذي يقوله:
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول:
وخيبة من يخيب على غني ... وباهلة بن يعصر والرباب،
يريد: يا خيبة من يخيب. قال له: أتعرف الذي يقول:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال: نعم. وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أما الشعر، فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: أقرأ منه الأكثر: هل على الإنسان حين من الدهر لم يكن مشيئا مذكورا قال: فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره. قال: فما

(1/477)

تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، ثم قال على هرسله: وما يكون! تلد غلاما على فراشي، فيقال: فلان بن الحضين، كما يقال: عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله، فقال: لا يبعد الله غيرك. والحضين هذا هو الحضين ابن المنذر الرقاشي، ورقاش أمه، وهو من بنى شيبان ابن بكر بن وائل، وهو صاحب لواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه بصفين على ربيعة كلها، وله يقول علي بن أبي طالب:
لمن راية سوداء يحفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما
يقدمها في الصف حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر السم والدما
جزى الله عني والجزاء بفضله ... ربيعة خيرا ما أعف وأكرما
وقال المنذر بن الجارود العبدي لعمرو بن العاص: أي رجل أنت لو لم تكن أمك، ممن هي؟ قال: أحمد الله إليك، لقد فكرت فيها البارحة، فجعلت أنقلها في قبائل العرب، فما خطرت لي عبد القيس ببال. قال خالد بن صفوان لرجل من بني عبد الدار، وسمعه يفخر بموضعه من قريش، فقال له خالد: لقد هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وخزمتك مخزوم، وجمحتك جمح، وسهمتك سهم، فأنت ابن عبد دارها، تفتح الأبواب إذا أغلقت، وتغلقها إذا فتحت.
جواب في هزل
كان للمغيرة بن عبد الله الثقفي - وهو والي الكوفة - جدي يوضع على مائدته، فحضره أعرابي فمد يده إلى الجدي؟ وجعل يسرع فيه، قال له المغيرة: إنك لتأكله بحرد كأن أمه نطحتك، قال قال: وإنك لمشفق عليه كأن أمه أرضعتك. كان إبراهيم بن عبد الله بن مطيع جالسا عند هشام، إذ أقبل عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص أحمر الجبة والمطرف والعمامة، فقال إبراهيم: هذا ابن عنبسة قد أقبل في زينة قارون. قال: فضحك هشام. قال له عبد الرحمن: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ فأخبره بقول إبراهيم. فقال له عبد الرحمن: لولا ما أخاف من غضبه عليك وفي وعلى المسلمين لأجبته؟ قال: وما تخاف من غضبه؟ قال: بلغني أن الدجال يخرج من غضبة يغضبها، وكان إبراهيم أعور. قال إبراهيم: لولا أن له عندي يدا عظيمة لأجبته؛ قال: وما يده عندك؟ قال: ضربه غلام له بمدية فأصابه، فلما رأى الدم فزع، فجعل لا يدخل عليه مملوك إلا قال له: أنت حر، فدخلت عليه عائدا، فقلت له: كيف نجدك؟ قال لي: أنت حر؛ قلت له: أنا إبراهيم؛ قال لي: أنت حر. فضحك هشام حتى استلقى. قال عبد الرحمن بن حسان لعطاء بن أبي صيفي بن ثابت: لو أصبت ركوة مملوءة خمرا بالبقيع ما كنت صانعا؟ قال: كنت أعرفها بين التجار، فإن لم تكن لهم. فهي لك؟ لكن أخبرني عن الفريعة أكبر أم ثابت؟ وقد تزوجها قبله أربعة كلهم يلقاها بمثل ذراع البكر، ثم يطلقها عن قلى، فقيل لها: يا فريعة، لم تطلقين وأنت جميلة حلوة؛ قالت: يريدون الضيق ضيق الله عليهم. ولقي رجل من قريش، كان به وضح، حارثة بن بدر، وكان مغرما بالشراب، فقال لها: أشعرت أنه بعث نبي لهذه الأمة يحل الخمر للناس؟ قال: إذا لا نصدق به حتى يبرئ الأكمه والأبرص. دخل الزبرقان بن بدر على زياد، فسلم تسليما جافيا، فأدناه زياد فأجلسه معه، ثم قال له: يا أبا عياش، الناس يضحكون من جفائك، قال ولم ضحكوا؛ فوالله إن منهم رجل إلا ود أني أبوه دون أبيه لغية كان أو لرشدة. دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة يضحكون، فقال: يا أبا فراس، أتدري مم يضحكون؟ قال: لا أدري؟ قال: من جفائك؟ قال: أصلح الله الأمير، حججت فإذا رجل على عاتقه الأيمن صبي، وامرأة آخذة بمئزره، وهو يقول:
أنت وهبت زائدا ومزيدا ... وكهلة أولج فيها الأجردا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم



عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:04 pm

وهي تقول: إذا شئت، فسألت؟ ممن الرجل؟ قيل: من الأشعريين، فأنا أجفى من ذلك الرجل؛ قال: لا حياك الله، فقد علمت أنا لا نفلت منك. اجتمع رجل كوسج مع رجل مسبل، فقال المسبل: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا، قالت الكوسج: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث. مر مسلمة بن عبد الملك، وكان من أجمل الناس، بموسوس على مزبلة، فقال له الموسوس: لو رآك أبوك آدم لقرت عينه بك؟ وقال له مسلمة: لو رآك أبوك آدم لأذهبت سخنة عينه بك قرة عينه بي! وكان مسلمة من أحضر الناس جوابا.
خرج إبراهيم النخعي وقام سليمان الأعمش يمشي معه، فقال إبراهيم: إن الناس إذا رأونا قالوا: أعور وأعمش! قال: وما عليك أن يأثموا ونؤجر؟ قال وما عليك أن يسلموا ونسلم. وقال شداد الحارثي: لقيت أسود بالبادية، فقلت: لمن أنت يا أسود؟ قال: لسيد الحي يا أصلع؟ قلت: ما أغضبك مني الحق؟ قال لي: الحق أغضبك؟ قلت: أولست بأسود؟ قال: أولست بأصلع؟ أدخل مالك بن أسماء السجن - سجن الكوفة - فجلس إليه رجل من بني مرة فاتكأ عليه المري يحدثه، ثم قال: أتدري كم قتلنا منكم في الجاهلية؟ قال: أما في الجاهلية فلا ولكن أعرف من قتلتم منا في الإسلام قال: أنا، قد قتلتني بنتن إبطيك. مرت امرأة من بني نمير على مجلس لهم في يوم ريح، فقال رجل منهم: إنها لرسحاء. قالت: والله يا بني نمير ما أطعتم الله ولا أطعتم الشاعر، قال الله تبارك وتعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " وقال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير
قيل لشريح: أيهما أطيب: الجوزنيق أم اللوزنيق؛ قال: لست أحكم على غائب. هشام بن القاسم قال: جمعني والفرزدق مجلس فتجاهلت عليه فقلت: من الكهل؟ قال: وما تعرفني؟ قلت: لا؟ قال: أبو فراس، قلت: ومن أبو فراس؟ قال: الفرزدق؟ قلت: ومن الفرزدق؟ قال: وما تعرف الفرزدق؟ قلت: لا أعرف الفرزدق إلا شيئا يفعله النساء عندنا يتشهون به كهيئة السويق؛ قال: الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم يتشهون بي. قال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبي؛ زوجني امرأة من كلب، فزوجه، فقال له ذات يوم: لقد وجدنا في نساء كلب سعة؛ قال: يا أمير المؤمنين، نساء كلب خلقن لرجال كلب. وقال له يوما، وهو يتغدى معه يا أبرش، إن أكلك أكل معدي؟ قال: هيهات! تأبى ذلك قضاعة. عمارة عن محمد بن أبي بكر البصري قال: لما مات جعفر بن محمد قال أبو حنيفة لشيطان الطاق: مات إمامك، وذلك عند المهدي؛ فقال شيطان الطاق: لكن إمامك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم. فضحك المهدي من قوله، وأمر له بعشرة آلاف درهم. العتبي قال: حدثني أبي قال: لما افتتح النجير، وهي مدينة باليمن، سمع رجل من كندة رجلا وهو يقول؟ وجدنا في نساء كندة سعة؟ فقال له: إن نساء كندة مكاحل فقدت مراودها. لقي خالد بن صفوان الفرزدق، وكان كثيرا ما يداعيه، وكان الفرزدق دميما، فقال له: يا أبا فراس، ما أنت بالذي لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن؟ قال له: ولا أنت أبا صفوان بالذي قالت فيه الفتاة لأبيها: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين. باع رجل ضيعة من رجل، فلما انتقد المال قال للمشتري: أما والله لقد أخذتها كثيرة المؤونة، قليلة المعونة؛ قال له المشتري: وأنت والله أخذتها بطيئة الإجتماع، سريعة الإفتراق. واشترى رجل من رجل دارا، فقال لصاحبها: لو صبرت لاشتريت منك الذراع بعشرة دنانير؛ قال له البائع: وأنت لو صبرت لاشتريت مني الذراع بدرهم. وكان بالرقة رجل يحدث بأخبار بني إسرائيل، فقال له الحجاج بن حنتمة: كيف كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ قال: حنتمة؛ فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: أين وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص.

(1/479)

وقال رجل للشعبي: ما كان اسم امرأة إبليس؟ قال: إن ذلك نكاح ما شهدناه. ودخل رجل على الشعبي فوجده قاعدا مع امرأة، فقال: أيكما الشعبي؟ قال الشعبي: هذه، وأشار إلى المرأة. كان معن بن زائدة ظنينا في دينه، فبعث إلى ابن عياش المنتوف بألف دينار، وكتب إليه: قد بعثت إليك بألف دينار، اشتريت بها منك دينك، فاقبض المال وأكتب إلي بالتسليم. فكتب إليه: قد قبضت المال وبعتك به ديني خلا التوحيد، لما علمت من زهدك فيه. بعث بلال بن أبي بردة في ابن أبي علقمة الممرور، فلما أتي به قال: أتدري لما بعثت إليك؟ قال: لا أدري؟ قال: بعثت إليك لأضحك بك؟ قال: لئن فعلت لقد ضحك، أحد الحكمين من صاحبه، يعرض له بجده أبي موسى، فغضب به بلال وأمر به إلى الحبس. فكلمه الناس وقالوا: إن المجنون لا يعاقب ولا يحاسب، فأمر بإطلاقه وأن يؤتى به إليه. فأتي به في يوم سبت وفي كمه طرائف أتحف بها قي الحبس، فقال له بلال: ما هذا الذي في كمك؟ قال: من طرائف الحبس؟ قال: ناولني منها؟ قال: هو يوم سبت ليس يعطى ولا يؤخذ يعرض بعمة كانت له من اليهود. دخل حسان بن ثابت على عائشة رضي الله عنها فأنشدها:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت له: لكنك لست كذلك، وكان حسان من الذين جاءوا بالإفك.

(1/480)

نظر رجل من الأزد إلى هلال بن الأحوز حين قدم من قندابيل، وقد أطافت به بنو تميم فقال: انظروا إليهم وقد أطافوا به إطافة الحواريين بعيسى. فقال له محمد بن عبد الملك المازني: هذا ضد عيسى، عيسى كان يحيى الموتى وذا يميت الأحياء. لما حلقت لحية ربيعة بن أبي عبد الرحمن، كانت امرأة من المسجد تقف عليه كل يوم في حلقته، وتقول: الله لك يا بن أبي عبد الرحمن! من حلق لحيتك؟ فلما أبرمته، قال لها: يا هذه، إن ذلك حلقها في جزة واحدة وأنت تحلقينها في كل يوم. خرج سعيد بن هشام بن عبد الملك يوما بحمص في يوم مطر عليه طيلسان وقد كاد يمس الأرض، فقال له رجل وهو لا يعرفه: أفسدت ثوبك يا عبد الله؟ قال: وما يضرك؟ قال: وددت أنك وهو في النار؛ قال: وما ينفعك؟ لما قدم الحجاج العراق واليا عليها خرج عبيد الله بن ظبيان متوكئا على مولى له وقد ضربه الفالج، فقال: قدم العراق رجل على ديني، فقال له حضين ابن المنذر الرقاشي؛ فهو إذا منافق؟ قالت عبيد الله: إنه يقتل المنافقين؟ قال له حضين: إذا يقتلك. لما قدم عبد الملك بن مروان المدينة نزل دار مروان، فمر الحجاج بخالد بن يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجاج سيف محلى، وهو يخطر متبخترا في المسجد، فقال له رجل من قريش: من هذا التخطارة؟ فقال خالد بخ بخ! هذا عمرو بن العاص. فسمعه الحجاج فمال إليه، فقال: قلت: هذا عمرو بن العاص! والله ما سرني أن العاص ولدني ولا ولدته، ولكن إن شئت أخبرتك من أنا، أنا ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل من قريش، والذي ضرب مائة ألف بسيفه هذا، كلهم يشهد على أبيك بالكفر وشرب الخمر، حتى أقروا أنه خليفة، ثم ولى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص! قال رجل من بني لهب لوهب بن منبه: ممن الرجل؟ قال: رجل من اليمن؟ قال: فما فعلت أمكم بلقيس؟ قال: هاجرت مع سليمان لله رب العالمين، وأمكم حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد. وقال رجل لابن شبرمة: من عندنا خرج العلم إليكم؟ قال: نعم، ثم لم يرجع إليكم. نظر يزيد بن منصور، خال المهدي، إلى يزيد بن مزيد، وعليه رداء يمان وهو يسحبه، فقال: ليس عليك غزله، فاسحب وجر؛ قال له: على آبائك غزله، وعلي سحبه. فشكاه إلى المهدي؟ فقال: لم تجد أحدا تتعرض له إلا يزيد بن مزيد! دخل أبو يقظان القيسي علي يزيد بن حاتم، وهو والي مصر وعنده هاشم ابن حديج، فقال له يزيد: حركه، وعلى أبي اليقظان حلة وشي وكساء خز، فقال هاشم: الحمد لله أبا اليقظان، لبستم الوشي بعد العباء؛ قال: أجل، تحوكون ونلبس، فلا عدمتم هذا منا، ولا عدمنا هذا منكم. كتب الفرزدق إلى عبد الجبار بن سلمى المجاشعي يستهديه جارية، وهو بعمان، فكتب إليه:
كتبت إلي تستهدي الجواري ... لقد أنعظت من بلد بعيد
وقال رجل من العرب: رأيت البارحه الجنة قي منامي، فرأيت جميع ما فيها من القصور، فقلت: لمن هذه؟ فقيل لي: للعرب؟ قال له رجل من الموالي: صعدت الغرف؟ قال: لا؟ قال: تلك لنا. قال عبد الله ابن صفوان، وكان أميا، لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: أبا جعفر، لقد صرت حجة لفتياننا علينا، إذا نهيناهم عن الملاهي قالوا: هذا ابن جعفر سيد بني هاشم يحضرها ويتخذها؛ قال له: وأنت أبا صفوان صرت حجة لصبياننا علينا، إذا لمناهم في ترك المكتب قالوا: هذا أبو صفوان سيد بني جمح يقرأ آية ولا يخطها. قال معاوية لعبد الله بن عامر: إن ليإليك حاجة؟ قال: بحاجة تقضيها يا أمير المؤمنين، فسل حاجتك؟ قال: أريد أن تهب لي دورك وضياعك بالطائف؛ قال: قد فعلت، قال: وصلتك رحم، فسل حاجتك، قال: حاجتي إليك أن تردها علي يا أمير المؤمنين؟ قال: قد فعلت. وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجة، قال: وأنا لي إليك حاجة؟ قال: وما حاجتك؟ قال: فتقضيها؟ قال: نعم، فلما توثق منه قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة.
جواب في فخر

(1/481)

سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مال! تفاخر عمرو بن سعيد بن العاص وخالد بن يزيد بن معاوية عند عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك لشيخ من موالي قريش: اقض بينهما: فقال الشيخ: كان سعيد بن العاصي لا يعتم - أحد في البلد الحرام بلون عمامته، وكان حرب بن أمية لا يبكى على أحد من بني أمية ما كان في البلد شاهدا، فلما مات سعيد وحرب شاهد لم يبك عليه. قال الأبرش الكلبي لخالد بن صفوان: هلم أفاخرك، وهما عند هشام بن عبد الملك، قال له خالد؛ قل، فقال له الأبرش: لنا ربع البيت - يريد الركن اليماني - ومنا حاتم طيىء، ومما المهلب بن أبي صفرة. فقال خالد بن صفوان: منا النبي المرسل، وفينا الكتاب المنزل ولنا الخليفة المؤمل. قال الأبرش: لا فاخرت مضريا بعدك. ونزل بأبي العباس قوم من اليمن من أخواله من كعب، ففخروا عنده بقديمهم وحديثهم، فقال أبو العباس لخالد بن صفوان: أجب القوم؟ فقال: أخوال أمير المؤمنين؛ قال: لا بد أن تقول؛ قال: وما أقول، يا أمير المؤمنين لقوم هم بين حائك برد، ودابغ جلد، وسائس قرد، ملكتهم امرأة، ودل عليهم هدهد، وغرقتهم فأره. فلم يقم بعدها ليماني قائمة. قال عبد الملك بن الحجاج: لم كان رجل من ذهب لكنته. قال له رجل من قريش: وكيف ذلك؟ قال: لم تلدتي أمه بيني وبين آدم ما خلا هاجر؛ فقال له: لولا هاجر لكنت كلبا من الكلاب. دخل عمر بن عبيد الله بن معمر على عبد الملك بن مروان وعليه حبرة صدأة عليها أثر الحمائل، فقالت له أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: يا أبا حفص، أي رجل أنت لو كنت من غير من أنت منه من قريش؛ قال: ما أحب أني من غير من أنا منه، إن منا لسيد الناس في الجاهلية عبد الله بن جدعان، وسيد الناس في الإسلام أبا بكر الصديق، وما كانت هذه يدي عندك، إني استنقذت أمهات أولادك من عدوك أبي فديك بالبحرين، وهن حبالى، فولدن في حجابك.
قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة، لمعاوية: أما والله لو كنا بمكة على السواء، لعلمت! قال معاوية: إذا كنت أكون معاوية بن أبي سفيان، منزلي الأبطح، ينشق عني سيله، وكنت عبد الرحمن بن خالد، منزلك أجياد، أعلاه مدرة، وأسفله عذرة. تنازع الزبير بن العوام وعثمان بن عفان في بعض الأمر، فقال الزبير: أنا ابن صفية؛ قال عثمان: هي أدنتك من الظل، ولولا ذاك لكنت ضاحيا. قال أحمد بن يوسف الكاتب لمحمد بن الفضل: يا هذا، إنك تتطاول بهاشم كأنك جمعتها، وهي تعتد في أكثر من خمسة آلاف؛ قال له محمد بن الفضل: إن كثرة عددها ليس يخرج من عنقك فضل واحدها. فخر مولى لزياد بزياد عند معاوية. قال له فعاوية: اسكت، فوالله ما أدرك صاحبك شيئا بسيفه إلا أدركت أكثر منه بلساني. وقال رجل من مخزوم للأحوص محمد، بن عبد الله الأنصاري: أتعرف الذي يقول:
ذهبت قريش بالمكارم كلها ... والذل تحت عمائم الأنصار؟
قال: لا، ولكني أعرف الذي يقول:
الناس كنوه أبا حكم ... والله كناه أبا جهل
أبقت رياسته لأسرته ... لؤم الفروع ورقة الأصل

(1/482)

سأل رجل من قريش رجلا من بني قيس بن ثعلبة: ممن أنت؟ قال: من ربيعة؛ قال له القرشسي: لا أثر لكم ببطحاء مكة؛ قال القيسي: آثارها. في أكناف الجزيرة مشهورة، مواقفنا في ذي قار معروفة، فأما مكة فسواء العاكف فيها والبادي، كما قال الله تبارك و، تعالى، فأفحمه. قال الأشعث بن قيس لشريح القاضي: شد ما ارتفعت! قال: فهل ضرك؟ قال: لا؟ قال: فأراك تعرف نعمة الله على غيرك، وتجلهلها على نفسك. قال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن المهلب: فيمن العز بالبصرة؛ قال: فينا، وفي أحلافنا من ربيعة؛ قال له سليمان بن عبد الملك: الذي تحالفتما عليه أعز منكما. قدم أعرابي البصرة فدخل المسجد الجامع، وعليه خلقان وعمامة قد كورها على رأسه، فرمى بطرفه يمنة ويسرة، فلم ير فتية أحسن وجوها ولا أظهر زيا من فتية حضروا حلقة عتبة المخزومي، فدنا منهم وفي الحلقة فرجة فطبقها، فقال له عتبة: ممن أنت يا أعرابي؟ قال: من مذحج، قال: من زيدها الأكرمين، أو من مرادها الأطيبين؛ قال: لست من زيدها ولا من مرادها؟ قال: فمن أنت؟ قال: فإني من حماة أعراضها، وزهرة رياضها بني زبيد. قال: فأفحم عتبة حتى وضع قلنسوته عن رأسه، وكان أصلع، فقال له الأعرابي: فأنت يا أصلع، ممن أنت؟ قال: أنا رجل من قريش؛ قال: فمن بيت نبوتها، أو من بيت مملكتها؛ قال: إني من ريحانتها بني محزوم، قال: والله لو تدري لم سميت بنو مخزوم ريحانة قريش، ما فخرت بها أبدا، إنما سميت ريحانة قريش لخور رجالها، ولين نسائها، قال عتبة: والله لا نازعت أعرابيا بعدك أبدا. وضع فيروز بن، حصين يده على رأس نميلة بن مالك بن أبي عكابة عند زياد، فقال: من هذا العبد؟ قال: أنت العبد، ضربناك فما انتصرت، ومننا عليك فما شكرت. اجتمعت بكر بن وائل إلى مالك بن مسمع لأمر أراده مالك، فأرسل إلى بكر بن وائل وأرسل إلى عبيد الله بن زياد بن، ظبيان، فأتى عبيد الله، فقال: يا أبا مسمع، ما منعك أن ترسل إلي؟ قال: يا أبا مطر، ما في كنانتي سهم أنا أوثق به مني بك. قال: وإني لفى كنانتك! أما والله لئن كنت فيها قائما لأطولنها، ولئن كنت فيها قاعدا لأخرقنها. نازع مالك بن مسمع شقيق بن ثور، فقال له مالك! إنما شرفك قبر بتستر؛ قال شقيق: لكن وضعك قبر بالمشقر. وذلك أن مسمعا أبا مالك جاء إلى قوم بالمشقر، فنبحه كلبهم، فقتله، فقتلوه به، فكان يقال له: قتيل الكلاب. وأراد مالك قبر مجزأة بن ثور، أخي شفيق، وكان استشهد بتستر مع أبي موسى الأشعري. قال قتيبة بن مسلم لهبيرة بن مسروح: أي رجل أنت لو كانت أحوالك من غير سلول! فبادل بهم، قال: أصلح الله الأمير، بادل! بهم من شئت وجنبني باهلة. وكان قتيبة من باهلة.
جواب ابن أبي دواد
قال أحمد بن أبي دواد لمحمد بن عبد الملك، الزيات عند الواثق: أضوي أي أسكت - يا لنبطية - فقال له: لماذا والله؟ ما أنا بنبطي ولا بدعي؟ قال له: ليس فوقك أحد يفضلك، ولا دونك أحد تنزل إليه، فأنت مطرح في الحالتين جميعا. ودخل أحمد بن أبي دواد على أشناس، فقال له: بلغني أنك أفسدت هذا الرجل، يعني، محمد بن عبد الملك، وهو لنا صديق، فأحب أن لا تأتينا؛ قال له ابن أبي دواد: أنت رجل صنعتك هذه الدولة، فإن أتيناك فلها، هان تركناك فلنفسك. قال أحمد بن أبي دواد: دخلت على الواثق، فقال: ما زال قوم اليوم في ثلبك ونقصك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، لكل امرئ منهم ما اكتسب مات الإثم، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم، فالله ولي جزائه، وعقاب أمير المؤمنين من ورائه، وما ضاع امرؤ أنت حائطه، ولا ذل من كنت ناصره، فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: أبا عبد الله:
وسعى إلى بعيب عزة نسوة ... جعل المليك خدودهن نعالها

(1/483)

وقال أبو العيناء الهاشمي: قلت لابن أبي دواد: إن قوما تضافروا علي؛ قال: يد الله فوق أيديهم. قلت: إنهم جماعة؛ قال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. قلت: إن لهم مكرا؛ قال: ولا يحيق المكر السيء بأهله. قال أبو العيناء: فحدثت به أحمد بن يوسف الكاتب، فقال: ما يرى ابن أبي دواد إلا أن القرآن إنما أنزل عليه.
جواب في تفحش
خطب خالد بن عبد الله القسري، فقال: يأهل البادية، ما أخشن بلدكم! وأغلظ معاشكم! وأجفى أخلاقكم! لا تشهدون جمعة، ولا تجالسون عالما فقام إليه رجال منهم دميم، فقال: أما ما ذكرت من خشونة بلدنا، وغلظ طعامنا، وجفاء أخلاقنا، فهو كذلك؛ ولكنكم معشر أهل الحضر فيكم ثلاث خصال هي شر من كل ما ذكرت، قال له خالد: وما هي؟ قال: تنقبون الدور، وتنبشون القبور، وتنكحون الذكور؛ قال: قبحك الله وقبح ما جئت به. أبو الحسن قال: أتى موسى بن مصعب منزل امرأة مدنية لها قينة تعرضها، فإذا امرأة جميلة لها هيئة، فنظر إلى رجل دميم يجيء ويذهب ويأمر وينهى في الدار، فقال: من هذا الرجل؟ قالت: هو زوجي؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أما وجدت من الرجال غير هذا وبك من الجمال ما أرى؟ قالت: والله يا أبا عبد الله لو استدبرك بمثل ما يستقبلني به لعظم في عينك. أبو الحسن قال: قالت عاتكة بنت الملاءة لرائض دواب زوجها في طريق مكة: ما وجدت عملا شرا من عملك، إنما كسبك باستك! فقال لها: جعلت فداك، ما بين ما أكتسب به، وما تكتسبين به أنت إلا إصبعان؛ قالت: ويلي عليك! خذوا الخبيث. فطلبه حشمها، ففاتهم ركضا. أبو الحسن قال: قال رجل من الأزد في مجلس يونس النحوي: وددت والله أن بني تميم جميعا في جوفي، على أن يضرب وسطي بالسيف. قال له شيخ في ناحية المجلس حرمازي من بني تميم: يا هذا، يكفيك من ذاك كمرة حمارية يملأ بها أستك إلى لهاتك.

(1/484)

وسأل أعرابي شيخا من بني مروان وحوله قوم جلوس، فقال: أصابتنا سنة ولي بضع عشرة بنتا؟ فقال الشيخ: أما السنة، فوددت والله أن بينكم وبين السماء صفيحة من حديد؛ وأما البنات، فليت الله أضعفهن لك أضعافا كثيرة، وجعلك مقطوع اليدين والرجلين ليس لهن كاسب غيرك. قال: فنظر الأعرابي مليا، ثم قال: ما أدري ما أقول لك! ولكني أراك قبيح المنظر، لئيم المخبر، فأعضك الله ببظور أمهات هؤلاء الجلوس حولك. وسأل أعرابي شيخا من الطائف وشكا إليه سنة أصابته؛ فقال: وددت والله أن الأرض حصاء ولا تنبت شيئا، قال: ذلك أيبس لجعر أمك في آستها. قال عبيد الله بن زياد بن، ظبيان لزرعة بن ضمرة الضمري: إني لو أدركتك يوم الأهواز، لقطعت منك طابقا شحيما؛ قال: ألا أدلك على طابق شحيم، هو أولى بالقطع؛ قال: بلى، قال: البظر الذي بين استي أمك. قال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم: متى فقئت عينك؟ قال: يوم طعنتك في آستك وأنت مول. وقال الفرزدق: ما عييت بجواب أحد قط ما عييت بجواب امرأة، وصبي، ونبطي؟ فأما المرأة، فإني ذهبت ببغلتي أسقيها في النهر، فإذا معشر نسوة، فلما همزت البغلة حبقت، فاستضحك النسوة، فقلت لهن: ما أضحككن؟ فوالله ما حملتني أنثى إلا فعلت مثلها؟ فقالت امرأة منهن: فكيف كان ضراط أمك قفيرة؛ فقد حملتك في بطنها تسعة أشهر، فما وجدت لها جوابا؛ وأما الصبي فإني كنت أنشد بجامع البصرة، وفي حلقتي الكميت ابن زيد، وهو صبي، فأعجبني حسن استماعه، فقلت له: كيف سمعت يا بني؟ قال لي: حسن؛ قلت: أفيسرك أني أبوك؟ قال: أما أبي فلا أريد به بديلا، ولكن وددت أن تكون أمي؟ قلت: استرها علي يا بن أخي، فما لقيت مثلها؟ وأما النبطي، فإني لقيت نبطيا بيثرب فقال لي: أنت الفرزدق؟ لمحلت: نعم؟ قال: أنت الذي يخاف الناس لسانك؟ قلت: نعم، قال: فأنت الذي إذا هجوتني يموت فرس هذا؟ قلت: لا، قال: فيموت ولدي؟ قلت: لا؟ قال: فأموت أنا؛ قلت: لا؟ قال: فأدخلني الله في حرام الفرزدق من رجلي إلى عنقي؛ قلت: ويلك! ولم تركت رأسك؟ قال: حتى أرى ما تصنع الزانية. ولقي جرير الفرزدق بالكوفة، فقال: أبا فراس، تحتمل عني مسألة؟ قال: أحتملها بمسألة؟ قال: نعم، قال: فسل عما بدا لك؟ قال: أي شيء أحب إليك: يتقدمك الخير أو تتقدمه؟ قال: لا يتقدمني ولا أتقدمه، ولكن أكون معه في قرن؟ قال: هات مسألتك؟ قال له الفرزدق: أي شيء أحب إليك إذا دخلت على امرأتك: أن تجديدها على أير رجل أو تجد يد رجل على حرها؟ قال: قاتلك الله! ما أقبح كلامك! وأرذل لسانك! أبو الحسن قال: مر الفرزدق يوما بمسجد الأحامرة وفيه جماعة فيهم أبو المزرد الحنفي، فقال له الفرزدق. يا أخا بني حنيفة، ما شيء لم يكن له أسنان ولا تكون، ولو كان لم يستقم؟ قال: لا أدري، قال: يا أبا المزرد، إنه سفيه، فإن لم تغضب أخبرتك؟ قال: قل فإني لا أغضب؟ فقال: حر أمك، لم تكن له أسنان ولا تكون، ولو كان لم يستقم. أبو الحسن قال: لقي الفرزدق عمرو بن عفراء فعاتبه في شيء بلغه عنه، فقال له ابن عفراء وهو بالمربد: ما شيء أحب إلي من أن آتي كل شي تكرهه؟ قال له الفرزدق: بالله إنك لأتي كل شيء أكرهه؟ قال: نعم؟ قال فإني أكره أن تأتي أمك فأتها. ضاف رجل قبيح الوجه دني الحسب أبا عبد الله الجمار، فجعل يفخر ببيته؟ فقال له الجماز: اسكت، فقباحة وجهك، ودنو حسبك يمنعاننا من سبك؛ فأبى إلا التمادي في اللجاج، فقال له الجماز:
لو كنت ذا عرض هجوناكا ... أو حسن الوجه لنكناكا
جمعت مر قبحك لؤما فلل ... قبح أو اللؤم تركناكا
كتاب الواسطة في الخطب

(1/485)

قال أبو عمر، أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الأجوبة وتباين الناس فيها على قدر عقولهم ومبلغ فطنهم، وحضور أذهانهم بم ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الخطب التي يتخير لها الكلام، وتفاخرت بها العرب في مشاهدهم، ونطقت بها الأئمة على منابرهم، وشهرت بها في، وقامت بها على رؤوس خلفائهم، وتباهت بها في أعيادهم ومساجدهم، ووصلتها بصلواتهم، وخوطب بها العوام، واستجزلت لها الألفاظ، وتخيرت لها المعاني: أعلم أن جميع الخطب على ضربين: منها الطوال، ومنها القصار؛ ولكل ذلك موضع يليق به، ومكان يحسن فيه. فأول ما نبدأ به من ذلك خطب النبي صلى الله عليه وسلم ثم السلف المتقدمين، ثم الجلة من التابعين، والجلة من الخلفاء الماضين، والفصحاء المتكلمين، على ما سقط إلينا، ووقع عليه اختيارنا؛ ثم نذكر بعض خطب الخوارج، لجزالة ألفاظهم، وبلاغة منطقهم، كخطبة قطري بن الفجاءة في ذم الدنيا، فإنها معدومة النظير، منقطعة القرين، وخطبة أبي حمزة التي سمعها مالك بن أنس، فقال: خطبنا أبو حمزة بالمدينة خطبة شكك فيها المستبصر، ورد بها المرتاب؟ ثم نسمح بصدر من خطب البادية وقول الأعراب خاصة، لمعرفتهم بداء الكلام ودوائه، وموارده ومصادره.
قال عبد الملك بن مروان لخالد بن سلمة القرشي المخزومي من أخطب الناس؟ قال: أنا؟ قال: ثم من؟ قال: أنا؟ قال: ثم من؟ قال: شيخ جذام - يعني روح بن زنباع - قال؟ ثم من؟ قال: أخيفش ثقيف - يعني الحجاج - ؛ قال: ثم من؟ قال: أمير المؤمنين.
وقال معاوية لما خطب الناس عنده فأكثروا: والله لأرمينكم بالخطيب المصقع، قم يا زياد. وقال محمد كاتب المهدي - وكان شاعرا راوية، وطالبا للنحو علامة - ، قال: سمعت أبا دواد يقول: وجرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام، فقال: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق في غير أهل البادية نقص، والنظر في عيون الناس عي، ومسح اللحية هلك، والخروج عما بني عليه الكلام إسهاب. قال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير اللفظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه. وأنشدني بيتا له في خطباء إياد:
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء
أنشدني في عي الخطيب واستعانته بمسح العثنون وفتل الأصابع:
مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع

(1/486)

مر بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر يستمع، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد، أو يكون رجلا من النظارة. فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا، واطووا عنه كشحا، ثم دفع إليهم صحيفة من تنميقه وتحبيره، فيها: خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة، من لفظ شريف، ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة، والمجاهدة بالتكليف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا، وخفيفا على اللسان سهلا، كما خرج من ينبوعه، ونجم من معدنه؛ وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومن أراد معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف؛ ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما. وكن في ثلاث منازل: وإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إما عند الخاصة، إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة، إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامي والخاصي، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، على أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام. فقال له إبراهيم بن جبلة: جعلت فداك، أنا أحوج إلى تعلمي هذا الكلام من هؤلاء الغلمة.
خطبة رسول الله في حجة الوداع
صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم



عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:06 pm

إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، و أحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد، أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت، اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية. والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، ففيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما، ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإنالزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق، السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادي وشعبان، ألا هل بلغت، اللهم أشهد. أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا، وإن لكم عليهن حقا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه، ألا هل بلغت، اللهم أشهد. فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا: كتاب الله، ألا هل بلغت، اللهم أشهد. أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؟ قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس، إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية ولا تجوز وصية، في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وخطب أبو بكر يوم السقيفة
أراد عمر الكلام، فقال له أبو بكر؟ على رسلك، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال؟ أيها الناس، نحن المهاجرون أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسهم رحما برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين أتبعوهم بإحسان. فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو، آويتم وآسيتم، فجزاكم الله خيرا، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله.
وخطب أيضا

(1/488)

حمد الله وأثنى عليه، قال: أيها الناس، إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته لا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وخطب أخرى
فلما حمد الله بما هو أهله، وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام، قال: إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك. فرفع الناس رؤوسهم، فقال: ما لكم أيها الناس، إنكم لطعانون عجلون. إن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما بيده، ورغبه فيما بيد غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويتسخط الكثير، ويسأم الرخاء، وتنقطع عنده لذة البقاء، لا يستعمل العبرة، ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم القسي، والسراب الخادع، جذل الظاهر، حزين الباطن؟ فإذا وجبت نفسه، ونضب عمره، وضحا ظله، حاسبه الله فأشد حسابه، وأقل عفوه. ألا إن الفقراء هم المرحومون، وخير الملوك من أمن بالله وحكم بكتابه وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة نبوة ومفرق محجة، وسترون بعدي ملكا عضوضا، وملكا عنودا، وأمة شعاعا، ودما مفاجا، فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو بها الأثر، ويموت لها الخبر، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن، واعتصموا بالطاعة. وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طوله التناظر. أفي بلاد خرشنة؛ إن الله سيفتح لكم أقصاها، كما فتح عليكم أدناها.
وخطب أيضا فقال
الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأومن به وأتوكل عليه، وأستهدي الله بالهدى، وأعوذ به من الضلال والردى، ومن الشك والعمى. من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، إلى الناس كافة رحمة لهم وحجة عليهم، والناس حينئذ على شر حال، في ظلمات الجاهلية، دينهم بدعة، ودعوتهم فرية. فأعز الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم وألف بين قلوبكم أيها المؤمنون فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. فأطيعوا الله ورسوله، فإنه قال عز وجل: من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا. أما بعد، أيها الناس، إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر وعلى كل حال، ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم، فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير. من يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك. وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من تراب وإلى التراب يعود، هو اليوم حي غدا ميت. فاعملوا وعدوا أنفسكم في الموتى، وما أشكل عليكم فردوا علمه إلى الله، وقدموا لأنفسكم خيرا تجدوه محضرا، فإنه قال عز وجل: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد. فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه واعتبروا بمن مضى قبلكم، واعلموا إنه لا بد من لقاء ربكم والجزاء بأعمالكم صغيرها وكبيرها، إلا ما غفر الله أنه غفور رحيم، فأنفسكم أنفسكم والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن الله وملائكته يصلون على النبي، يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. اللهم صل على محمد عبدك ورسولك أفضل ما صليت على أحد من خلقك، وزكنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، وأحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه. اللهم أعنا على طاعتك، وانصرنا على عدوك
خطبة أخرى رضي الله عنه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:07 pm

حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، وان تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله أثنى على زكريا وعلى أهل بيته، فقال: أنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا وكانوا لنا خاشعين. ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، وعوضكم بالقليل الفاني الكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه، ولا يطفأ نوره. فثقوا بقوله، وانتصحوا كتابه، واستبصروا به ليوم الظلمة، فإنه خلقكم لعبادته، ووكل بكم الكرام الكاتبين، يعلمون ما تفعلون. ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل الله، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل بأعمالكم قبل أن تنقضي آجالكم فتردكم إلى سوء أعمالكم، فإن أقواما جعلوا أجالهم لغيرهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم. فالوحى الوحى، والنجاء النجاء، فإن وراءكم طالبا حثيثا مره، سريعا سيره.
خطب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، تعلموا القرآن واعملوا به تكونوا من أهله، إنه لم يبلغ حق مخلوق أن يطاع في معصية الخالق. إلا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وإلي اليتيم: إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرم البهمة الأعرابية: القضم لا الخضم.
وخطب أيضا
حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل! عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازنا وقاسما. إني بادىء بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، أنا وأصحابي، ثم بالأنصار الذين تبؤءوا الدار والإيمان من قبلهم، ثم من أسرع إلى الهجرة أسرع إليه العطاء، وجمن أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء. فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته. إني قد بقيت فيكم بعد صاحبي، فابتليت بكم وابتليتم بي، وإني لن يحضرني من أموركم شيء فأكله إلى غير أهل الجزاء والأمانة، فلئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لا نكلن بهم.
وخطب أيضا
فقال: الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه صلى الله عليه وسلم، فهدانا به من الضلالة، وجمعنا به من الشتات، وألف بين قلوبنا، ونصرنا على عدونا، ومكن لنا في البلاد، وجعلنا به إخوانا متحابين. فاحمدوا الله على هذه النعمة، واسألوه المزيد فيها والشكر عليها، فإن الله قد صدقكم الوعد بالنصر على من خالفكم. وإياكم والعمل بالمعاصي، وكفر النعمة، فقلما كفر قوم بنعمة ولم ينزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم، وسلط عليهم عدوهم. أيها الناس، إن الله قد أعز دعوة هذه الأمة وجمع كلمتها وأظهر فلجها ونصرها وشرفها، فاحمدوه عباد الله على نعمه، واشكروه على آلائه. جعلنا الله وإياكم من الشاكرين.
وخطبة له أيضا
أيها الناس، إنه قد أتي علي زمان وأنا أرى أن قوما، يقرءون القرآن يريدون به الله عز وجل وما عنده، فخيل إلي أن قوما قرءوه يريدون به الناس والدنيا. ألا فأريدوا الله بأعمالكم. ألا إنما كنا نعرفكم إذ يتنزل الوحي وإذ رسول الله بين أظهرنا ينبئنا من أخباركم، فقد انقطع الوحى، وذهب النبي، فإنما نعرفكم بالقول. ألا من رأينا منه خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه، ومن رأينا منه شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه. سرائركم بينكم وبين ربكم. ألا وإني إنما أبعث عمالي ليعلموكم دينكم وسننكم، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ويأخذوا أموالكم. ألا من رابه شيء من ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفسي بيده لاقصنكم منه.

(1/490)

فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن بعثت عاملا من عمالك فأدب رجلا من رعيتك فضربه، أتقصه منه؟ قال: نعم، والذي نفس عمر بيده، لأقصنه منه، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه.
وخطب أيضا فقال
أيها الناس، اتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تكونوا مثل قوم كانوا في سفينة فأقبل أحدهم على موضعه يخرقه، فنظر إليه أصحابه فمنعوه، فقال: هو موضعي ولي أن أحكم فيه. فإن اخذوا على يده سلم وسلموا، وإن تركوه هلك وهلكوا معه. وهذا مثل ضربته لكم، رحمنا الله وإياكم.
خطب عام الرمادة بالعباس
رحمه الله:
حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: أيها الناس، استغفروا ربكم إنه كان غفارا، اللهم إني استغفرك وأتوب إليك. اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك وبقية آبائه وكبار رجاله، فإنك تقول وقولك الحق: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا. فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللهم نبيك في عمه. اللهم أغفر لنا إنك كنت غفارا. اللهم أنت الراعي، لا تهمل الضالة، ولا تدع الكسيرة بمضيعة. اللهم قد ضرع الصغير، ورق الكبير؛ وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى. اللهم أغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. فما برحوا حتى علقوا الحذاء، وقلصوا المآزر، وطفق الناس بالعباس يقولون: هنيئا لك يا ساقي الحرمين.
خطب إذ ولي الخلافة
صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأيها الناس، إني داع فأمنوا. اللهم إني غليظ فليني لأهل طاعتك بموافقة الحق، ابتغاء وجهك والدار الآخرة، و ارزقني الغلظة والشدة على أعدائك وأهل الدعارة والنفاق، من غير ظلم مني لهم ولا اعتداء عليهم. اللهم إني شحيح فسخني في نوائب المعروف، قصدا من غير سرف ولا تبذير ولا رياء ولا سمعة، واجعلني ابتغي بذلك وجهك والدار الآخرة. اللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين. اللهم إني كثير الغفلة والنسيان فألهمني ذكرك على كل حال، وذكر الموت في كل حين. اللهم إني ضعيف عند العمل بطاعتك فارزقني النشاط فيها والقوة عليها بالنية الحسنة التي لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك. اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى، وذكر المقام بين يديك، والحياء منك، وأرزقني الخشوع فيما يرضيك عني، والمحاسبة لنفسي، وصلاح النيات، والحذر من الشبهات، اللهم ارزقني التفكر والتدبر لما يتلوه لساني من كتابك، والفهم له، والمعرفة بمعانيه، والنظر في عجائبه، والعمل بذلك ما بقيت، إنك على كل شيء قدير.
وكان آخر كلام أبي بكر الذي إذا تكلم به عرف أنه قد فرغ من خطبته: اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك. وكان آخر كلام عمر الذي إذا تكلم به عرف أنه فرغ من خطبته: اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تأخذني على غرة، ولا تجعلني من الغافلين.
خطبة لعثمان بن عفان
رضي الله عنه
ولما ولي عثمان بن عفان قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وتشهد، ثم أرتج عليه، فقال. أيها الناس، إن أول كل مركب صعب، هان أعش فستأتيكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسر يسرا.
خطبة أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب رضوان الله عليه

(1/491)

أول خطبة خطبها بالمدينة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام، ثم قال: أيها الناس، كتاب الله وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم أما بعد، فلا يدعين مدع إلا على نفسه، شغل من الجنة والنار أمامه. ساع نجا، وطالب يرجو، ومقمر في النار، ثلاثة، واثنان: ملك طار بجناحيه، ونبي أخذ الله بيديه، لا سادس. هلك من اقتحم، وردي من هوى اليمين والشمال مضلة، والوسطى الجادة. منهج عليه أم الكتاب والسنة وآثار النبوة. إن الله داوى هذه الأمة بدواءين: السوط والسيف، لا هوادة عند الإمام فيهما. استتروا ببيوتكم، واصلحوا فيما بينكم، فالموت من ورائكم. من أبدى صفحته للحق هلك. قد كانت أمور لم تكونوا فيها محمودين. أما إني لو أشاء أن أقول لقلت. عفا الله عما سلف. سبق الرجلان ونام الثالث كالغراب همته بطنه، ويله! لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له. انظروا فإن أنكرتم فانكروا، وإن عرفتم فاعرفوا. حق وباطل، ولكل أهل، ولئن كثر الباطل لقديما فعل ولئن قل الحق لربما ولعل، ولقلما أدبر شيء فاقبل، ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء، وإني لأخشى أن تكونوا في فتر، وما علينا إلا الاجتيهاد. وروى فيها جعفر بن محمد رضوان الله عليه: ألا إن الأبرار عترتي، وأطايب أرومتي؛ أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا. ألا وإنا أهل البيت من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، ومن قول صادق سمعنا، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا. معنا راية الحق، من يتبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق. ألا وبنا ترد ترة كل مؤمن، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقكم، وبنا فتح الأمر وبنا يختم.
وخطبة له أيضا
حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته، وتقديم العمل، وترك الأمل، فإنه من فرط في عمله، لم ينتفع بشيء من أمله. أين التعب بالليل والنهار، والمقتحم للجج البحار، ومفاوز القفار؛ يسير من وراء الجبال، وعالج الرمال؛ يصل الغدو بالرواح، والمساء بالصباح، في طلب محقرات الأرباح؛ هجمت عليه منيته، فعظمت بنفسه رزيته؛ فصار ما جمع بورا، وما اكتسب غرورا، ووافى القيامة محسورا. أيها اللاهي الغاز نفسه، كأني بك وقد أتاك رسول ربك، لا يقرع لك بابا، ولا يهاب لك حجابا؟ ولا يقبل منك بديلا، ولا يأخذ منك كفيلا؛ ولا يرحم لك صغيرا، ولا يوقر فيك كبيرا؛ حتى يؤديك إلى قعر مظلمة، أرجاؤها موحشة، كفعله بالأمم الخالية، والقرون الماضية. أين من سعى واجتهد، وجمع وعدد، وبنى وشيد، وزخرف ونجد، وبالقليل لم يقنع، وبالكثير لم يمتع؟ أين من قاد الجنود، ونشر البنود؛ أضحوا رفاتا، تحت الثرى أمواتا، وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون. عباد الله، فاتقوا الله وراقبوه، واعملوا لليوم الذي تسير فيه الجبال، وتشقق السماء بالغمام، وتطاير الكتب عن الأيمان والشمائل. فأي رجل يومئذ تراك؟ أقائل: هاؤم اقرءوا كتابيه؟ أم: يا ليتني لم أوت كتابيه؟ نسأل من وعدنا بإقامة الشرائع جنته أن يقينا سخطه. إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
وخطبة له أيضا

(1/492)

الحمد لله الذي استخلص الحمد لنفسه، واستوجبه على جميع خلقه، الذي ناصية كل شيء بيده، ومصير كل شيء إليه، القوي في سلطانه، اللطيف في جبروته، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، خالق الخلائق بقدرته، ومسخرهم بمشيئته، وفي العهد، صادق الوعد، شديد العقاب، جزيل الثواب. أحمده وأستعينه على ما أنعم به، مما لا يعرف كنهه غيره، وأتوكل عليه توكل المستسلم لقدرته، المتبري من الحول والقوة إلا إليه، وأشهد شهادة لا يشويها شك أنه لا إله إلا هو وحده لا لشريك له، إلها واحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا، وهو على كل شيء قدير. قطع ادعاء المدعي بقوله عز وجل: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. وأشهد أن صلى الله عليه وسلم صفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بالمعروف أمرا، وعن المنكر ناهيا، وإلى الحق داعيا، على حين فترة من الرسل، وضلالة من الناس، واختلاف من الأمور، وتنازع من الألسن، حتى تمم به الوحي، وانذر به أهل الأرض. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها العصمة من كل ضلال، والسبيل إلى كل نجاة؟ فكأنكم بالجثث قد زايلتها أرواحها، وتضمنتها أجداثها، فلن يستقبل معمر منكم يوما من عمره إلا بانتقاص آخر من أجله، وإنما دنياكم كفيء الظل، أو زاد الراكب. وأحذركم دعاء العزيز الجبار عبده، يوم تعفى آثاره، وتوحش منه دياره، ويوتم صغاره، ثم يصير إلى حفير من الأرض، متعفرا خده، غير موسد ولا ممهد. أسأل الذي وعدنا على طاعته جنته أن يقينا سخطه، ويجنبنا نقمته، ويهب لنا رحمته، إن وأبلغ الحديث كتاب الله.
وخطبة له رضي الله عني
أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلا، وإن المضمار اليوم والسباق غدا. ألا وإنكم في أيام أمل، ومن ورائه أجل، فمن أخلص في أيام أمله، قبل حضور أجله، نفعه عمله، ولم يضره أمله؛ ومن قصر في أيام أمله، قبل حضور أجله، فقد خسر عمله، وضجره أمله. ألا فاعملوا الله في الرغبة، كما تعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام هاربها. ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودللتم على الزاد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل.
وخطبة له أيضا

(1/493)

قالوا: ولما أغار سفيان بن عوف الأسدي على الأنبار في خلافة في رضي الله عنه، وعليها حسان البكري، فقتله وأزال تلك الخيل عن مسارحها، فخرج علي رضي الله عنه حتى جلس على باب السدة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه ألبسه. الله ثوب الذل، وأشمله البلاء، والزمه الصغار، وسامه الخسف، ومنعه النصف. ألا وإني دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فولله ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي، فاتخدتموه وراءكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخو غامد، قد بلغت خيله الأنبار، وقتل حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسارحها، وقتل منكم رجالا صالحين. ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع حجلها وقلبها ورعاثها، ثم انصرفوا وافرين، ما كلم رجل منهم. فلو أن رجلا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان عندي ملوما، بل كان عندي جديرا. فواعجبا من جد هؤلاء في باطلهم، وفشلكم عن حقكم! فقبحا لكم وترحا! حين صرتم غرضا يرمي، يغار عليكم ولا تغيرون، تغزون، ولا تغزون ويعمى الله وترضون! فإذا أمرتكم بالمسير إليهم في أيام الحر قلتم: حمارة القيظ، أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالمسير إليهم ضحى في الشتاء، قلتم: أمهلنا حتى ينسلخ عنا هذا القر. كل هذا فرارا من الحر والقر، فختم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولا رجال! ويا أحلام أطفال، وعقول ربات الحجال! وددت أن الله أخرجني من بين أظهركم وقبضني إلى رحمته من بينكم، وأني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرت وهنا، ووريتم والله صدري غيظا، وجرعتموني الموت أنفاسا، وأفسدتم علي رأي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! وهل منهم أحد أشد لها مراسا وأطول تجربة مني! لقد مارستها وأنا ابن عشرين، فها أنذا الآن بد نيفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع.
وخطبة له رضي الله عنه
قام فيهم فقال: أيها الناس، المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم؟ تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا جاء القتال! قلتم حيدي، حياد. ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأباطيل. وسألتموني التأخير، دفاع ذي الذين المطول. هيهات! لا يدفع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد. أي دار بعد داركم تمنعون؟ أم مع أي إمام بعدي تقاتلون؛ المغرور والله من غرر تموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب. أصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصرتكم، فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خير لي منكم. وددت والله إن لي بكل عشرة منكم رجلا من بني فراس ابن غنم، صرف الدينار بالدرهم.
خطب إذ استنفر أهل الكوفة لحرب الجمل

(1/494)

فأقبلوا إليه مع ابنه الحسن رضي الله عنه، فقام فيهم خطيبا، فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآخر المرسلين. أما بعد، فإن الله بعث محمدا عليه الصلاة والسلام إلى الثقلين كافة، والناس في اختلاف، والعرب بشر المنازل، مستضعفون لما بهم، بعضهم على بعض، فرأب الله به الثأي، ولأم به الصدع، ورتق به الفتق وأمن به السبل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الواغرة للقلوب، والضغائن المخشنة للصدور، ثم قبضه الله عز وجل مشكورا سعيه، مرضيا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند ربه. فيا لها مصيبة عفت المسلمين، وخضت الأقربين! وولي أبو بكر، فسار بسيرة رضيها المسلمون؛ ثم ولي عمر، فسار بسيرة أبي بكر رضير الله عنهما؛ ثم ولي عثمان، فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان، اتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتموني فقلتم لي: بايعنا، فقلت لكم: لا أفعل، وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتم كفي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك، وتداككتم علي تداكك الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى ظننت أنكم قاتلي، وأن بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني، وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني للعمرة، فسارا إلى البصرة، فقتلا بها المسلمين، وفعلا الأفاعيل، وهما يعلمان والله أني لست بدون واحد ممن مضى، ولو أشاء أن أقول لقلت: اللهم إنهما قطعا قرابتي، ونكثا بيعتي، وألبا علي عدوي. اللهم فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا.
مما حفظ عنه بالكوفة على المنبر
قال نافع بن كليب: دخلت الكوفة للتسليم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فإني لجالس تحت منبره وعليه عمامة سوداء وهو يقول: انظروا هذه الحكومة، فمن دعا إليها فاقتلوه وإن كان تحت عمامتي هذه. فقال له عدي بن حاتم: قلت لنا أمس: من أبى عنها فاقتلوه، وتقول لنا اليوم: من دعا إليها فاقتلوه، والله ما ندري ما نصنع بك! وقام إليه رجل أحدب من أهل العراق فقال: أمرت بها أمسي وتنهى عنها اليوم! فأنت كما قال الأول: أكلك وأنا اعلم ما أنت. فقال علي: إلي يقال هذا؟
أصبحت أذكر أرحاما واصرة ... بدلت منها هوي الريح بالقصب
أما والله لو إني حين أمرتكم بما أمرتكم به، ونهيتكم عما نهيتكم عنه، حملتكم على المكروه الذي جعل الله عاقبته خيرا إذا كان فيه، لكانت الوثقى التي لا تفصم، ولكن متى وإلى متى أداويكم؟ إني والله بكم كناقش الشوكة بالشوكة! يا ليت لي بعض قومي، وليت لي من بعد خير قومي. اللهم إن دجلة والفرات نهران أعجمان أصمان أبكمان، اللهم سلط عليهما بحرك، وانزع منهما بصرك، وي للنزعة بأشطان الركي، دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن فاحسنوه، ونطقوا بالشعر فأحكموه، وهيجوا إلى الجهاد فولوا اللقاح أولادها، وسلبوا الضيوف أغمادها، ضربا ضربا، وزحفا زحفا، لا يتباشرون بالحياة، ولا يعزون على القتلى:
أولئك إخواني الذاهبون ... فحق البكاء لهم أن يطيبا
رزئت حبيبا على فاقة ... وفارقت بعد حبيب حبيبا
ثم نزل تدمع عيناه. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون على ما صرت إليه! فقال: نعم؛ إنا لله وإنا إليه راجعون! أقومهم والله غدوة، ويرجعون إلي عشية، مثل ظهر الحية، حتى متى وإلى متى؟ حسبي الله ونعم الوكيل!
خطبة الغراء
رضي الله عنه:

(1/495)

الحمد لله الأحد الصمد، الواحد المنفرد، الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق إلا وهو خاضع له، قدرة بان بها من الأشياء، وبانت الأشياء منه، فلست له صفة تنال، ولا حد يضرب له فيه الأمثال، كل دون صفته تحبير اللغات، وضلت هناك تصاريف الصفات، وحارت دون ملكوته مذاهب التفكير، وانقطعت دون علمه جوامع التفسير، وحالت دون غيبه حجب تاهت في أدنى دنوها طامحات العقول. فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن؛ وتعالى الذي ليس له نعت موجود، ولا وقت محدود. وسبحان الذي ليس له أول مبتدأ، ولا غاية منتهى، ولا آخر يفنى؛ وهو سبحانه كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته، أحاط بالأشياء كلها علمه، وأتقنها صنعه، وذللها أمره، وأحصاها حفظه، فلا يغرب عنه غيوب الهوى، ولا مكنون ظلم الدجى، ولا ما في السموات العلى، إلى الأرض السابعة السفلى؛ فهو لكل شيء منها حافظ ورقيب، أحاط بها. الأحد الصمد، الذي لم تغيره صروف الأزمان، ولم يتكاءده صنع شيء منها كان. قال لما شاء أن يكون؛ كن فكان؛ ابتدع ما خلق، بلا مثال سبق، ولا تعب، ولا نصب؛ وكل عالم من بعد جهل تعلم، والله لم يجهل ولم يتعلم؛ أحاط بالأشياء كلها علما، ولم يزدد بتجربتها خبرا؛ علمه بها قبل كونها كعلمه بها بعد تكوينها؛ لم يكونها لتسديد سلطان، ولا خوف من زوال ولا نقصان؛ ولا استعانة على ضد مناوئ، ولا نذ مكاثر؛ ولكن خلائق مربوبون، وعباد داخرون. فسبحان الذي لم يؤده خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ما برأ، خلق ما علم وعلم ما أراد، ولا يتفكر على حادث أصاب، ولا شبهة دخلت عليه فيما شاء؛ لكن قضاء متقن، وعلم محكم، وأمر مبرم. توحد فيه بالربوبية، وخص نفسه بالوحدانية؛ فلبس العز والكبرياء، واستخلص المجد والسناء، واستكمل الحمد والثناء؛ فانفرد بالتوحيد، وتوحد بالتمجيد؛ فجل سبحانه وتعالى عن الأبناء، وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء؛ فليس له فيما خلق ند، ولا فيما ملك ضد هو الله الواحد الصمد، الوارث للأبد، الذي لا يبيد ولا ينفد، ملك السموات العلى، والأرضين السفلى، ثم دنا فعلا، وعلا فدنا، له المثل الأعلى، والأسماء الحسنى، والحمد لله رب العالمين. ثم إن الله تبارك وتعالى سبحانه وبحمده، خلق الخلق بعلمه، ثم اختار منهم صفوته لنفسه، واختار من خيار صفوته أمناء على وحيه، وخزنة له على أمره، إليهم تنتهي رسالته، وعليهم ينزل وحيه؛ جعلهم أصفياء، مصطفين أنبياء، مهديين نجباء. استودعهم وأقرهم في خير مستقر، تناسختهم أكارم الأصلاب، إلى مطهرات الأمهات؛ كلما مضى منهم سلف، انبعث لأمره منهم خلف؛ حتى انتهت نبوة الله وأفضت كرامته إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأخرجه من أفضل المعادن محتدا، وأكرم المغارس منبتا، وأمنعها ذروة، وأعزها أرومة، وأوصلها مكرمة؛ من الشجرة التي صاغ منها أمناء، وانتخب منها أنبياء؛ شجرة طيبة العود، معتدلة العمود، باسقة الفروع، مخضرة الأصول والغصون، يانعة الثمار، كريمة المجتنى؛ في كرم نبتت، وفيه بسقت وأثمرت، وعزت فامتنعت؛ حتى أكرمه الله بالروح الأمين، والنور المبين، فختم به النبيين، وأتم به عدة المرسلين؛ خليفته على عباده، وأمينه في بلاده؛ زينه بالتقوى، واثار الذكرى؛ وهو إمام من اتقى، ونصر من اهتدى؛ سراج لمع ضوؤه، وزند برق لمعه، وشهاب سطع نوره. فاستضاءت به العباد، واستنارت به البلاد، وطوى به الأحساب، وأزجى به السحاب، وسخر له البراق، حتى صافحته الملائكة، وأذعنت له الأبالسة، وهدم به أصنام الآلهة. سيرته القصد، وسنته الرشد؛ وكلامه فصل، وحكمه عدل. فصدع صلى الله عليه وسلم بما أمره به، حتى أفصح بالتوحيد دعوته، وأظهر في خلقه: لا إله إلا الله، حتى أذعن له بالربوبية، وأقر له بالعبودية والوحدانية. اللهم فخص محمدا صلى الله عليه وسلم بالذكر المحمود، والحوض

(1/496)

المورود. اللهم آت محمدا الوسيلة، والرفعة والفضيلة؛ واجعل في المصطفين محلته، وفي الأعلين درجته، وشرف بنيانه، وعظم برهانه؟ واسقنا بكأسه، وأوردنا حوضه، وأحشرنا في زمرته؛ غير خزايا ولا ناكثين، ولا شاكين ولا مرتابين، ولا ضالين ولا مفتونين، ولا فبذلين ولا حائدين ولا مضلين. اللهم أعط محمدا من كل كرامة أفضلها، ومن كل نعيم أكمله، ومن كل عطاء أجزله، ومن كل قسم أتمه؛ حتى لا يكون أحد من خلقك أقرب منك مكانا، ولا أحظى عندك منزلة، ولا أدنى إليك وسيلة، ولا أعظم عليك حقا ولا شفاعة من محمد؛واجمع بيننا وبينه في ظل العيش، وبرد الروح، وقرة الأعين، ونضرة السرور، وبهجة النعيم؛ فإنا نشهد أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة والنصيحة، واجتهد للأمة، وجاهد في سبيلك، وأوذي في جنبك، ولم يخف لومة لائم في دينك، وعبدك حتى أتاه اليقين. إمام المتقين، وسيد المرسلين، وتمام النبيين، وخاتم المرسلين، ورسول رب العالمين. اللهم. رب البيت الحرام، ورب البلد الحرام، ورب الركن والمقام، ورب المشعر الحرام، بلغ محمدا منا السلام. اللهم صل على ملائكتك المقربين، وعلى أنبيائك المرسلين، وعلى الحفظة الكرام الكاتبين، وصلى الله عليه أهل السموات وأهل الأرضين، من المؤمنين.ود. اللهم آت محمدا الوسيلة، والرفعة والفضيلة؛ واجعل في المصطفين محلته، وفي الأعلين درجته، وشرف بنيانه، وعظم برهانه؟ واسقنا بكأسه، وأوردنا حوضه، وأحشرنا في زمرته؛ غير خزايا ولا ناكثين، ولا شاكين ولا مرتابين، ولا ضالين ولا مفتونين، ولا فبذلين ولا حائدين ولا مضلين. اللهم أعط محمدا من كل كرامة أفضلها، ومن كل نعيم أكمله، ومن كل عطاء أجزله، ومن كل قسم أتمه؛ حتى لا يكون أحد من خلقك أقرب منك مكانا، ولا أحظى عندك منزلة، ولا أدنى إليك وسيلة، ولا أعظم عليك حقا ولا شفاعة من محمد؛واجمع بيننا وبينه في ظل العيش، وبرد الروح، وقرة الأعين، ونضرة السرور، وبهجة النعيم؛ فإنا نشهد أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة والنصيحة، واجتهد للأمة، وجاهد في سبيلك، وأوذي في جنبك، ولم يخف لومة لائم في دينك، وعبدك حتى أتاه اليقين. إمام المتقين، وسيد المرسلين، وتمام النبيين، وخاتم المرسلين، ورسول رب العالمين. اللهم. رب البيت الحرام، ورب البلد الحرام، ورب الركن والمقام، ورب المشعر الحرام، بلغ محمدا منا السلام. اللهم صل على ملائكتك المقربين، وعلى أنبيائك المرسلين، وعلى الحفظة الكرام الكاتبين، وصلى الله عليه أهل السموات وأهل الأرضين، من المؤمنين.
خطبة الزهراء
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:09 pm

الحمد الله الذي هو أول كل شيء وبديه، ومنتهى كل شيء ووليه، وكل شيء خاشع له، وكل شيء قائم به، وكل شيء ضارع إليه، وكل شيء مستكين له. خشعت له الأصوات، وكلت دونه الصفات؛ وضلت دونه الأوهام، وحارت دونه الأحلام، وانحسرت دونه الأبصار. لا يقضي في الأمور غيره، ولا يتم شيء منها دونه، سبحانه ما أجل شأنه، وأعظم سلطانه! تسبح له السموات العلى، ومن في الأرض السفلى؛ له التسبيح والعظمة، والملك والقدرة، والحول والقوة؛ يقضي بعلم، ويعفو بحلم، قوة كل ضعيف ومفزع كل ملهوف، وعز كل ذليل، وولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، وكاشف كل كربة؛ المطلع على كل خفية، المحصي لكل سريرة، يعلم ما تكن الصدور، وما ترخى عليه الستور؛ الرحيم بخلقه، الرؤوف بعباده، من تكلم منهم سمع كلامه، ومن سكت منهم علم ما في نفسه، ومن عاش منهم فعليه رزقه، ومن مات منهم فإليه مصيره، أحاط بكل شيء علمه، وأحصى كل شيء حفظه. اللهم لك الحمد عدد ما تحيي وتميت، وعدد أنفاس خلقك ولفظهم ولحظ أبصارهم، وعدد ما تجري به الريح، وتحمله السحاب، ويختلف به الليل والنهار، ويسير به الشمس والقمر والنجوم، حمدا لا ينقضي عدده، ولا يفني أمده. اللهم أنت قبل كل شيء، وإليك مصير كل شيء، وتكون بعد هلاك كل شيء، وتبقى ويفنى كل شيء، وأنت وارث كل شيء، أحاط علمك بكل شيء، وليس يعجزك شيء، ولا يتوارى عنك شيء، ولا يقدر أحد قدرتك، ولا يشكرك أحذ حق شكرك، ولا تهتدي العقول لصفتك، ولا تبلغ الأوهام حدك. حارت الأبصار دون النظر إليك، فلم ترك عين فتخبر عنك كيف أنت وكيف كنت، لا نعلم اللهم كيف عظمتك، غير أنا نعلم أنك حي قيوم، تأخذك سنة ولا نوم، لم ينته إليك نظر، ولم يدركك بصر، ولا يقدر قدرتك ملك ولا بشر؛ أدركت الأبصار، وكتبت الآجال، وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنواصي والأقدام؛ لم تخلق الخلق لحاجة ولا لوحشة؛ ملأت كل شيء عظمة، فلا يرد ما أردت، ولا يعطى ما منعت، ولا ينقص سلطانك من عصاك، ولا يزيد في ملكك من أطاعك. كل سر عندك علمه، وكل غيب عندك شاهده، فلم يستتر عنك شيء، ولم يشغلك شيء عن شيء، وقدرتك على ما تقضي كقدرتك على ما قضيت، وقدرتك على القوي كقدرتك على الضعيف، وقدرتك على الأحياء كقدرتك على الأموات. فإليك المنتهى، وأنت الموعد، لا منجى إلا إليك، بيدك ناصية كل دابة، وبإذنك تسقط كل ورقة، لا يعزب عنك مثقال ذرة، أنت الحي القيوم. سبحانك! ما أعظم ما يرى من خلقك! وما أعظم ما يرى من ملكوتك! وما أقلهما فيما غاب عنا منه! وما أسبغ نعمتك في الدنيا وأحقرها في نعيم الآخرة! وما أشد عقوبتك في الدنيا وما أيسرها في عقوبة الآخرة! وما الذي نرى من خلقك، ونعتبر من قدرتك ونصف من سلطانك فيما يغيب عنا منه، مما قصرت أبصارنا عنه، وكلت عقولنا دونه، وحالت الغيوب بيننا وبينه! فمن قرع سنه، وأعمل فكره: كيف أقمت عرشك؟ وكيف ذرأت خلقك؟ وكيف علقت في الهواء سمواتك؟ وكيف مددت أرضك؟ يرجع طرفه حاسرا، وعقله مبهورا، وسمعه والها، وفكره متحيرا. فكيف يطلب علم ما قبل ذلك من شأنك، إذ أنت وحدك في الغيوب التي لم يكن فيها غيرك، ولم يكن لها سواك، لا أحد شهدك حين فطرت الخلق، ولا أحد حضرك حين ذرأت النفوس، فكيف لا يعظم شأنك عند من عرفك، وهو يرى من خلقك ما ترتاع به عقولهم، ويملأ قلوبهم، من رعد تفزع له القلوب، وبرق يخطف الأبصار، وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سمواتك، وليست فيهم فترة، ولا عندهم غفلة، ولا بهم معصية. هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقومهم بطاعتك، ليس يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقود؛ لم يسكنوا الأصلاب، ولم تضمهم الأرحام؛ أنشأتهم، إنشاء، وأسكنتهم سمواتك، وأكرمتهم بجوارك، وائتمنتهبم على وحيك؟ وجنبتهم الأفات، ووقيتهم السيآت، وطهرتهم من الذنوب؛ فلولا تقويتك لم يقووا، ولولا تثبيتك لم يثبتوا، ولولا رهبتك لم يطيعوا، ولولاك لم يكونوا.

(1/498)

أما إنهم على مكانتهم منك، ومنزلتهم عندك، وطول طاعتهم إياك، لو يعاينون ما يخفى عليهم لاحتقروا أعمالهم، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك. فسبحانك حالقا ومعبودا ومحمودا بحسن بلائك عند خلقك! أنت خلقت ما دبرته مطعما ومشربا، ثم أرسلت داعيا إلينا، فلا الداعي أجبنا، ولا فيما رغبتنا فيه رغبنا، ولا إلى ما شوقتنا إليه اشتقنا. أقبلنا كلنا على جيفة نأكل منها ولا نشبع، وقد زاد بعضنا على بعض حرصا، لما يرى بعضنا من بعض؛ فافتضحنا بأكلها، واصطلحنا على حبها، فأعمت أبصار صلاحنا وفقهائنا، فهم ينظرون بأعين غير صحيحة، ويسمعون بآذان غير سميعة، فحيثما زالت زالوا معها، وحيثما مالت أقبلوا إليها؛ وقد عاينوا المأخوذين على الغرة كيف فجأتهم الأمور، ونزل بهم المحذور، وجاءهم من فراق الأحبة ما كانوا يتوقعون، وقدموا من الآخرة إلى، ما كانوا يوعدون. فارقوا الدنيا وصاروا إلى القبور وعرفوا ما كانوا فيه من الغرور؛ فاجتمعت عليه حسرتان؛ حسرة الفوت، وحسرة الموت، فاغبرت لها وجوههم، وتغيرت بها ألوانهم، وعرقت بها جباههم، وشخصت أبصارهم، وبردت أطرافهم، وحيل بينهم وبين المنطق؛ وإن أحدهم لبين أهله ينظر ببصره، ويسمع بأذنه. ثم زاد الموت في جسده حتى خالط بصره، فذهبت من الدنيا معرفته، وهلكت عند ذلك حجته، وعاين هول أمر كان مغطى عليه، فأحد لذلك بصره. ثم زاد الموت في جسده، حتى بلغت نفسه الحلقوم، ثم خرج روحه من جسده فصار جسدا ملقى لا يجيب داعيا، ولا يسمع باكيا، فنزعوا ثيابه وخاتمه، ثم وضئوه وضوء الصلاة، ثم غسلوه وكفنوه أدراجا في أكفانه، وحنطوه ثم حملوه إلى قبره، فدلوه في حفرته، وتركوه مخلى بمقطعات من الأمور، وتحت مسألة منكر ونكير، مع ظلمة وضيق، ووحشة قبر؛ فذاك مثواه حتى يبلى جسده ويصير ترابا. حتى إذا بلغ الأمر إلى مقداره، وألحق آخر الخلق بأوله، وجاءه أمر من خالقه، أراد به تجديد خلقه، فأمر بصوت من سمواته، فمارت السموات مورا، وفرخ من فيها، وبقي ملائكتها على أرجائها، ثم وصل الأمر إلى الأرض - والخلق رفات لا يشعرون - فأرج أرضهم وأرجفها وزلزلها، وقلع جبالها ونسفها وسيرها، وركب بعضها بعضا من هيبته وجلاله، وأخرج من فيها، فجددهم بعد بلائهم، وجمعهم بعد تفرقهم، يريد أن يحصيهم ويميزهم: فريقا في ثوابه، وفريقا في عقابه، فخلد الأمرلأبده دائما، خيره وشره ثم لم ينس الطاعة من المطيعين، ولا المعصية من العاصين، فأراد عز وجل أن يجازي هؤلاء، وينتقم من هؤلاء، فأثاب أهل الطاعة بجواره، وحلول داره، وعيش رغد، وخلود أبد، ومجاورة الرب، وموافقة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث لا ظعن ولا تغير، وحيث لا تصيبهم الأحزان، ولا تعترضهم الأخطار، ولا تشخصهم الأسفار. وأما أهل المعصية، فخلدهم في النار، وأوثق منهم الأقدام، وغلت منهم الأيدي إلى الأعناق، في لهب قد اشتد حره، ونار مطبقة على أهلها، لا يدخل عليهم بها روح، همهم شديد، وعذابهم يزيد، ولا مدة للدار تنقضي، ولا أجل للقوم ينتهي. اللهم إني أسألك بأن لك الفضل، والرحمة بيدك، فأنت وليهما، لا يليهما أحد غيرك، وأسألك باسمك المخزون المكنون، الذي قال به عرشك وكرسيك وسمواتك وأرضك، وبه ابتدعت خلقك، الصلاة على محمد، والنجاة من النار برحمتك، آمين، إنك ولي كريم. إنهم على مكانتهم منك، ومنزلتهم عندك، وطول طاعتهم إياك، لو يعاينون ما يخفى عليهم لاحتقروا أعمالهم، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك. فسبحانك حالقا ومعبودا ومحمودا بحسن بلائك عند خلقك! أنت خلقت ما دبرته مطعما ومشربا، ثم أرسلت داعيا إلينا، فلا الداعي أجبنا، ولا فيما رغبتنا فيه رغبنا، ولا إلى ما شوقتنا إليه اشتقنا. أقبلنا كلنا على جيفة نأكل منها ولا نشبع، وقد زاد بعضنا على بعض حرصا، لما يرى بعضنا من بعض؛ فافتضحنا بأكلها، واصطلحنا على حبها، فأعمت أبصار صلاحنا وفقهائنا، فهم ينظرون بأعين غير صحيحة، ويسمعون بآذان غير سميعة، فحيثما زالت زالوا معها، وحيثما مالت أقبلوا إليها؛ وقد عاينوا المأخوذين على الغرة كيف فجأتهم الأمور، ونزل بهم المحذور، وجاءهم من فراق الأحبة ما كانوا يتوقعون، وقدموا من الآخرة إلى، ما كانوا يوعدون. فارقوا الدنيا وصاروا إلى القبور وعرفوا ما كانوا فيه من الغرور؛ فاجتمعت عليه حسرتان؛ حسرة الفوت، وحسرة الموت، فاغبرت لها وجوههم، وتغيرت بها ألوانهم، وعرقت بها جباههم، وشخصت أبصارهم، وبردت أطرافهم، وحيل بينهم وبين المنطق؛ وإن أحدهم لبين أهله ينظر ببصره، ويسمع بأذنه. ثم زاد الموت في جسده حتى خالط بصره، فذهبت من الدنيا معرفته، وهلكت عند ذلك حجته، وعاين هول أمر كان مغطى عليه، فأحد لذلك بصره. ثم زاد الموت في جسده، حتى بلغت نفسه الحلقوم، ثم خرج روحه من جسده فصار جسدا ملقى لا يجيب داعيا، ولا يسمع باكيا، فنزعوا ثيابه وخاتمه، ثم وضئوه وضوء الصلاة، ثم غسلوه وكفنوه أدراجا في أكفانه، وحنطوه ثم حملوه إلى قبره، فدلوه في حفرته، وتركوه مخلى بمقطعات من الأمور، وتحت مسألة منكر ونكير، مع ظلمة وضيق، ووحشة قبر؛ فذاك مثواه حتى يبلى جسده ويصير ترابا. حتى إذا بلغ الأمر إلى مقداره، وألحق آخر الخلق بأوله، وجاءه أمر من خالقه، أراد به تجديد خلقه، فأمر بصوت من سمواته، فمارت السموات مورا، وفرخ من فيها، وبقي ملائكتها على أرجائها، ثم وصل الأمر إلى الأرض - والخلق رفات لا يشعرون - فأرج أرضهم وأرجفها وزلزلها، وقلع جبالها ونسفها وسيرها، وركب بعضها بعضا من هيبته وجلاله، وأخرج من فيها، فجددهم بعد بلائهم، وجمعهم بعد تفرقهم، يريد أن يحصيهم ويميزهم: فريقا في ثوابه، وفريقا في عقابه، فخلد الأمرلأبده دائما، خيره وشره ثم لم ينس الطاعة من المطيعين، ولا المعصية من العاصين، فأراد عز وجل أن يجازي هؤلاء، وينتقم من هؤلاء، فأثاب أهل الطاعة بجواره، وحلول داره، وعيش رغد، وخلود أبد، ومجاورة الرب، وموافقة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث لا ظعن ولا تغير، وحيث لا تصيبهم الأحزان، ولا تعترضهم الأخطار، ولا تشخصهم الأسفار. وأما أهل المعصية، فخلدهم في النار، وأوثق منهم الأقدام، وغلت منهم الأيدي إلى الأعناق، في لهب قد اشتد حره، ونار مطبقة على أهلها، لا يدخل عليهم بها روح، همهم شديد، وعذابهم يزيد، ولا مدة للدار تنقضي، ولا أجل للقوم ينتهي. اللهم إني أسألك بأن لك الفضل، والرحمة بيدك، فأنت وليهما، لا يليهما أحد غيرك، وأسألك باسمك المخزون المكنون، الذي قال به عرشك وكرسيك وسمواتك وأرضك، وبه ابتدعت خلقك، الصلاة على محمد، والنجاة من النار برحمتك، آمين، إنك ولي كريم.

(1/499)

وخطب أيضا فقال
أيها الناس، احفظوا عنى خمسا، فلو شددتم إليها المطايا حتى تنضوها لم تظفروا بمثلها: إلا لا يرجون أحدكم إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحي أخدكم إذا لم يعلم أن يتعلم، وإذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم؛ أي وإن الخامسة الصبر؛ فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. من لا صبر له لا إيمان له، ومن لا رأس له لا جسد له. ولا خير في قراءة إلا بتدبر، ولا في عبادة إلا بتفكر، ولا في حلم إلا بعلم. ألا أنبئكم بالعالم كل العالم، من لم يزين لعباد الله معاصي الله، ولم يؤمنهم مكره، ولم يؤيسهم من روحه. ولا تنزلوا المطيعين الجنة، ولا المذنبين الموحدين النار، حتى يقضي الله فيهم بأمره. لا تأمنوا على خير هذه الأمة عذاب الله، فإنه يقول: فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. ولا تقنطوا شر هذه الأمة من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
من كلامه
رضوان الله عليه:
قال ابن عباس: لما فرغ علي بن أبي طالب من وقعة الجمل، دعا بأجرتين فعلاهما، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أنصار المرأة، وأصحاب البهيمة، رغا فجئتم، وعقر فانهزمتم. دخلت شر بلاد، أبعدها من السماء، بها يغيض كل ماء، ولها شر أسماء، هي البصرة والبصيرة والمؤتفكة وتدمر أين ابن عباس؟ فدعيت، فقال لي: مر هذه المرأة فلترجع إلى بيتها الذي أمرت أن تقر فيه. وتمثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الحكمين:
زللت فيكم زلة فأعتذر ... سوف أكيس بعدها وأنشمر
وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
خطب معاوية
قال القحذمي: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقاه رجال قريش، فقالوا: الحمد الله الذي أعز نصرك، وأعلى كعبك. قال: فوالله ما رد عليهم شيئا حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني والله وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسزة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة، ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة، وأردتها على عمل عمر، فنفرت من ذلك نفارا شديدا، وأردتها على مثل، ثنيات عثمان، فأبت علي فسلكت بها طريقا لي ولكم فيه منفعة، مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة، فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية. والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه، فقد جعلت له ذلك دبر أذني وتحت قدمي، وإن لم تجدوني أقوا بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه، فإن أتاكم مني خير فاقبلوه، فإن السيل إذا يزاد عنى، وإذا قل أغنى؛ وإياكم والفتنة، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، ثم نزل.
خطبة أيضا لمعاوية
حمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، إنا قدمنا عليكم، وإنما قدمنا على صديق مستبشر، أو على عدو مستتر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون، فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون. ولست واسعا كل الناس، فإن كانت محمدة فلا بد من مذمة، فلوما هونا إذا ذكر غفر، وإياكم والتي إن أخفيت أو بقت. وإن ذكرت أوثقت، ثم نزل.
خطبته أيضا لمعاوية
صعد منبر المدينة. فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأهل المدينة، إني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق، يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرىء منهم شيعة نفسه، فاقبلونا بما فينا، فإن ما وراءنا شر لكم، وإن معروف زماننا هذا منكر زمان مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت، ولو قد أتى، فالرتق خير من الفتق، وفي كل بلاغ، ولا مقام على الرزية.
خطبة لمعاوية أيضا

(1/500)

قال العتبي: خطب معاوية الجمعة في يوم صائف شديد الحر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الله عز وجل خلقكم فلم ينسكم، ووعظكم فلم يهملكم، فمال: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. قوموا إلى صلاتكم.
ذكر لعبيد الله بن زياد عند معاوية

(2/1)

قال ابن دأب: لما قدم عبيد الله بن زياد على معاوية بعد هلاك زياد فوجده لاهيا عنه، أنكره، فجعل يتصدى له بخلوة ليسبر من رأيه ما كره أن يشرك به في عمله، فاستأذن عليه بعد انصداع الطلاب، وإشعال الخاصة، وافتراق العامة، وهو يوم معاوية الذي كان يخلو فيه بنفسه. ففطن معاوية لما أراد، فبعث إلى ابنه يزيد، وإلى مروان بن الحكم، وإلى سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحكم، وعمرو بن العاص. فلما أخذوا مجالسهم آذن له، فسلم ووقف واجما يتصفح وجوه القوم، ثم قالت: صريح العقوق مكاتمة الأدنين، ولا خير في اختصاص إن وفر، أحمد الله إليكم على الآلاء، وأستعينه على اللأواء، وأستهديه من عمى مجهد، وأستعينه على عدو مرصد، وأشهد أن لا إله إلا الله، المنقذ بالأمين الصادق، من شقاء هاو، ومن غواية غاو؛ وصلوات الله على الزكي نبي الرحمة، ونذير الأمة، وقائد الهدى. أما بعد، يا أمير المؤمنين، فقد عسف بنا ظن فرع، وفرع صدع؛ حتى طمع السحيق، ويئس الرفيق؛ ودث الوشاة بموت زياد، فكلهم متحفز للعداوة، وقد قلص الإزرة، وشمر عن عطافه، ليقول: مضى زياد بما استلحق به، وولى على الدنية من مستلحقه. فليت أمير المؤمنين لسم في دعته، وأسلم زيادا في ضعته، فكان ترب عامة، وواحد رعية، فلا تشخص إليه عين ناظر، ولا إصبع مشير، ولا تذلق عليه ألسن. كلمته حيا، ونبشته ميتا، فإن تكن يا أمير المؤمنين حابيت زيادا بولاء رفات، ودعوة أموات، فقد حاباك زياد بجد هصور، وعزم جسور، حتى لانت شكائم الشرس، وذلت صعبة الأشوس، وبذل لك أمير المؤمنين يمينه ويساره، تأخذ بهما المنيع، وتقهر بهما البزيع، حتى مضى، والله يغفر له. فإن يكن زياد أخذ بحق فأنزلنا منازل الأقربين، فإن لنا بعده ما كان له، بدالة الرحم، وقرابة الحميم، ومالنا يا أمير المؤمنين نمشي الضراء، وندب الخفاء، و لنا من خيرك أكمله، وعليك من حوبنا أثقله، وقد شهد القوم، وما ساءني قربهم، ليقروا حقا، ويردوا باطلا، فإن الحق منارا واضحا، وسبيلا قصدا، فقل يا أمير المؤمنين بأي أمريك شئت، فما نأرز إلى غير جحرنا، ولا نستكثر بغير حقنا، واستغفر الله لي ولكم. قال: فنظر معاوية في وجوه القوم كالمتعجب، فتصفحهم بلحظه رجلا، رجلا، وهو مبتسم. ثم اتجه تلقاءه، وعقد حبوته، وحسر عن يده، وجعل يومىء بها نحوه، ثم قال معاوية: الحمد لله على ما نحن فيه، فكل خير منه، وأشهد أن لا إله إلا الله، فكل شيء خاضع له، وأن محمدا عبده ورسوله، دل على نفسه بما بان عن عجز الخلق أن يؤتوا بمثله، فهو خاتم النبيين، ومصدق المرسلين، وحجة رب العالمين، وصلوات الله عليه وسلامه وبركاته. أما بعد، فرب خير مستور، وشر مذكور، وما هو إلا السهم الأخيب لمن طار به، والحط المرغب لمن فاز به، فيهما التفاضل وفيهما التغابن، وقد صفقت يداي من أبيك صفقة ذي الجلبة من ضوارع الفصلان، عامل اصطناعي له بالكفر لما أوليته، فما رميت به إلا انتصل، ولا انتضيته إلا غلق جفنه، وزلت شفرته؛ ولا قلت إلا عاند، ولاقمت إلا قعد، حتى اخترمه الموت؛ وقد أوقع بختره، ودل على حقد،. وقد كنت رأيت في أبيك رأيا حضره الخطل، والتبس به الزلل، فأخذ مني بحظ الغفلة، وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء، فما برحت هناة أبيك تحطب في حبل القطيعة، حتى انتكث المبرم، وانحل عقد الوداد. فيالها توبة تؤتنف، من حوبة أورثت ندما؛ اسمع بها الهاتف، وشاعت للشامت، فليهنأ الواصم ما به احتقر. وأراك تحمد من أبيك جدا وجسورا، هما أوفيا به على سرف التقحم، وغمط النعمة، فدعهما، فقد أذكرتنا منه ما زهدنا فيك من بعده، وبهما مشيت الضراء، ودببت الخفاء، فاذهب إليك، فأنت نجل الدغل، وعترة النغل، والآخر شر.

(2/2)

فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إن للشاهد غير حكم الغائب، وقد حضرك زياد وله مواطن معدودة بخير، لا يفسدها التظني، ولا تغيرها التهم، وأهلوه أهلوك، التحقوا بك، وتوسطوا شأنك، فسافرت به الركبان، وسمعت به أهل البلدان، حتى اعتقده الجاهل، وشك فيه العالم، فلا تتحجر يا أمير المؤمنين ما قد اتسع، وكثرت فيه الشهادات وأعانك عليه قوم آخرون. فانحرف معاوية إلى من معه، هذا، وقد نفس عليه ببيعته، وطعن في إمرته، يعلم ذلك كاحما اعلمه، يا للرجال من آل أبي سفيان! لقد حكموا وبذهم يزيد وحده. ثم نظر إلى عبيد الله فقال: يا بن أخي، إني لأعرف بك من أبيك، وكأني بك في غمرة لا يخطوها السابح، فالزم ابن عمك، فإن ما قال حق. فخرجوا، ولزم عبيد الله يزيد، يرد مجلسه، ويطأ عقبه أياما، حتى رمى به معاوية إلى البصرة واليا عليها. ثم لم تزل توكسه أفعاله حتى قتله الله بالجازر.
خطبة لمعاوية
أيضا
قال بهيثم بن عدي: لما حضرت معاوية الوفاة ويزيد غائب، دعا بمسلم ابن عقبة المر والضحاك بن قيس القهري، وقال لهما: أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر أهل الحجاز، فهم عصابتك اعترتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده؟ وانظر أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم، فأعز له عنهم، فإن عزل عامل واحد أهون عليك من سل مائة ألف سيف، ثم لا تدري علام أنت عليه منهم ثم انظر أهل الشام فاجعلهم الشعار دون الدثار، فإن رابك من عدو ريب فارمه بهم، فإن أظفرك الله فاردد أهل الشام إلى بلادهم، لا يقيموا في غير بلادهم في فيتأدبوا بغير أدابهم. لست أخاف عليك غير عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي. فأما عبد الله بن عمر، فرجل قد وقذه الورع وأما الحسين، فأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه؛ وأما ابن الزبير، فإنه خب ضب. فإن ظفرت به فقطعه إربا إربا. ومات معاوية. فقام الضحاك بن قيس خطيبا فقال: إن أمير المؤمنين كان أنف العرب، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها ومخلون بينه وبين ربه، فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضر. فصلى عليه الضحاك. ثم قدم يزيد فلم يقدم أحد عك تعزيته، حتى دخل عليه عبد الله ابن همام فأنشأ يقول:
اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا
لا رزء أعظم في الأقوام قد علموا ... مما رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت راعي أهل الدين كلهم ... فانت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا بقيت فلا نسمع بمنعاكا
قال: فانفتح الخطباء بالكلام.
خطبة أيضا لمعاوية

(2/3)

ولما مرض معاوية مرض وفاته قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك. قال: ويحك! لم؟ فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم. وأذن للناس فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه وأوجز، ثم قال: أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد الظالم فيه عتوا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا؛ فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حده، ونضيض وفره؛ ومنهم المصلت لسيفه، المجلب برجله، المعلن بشره، وقد أشرط نفسه، وأوبق دينه، لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه، وليس المتجران تراهما لنفسك ثمنا، وبمالك عند الله عوضا؟ ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه. وشمر عن ثوبه، وزخرف نفسه بالأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية، ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضآلة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرت به الحال عن حاله، فتحلى باسم القناعة، وتزيا بلباس الزهادة، وليس من، ذلك في مراح ولا مغدى. وبقي رجال أغض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المضجع، فهم بين شريد باد، وبين خائف منقمع، وساكت مكعوم، وداع محلص، وموجع ثكلان، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، فهم في بحر أجاج، أفواههم ضامرة، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا. فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ، وقرادة الحلم؛ واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فقد رفضت من كان أشفق بها منكم.
ليزيد بن معاوية بعد موت أبيه
الحمد الله الذي ما شاء صنع، ومن شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع. إن أمير المؤمنين كان حبلا من حبال الله، مده ما شاء أن يمده، ثم قطعه حين أراد أن يقطعه، وكان. دون من قبله، وخيرا ممن يأتي بعده، ولا أزكيه عند ربه، وقد صار إليه، فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعاقبه فبذنبه، وقد وليت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا آسى على طلب علم، وعلى رسلكم، إذا كره الله شيئا غيره، وإذا أحب شيئا يسره.
وخطبة أيضا ليزيد
الحمد لله أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، اصطفاه لوحيه. واختاره لرسالته، بكتاب فصله وفضله، وأعزه وأكرمه، ونصره وحفظه، ضرب فيه الأمثال، وحلل فيه الحلال، وحرم فيه الحرام، وشرع فيه الدين إعذارا وإنذارا، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ويكون بلاغا لقوم عابدين. أوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم، الذي ابتدأ الأمور بعلمه، وإليه يصير معادها، وانقطاع مدتها، وتصرم دارها. ثم إني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وراقت بالقليل، وأينعت بالفاني، وتحببت بالعاجل، لا يدوم نعيمها، ولا يؤمن فجيعها، أكالة غوالة، غرارة، لا تبقي على حال، ولا يبقى لها حال، ولن تعدو الدنيا إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرضا بها، أن تكون كما قال الله عز وجل: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء " ، إلى قوله ومقتدرا نسأل الله ربنا وإلهنا وخالقنا ومولانا أن يجعلنا وإياكم من فزع يومئذ آمنين. إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله: ما له " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة.
خطب بني مروان
خطبة عبد الملك بن مروان

(2/4)

وكان عبد الملك بن مروان يقول في آخر خطبته: اللهم إن ذنوبي قد عظمت وجلت عن أن تحمى، وهي صغيرة في جنب عفوك، فاعف عني. وخطب بمكة شرفها الله تعالى، فقال في خطبته: إني الله ما أنا بالخليفة المستضعف، يعني عثمان، ولا بالخليفة المداهن، يعني معاوية، ولا بالخليفة المأفون، يعني يزيد. قال أبو إسحق النظام: أما والله لولا نسبك من هذا المستضعف، وسببك من هذا المذاهن، لكنت منها أبعد من العيوق. والله ما أخذتها بوراثة، ولا سابقة، ولا قرابة، ولا بدعوى شورى، ولا بوصية.
خطبة الوليد بن عبد الملك
لما مات عبد الملك بن مروان ورجع الوليد من دفنه، لم يدخل منزله حتى دخل المسجد، ونودي في الناس: الصلاة جامعة. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه لا مؤخر لما قدم الله، ولا مقدم لما آخر الله، وقد كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه، وحملة عرشه من الموت، موت ولي هذه الأمة، ونحن نرجو أن يصير إلى منازل الأبرار، للذي كان عليه من الشدة على المريب، واللين على أهل الفضل والدين، مع ما أقام من منار الإسلام وأعلامه، وحج هذا البيت، وغزو هذه الثغور، وشن الغارات على أعداء الله، فلم يكن فيها عاجزا، ولا وانيا، ولا مفرطا. فعليكم أيها الناس بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الجماعة أبعد. واعلموا أنه من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل.
خطب سليمان بن عبد الملك
فقال: الحمد لله، ألا إن الدنيا دار غرور، ومنزل باطل، تضحك باكيا، وتبكي ضاحكا، وتخيف أمنا، وتؤمن خائفا، وتفقر مثريا، وتثري مقترا، ميالة غرارة، لعابة بأهلها. عباد الله، فاتحذوا كتاب الله إماما، وارتضوا به حكما، واجعلوه لكم قائدا، فإنه ناسخ لما كان قبله، ولم ينسخه كتاب بعده. واعلموا عباد الله أن هذا القران يجلو كيد الشيطان، كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس، ظلام الليل إذا عسعس.
خطب عمر بن عبد العزيز
رحمه الله ورضي عنه:
قالت العتبي: أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: أيها الناس، أصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم، وأصلحوا أخرتكم تصلح دنياكم؛ وإن امرئ ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرق في الموت.
وخطبة له رحمه الله
إن لكل سفر زادا لا محالة، فتزودوا من دنياكم لأخرتكم التقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه، فترهبوا وترغبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله، ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد إمسائه، أو يمسي بعد إصباحه، وربما كانت بين ذلك خطرات المنايا، وإنما يطمئن إلى الدنيا من أمن عواقبها، فإن من يداوي من الدنيا كلما أصابت جراحة من ناحية أخرى، فكيف يطمئن إليها، أعوذ بالله إن أمركم بما أنهى عنه نفسى فتخسر صفقتي، وتظهر عيلتي، وتبدو مسكنتي، في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق. ثم بكى وبكى الناس معه.
خطبة لعمر بن عبد العزيز أيضا

(2/5)

شبيب بن شيبة عن أبي عبد الملك قال: كنت من حرس الخلفاء قبل عمر، فكنا نقوم لهم ونبدؤهم بالسلاح. فخرج علينا عمر رضي الله عنه في يوم عيد وعليه قميص كتان وعمامة على قلنسوة لاطئة، فمثلنا بين يديه وسلمنا عليه، فقال: مه، أنتم جماعة وأنا واحد، السلام علي والرد عليكم؟ وسلم، فرددنا، وقربت له دابته فأعرض عنها ومشى، ومشينا، حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم، حتى نستوي نحن بهم، وأكون أنا أولهم. ثم قال: ما لي وللدنيا؛ أم مالها ومالي؛ وتكلم فأرق حتى بكى الناس جميعا، يمينا وشمالا. ثم قطع كلامه ونزق! فدنا منه رجاء بن حيوة، فقال له: يا أمير المؤمنين، كلمت الناس بما أرق قلويهم وأبكاهم، ثم قطعته أحوج ما كانوا إليه. فقال: يا رجاء، إني أكره المباهاة.
خطبة ابن الأهتم
بين يدي عمر بن عبد العزيز
ودخل عبد الله بن الأهتم على عمم بن عبد العزيز مع العامة، فلم يفجأ إلا وهو قائم بين يديه يتكلم؛ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإن الله خلق الخلق غنيا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون، والعرب بشر تلك المنازل، أهل الوبر وأهل المدر، تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاهة عيشها، ميتهم في النار، وحيهم أعمى، مع ما لا يحصى من المرغوب عنه، المزهود فيه. فلما أراد الله أن ينشر فيهم رحمته، بعث إليهم رسولا منهم، عزيزا عليه ما عنتوا حريصا عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق، لا يرحل إلا بأمره، ولا ينزل إلا بإذنه، واضطروه إلى بطن غار. فلما أمر بالعزيمة، أسفر لأمر الله لونه، فأبلج الله حجته، وأعلى كلمته، وأظهر دعوته، وفارق الدنيا تقيا صلى الله عليه وسلم ثم قام من عده أبو بكر رضي الله عنه، فسلك سنته، وأخذ سبيله؛ فارتدت العرب، فلم يقبل منهم إلا الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله؛ فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران في شعلها، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل، فلم يبرح يفصل أو صالهم، ويسقي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الباب الذي خرجوا منه، وقررهم بالأمر الذي نفروا عنه. وقد كان أصاب من مال الله بكرا يرتوي عليه، وحبشية ترضع ولدا له، فرأى ذلك غصة في حلقه عند موته، وثقلا على كاهله، فأداه إلى الخليفة من بعده، وبرئ إليهم منه، وفارق الدنيا نقيا نقيا على منهاج صاحبه. ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فمصر الأمصار، وخلط الشدة باللين، وحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، وأعد للأمور أقرانها، وللحرب آلتها. فلما أصابه قن المغيرة بن شعبة أمر ابن عباس أن يسأل الناس: هل يثبتون قاتله. فلما قيل له: قن المغيرة استهل بحمد الله أن لا يكون أصابه من له حق في الفيء فيستحل دمه بما استحل من حقه. وقد كان أصاب من مال الله بضعة وثمانين ألفا. فكسر بها رباعه، وكره فيها كفالة أهله وولده، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وفارق الدنيا تقيا على منهاج صاحبه. ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع أعوج. ثم إنك يا عمر ابن الدنيا، ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها، فلما وليتها ألغيتها وأجببت لقاء الله وما عنده، فالحمد لله الذي جلا بك حوبتنا، وكشف بك كربتنا، امض ولا تلتفت، فإنه لا يغني عن الحق شيء، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين وللمؤمنات. ولما قال: ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع أعوج. سكت الناس كلهم غير هشام، فإنه قال: كذبت.
وخطبة أيضا لعمر نجن عبد العزيز
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:10 pm

قال أبو الحسن: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة خطبة لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضمها السموات والأرض. واعلموا أن الأمان غدا لمن يخاف اليوم، وباع قليلا بكثير، وفانيا بباق؛ ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين، وسيخلفها من بعدكم الباقون، حتى تردوا إلى خير الم الورثين، ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله، قد قضى نحبه، وبلغ أجله، ثم تغيبونه في صدع في الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب، غنيا عما ترك: فقيرا إلى ما قدم، وايم الله، إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب، أكثر مما عندي، فاستغفر الله لي ولكم، وما تبلغنا حاجة يتسبع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي ولحمتي الذين يلونني، حتى يستوى عيشنا وعيشكم، وايم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به ناطقا ذلولا عالما بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دل فيهما على طاعته، ونهى عن معصيته؛ ثم بكى، فتلقى دموع عينيه بردائه ونزل. فلم يعد بعدها على تلك الأعواد حتى قبضه الله تعالى.
خطبة يزيد بن الوليد
حين قتل الوليد بن يزيد
بقي بن مخلد قال: حدثني خليفة بن خياط قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثني إبراهيم بن إسحاق، أن يزيد بن الوليد بن عبد الملك لما قتل الوليد بن يزيد قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، إني ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، ولا تزكية عملي، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى كتابه وسنة نبيه، حين درست معالم الهدى، وأطفيء نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد، المستحل الحرمة، والراكب البدعة، والمغير السنة. فلما رأيت ذلك أشفقت إذ غشيتكم ظلمة لا تقلع، على كثير من ذنوبكم، وقسوة من قلوبكم، وأشفقت أن يدعم كثيرا من الناس إلى ما هو عليه، فيجيبه من أجابه منكم، فاستخرت الله في أمري، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، وهو ابن عمي في نسبي، وكفيء في حسبي، فأراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد، ولاية من الله وعزما، بلا حول منا ولا قوة، ولكن بحول الله وقوته، وولايته وعزته. أيها الناس، إن لكم علي إن وليت أموركم ألا أضع لبنة على لبنة، ولا حجرا على حجر، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد، حتى أسد ثغره، وأقيم مصالحه، مما تحتاجون إليه، وتقوون به، فإن فضل شيء رددته إلى البلد الذي يليه، وهم من أحوج البلدان إليه، حتى تستقيم المعيشة بين المسلمين وتكونوا فيه سواء، ولا أجمركم في بعوثكم فتفتتنوا وتفتن أهاليكم. فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به، وإن ملت فلا بيعة لي عليكم، وإن رأيتم أحدا أقوى عليها مني فأردتم بيعته فانا أول من يبايعه، ويدخل في طاعته، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
خطب بني العباس
العتبي قال: قيل لمسلمة بن هلال العبدي، خطبنا جعفر بن سليمان الهاشمي خطبة لم يسمع أحسن منها، وما درينا أوجهه كان أحسن أم كلامه. قال: أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون، وبلسان النبوة ينطقون.
خطبة أبي العباس السفاح بالشام

(2/7)

خطب أبو العباس عبد الله بن محمد علي، لما قتل مروان بن محمد، فقال: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار، نكص بكم يا أهل الشام آل حرب، وآل مروان، يتسكعون بكم الظلم، ويتهورون بكم مداحض الزلق، يطؤون بكم حرم الله وحرم رسوله، ماذا يقول زعماؤكم غدا؟ يقولون: ربنا هؤلاء أضلونا فاتهم عذابا ضعفا من النار. إذا يقول الله عز وجل لكل ضعف ولكن لا تعلمون. أما أمير المؤمنين، فقد ائتنف بكم التوبة، واغتفر لكم الزلة، وبسط لكم الإقالة، وعاد بفضله على نقصكم، وبحلمه على جهلكم، فليفرح روعكم، ولتطمئن به داركم، ولتعظكم مصارع أوائلكم، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
خطب المنصور
خطب أبو جعفر المنصور، واسمه عبد الله بن محمد بن علي، لما قتل الأمويين فقال: أحرز لسان رأسه، انتبه امرؤ لحظه، نظر امرؤ في يومه لغده، فمشى القصد، وقال الفصل، وجانب الهجر. ثم أخذ بقائم سيفه فقال: أيها الناس، إن بكم داء هذا داؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه، فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به، فإنما بعد الوعيد الإيقاع وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله.
خطبة المنصور حين خروجه إلى الشام
شنشنة أعرفها من أخزم ... من يلق أبطال الرجال يكلم
مهلا مهلا، روايا الإرجاف، وكهوف النفاق، عن الخوض فيما كفيتم، والتخطي إلى ما حذرتم. قبل أن تتلف نفوس، ويقل عدد، ويدول عز، وما أنتم وذاك، ألم تجدوا ما وعد ربكم من إيراث المستضعفين من مشارق الأرض ومغاربها حقا والجحد الجحد. ولكن حب كامن، وحسد مكمد، فبعدا للقوم الظالمين.
وخطب أيضا
قال يعقوب بن السكيت: خطب أبو جعفر المنصور يوم جمعة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس، اتقوا الله. فقام إليه رجل فقال: أذكرك من ذكرتنا به يا أمير المؤمنين. قال أبو جعفر، سمعا سمعا لمن فهم عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه، فتأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذا، وما أنا من المهتدين. وأما أنت، والتفت إلى الرجل، فقال: والله ما الله أردت بها، ولكن ليقال قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها لو كانت العقوبة، وأنا أنذركم أيها الناس أختها، فإن الموعظة علينا نزلت، وفيناأنبتت، ثم رجع إلى موضعه من الخطبة.
خطبة للمنصور بمكة
وخطب بمكة فقال: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه، وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا، إذ شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وقسم أرزاقكم، وإذا شاء أن يقفلني عليها أقفلني، فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " أن يوفقني للرشاد والصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
خطبة لسليمان بن علي
" ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاكا لقوم عابدين. " قضاء مبرم، وقول فصل ما هو بالهزل. الحمد لله الذي صدق عبده، وأنجز وعده، وبعدا للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة عرضا، والفيء إرثا، والدين هزؤا، وجعلوا القرآن عضين، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكأين ترى من بئر معطلة وقصر مشيد، ذلك ما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد. أمهلوا حتى نبذوا الكتاب، واضطهدوا العترة، ونبذوا السنة، واعتدوا واستكبروا وخاب كل جبار عنيد، ثم أخذهم، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا.
خطبة عبد الملك بن صالح بن علي

(2/Cool

أعوذ بالته السميع العليم من الشيطان الرجيم، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها، يأهل الشام، إن الله وصف إخوانكم في الدين، وأشباهكم في الأجسام، فحذرهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة. يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أني يؤفكون " فقاتلكم الله أني تصرفون، جثث مائلة، وقلوب طائرة، تشبون الفتن، وتولون الدبر، إلا عن حرم الله، فإنها دريئتكم وحرم رسوله، فإنها مغزاكم، أما وحرمة النبوة، والخلافة لتنفرن خفافا وتقالا أو لاوسعنكم إرغاما ونكالا.
خطب صالح بن علي
يا أعضاد النفاق، وعمد الضلالة، أغركم لين إبساسي وطول إيناسي، حتى ظن جاهلكم أن ذلك لفلول حد، وفتور جد، وخور قناة، كذبت الظنون. إنها العترة بعضها من بعض، فإذ قد استمر أتم العافية، فعندي فصال وفطام، وسيف يقد الهام،! وإني أقول:
أغركم أني بأكرم شيمة ... رفيق وإني بالفواحش آخرق
ومثلي إذا لم يجزأحسن سعيه ... تكلم نعماه بفيها فتنطق
لعمري لقد فاحشتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالفحش أرفق
خطب داود بن علي بالمدينة
فقال: أيها الناس، حتام يهتف بكم صريخكم، أما آن لراقدكم أن يهب من نومه، كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، أغركم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال، هيهات منكم وكيف بكم والسوط في، كفي والسيف مشهر:
حتى يبيد قبيلة فقبيلة ... ويعض كل مثقف بالهام
ويقمن ربات الخدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام
خطبة داود بن علي بمكة وخطب داود بن علي بمكة: شكرا شكرا، والله ما خرجنا لنحفر فيكمم نهرا، ولا لنبني فيكم قصرا، أظن عدو الله أن لن نظفر إذ مد له في عنانه، حتى عثر في فضل زمامه، فالآن عاد الأمر في نصابه، وأطلعت الشمس من مشرقها، والآن حيث تولى القوس باريها، وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الأمر إلى مستقره، في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة، فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا، ولا تجعلوا النعم التي أنعم الله عليكم سببا إلى أن تبيح هلكتكم، وتزيل النعم عنكم.
خطبة للمهدي

(2/9)

الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه، ورضي به من خلقه، أحمده على الآئه، وأمجده لبلائه، وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، توكل راض بقضائه، وصابر لبلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بعد انقطاع الرجاء، وطموس العلم، واقتراب من الساعة، إلى أمة جاهلية، مختلفة أمية، أهل عداوة وتضاغن، وفرقة وتباين، قد استهوتهم شياطينهم، وغلب عليهم قرناؤهم، فاستشعروا الردى، وسلكوا العمى، يبشر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها، وينذر من عصاه بالنار وأليم عقابها، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة، وأحثكم على إجلال عظمته، وتوقير كبربائه وقدرته، والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته، وينخي، من سخطه، وينال به ما لديه من كريم الثواب، وجزيل المآب. فاجتنبوا ما خوقكم الله من شديد، لعقاب، وأليم العذاب، ووعيد الحساب، يوم توقفون بي يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار، يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون، يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا، إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، فإن الدنيا دار غرور، وبلاء وشرور، واضمحلال وزوال، وتقلب وانتقال، قد أفنت من كان قبلكم، وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم. من ركن إليها صرعته، ومن وثق بها خانته، ومن أملها كذبته، ومن رجاها خذلته، عزها ذل، وغناها فقر، والسعيد من تركها، والشقي فيها من آثرها، والمغبون فيها من باع حظه من دار أخرته بها، فالله الله عباد الله، والتوبة مقبولة، والرحمة مبسوطة، وبادروا بالأعمال الزاكية في هذه الأيام الخالية، قبل أن يؤخذ بالكظم، وتدموا فلا تقالون بالندم، في يوم حسرة وتأسف، وكابة وتلهف، يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام. إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله تبارك وتعالى: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " . أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر إلى آخر السورة، أوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه، وأرضى لكم طاعة الله، وأستغفر الله لي ولكم.
خطبة هارون الرشيد

(2/10)

الحمد لله نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه نؤمن به حقا، ونتوكل عليه مفوضين إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وإدبار من الدنيا، وإقبال من الآخرة، بشيرا بالنعيم المقيم، ونذيرا بين يدي عذاب أليم، فبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله، فأدى عن الله وعده ووعيده، حتى أتاه اليقين، فعلى النبي من الله صلاة ورحمة وسلام. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن في التقوى تكفير السيآت، وتضعيف الحسنات، وفوزا بالجنة، ونجاة من النار. وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار، وتبلى فيه الأسرار، يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاق ويوم التناد، يوم لا يستعتب من سيئة، ولا يزداد في حسنة، يوم الآزفة، إذا القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم فيه خائنة الأعين وما تخفي الصدور، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. عباد الله، إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، حصنوا إيمانكم بالأمانة، ودينكم بالورع، وصلاتكم بالزكاة، فقد جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا زكاة له. إنكم سفر مجتازون، وأنتم عن قريب تنتقلون من دار فناء إلى دار بقاء، فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة، وإلى الرحمة بالتقوى، إلى الهدى بالإنابة؛ فإن الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين، ومغفرته للتائبين، وهداه للمنيبين. قالت الله عز وجل وقوله الحق: " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤدون الزكاة " وقال: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " وإياكم والأماني، فقد غرت وأردت وأوبقت كثيرا، حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا التوبة من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، فأخبركم ربكم عن المثلات فيهم، وصرف الآيات، وضرب الأمثال، فرغب بالوعد، وقدم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم ومن بين ظهركم، لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا، وانقطعت بهم الأسباب، فاسلمتهم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب، ليجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين احسنوا بالحسنى. إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله عز وجل: " وإذا قرىء القران فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، إنه هو السميع العليم. بسم الله الرحمن الرحيم " قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد. ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد " أمركم بما أمركم الله به، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه. وأستغفر الله لي ولكم.
خطبة المأمون في يوم الجمعة

(2/11)

الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه، ومستوجبه على خلقه أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وحده، والعمل لما عنده، والتنجز لوعده، والخوف لوعيده، فإنه لا يسلم إلا من اتقاه ورجاه، وعمل له وأرضاه. فاتقوا الله عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم ويفنى، وترحلوا عن الدنيا، فقد جدبكم، واستعدوا للموت فقد اظلكم، وكونوا كقوم صيح فيهم فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثا، ولم يترككم سدى، وما بين أحدكم وبيني الجنة والنار إلا الموت أن ينزلى به؛ وإن غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة الواحدة، لجديرة بقصر المدة؛ وإن غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار؛ لجدير بسرعة الأوبة، وإن قادما يحل بالفوز أو بالشقوة لمستحق لأفضل العدة. فاتقى عبد ربه، ونصح نفسه، وقدم توبته، وغلب شهوته؛ فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية ليركبها، ويمنيه التوبة ليسوفها، حتى تهجم عليه منيته، أغفل ما يكون عنها. فيالها حسرة على كل ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجة، أو تؤديه منيته إلى شقوة. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة ربه غفلة، ولا تحل به بعد الموت فزعة، إنه سميع الدعاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فعال لما يريد.
خطبة المأمون يوم الأضحى قالت بعد التكبير والتحميد: إن يومكم هذا يوم أبان الله فضله، وأوجب تشريفه، وعظم حرمته، ووفى له من خلقه صفوته، وابتلى فيه خليله. وفدى فيه بالذبح العظيم نبيه، وجعله خاتم الأيام المعلومات من العشر، ومقدم الأيام المعدودات من النفر، يوم حرام، من أيام عظام، في شهر حرام، يوم الحج الأكبر، يوم دعا الله فيه إلى مشهده، ونزل القرآن العظيم بتعظيمه، قال الله عز وجل: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق " فتقربوا إلى الله في هذا اليوم بذبائحكم، وعظموا شعائر الله، واجعلوها من طيب أموالكم، وبصحة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " ثم التكبير والتحميد. والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والوصية بالتقوى. ثم ذكر الموت، ثم قال: وما من بعده إلا الجنة أو النار، عظم قدر الدارين، وارتفع جزاء العملين، وطالت مدة الفريقين. الله؛ فوالله إنه الجد لا اللعب، والحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والصراط والقصاص والثواب والعقاب. فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة. والشر كله في النار.
خطبة للمأمون في الفطر

(2/12)

قال بعد التكبير والتحميد: ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسنة، وابتهال ورغبة، يوم ختم الله به صيام شهر رمضان، وافتتح به حج بيته الحرام، فجلعه أول أيام شهور الحج، وجعله معقبا لمفروض صيامكم، ومتنقل قيامكم، أحل الله لكم فيه الطعام، وحرم عليكم فيه الصيام، فاطلبوا إلى الله حوائجكم، واستغفروه لتفريطكم، فإنه يقال: لا كثير مع ندم واستغفار، ولا قليل مع تماد وإصرار. ثم كبر وحمد، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى بالبر والتقوى، ثم قال: اتقوا الله عباد الله، وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم، ولم يحضر الشد فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا تستقال بعده عثرة، ولا تحظر قبله توبة، واعلموا أنه لا شيء قبله إلا دونه، ولا شيء، بعده إلا فوقه، ولا يعين على جزعه وعلزه وكربه، وعلى القبر وظلمته، وضيقه ووحشته، وهول مطلعه، ومسألة ملكيه، إلا العمل الصالح الذي أمر الله به؛ فمن زلت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقالته، ودعا من الرجعة إلى مالا يجاب إليه؛ وبذل من الفدية مالا يقبل منه. فالله الله عباد الله، كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا الأجل المبسوط لكم، فاحذروا ما حذركم الله، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه، لوضع موازينكم، ونشر صحفكم، الحافظة لأعمالكم. فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به، وما يملى في صحيفته الحافظة لما عليه وله؛ ألا فقد حكى الله لكم ما قال المفرطون عندها، إذ طال إعراضهم عنها، قال جل ذكره: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا ضرا ولا يظلم ربك أحدا " قال: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا. وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " ولست أنها كم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها يحذر منها، وينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذم كتاب الله لها والنهي عنها، فإنه يقول تبارك وتعالى: " فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور " وقال: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخز بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد " فانتفعوا بمعرفتكم بها. وبإخبار الله عنها. واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذروا مصارعها، وجانبوا خذائعها، واثروا طاعة الله فيها، وأدركوا الجنة بما يتركون منها.
خطبة عبد الله بن الزبير
حين قام بفتح افريقية:
قدم عبد الله بن الزبير علي عثمان بن عفان بفتح إفريقية، فأخبره مشافهة

(2/13)

وقص عليه كيف كانت الوقعة. فأعجب عثمان ما سمع منه، فقال له: يا بني، أتقوم بمثل هذا الكلام في الناس؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أهيب لك مني لهم. فقام عثمان في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله قد فتح عليكم إفريقية، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم خبرها إن شاء الله. وكان عبد الله بن الزبير إلى جانب المنبر، فقام خطيبا، وكان أول من خطب إلى جانب المنبر، فقال: الحمد لله الذي ألف بين قلوبنا، وجعلنا متحابين بعد البغضة، الذي لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه، له الحمد كما حمد نفسه، وكما هو أهله، انتخب محمدا صلى الله عليه وسلم، فاختاره بعلمه، وائتمنه على وحيه، واختار له من الناس أعوانا، قذف في قلويهم تصديقه ومحبته، فآمنوا به وعز روه ووقروه، وجاهدوا في الله حق جهاده، فاستشهد لله منهم من استشهد، على المنهاج الواضح، والبيع الرابح، وبقي منهم من بقي، ولا تأخذهم في الله لومة لائم. أيها الناس: رحمكم الله؛ إنا خرجنا للوجه الذي علمتم، فكنا مع وال حافظ، حفظ وصية أمير المؤمنين، كان يسير بنا الابردين، ويخفض بنافي الظهائر، ويتخذ الليل جملا، يعجل الرحلة من المنزل الجدب، ويطيل اللبث في المنزل الخصب، فلم نزل على أحسن حالة نعرفها من ربنا، حتى انتهينا إلى إفريقية، فنزلنا منها بحيث يسمعون صهيل الخيل، ورغاء الإبل، وقعقعة السلاح. فأقمنا أياما نجم كراعنا، ونصلح سلاحنا، ثم دعوناهم إلى الإسلام والدخول فيه، فأبعدوا منه؛ فسألناهم الجزية عن صغار، أو الصلح، فكانت هذه أبعد، فأقمنا عليهم ثلاث عشرة ليلة نتأناهم، وتختلف رسلنا إليهم. فلما يئس منهم، قام خطيبا فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر فضل الجهاد، وما لصاحبه إذا صبر واحتسب ثم نهضنا إلى عدونا وقاتلناهم أشد القتال، يومنا ذلك، وصبر فيه الفريقان، فكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، واستشهد لله فيهم رجال من المسلمين؛ فبتنا وباتوا، وللمسلمين دوي بالقرآن كدوي النحل، وبات المشركون في خمورهم وملاعبهم، فلما أصبحنا أخذنا مصافنا الذي كنا عليه بالأمس، فزحف بعضنا على بعض، فأفرغ الله علينا صبره، وأنزل علينا نصره؛ ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، وفيئا واسعا، بلغ فيه الخمس خسمائة ألف، فصفق عليها مروان بن الحكم، فتركت المسلمين قد قرت أعينهم وأغناهم النفل، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين أبشره وإياكم بما فتح الله من البلاد، وأذل من الشرك. فاحمدوا الله عباد الله على آلائه، وما أحل بأعدائه، من بأسه الذي لا يرده عن القوم المجرمين، ثم سكت. فنهض إليه أبوه الزبير فقبل بين عينيه وقالت: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم، يا بني: ما زالت تنطق بلسان أبي بكر حتى صمت.
خطبة عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل مصعب

(2/14)

صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم سكت، فجعل لونه يحمر مرة ويصفر مرة، فقال؛ رجل من قريش لرجل إلى جانبه: ما له لا يتكلم، فوالله إنه للبيب الخطباء قال: لعله يريد أن يذكر مقتل سيد العرب فيشتد ذلك عليه، وغير ملوم. ثم تكلم، فقال: الحمد لله له الخلق والأمر، والدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. أما بعد: فإنه لم يعز الله من كان الباطل معه، وإن كان معه الأنام طرا، ولم يذل من كان الحق معه، وإن كان فردا. ألا وإن خبرا من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا، فأما الذي أحزننا، فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه، ثم يرعوي ذوو الألباب إلى الصبر وكريم العزاء؛ وأما الذي أفرحنا، فإن قتل مصعب، له شهادة، ولنا ذخيرة، أسلمه النعام المصلم؛ الآذان. ألا وإن أهل العراق باعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه، فإن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وابن عمه، وكانوا الخيار الصالحين. إنا والله لا يموت حتفا ولكن قعصا بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان، ألا إنما الدنيا عارية من المليك الأعلى الذي لا يبيد ذكره، ولا يذل سلطانه، فإن تقبل الدنيا علي، لم آخذها أخذ الأشر البطر؛ وإن تدبر عني، لم أبك عليها بكاء الخرق المهين، ثم نزل.
خطبة زياد البتراء

(2/15)

قال أبو الحسن المدائني عن مسلمة بن محارب بن أبي بكر الهذلي قال: قدم زياد البصرة واليا لمعاوية بن أبي سفيان، وضم إليه خراسان وسجستان، والفسق بالبصرة ظاهر فاش، فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها. وقال غيره بل قال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه، اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا، أما بعد: فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والعمى الموفي بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام؛ ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير. كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب بالكريم لأهل طاعته، والعذاب العظيم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول؟ أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسسبقوا إليه، من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهار المبصر، والعدد غير قليل. ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار! قربتم القرابة، وباعدتم الذين، تعتذرون بغير العذر، وتغضون على المختلس كل امرئ يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا. ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم، كنوسا في مكانس الريب. حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله؛ لين يا غير ضعف، وشدة في غير عنف؛ وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح بالسقيم، حتى يلقى الرحل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي. من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه، فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم، وإياي ودعوي الجاهلية، فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوما غرقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا، فكفوا عني ألسنتكم وأيديكم أكف عنكم يدي ولساني، ولا يظهرن من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين قوم إحن، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإن فعل ذلك لم أنظره. فاستأنفوا أموركم، واستعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا؟ فلنا عليكم السمع والطاعة فما أحببنا، ولكم علينا العدل فما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا. واعلموا أني مهما أقصر فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبانه، ولا مجمرا لكم بعثا. فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا. ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك أسفكم، ويطول له حزنكم ولا تدركوا له حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم: أسأل الله أن يعين كلأ على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم أمرا فأنفدوه على أذلاله وايم لله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن

(2/16)

يكون من صرعاي، ثم نزل. من صرعاي، ثم نزل.
فقام إليه عبد الله بن الأهتم، فقال: أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال له كذبت، ذاك داود صلى الله عليه وسلم. فقام الأحنف بن قيس، فقال: إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نئنى حتى نبتلي. قال له زياد: صدلت. فقام أبو بلال، وهو يهمس، ويقول: أنبأنا الله تعالى بخلاف ما قلت، قال الله تعالى: " وإبراهيم الذي وفى. ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " وأنت تزعم أنك تأخذ الصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، فسمعها زياد، فقال: إنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضا.
خطبة لزياد
استوصوا بثلاث منكم خيرا: الشريف والعالم والشيخ، فوالله لا يأتيني شيخ بحدث استخف به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالم بجاهل استخف به إلا نكلت به، ولا يأتيني شريف بوضيع استخف به إلاضربته.
خطبة لزياد
خطب زياد على المنبر فقال: أيها الناس، لا يمنعكم سوء ما تعلمون عنا أن تنتفعوا بأحسن ما تستمعون منا، فإن الشاعر يقول:
اعمل بقولي وإن قصرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري
وخطبة لزياد
العتبي قال: لما شهدت الشهود لزياد، قام في أعقابهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: هذا أمر له أشهد أوله، ولا علم لي بآخره، وقد قاد أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهدت الشهود بما سمعتم. فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ضيعوا. فأما عبيد، فإنما هو والد مبرور، أو كافل مشكور.
خطبة الجامع المحاربي
وكان شيخا صالحا خطيبا لسنا، وهو الذي قال للحجاج حين بنى مدينة واسط: بنيتها في غير بلدك، وأورثتها غير ولدك شكا الحجاج سوء طاعة أهل العراق، ونقم مذهبهم، وتسخط طريقتهم، فقال جامع: أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنؤوك لنسبك، ولا لبلدك، ولا لذات نفسك؛ فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك، والتمسى العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيك، ووعيدك بعد وعدك. قال الحجاج: إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف. قال له: أيها الأمير، إن السيف إذ لاقى السيف ذهب الخيار. قال الحجاج: الخيار يومئذ لله. قال: أجل، ولكن لا تدري لمن يجعله الله. وغضب الحجاج فقال: يا هناه إنك من محارب. فقال جامع:
وللحرب سمينا وكنا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا
والبيت للخضري قال الحجاج: والله لقد هممت أن أقطع لسانك فأضرب به وجهك. قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله. قال: أجل. وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع، فمر بين صفوف خيل الشام حتى جاوزهم إلى خيل أهل العراق - وكان الحجاج لا يخلطهم - فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق وقيس العراق وتميم العراق وأزد العراق، فلما رأوه اشرأبوا إليه وبلغهم خروجه، فقالوا له: ما عندك؟ دافع الله لنا عن نفسك. فقال: ويحكم! عموه بالخلع كما يعمكم بالعداوة، ودعوا التعادي ما عاداكم، فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم. أيها التميمي، هو أعدى لك من الأزدي، وأيها القيسي، هو أعدى لك من التغلبي، وليس يظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه. وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، فاستجار بزفر بن الحارث.
خطبة للحجاج بن يوسف
خطب الحجاج فقال: اللهم أرني الغي غيا فأجتنبه، وأرني الهدى هدى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالا بعيدا. والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء.
خطبة للحجاج
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:11 pm

قال الهيثم بن عدي: خرج الحجاج بن يوسف يوما من القصر بالكوفة، فسمع تكبيرا في السوق، فراعه ذلك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق، وبني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفقع بالقرقرة، إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله، وإنما يراد به الشيطان، وإنما مثلي ومثلكم ما قال ابن براق الهمداني:
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم
متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم
أما والله لا تقرع عصا بعصاي إلا جعلتها كأمس الدابر.
خطبة للحجاج بعد دير الجماجم
خطب أهل العراق فقال: يأهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم، الدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاد والشغاف، ثم أفضى إلى المخاخ والصمائخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باض وفرخ، فحشاكم شقاقا ونفاقا، وأشعركم خلافا؛ اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤامرا تستشيرونه. وكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو يردكم إيمان! ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لو إذا وتنهزمون سراعا، ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليه عنكم؛ إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح، وقصمتكم الرماح؛ ثم يوم دير الجماجم، وما دير الجماجم! بها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله. يأهل العراق، والكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوات بعد النزوات، إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون حسنة ولا تشكرون نعمة. يأهل العراق، هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع، إلا وثقتموه واويتموه وعزرتموه ونصرتموه ورضيتموه؛ يأهل العراق، هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو ذمق ناعق، أو زفر زافر، إلاكنتم أتباعه وأنصاره؟ يأهل العراق، ألم تنهكم المواعظ، ألم تزجركم الوقائع؟ ثم التفت إلى أهل الشام فقال: يأهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم الذاب عن فراخه، ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويكنها عن المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذئاب. يأهل الشام، أنتم الجنة والرداء، وأنتم الغدة والحذاء.
خطبة للحجاج
قال مالك بن دينار: غدوت لجمعة فجلست قريبا من المنبر، فصعد الحجاج، ثم قال: امرؤ حاسب نفسه، امرؤ راقب ربه، امرؤ زور عمله، امرؤ فكر فيما يقرؤه غدا في صحيفته، ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند همه ذاكرا، وعند هواه زاجرا، امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى حق تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفه. إننا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننتقل من دار إلى دار.
خطبة للحجاج بالبصرة
اتقوا الله ما استطعتم، فهذه لله وفيها مثوبة. ثم قال: واسمعوا واطيعوا، فهذه لعبد الله وخليفة الله وحبيب الله عبد الملك بن مروان. والله لو أمرت الناس ان يأخذوا في باب واحد وأخذوا في باب غيره لكانت دماؤهم لي حلالا من آلفه، ولو قتل ربيعة ومضر لكان لي حلالا. عذيري من هذه الحمراء، يرمي أحدهم بالحجر إلى السماء ويقول: يكون إلى أن يقع هذا خير. والله لأجعلنهم كأمس الدابر. عذيري من عبد، هذيل، إنه زعم أنه آمن عند الله، يقرأ القرآن كأنه رجز الأعراب والله لو أدركته لقتلته.
خطبة للحجاح بالبصرة

(2/18)

حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله كفانا مئونة الدنيا، وأمرنا بطلب الآخرة، فليت الله كفانا مؤونة الآخرة، وأمرنا بطلب الدنيا. ما لي أرى علماءكم يدهنون، وجهالكم لا يتعلمون، وشراركم لا يتوبون! ما لي أراكم تحرصون على ما كفيتم، تضيعون ما به أمرتم! إن العلم يوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء. ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس: الذين لا يقرءون القرآن إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا. ألا وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر. ألا وإن الآخرة أجل مستأخر، يحكم فيه ملك قادر. ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم ملاقوه، ليجزي الذين أساءووا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر كفه بحذافيره في النار، ألا وإن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وأستغفر الله لي ولكم.
خطبة للحجاج
خطب الحجاج أهل العراق فقال: يأهل العراق، إني لم أجد لكم دواء أدوى لدائكم من هذه المغازى والبعوث، لولا طيب ليلة الإياب، وفرحة القفل، فإنها تعقب راحة؛ وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم ولا الراحة بكم. وما أراكم إلا كارهين لمقالتي، وإني والله لرؤيتكم أكره. ولولا ما أريد من تنفيذ طاعة أمير المؤمنين فيكم ما حملت نفسي مقاساتكم، والصبر عليى النظر إليكم، والله أسأل حسن العون عليكم، ثم نزل.
خطبة للحجاج حين أراد الحج
يأهل العراق، إني أردت الحج، وقد استخلفت عليكم ابني محمدا، وما كنتم له بأهل، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانصار؛ فإنه أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم؟ وأنا أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم. ألا وإنكم قائلون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي، تقولون: لا أحسن الله له الصحابة. وإني أعجل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافه، ثم نزل.
خطبة للحجاج
قال: خرج الحجاج يريد العراق واليا عليها في اثني عشر راكبا على النجائب، حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار، وقد كان بشر بن مروان بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو ملثم بعمامة حمراء، فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خوارج، فهموا به، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام، ثم كشف عن وجهه، ثم قال:
أنا ابن جل أو طلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
صليب العود من سلفي رباح ... كنصل السيف وضحاح الجبين
وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدي ... ونجذني مداورة الشئون
وإني لا يعود إلي قرني ... غداة العبء إلا في قرين
أما والله إني لا حمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإني؛ أنظر إلى، الدماء بين العمائم واللحى تترقرق:
قد شمرت عن ساقها فشمرى
ثم قال:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولابجزار على ظهر وضم
ثم قال:
قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشدوا ... ما علتي وأنا شيخ إد
والقوس فيها وتر عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد

(2/19)

إني والله يأهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق، لا يغمز جانبي كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فرزت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وأجريت إلى الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين نثر كنانته بين يديه، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرها عودا، وأشدها مكسرا، فوجهني إليكم، ورماكم بي، فإنه قد طالما أوضعتم في الفتن، وسننتم سنن الغي، وايم الله لألحونكم لحو العصا، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. أما والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت. وإياي وهذه الشفعاء والزرافات والجماعات، وقالا وقيلا، وما يقولون، وفيم أنتم وذاك؛ الله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده، من وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وانتهبت ماله، وهدمت منزله، فشمر الناس بالخروج إلى المهلب. فلما رأي المهلب ذلك قال: لقد ولي العراق خير ذكر
خطبة الحجاج فلما مات عبد الملك
قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى نعى نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى نفسه فقال: " إنك ميت وإنهم ميتون " وقال: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم " فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات الخلفاء الراشدون المهتدون المهديون، منهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان الشهيد المظلوم، ثم تبعهم معاوية، ثم وليكم البازل الذكر، الذي جربته الأمور، وأحكمته التجارب، مع الفقه، وقراءة القرآن، والمروءة الظاهرة، واللين لأهل الحق، والوطء لأهل الزيغ، فكان رابعا من الولاء المهذيين الراشدين، فاختار الله له مما عنده، وألحقه بهم، وعهد إلى شهه في العقل والمروءة والحزم والجلد والقيام بأمر الله وخلافته، فاسمعوا له وأطيعوه أيها الناس. وإياكم والزيغ، فإن الزيغ لا يحيق إلا بأهله. ورأيتم سيرتي فيكم، وعرفت خلافكم، وقبلتكم على معرفتي بكم، ولو علمت أن أحدا أقوى عليكم مني أو أعرف بكم ما وليتكم، فإياي وإياكم، من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غما، ثم نزل.
خطبة الحجاج لما أصيب بولده محمد
وأخيه محمد:
أيها الناس، محمدان في يوم واحد، أما الله لقد كنت أحب أنهما معي في الدنيا، مع ما أرجو لهما من ثواب الله يا الآخرة، وايم الله، ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يفني، والجديد منا ومنكم أن يبلى، والحي منا ومنكم أن يموت، وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها؛ فتأكل من لحومنا، وتشرب من دمائنا، كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها، ثم يكون كما قال الله: " ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون " ثم تمثل بهذين البيتين:
عزائي نبي الله من كل ميت ... وحسبي ثواب الله من كل هالك
إذا ما لقيت الله عني راضيا ... فإن سرور النفس فيما هنالك
خطب الحجاج في يوم جمعة فأطال الجمعة، فقام إليه رجل فقال: إن الوقت لا ينتظرك، والرب لا يعذرك. فأمر به إلى الحبس. فأتاه آل الرجل وقالوا: إنه مجنون، فقال: إن أقر على نفسه بما ذكرتم خليت سبيله. فقال الرجل: لا والله، لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني.
خطبة للحجاج
ذكروا أن الحجاج مرض ففرح أهل العراق، وقالوا: مات الحجاج. فلما بلغه، تحامل حتى صعد المنبر فقال: يأهل الشقاق والنفاق، نفخ إبليس في مناخركم فقلتم: مات الحجاج، مات الحجاج. فمه، والله ما أحب ألا أموت، وما أرجو الخير كله إلا بعد الموت، وما رأيت الله عز وجل كتب الخلود لأحد من خلقه إلا لأهونهم عليه، إبليس. ولقد رأيت العبد الصالح سأل ربه وقال: رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب. ففعل، ثم اضمحل كأن لم يكن.
وخطبة للحجاج

(2/20)

خطب فقال في خطبته: سوطى سيفي، ونجاده في عنقي، وقائمه في يدي، وذبابه قلادة لمن اغتر بي. فقال الحسن: بؤسا لهذا، ما أغره بالله! وحلف رجل بالطلاق: إن الحجاج في النار، ثم أتي زوجته، فمنعته نفسها، فأتى ابن شبرمة يستفتيه، فقال: يا بن أخي، امض فكن مع أهلك، فإن الحجاج إن لم يكن من أهل النار، فلا يضرك أن تزني. هذا ما ذكرنا في كتابنا من الخطب للحجاج، وما بقي منها فهي مستقصاة في كتاب اليتيمة الثانية، حيث ذكرت أخبار زياد والحجاج، وإنما مذهبنا في كتابنا هذا أن نأخذ من كل شىء أحسنه، ونحذف الكثير الذي يجتزأ منه بالقليل.
خطبة لطاهر بن الحسين
لما افتتح مدينة السلام صعد المنبر، وأحضر جماعة من بني هاشم والقواد وغيرهم فقال: الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ولا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين. إن ظهور غلبتنا لم يكن عن أيدنا ولا كيدنا، بل اختار الله لخلافته، إذ جعلها عمودا لدينه وقواما لعباده، من يستقل بأعبائها، ويضطلع بحملها.
خطبة لعبد الله بن طاهر
خطب الناس وقد تيسر لقتال الخوارج، فقال: إنكم فئة الله المجاهدون عن حقه، الذابون عن دينه، الذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به من الاعتصام بحبله، والطاعة لولاة أمره، الذيغي جعلهم رعاة الذين، ونظام المسلمين، فاستنجزوا موعود الله ونصره بمجاهدة عدوه وأهل معصيته، الذين أشروا وتمردوا، وشقوا العصا، وفارقوا الجماعة، ومرقوا من الدين، وسعوا في الأرض فسادا، فإنه يقول تبارك وتعالى: " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " عفليكن الصبر معقلكم الذي إليه تلجئون، وعدتكم التي بها تستظهرون، فإنه الوزر المنيع، الذي دلكم الله عليه، والجنة الحصينة التي أمركم الله بلباسها. غضوا أبصاركم، واخفتوا أصواتكم في مصافكم، وامضوا قدما على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله، والاستعانة به، كما أمركم الله، فإنه يقوك: " إذا لقيتم فئة فاثبتوا وأذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون. أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحياطة والنصر.
خطبة لقتيبة بن مسلم
قام بخراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أتدرون من تبايعون؟ إنما تبايعون يزيد بن مروان - يعني هبنقة القيسي - كأني بكم، وحكم جائر قد أتاكم يحكم في أموالكم ودمائكم وفروجكم وأبشاركم. ثم قال: الأعراب! وما الأعراب! لعن الله الأعراب! جمعتهم كما يجمع فرخ الخربق من منابت الشيح والقيصوم والفلفل، يركبون البقر ويأكلون الهبيد. فحملتهم على الخيل وألبستهم السلاخ، حتى منع الله بهم البلاد، وجبي بهيم الفيء. قالوا: مرنا بأمرك. قال: غروا غيري.
خطبة لقتيبة بن مسلم
يأهل العراق، ألست أعلم الناس بكم. أما هذا الحي من أهل العالية فنعم الصدقة؛ وأما هذا الحي من بكر بن وائل، فعلجة بظراء لا تمنع رجليها؛ وأما هذا الحي من عبد القبس، فما ضرب العير بذنبه؛ وأما هذا الحي من الأزد، فعلوج خلق الله وأنباطه. وايم الله، لو ملكت أمر الناس لنقشت أيديهم؛ وأما هذا الحي من تميم، فإنهم كانوا يسمون الغدر في الجاهلية كيسان.
وقال الشاعر:
إذا كنت من سعد وخالك منهم ... بعيدا فلا يغررك خالك من سعد
إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد
وخطبة لقتيبة بن مسلم
يأهل خراسان، قد جربكم الولاة قبلي، أتاكم أمية فكان كاسمه، أمية

(2/21)

الرأي، وأمية الدين، فكتب إلى خليفته: إن خراج خراسان لو كان في مطبخه لم يكفه. ثم أتاكم بعده، أبو سعيد ثلاثا، لا تدرون أفي طاعة الله أنتم أم في معصيته! ثم لم يجب فيئا، ولم يبل عدوا، ثم أتاكم بنوه بعده مثل أطباء الكلبة، منهم ابن دحمة؛ حصان يضرب في عانة؛ لقد كان أبوه يخافه على أمهات أولاده. ثم أصبحتم وقد فتح الله عليكم البلاد، حتى إن الظعينة لتخرج من مرو إلى سمرقند في غير جوار.
قوله: أبو سعيد، يريد المهلب بن أبي صفرة، وقوله: ابن دحمة، يريد يزيد بن المهلب.
خطبة ليزيد بن المهلب
حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، إني أسمع قول الرعاع: قد جاء العباس، قد جاء مسلمة، قد جاء أهل الشام. وما أهل الشام إلا تسعة أسياف، منها سبعة معي، واثنان علي؛ وما مسلمة إلا جرادة صفراء؛ وأما العباس، فبسطوس بن بسطوس، أتاكم في برابرة، وصقالبة وجرامقة وأقباط وأنباط وأخلاط، أقبل إليكم الفلاحون والأوباش كأشلاء اللحم، والله ما لقوا قط حدا كحدكم، ولا حديدا كحديدكم. أعيروني سواعدكم ساعة من نهار، تصفقون بها خراطيمهم، فإنما هي غدوة أو روحة، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
خطبة لقس بن ساعدة الأيادي
ابن عباس قال: قديم وفد إياد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيكم يعرف قسي بن ساعدة الإيادي؛ قالوا: كلنا يعرفه. قال: فما فعل؟ قالوا: هلك. قال: ما أنساه بسوق عكاظ في الشهر الحرام على جمل له أحمر وهو يخطب الناس، ويقول؛ اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، سحائب تمور، ونجوم تغور، لا فلك يدور، ويقسم قسق قسما، إن لله لدينا هو أرضى من دينكم هذا. ثم قال: مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، أيكم يروي من شعره؟ فأنشد بعضهم:
في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
خطبة لعائشة أم المؤمنين
رحمها الله يوم الجمل:
قالت: أيها الناس، صه صه، إن لي عليكم حرمة الأمومة، وحق الموعظة، لا يتهمني إلا من عمى ربه، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، فأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادخرني ربي، وخلصني من كل بضع، وبي ميز مؤمنكم من منافقكم، وبي أرخص الله لكم في صعيد الأبواء، ثم أبي ثاني اثنين الله ثالثهما، وأول من سمي صديقا. مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم راضيا عنه، وطوقه أعباء الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين بعده فمسك أبي بطرفيه، ورتق لكم فتق النفاق، وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشت يهود، وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون العدوة، وتسمعون الصيحة، فرأب الثأي، وأود من الغلظة، وامتاح من الهوة، حتى اجتحى دفين الداء، وحتى أعطن الوارد، وأورد الصادر، وعل الناهل، فقبضه الله إليه واطئا على هامات النفاق، مذكيا نار الحرب على المشركين، فانتظمت طاعتكم بحبله، فولى أمركم رجلا مرعيا إذ ركن إليه، بعيدا ما بين اللابتين إذا ضل، عركة للأذاة بجنبه، صفوحا عن أذى الجاهلين، يقظان الليل في نصرة الإسلام، فسلك مسلك السابقيه، ففرق شمل الفتنة، وجمع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصب المسألة عن مسيري هذا، لم ألتمس إثما، ولم أؤرث فتنة أوطئكموها. أقول قولي هذا صدقا وعدلا، وإعذارا وإنذارا، وأسأل الله أن يصلي على محمد وأن يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين.
خطبة لعبد الله بن مسعود

(2/22)

أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى أكرم الملل ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم. خير السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، شر الأمور محدثاتها، وخير الأمور أوساطها. ما قل وكفى، خير مما كثر وألهى. لنفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها. خير الغنى غنى النفس. خير ما ألقي في القلب اليقين. الخمر جماع الآثام. النساء حبائل الشيطان. الشباب شعبة من الجنون. حب الكفاية مفتاح المعجزة. شر الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبرا، ولا يذكر الله إلا هجرا سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية. من يتأال على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له. مكتوب في ديوان المحسنين: من عفا عفي عنه. الشقي شقى في بطن أمه. السعيد من وعظ بغيره. الأمور بعواقبها. ملاك الأمر خواتمه. أحسن الهدى هدى الأنبياء. أقبح الضلالة الضلالة بعد الهدى. أشرف الموت الشهادة. من يعرف البلاء ويصبر عليه، ومن لا يعرف البلاء ينكره.
خطبة لعتبة بن غزوان بعد فتح الأبلة
حمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن الدنيا قد تولت وقد أذنت أهلها منها بصرم، وإنما بقي منها صبابة كصبابة الإناء يصطبها صاحبها. ألا وإنكم مفارقوها لا محالة، فارقوها بأحسن ما يحضركم. ألا وإن من العجب أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحجر الضخم يرمى به في شفير جهنم فيهوي قي النار سبعين خريفا، ولجهنم سبعة أبواب، بين كل بابين منها مسيرة خمسمائة عام، وليأتين عليها ساعة ولها كظيظ بالزحام. ولقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، ما لنا طعام إلا ورق البشام، حتى قرحت أشداقنا، فوجدت أنا وسعد بن مالك تمرة فشققتها بيني وبينه نصفين، وما منا أحد اليوم إلا وهو أمير على مصر. انه لم تكن نبوة قط إلا تناسخت، وأنا أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما، وفي أعين الناس صغيرا.
خطبة لعمرو بن سعيد الأشرق
لما عقد معاوية ليزيد البيعة قام الناس يخطبون، فقال لعمرو بن سعيد: قم يا أبا أمية. فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن يزيد بن معاوية أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، إن استضفتم إلى حلمه وسعكم، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أغناكم؛ جذع قارح، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع، فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه. فقال له له معاوية: أوسعت أبا أمية، فاجلس.
خطبة لعمرو بن سعيد بالمدينة
قال أبو الفضل، العباس بن الفرج الرياشي: حدثنا ابن عائشة قال: قدم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق المدينة أميرا، فخرج إلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعد عليه وغمض عينيه، وعليه جبة خز قرمز، ومطرف خز قرمز، وعمامة خز قرمز. فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجابا بها. ففتح عينيه فإذا الناس ينظرون إليه، فقال: ما بالكها بأهل المدينة ترفعون إلي أبصاركم، كأنكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم! أغركم أنكم فعلتم ما فعلتم فعفونا عنكم! أما إنه لو أثبتم بالأولى ما كانت الثانية. أغركم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرنا منا رفيقا، قد فني غضبه، وبقي حلمه! اغتنموأ أنفسكم فقد والله ملكناكم بالشباب المقتبل، البعيد الأمل، الطويل الأجل، حين فرغ من الصغر، ودخل في الكبر، حليم حديد، لين شديد؛ رقيق كثيف، رفيق عنيف، حين اشتد عطمه، واعتدل جسمه؛ ورمى الدهر ببمره، واستقبله بأشره؛ فهو إن عض نهس، وإن سطا فرس؛ لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا، رلا يمشي السمهى. قال: فما بقي بعد ذلك إلا ثلاث سنين وثمانية أشهر حتى قصمه الله.
خطبة لعمرو بمكة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:13 pm

العتبي قال؟ استعمل سعيد بن العاص وهو وال على المدينة ابنه عمرو بن سعيد واليا على مكة، فلما قدم لم يلقه قرشي ولا أموي إلا أن يكون الحارث بن نوفل، فلما لقيه قال له: يا حار، ما الذي منع قومك أن يلقوني كما لقيتني؟ قال: ما منعهم من ذلك إلا ما استقبلتنى به، والله ما كنيتني ولا أئممت اسمي، وإنما أنهاك عن التكبر على أكفائك، فإن ذلك لا يرفعك عليهم ولا يضعهم لك. قال، والله ما أسأت الموعظة ولا أتهمك على النصيحة، وإن الذي رأيت مني لخلق. فلما دخل مكة قام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، معشر أهل مكة، فإنا سكناها حقبة، وخرجنا عنها رغبة، وكذاسك كنا إذا رفعت لنا لهوة بعد لهوة أخذنا أسناها ونزلنا أعلاها؛ ثم شدخ أمر أمرين، فقتلنا وقتلدنا؛ فوالله ما نزعنا ولا نزع عنا، حتى شرب الدم دما، وأكل اللحم لحما، وقرع العظم عظما، فولي رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة الله إياه، واختياره له؟ ثم ولي أبو بكر لسابقته وفضله؛ ثم ولي عمر، ثم أجيلت قداح نزعن من شعب حول نبعة، ففاز بحظها أصلبها وأعتقها، فكنا بعض قداحها، ثم شدخ أمر بين أمرين، فقتلنا وقتلنا، فوالله ما نزعنا ولا نزع عنا حتى شرب الدم دما، وأكل اللحم لحما، وقرع العظم عظما، وعاد الحرام حلالا، وأسكت كل ذي حس عن ضرب مهند، عركا عركا، وعسفا عسفا، ووخزا ونهسا، حتى طابوا عن حقنا نفسا. والله ما أعطوه عن هوادة، ولا رضوا فيه بالقضاء، أصبحوا يقولون: حقنا غلبنا عليه، فجزينا هذا بهذا وهذا في هذا. يأهل مكة، أنفسكم أنفسكم، وسفهاءكم سفهاءكم، فإن معي سوطا نكالا، وسيفا وبالا، وكل مصبوب على أهله، ثم نزل.
خطبة للأحنف بن قيس
قال بعد حمد الله والثناء عليه: يا معشر الأزد وربيعة، أنتم! إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو. والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام، فإن استشرى شنانكم، وأبى، حسد صدوركم، ففي أحلامنا وأموالنا سعة لنا ولكم.
خطبة ليوسف بن عمر
قام خطيبا فقال: اتقوا الله عباد الله، فكم مؤمل أملا لا يبلغه، وجامع مالا لا يأكله، ومانع، عما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه. أصابه حراما، وأورثه عدوا حلالا بم فاحتمل إصره، وباء بوزره، وورد على ربه أسفا لهفا، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
خطبة لشداد بن أوس الطائي
حمد الله وأثنى عليه وقال: ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر.
ألا إن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر. ألا إن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا إن الشر كله بحذافيره في النار. فاعملوا ما عملتم وأنتم في يقين من الله، واعلموا أنكم معروضة أعمالكم على الله، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وغفر الله لنا ولكم.
خطبة لخالد بن عبد الله القسري
صعد المنبر يوم جمعة وهو والي مكة فذكر الحجاج فأحمد طاعته وأثنى عليه خيرا. فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشتم الحجاج وذكر عيوبه وإظهار البراءة منه. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال؟ إن إبليس كان ملكا من الملائكة، وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلا، وكان الله قد علم من غشه وخبثه ما خفي على ملائكته فلما أراد الله فضيحته ابتلاه بالسجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه؟ وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلا، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي عنا، فلما أراد فضيحته أجرى ذلك على يد أمير المؤمنين، فالعنوه، لعنه الله.

(2/24)

خطبة لمصعب بن الزبير
قدم العراق فصعد المنبر ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم: طسم، تلك آيات الكتاب المبين، نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف، طائفة منهم، يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين - وأشار بيده نحو الشام ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين - وأشار بيده نحو الحجاز - ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون - وأشار بيده نحو العراق.
خطبة للنعمان بن بشير بالكوفة
قال: إني والله ما وجدت مثلي ومثلكم إلا الضبع والثعلب، أتيا الضب في حجره، فقالا: أبا حسل؟ قال؟ أجبتكما؟ قالا: جئناك نختصم؛ قال: في بيته يؤتى الحكم؛ قالت الضبع: فتحت عيني؛ قال: فعل النساء فعلت؛ قالت: فلقطت تمرة؛ قال: حلوا اجتنيت؟ قالت: فاختطفها ثعالة؛ قال: لنفسه بغى الخير؛ قالت: فلطمته لطمة؛ قال: حقا قضيت؛ قالت: فلطمني أخرى، قال: كان حرا فانتصر؛ قالت: فاقض الآن بيننا؛ قالت: حدث امرأة حديثين، فإن أبت فاربع، أي اسكت.
خطبة شبيب بن شيبة
قيل لبعض الخلفاء إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعد له، فإن أمرته أن يصعد المنبر لرجوت أن يفتضح. قال: فأمر رسولا فأخذ بيده إلى المسجد فلم يفارقه حتى صعد المنبر، فحمد لله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم حق الصلاة عليه، ثم قال: ألا إن لأمير المؤمنين أشباها أربعة: الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر. فأما الأسد الخادر، فأشبه منه صولته ومضاءه؛ وأما البحر الزاخر، فأشبه منه جوده وعطاءه؛ وأما القمر الباهر، فأشبه منه نوره وضياءه؛ وأما الربيع الناضر، فأشبه منه حسنه وبهاءه، ثم نزل عن المنبر، وأنشأ يقول:
وموقف مثل حد السيف قمت به ... أحمي الذمار وترميني به الحدق
فما زلقت وما ألقيت كاذبة ... إذا الرجال على أمثاله زلقوا
خطبة لعتبة بن أبي سفيان
بلغه عن أهل مصر شيء فأغضبه، فقام فيهم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يأهل مصر، إياكم أن تكونوا للسيف حصيدا، فإن الله فيكم ذبيحا بعثمان، أرجو أن يوليني الله نسكه. إن الله جمعكم بأمير المؤمنين بعد الفرقة، فأعطى كل ذي حق حقه، وكان والله أذكركم إذا ذكر بخطة، وأصفحكم بعد المقدرة عن حقه، نعمة من الله فيكم، ومنة منه عليكم. وقد بلغنا عنكم نجم قول أظهره تقدم عفو منا، فلا تصيروا إلى وحشة الباطل بعد أنس الحق، بإحياء الفتن، وإماتة السنن، فأطأكم والله وطأة لا رمق معها، حتى تنكروا مني ما كنتم تعرفون، وتستخشنوا ما كنتم تستلينون، وأنا أشهد عليكم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
خطبة لعتبة بن أبي سفيان
يا حاملي الأم أنوف ركبت بين أعين، إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاحكم إذ كان فسادك! راجعا عليكم، فأما إذ أبيتم إلا الطعن على الولاة، والتنقص للسلف، فوالله لاقطعن على ظهوركم بطون السياط، فإن حسمت داءكم، وإلا فالسيف من ورائكم. ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم لنا بالمعصية، ولا أؤيسكم من مراجعة الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى.
خطبة لعتبة بن أبي سفيان

(2/25)

لما اشتكى شكاته التي مات فيها تحامل إلى المنبر، فقال: يأهل مصر، لا غنى عن الرب، ولا مهرب من ذنب! إنه قد تقدمت مني إليكم عقوبات كنت أرجو يومئذ الأجر فيها، وأنا أخاف اليوم الوزر منها، فليتني لا أكون اخترت دنياي على معادي، فأصلحتكم بفسادي. وأنا أستغفرالله منكم، وأتوب إليه فيكم؛ فقد خفت ما كنت أرجو نفعا عليه، ورجوت ما كنت أخاف اغتيالا به، وقد شقي من هلك بين رحمة الله وعقوبته، والسلام عليكم سلام من لا ترونه عائدا إليكم. قال: فلم يعد.
وخطبة لعتبة
العتبي: قال سعد القصر: احتبست عنا كتب معاوية بن أبي سفيان حتى أرجف أهل مصر بموته، ثم قدم علينا كتابه بسلامته، فصعد عتبة المنبر والكتاب في يده، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح، وظبات السيوف، حتى صرنا شجى في لهواتكم ما تسيغه حلوقكم، وأقذاء في أعينكم ما تطرف عليها جفونكم. أفحين اشتدت عرى الحق عليكم عقدا، واسترخت عقد الباطل عنكم حلا، أرجفتم بالخليفة، وأردتم تهوين الخلافة، وخضتم الحق إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديث، فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم، فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السار عنه والعهد القريب منه، واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر ونكلكم إلى الله فيما بطن، واظهروا خيرا وإن أضمرتم شرا، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله أتوكل وبه أستعين. ثم نزل.
خطبة لعتبة في الموسم
سعد القصر مولى عتبة بن أبي سفيان قالت: دفع عتبة بن أبي سفيان بالموسم سنة إحدى وأربعين، والناس حديث عهدهم بالفتنة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضاعف الله فيه للمحسنين الأجر، وللمسيئين الوزر، ونحن على طريق ما قصدنا له، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع من دوننا، ورب متمن، حتفه في أمنيته. اقبلونا ما قبلنا العافية فيكم وقبلناها منكم، وإياكم ولو، فإن لو قد أتعبت من قبلكم ولم ترح من بعدكم، فأسأل الله أن يعين كلا على كل.
فناداه أعرابي من ناحية المسجد: أيها الخليفة، قال: لست به ولم تبعد؛ فقال: يا أخاه؛ فقال: سمعت فقل؛ فقال: والله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير لكم من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم فما أحقكم بإستتمامه، وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا؛ رجل من بنى عامر بن صعصة يتلقاكم بالعمومة، ويختص إليكم بالخؤولة، وقد كثر عياله، ووطئه زمانه، وبه فقر، وفيه أجر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستغفر الله منكم، وأسأله العون عليكم، ولد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.
وخطبة لعتبة بن أبي سفيان
سعد القصر قال: وجه عتبة بن أبي سفيان ابن أخي أبي الأعور السلمي إلى مصر، فمنعوه الخراج، فقدم عليه عتبة فقام خطيبا فقال: يأهل مصر، قد كنتم تعتذرون لبعض المنع منكم ببعض الجور عليكم، فقد وليكم من يقول ويفعل، ويفعل ويقول، فإن رددتم ردكم بيده، وإن استصعبتم ردكم بسيفه، ثم رجا في الأخر ما أمل في الأول. إن البيعة مشايعة، فلنا عليكم السمع والطاعة، ولكم علينا العدل، فأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه، والله ما انطلقت بها ألسنتنا حتى عقدت عليها قلوبنا، ولا طلبناها منكم حتى بذلناها لكم ناجزا بناجز، ومن حذر كمن بشر. قال: فنادوه: سمعا وطاعة، فناداهم. عدلا عدلا.
خطبة لعتبة

(2/26)

قدم كتاب معاوية إلى عتبة بمصر: إن قبلك قوما يطعنون على الولاة، ويعيبون السلف. فخطبهم فقال: يأهل مصر، خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه، وذم الباطل وأنتم تأتونه، كالحمار يحمل أسفارا، وأثقله حملها، ولم ينفعه علمها، وايم الله، لا أداويكم بالسيف ما صلحتم على السوط، ولا أبلغ بالسوط ما كفتني الدرة، ولا أبطى عن الأولى ما لم تسرعوا إلى الأخرى، فالزموا ما أمركم الله به تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وإياكم وقال ويقول، قبل أن يقال فعل ويفعل، وكونوا خير قوس سهما، فهذا اليوم الذي ليس قبله عقاب، ولا بعده عتاب.
خطب الخوارج
خطبة قطري بن الفجاءة في ذم الدنيا
صعد قطري بن الفجاءة منبر الأزارقة، وهم أحد بني مازن بن عمرو بن تميم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وغمرت بالآمال، وتحلت بالأماني، وأزينت بالغرور، لا تدوم خضرتها، ولا تؤمن فجعتها، غدارة ضرارة، وحائلة زائلة، ونافدة بائدة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله عز وجل: " كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرأ " مع أن أمرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا، ولم تطله منها ديمة رخاء، إلا هطلت عليه مزنة بلاء؛ وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر عليه منها جانب فأوبى، وإن لبس امرؤ من غضارتها ورفاهيتها نعما، أرهقته من نوائبها غما، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن، إلا أصبح منها على قوادم خوف. غرارة عرور ما فيها، فانية فان ما عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى، من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه. كم واثق بها قد فجعته، وذي طمائينة إليها قد صرعته، وكم من ذي، اختيال فيها قد خدعته، وكم من، ذي أبهه فيها قد صيرته حقيرا، وذي نخوة فيها قد ردته ذليلا، وذي تاج قد كبته لليدين والفم. سلطانها دول، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها مر

(2/27)

وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام، وقطافها سلع. حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام. مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وصحيحها وسليمها منكوب، وحائزها وجامعها محروب، مع أن من وراء ذلك سكرات الموت وزفراته، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألستم في مساكن من كان منكم أطول أعمارا، وأوضح آثارا، وأعد عديدا، وأكثف جنودا، وأعمد عتادا، وأصول عمادا! تعبدوا للدنيا أي تعبد، وأثروها أفي إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصغار! فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، وأغنت عنهم فيما قد أملتهم به بخطب! بل أثقلتهم بالفوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر، وأعانت عليهم ريب المنون، وأرهقتهم بالمصائب. وقد رأيتم تنكرها لمن دان لها وأثرها وأخلد إليها، حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد، إلى آخر الأمد. هل زؤدتهم إلا الشقاء، وأحفتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا بالظلمة، وأعقبتهم إلا الندامة! أفهذه تؤثرون، أو على هذه تحرصون، أو إليها تطمئنون! يقوله الله تبارك وتعالى: " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون " فبئست الدار لمن لم يتهمها، ولم يكن فيها على وجل منها. اعلموا، وأنتم تعلمون، أنكم تاركوها لا بد، فإنما هي كما نعت الله عز وجل: " لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد " فاتعظوا فيها بالذين قال الله تعالى فيهم: أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وبالذين قالوا: من أشد مناقوة. واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حملوا إلى قبورهم، فلا يدعون ركبانا، وانزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الضريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران، فهم جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما. إن أخصبوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا، جمع وهم آحاد، جيرة وهم أبعاد، متناءون يزارون ولا يزورون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجي دفعهم، وهم! كمن لم يكن. قال الله تعالى: " فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين " استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالآل غربة، وبالنور ظلمة، فجاءوها حفاة عراة فرادى، غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، إلى خلود الأبد. يقول الله تبارك وتعالى: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين. فاحذروا ما حذركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإياكم بطاعته، ورزقنا وإياكم أداء حقه، ثم نزل.
خطبة لأبي حمزة بمكة

(2/28)

خطبهم أبو حمزة الشاري بمكة. فصعد المنبر متوكئا على قوس عربية، فخطب خطبة طويلة، ثم قال: يأهل مكة، تعيرونني بأصحابي، تزعمون أنهم شباب، وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابا! نعم الشباب مكتهلين، عمية عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم. قد نظر الله إليهم في آناء الليل منثنية أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكي شوقا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه. قد وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم، أنضاء عبادة، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم. مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم، من كثرة الصيام، وطول القيام، مستقلون لذلك في جنب الله، موفون بعهد الله، مستنجزون لوعد الله. إذا رأوا سهام العدو قد فوقت، ورماحه قد أشرعت، وسيوفه قد انتضيت، وبرقت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت، استهانوا بوعيد الكتيبة لوعد الله، فمضي الشاب منهم قدما حتى تختلف رجلاه على عنق فرسه، قد رملت محاسن وجهه بالدماء، وعفر جبينه بالثرى، وأسرع إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير السماء، فكم من مقلة في منقار طائر، طالما بكى صاحبها من خشية الله؛ وكم من كف بانت عن معصمها، طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده؛ وكم من خد عتيق، وجبين رقيق، قد فلق بعمد الحديد. رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها في الجنان. ثم قال: الناس منا ونحن منهم إلا عابد وثن، أو كفرة أهل الكتاب، أو إماما جائرا، أو شادا على عضده.
خطبة لأبي حمزة بالمدينة

(2/29)

قال مالك بن أنس رحمه الله: خطبنا أبو حمزة خطبة شكك فيها المستبصر وردت المرتاب، قال: أوصيكم بتقوى الله وطاعته، والعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وصلة الرحم، وتعظيم ما صغرت الجبابرة من حق الله، وتصغير ما عظمت من الباطل، وإماتة ما أحيوا من الجور، وإحياء ما أماتوا من الحقوق، وأن يطاع الله ويعمى العباد في طاعته، فالطاعة لله ولأهل طاعة الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله بها. وإنا والله ما خرجنا أشرا ولا بطرا ولا لهوا ولا لعبا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قد نيل منا؛ ولكن لما رأينا الأرض قد أظلمت، ومعالم الجور قد ظهرت، وكثر الادعاء في الدين، وعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وقتل القائم بالقسط، وعنف القائل بالحق، وسمعنا مناديا ينادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فأجبنا داعي الله، فأقبلنا من قبائل شتى، قليلين مستضعفين في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا بنعمته إخوانا، وعلى الدين أعوانا. يأهل المدينة، أولكم خير أول، وأخركم شر آخر، إنكم أطعتم قراءكم وفقهاءكم فاختانوكم عن كتاب غير ذي عوج، بتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، فأصبحتم عن الحق ناكبين، أمواتا غير أحياء وما تشعرون. يأهل المدينة، يا أبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ما أصح أصلكم، وأسقم فرعكم! كان آباؤكم أهل اليقين وأهل المعرفة بالدين، والبصائر النافذة، والقلوب الواعية، وأنتم أهل الضلالة والجهالة، استعبدتكم الدنيا فأذلتكم، والأماني فأضفتكم، فتح الله لكم باب الدين فأفسدتموه، وأغلق عنكم باب الدنيا ففتحتموه، سراع إلى الفتنة، بطاء عن السنة، عمي عن البرهان، صم عن العرفان، عبيد الطمع، حلفاء الجزع. نعم ما ورثكم آباؤكم لو حفظتموه، وبئس ما تورثون أبناءكم إن تمسكوا به. نصر الله آباءكم على الحق، وخذلكم على الباطل. كان عدد آبائكم قليلا طيبا، وعددكم كثير خبيث. اتبعتم الهوى فأرداكم، واللهو فأسهاكم، ومواعظ القرآن تزجركم فلا تزدجرون، وتعبركم فلا تعتبرون. سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فقلتم: والله ما فيهم الذي يعدل، أخذوا المال من غير حلقه فوضعوه في غير حقه، وجازوا في الحكم فحكموا بغير ما أنزل الله، واستأثروا بفيئنا فجعلوه دولة بين الأغنياء منهم، وجعلوا مقاسمنا وحقوقنا في مهور النساء، وفروج الإماء. وقلنا لكم تعالوا إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظلموكم وجاروا في الحكم فحكموا بغير ما أنزل الله؛ فقلتم لا نقوى على ذلك ووددنا أنا أصبنا من يكفينا؛ فقلنا: نحن نكفيكم، ثم الله راع علينا وعليكم، إن ظفرنا لنعطين كل ذي حقه. فجئنا فاتقينا الرماح بصدورنا، والسيوف بوجوهنا، فعرضتم لنا دونهم، فقاتلتمونا، فأبعدكم الله! فوالله لو قلتم لا نعرف الذي تقول ولا نعلمه لكان أعذر، مع أنه لا عذر للجاهل؛ ولكن أبى الله إلا أن ينطق بالحق على ألسنتكم ويأخذكم به في الآخرة. ثم قال: الناس منا ونحن منهم إلا ثلاثة: حاكما جاء بغير ما أنزل الله، أو متبعا له، أو راضيا بعمله.
أسقطنا من هذه الخطبة ما كان من طعنه على الخلفاء؛ فإنه طعن فيها على عثمان وعلي بن أبي طالب، رضوان الله عليهما، وعمر بن عبد العزيز. ولم يترك من جميع الخلفاء إلا أبا بكر وعمر، وكفر من بعدهما، فلعنة الله عليه. إلا أنه ذكر من الخلفاء رجلا أصغى إلى الملاهي والمعازف، وأضاع أمر الرعية، فقال: كان فلان بن فلان من عدد الخلفاء عندكم، وهو مضيع للدين والدنيا. اشترى له بردين بألف دينار، اتزز بأحدهما والتحف بالآخر، وأقعد حبابة عن يمينه وسلامة عن يساره! فقال: يا حبابة غنيني ويا سلامة اسقيني، فإذا امتلأ سكرا أو ازدهى طربا شق ثوبيه وقال: ألا أطير؟ فطير إلى النار وبئس المصير. فهذه صفة خلفاء الله تعالى!

(2/30)

وخطبة لأبي حمزة
أما بعد، فإنك في ناشيء فتنة، وقائم ضلالة، قد طال جثومها، واشتدت عليك همومها، وتلوت مصايد عدو الله منها وما نصب من الشرك لأهل الغفلة عما في عواقبها. يهد عمودها، ولن ينزع أوتادها، إلا الذي بيده ملك الأشياء، وهو الرحمن الرحيم. ألا وإن لله بقايا من عباده لم يتحيروا في ظلمها، ولم يشايعوا أهلها على شبهها، مصابيح النور في أفواههم تزهو، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق، ركبوا منهج السبيل، وقاموا على العلم الأعظم. هم خصما الشيطان الرجيم، بهم يصلح الله البلاد، ويدفع عن العباد. طوبى لهم وللمستصبحين بنورهم، وأسأل الله أن يجعلنا منهم.
من أرتج عليه في خطبته
أول خطبة خطبها عثمان بن عفان أرتج عليه، فقال: أيها الناس، إن أول كل مركب صعب، وإن أعش تأتكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسر يسرا إن شاء الله. ولما قدم يزيد بن أبي سفيان الشام واليا عليها لأبي بكر، خطب الناس فأرتج عليه، فعاد إلى حمد لله، ثم أرتج عليه، فعاد إلى الحمد، ثم ارتج عليه، فقال: يأهل الشام، عسى الله أن يجعل بعد عسر يسرا، وبعد عي بيانا، وأنتم إلى إمام فاعل أحوج منكم إلى إمام قائل، ثم نزل. فبلغ ذلك عمرو بن العاص فاستحسنه. صعد ثابت قطنة منبر سجستان، فقال: الحمد لله، ثم أرتج عليه، فنزل وهو يقول:
فإن لا أكن فيهم خطيبا فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فقيل له: لو قلتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس.
وخطب معاوية بن أبي سفيان لما ولي فحصر، فقال: أيها الناس، إني كنت أعددت مقالا أقوم به فيكم فحجبت عنه، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، كما قال في كتابه، وأنتم إلى إمام عدل أحوج منكم إلى إمام خطيب، وإني أمركم بما أمر الله به ورسوله، أنهاكم عما نهاكم الله ورسوله، وأستغفر الله لي ولكم. وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر: فأرتج عليه، فمكث مليا لا يتكلم، ثم تهيأ له الكلام، فتكلم فقال: أما بعد، فإن هذا الكلام يجيء أحيانا، ويعزب أحيانا، فيسيح عند مجيئه سيبه، ويعز عند عزوبه طلبه، ولربما كوبر فأبي، وعولج فنأى، فالتأني لمجيئه خير من التعاطي لأبيه، وتركه عند تنكره أفضل من طلبه عند تعذره، وقد يرتج على البليغ لسانه، ويختلج من الجريء جنانه، وسأعود فأقول إن شاء الله.
صعد أبو العنبس منبرا من منابرا الطائف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فارتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: لا؛ قال: فما ينفعكم ما أريد أن أقول لكم، ثم نزل. فلما كان في الجمعة الثانية صعد المنبر وقال: أما بعد، فأرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: نعم؛ قال: فما حاجتكم إلى أن أقول لكم ما علمتم، ثم نزل. فلما كانت الجمعة الثالثة قال: أما بعد، فأرتج عليه، قال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: بعضنا يدري وبعضنا لا يدري؛ قال: فليخبر الذي يدري منكم الذي لا يدري، ثم نزل. وأتى رجل من بني هاشم اليمامة، فلما صعد المنبر أرتج عليه، فقال: حيا الله هذه الوجوه وجعلني فداها، قد أمرت طائفي بالليل أن لا يرى أحدا إلا أتاني به، وإن كنت أنا هو، ثم نزل.
وكان خالد بن عبد الله إذا تكلم يظن الناس أنه يصنع الكلام لعذوبة لفظه وبلاغة منطقه، فبينا هو يخطب يوما إذ وقعت جرادة على ثوبه، فقال: سبحان من الجراد من خلقه، أدمج قوائمها وطرفها وجناحيها، وسلطها على من هو أعظم منها. خطب عبد الله بن عامر بالبصرة في يوم أضحى، فأرتج عليه، فمكث ساعة ثم قال: والله لا أجمع عليكم عيا ولؤما، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي. قيل لعبد الملك بن مروان: عجل عليك المشيب يا أمير المؤمنين. فقال: كيف لا يعجل وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين.
خطب النكاح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:14 pm

خطب عثمان بن عنبسة بني أبي سفيان إلى عتبة بن أبي سفيان ابنته. فأقعده على فخذه، وكان حدثا، فقال: أقرب قريب خطب أحب حبيب، لا أستطيع له ردا، ولا أجد من إسعافه بدا، قد زوجتكها وأنت أعز علي منها، وهي ألصق بقلبي منك، فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تهنها فيصغر عندي قدرك، وقد قربتك مع قربك، فلا تبعد قلبي من قلبك.
خطبة نكاح
العتبي قال: زوج شبيب بن شيبة ابنه بنت سوار القاضي، فقلنا: اليوم يعب عبابه. فلما اجتمعوا، تكلم فقال: الحمد لله، وصلى الله على رسول الله. أما بعد، فإن المعرفة منا ومنكم وبنا وبكم تمنعنا من الإكثار، وإن فلانا ذكر فلانة.
وخطبة نكاح
العتبي قال: كان الحسن البصري يقول في خطبة النكاح بعد الحمد لله والثناء عليه: أما بعد، فإن الله جمع بهذا النكاح الأرحام المنقطعة، والأنساب المتفرقة، وجعل ذلك في سنة من دينه، ومنهاج من أمره. وقد خطب إليكم فلان، وعليه من الله نعمة، وهو يبذل من الصداق كذا، فاستخيروا الله وردوا خيرا يرحمكم الله.
خطبة نكاح
العتبي قال: حضرت ابن الفقير خطب على نفسه امرأة من باهلة فقال:
وما حسن أن يمدح المرء نفسه ... ولكن أخلاقا تذم وتمدح
وإن فلانة ذكرت لي.
وخطبة نكاح
العتبي قال: يستحب للخاطب إطالة الكلام، وللمخطوب إليه تقصيره. فخطب محمد بن الوليد إلى عمر بن العزيز أخته، فتكلم محمد بكلام طويل. فأجابه عمر: الحمد لله ذي الكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء. أما بعد، فإن الرغبة منك دعتك إلينا، والرغبة فيك أجابتك منا، وقد أحسن بك ظنا من أودعك كريمته، واختارك ولم يختر عليك، وقد زوجتكها على كتاب الله، إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان.
خطبة نكاح
خطب بلال إلى قوم من خثعم لنفسه ولأخيه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أنا بلال وهذا أخي: كنا ضالين فهدانا الله، عبدين فأعتقنا الله، فقيرين فأغنانا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فالمستعان الله. وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: قد زوجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة. قال: جزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا، فقد أجزلت العطية، وكفيت المسألة.
نكاح العبد
الأصمعي قال: زوج خالد بن صفوان عبده من أمته، فقال له العبد: لو دعوت الناس وخطبت! قال: ادعهم أنت. فدعاهم العبد، فلما اجتمعوا تكلم خالد بن صفوان، فقال: إن الله أعظم وأجل من أن يذكر في نكاح هذين الكلبين، وأنا أشهدكم أني زوجت هذه الزانية من هذا ابن الزانية.
خطب الأعراب
الأصمعي قال: خطب أعرابي فقال: أما بعد، فإن الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، واخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم، ولغيرها خلقتم؛ اليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل. إن الرجل إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدم؟ فقدموا بعضا، يكون لكم قرضا، ولا تتركوا كلا فيكون عليكم كلا. أقول قولي هذا والمحمود الله، والمصلى عليه محمد، والمدعو له الخليفة، ثم إمامكم جعفر، قوموا إلى صلاتكم.
خطبة لأعرابي
الحمد لله الحميد المستحمد، وصلى الله علي النبي محمد، أما بعد، فإن التعمق في ارتجال الخطب لممكن، والكلام لا ينثني حتى ينثنى عنه، والله تبارك وتعالى لا يدرك واصف كنه صفته، ولا يبلغ خطيب منتهى مدحته، له الحمد كما مدح نفسه، فانهضوا إلى صلاتكم، ثم نزل فصلى.
خطبة أعرابي لقومه
الحمد لله، وصلى الله علي النبي المصطفى وعلى جميع الأنبياء. ما أقبح بمثلي أن ينهى عن أمر ويرتكبه، ويأمر بشيء ويجتنبه، وقد قال الأول:
ودع ما لمت صاحبه عليه ... فذم أن يلومك من تلوم
ألهمنا الله وإياكم تقواه، والعمل برضاه.

(2/32)

وفي الأم زيادة من غير أصلها، فأوردتها كهيئتها، وهي خطبة لعلي كرم الله وجهه أوردت في هذه المجنبة تلو خطبة المأمون يوم عيد الفطر: جاء رجل إلى علي كرم الله وجهه فقال: يا أمير المؤمنين، صف لنا ربنا لنزداد له محبة، وبه معرفة. فغضب علي كرم الله وجهه، ثم نادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إليه حتى غص المسجد بأهله، ثم صعد المنبر وهو مغضب متغير اللون، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: الحمد لله الذي لا يعزه المنع، ولا يكديه الإعطاء، بل كل معط ينقص سواه، هو المنان بفرائد النعم، وعوائد المزيد، وبجوده ضمنت عيالة الخلق، ونهج سبيل الطلب للراغبين إليه. وليس بما يسأل أجود منه بما لا يسأل، وما اختلف عليه دهر فتختلف فيه حال، ولو وهب ما انشقت عنه معادن الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار، من فلذ اللجين، وسبائك العقيان، وشذر الدر، وحصيد المرجان، لبعض عباده، ما أثر ذلك في ملكه ولا في جوده، ولا أنفد ذلك سعة ما عنده. فعنده من الأفضال ما لا ينفده مطلب وسؤال، ولا يخطر لكم على بال؛ لأنه الجواد الذي لا تنقصه المواهب، ولا يبرمه إلحاح الملحين بالحوائج، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فما ظنكم بمن هو هكذا ولا هكذا غيره؟ سبحانه وبحمده! أيها السائل، اعقل ما سألتني عنه، ولا تسأل أحدا بعدي، فإني أكفيك مؤونة الطلب، وشدة التعمق في المذهب. وكيف يوصف الذي سألتني عنه، وهو الذي عجزت عنه الملائكة، على قربهم من كرسي كرامته، وطول ولهم إليه، وتعظيمهم جلال عزته، وقربهم من غيب ملكوته، أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم، وهم من ملكوت العرش بحيث هم، ومن معرفته على ما فطرهم عليه، فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. فمدح الله اعترافهم بالعجز عما لم يحيطوا به علما، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه رسوخا. فاقتصر على هذا، ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك، فتكون من الهالكين. واعلم أن الله الذي لم يحدث فيمكن فيه التغير والانتقال، ولم يتغير في ذاته بمرور الأحوال، ولم يختلف عليه تعاقب الأيام والليالي، هو الذي خلق الخلق على غير مثال أمتثله، ولا مقدار احتذى عليه من خالق كان قبله؛ بلى أرانا من ملكوت قدرته، وعجائب ربوبيته، مما نطقت به آثار حكمته، واضطرار الحاجة من الخلق إلى أن يفهمهم مبلغ قوته، ما دلنا بقيام الحجة له بذلك علينا على معرفته. ولم تحط به الصفات بإدراكها إياه بالحدود متناهيا، وما زال، إذ هو الله الذي لسر كمثله شيء، عن صفة المخلوقين متعاليا، انحسرت العيون عن أن تناله، فيكون بالعيان موصوفا، وبالذات التي لا يعلمها إلا هو عند خلقه معروفا. وفات لعلوه عن الأشياء مواقع وهم المتوهمين، وليس له مثل فيكون بالخلق مشبها، وما زال عند أهل المعرفة به عن الأشباه والأنداد منزها. وكيف يكون من لا يقدر قدره مقدرا في روايات الأوهام، وقد ضلت في إدراك كيفيته حواس الأنام؛ لأنه أجل من أن تحده ألباب البشر بنظير. فسبحانه وتعالى عن جهل المخلوقين، وسبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين. ألا وإن لله ملائكة صلى الله عليه وسلم لو أن ملكا هبط منهم إلى الأرض لما وسعته، لعظم خلقه وكزة أجنحته؛ ومن ملائكته من سد الآفاق بجناح من أجنحته دون سائر بدنه؟ ومن ملائكته من السموات إلى حجزته وسائر بدنه في جرم الهواء الأسفل، والأرضون إلى ركبته؛ ومن ملائكته من لو اجتمعت الإنس والجن على أن يصفوه ما وصفوه، لبعد ما بين مفاصله، ولحسن تركيب صورته؛ وكيف يوصف من سبعمائة عام مقدار ما بين منكبيه إلى شحمة أذنيه؛ ومن ملائكته من لو ألقيت السفن لا دموع عينيه لجرت دهر الداهرين. فأين أين بأحدكم! وأين أين أن، يدرك ما لا يدرك!
كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول

(2/33)

والصدور وأخبار الكتبة
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الخطب وفضائلها، وذكر طوالها وقصارها، ومقامات أهلها؛ ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في التوقيعات والفصول والصدور وأدوات الكتابة وأخبار الكتاب وفضل الإيجاز؛ إذ كان أشرف الكلام كله حسنا، وأرفعه قدرا، وأعظمه من القلوب موقعا، وأقله على اللسان عملا، ما دل بعضه على كله، وكفى قليله عن كثيرة، شهد ظاهره على باطنه، وذلك أن تقل حروفه، وتكثر معانيه. ومنه قولهم: رب إشارة أبلغ من لفظ. ليس أن الإشارة تبين ما لا يبينه الكلام، وتبلغ ما يقصر عنه اللسان، ولكنها إذا قامت مقام اللفظ، وسدت مسد الكلام، كانت أبلغ، لقلة مؤونتها وخفة محملها. قال أبرويز لكاتبه: اجمع الكثير مما تريد من المعنى، في القليل مما تقول.
يحضه على الإيجاز وينهاه عن الإكثار في كتبه. ألا تراهم كيف طعنوا على الإسهاب والإكثار حتى كان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من الإسهاب! قيل له: وما الإسهاب؟ قال: المسهب الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقر، ويشول به شولان الروق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم أبغضكم إلي الثرثارون المشتدقون. يريد أهل الأكثار والتقعير في الكلام.
ولم أجد أحدا من الألف يذم الإيجاز ويقدح فيه ويعيبه ويطعن عليه. وتحب العرب التخفيف والحذف، ولهربها مات التثقيل والتطويل كان قصر الممدود أحب إليها من مد المقصور، وتسكين المتحرك أخف عليها من تحريك الساكن، لأن الحركة عمل والسكون راحة. وفي كلام العرب الاختصار والإطناب، والاختصار عندهم أحمد في الجملة، وإن كان للإطناب موضع لا يصلح إلا له. وقد تومىء إلى الشيء فتستغني عن التفسير بالإيماءة، كما قالوا: لمحة دالة.
كتب عمرو بن مسعدة إلى ضمرة الحروري كتابا، فنظر فيه جعفر بن يحيى فوقع في ظهره: إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز مقصرا، وإذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا. وبعث إلى مروان بن محمد قائد من قواده بغلام أسود، فأمر عبد الحميد الكاتب أن يكتب إليه يلحاه ويعنفه، فكتب وأكثر، فاستثقل ذلك مروان، وأخذ الكتاب فوقع في أسفله: أما إنك لو علمت عددا أقل من واحد ولونا شرا من أسود لبعثت به. وتكلم ربيعة الرأي فأكثر وأعجبه إكثاره، فالتفت إلى أعرابي إلى جنبه، فقال له: ما تعدون البلاغة عندكم يا أعرابي؟ قال له: حذف الكلام، وإيجاز الصواب. قال: فما تعدون العي؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم. فكأنما ألقمه حجرا.
أول من وضع الكتابة
أول من وضع الخط العربي والسرياني وسائر الكتب آدم صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلثمائة سنة، كتبه في الطين ثم طبخه، فلما انقضى ما كان أصاب الأرض من الغرق وجد كل قوم كتابهم، فكتبوا به. فكان إسماعيل عليه الصلاة والسلام وجد كتاب العرب.
وروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إدريس أول من خط بالقلم بعد آدم صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس أن أول من وضع الكتابة العربية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكان، أول من نطق بها، فوضعت على لفظه ومنطقه. وعن عمر بن شبة بأسانيده: أن أول من وضع الخط العربي: أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، هم قوم من الجبلة الآخرة، وكانوا نزولا عند عدنان بن أدد، وهم من طسم وجديس. وحكي أنهم وضعوا الكتب على أسمائهم، فلما وجدوا حروفا في الألفاظ ليست في أسمائهم ألحقوها بها وسموها الروادف، وهي: الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين، على حسب ما يلحق في حروف الجمل. وعنه أن أول من وضع الخط

(2/34)

نفيس ونصر وتيما، بنو إسماعيل بن إبراهيم، ووضعوه متصل الحروف بعضها ببعض، حتى فرقه نبت وهميسع وقيذر. وحكوا أيضا أن ثلاثة نفر من طيىء اجتمعوا ببقعة، وهم: مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه قوم من الأنبار. وجاء الإسلام وليس أحد يكتب بالعربية غير سبعة عشر إنسانا، وهم؛ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، وعثمان، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبان بن سعيد بن العاص، وخالد بن سعيد أخوه، وأبو حذيفة بن عتبة، ويزيد بن أبي سفيان، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، والعلاء بن الحضرمي، وأبو سلمة ابن عبد الأسد، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وحويطب بن عبد العزى، وأبو سفيان بن حرب، ومعاوية ولده، وجهيم بن الصلت بن مخرمة.
استفتاح الكتب
إبراهيم بن محمد الشيباني قال: لم تزل الكتب تستفتح باسمك اللهم حتى أنزلت سورة هود وفيها: بسم الله مجراها ومرساها، فكتب: بسم الله؛ ثم نزلت سورة بني إسرائيل: قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن فكتب، بسم الله الرحمن، ثم نزلت سورة النمل: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " فاستفتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت سنة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أصحابه وأمراء جنوده: من محمد رسول الله إلى فلان. وكذلك كانوا يكتبون إليه، يبدءون بأنفسهم، فممن كتب إليه وبدأ بنفسه: أبو بكر والعلاء بن الحضرمي وغيرهما، وكذلك كتب الصحابة والتابعين، ثم لم تزل حتى ولي الوليد بن عبد الملك، فعظم الكتاب وأمر أن لا يكاتبه الناس بمثل ما يكاتب به بعضهم بعضا، فجرت به سنة الوليد إلى يومنا هذا، إلا ما كان من عمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل، فإنهما عملا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع الأمر إلى رأي الوليد، والقوم عليه إلى اليوم.
ختم الكتاب وعنوانه
وأما ختم الكتاب وعنوانه: فإن الكتب لم تزل مشهورة، غير معنونة ولا مختومة، حتى كتبت صحيفة المتلمس، فلما قرأها ختمت الكتب، وعنونت. وكان يؤتى بالكتاب فيقال: من عني به، فسمى عنوانا.
وقال حسان بن ثابت في قتل عثمان:
صحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وقال آخر:
وحاجة دون أخرى قد سمحت بها ... جعلتها للذي أحببت عنوانا
وقال أهل التفسير في قول الله تعالى: إني ألقي إلي كتاب كريم أي مختوم، إذ كانت كرامة الكتاب ختمه.
تأريخ الكتاب
لا بد من تأريخ الكتاب، لأنه لا يدل على تحقيق الأخبار وقرب عهد الكتاب وبعده إلا بالتأريخ. فإذا أردت أن تؤرخ كتابك فانظر إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه، فإن كان ما بقي أكثر من نصف الشهر، كتبت: لكذا وكذا ليلة مضت من شهر كذا؛ وإن كان الباقي أقل من النصف، جعلت مكان: مضت، بقيت. وقد قال بعض الكتاب: لا تكتب إذا أرخت إلا بما مضى من الشهر، لأنه معروف، وما بقي منه مجهول؛ لأنك لا تدري أيتم الشهر أم لا.
ولا تجعل سحاءة كتابك غليظة، إلا في كتب العهود والسجلات التي يحتاج إلى بقاء خواتيمها وطوابعها؛ فإن عبد الله بن طاهر كتب إليه بعض عماله على العراق كتابا، وجعل سحائته غليظة، فأمر بأشخاص الكاتب إليه، فلما ورد عليه، قال عبد الله بن طاهر: إن كانت معك فأس فاقطع ختم كتابك ثم ارجع إلى عملك، وإن عدت إلى مثلها عدنا إلى إشخاصك لقطعها. ولا تعظم الطينة جدا، وطن كتبك بعد كتبك عناوينها، فإن ذلك من أدب الكاتب، فإن طينت قبل العنوان فأدب منتحل.
تفسير الأمي
فأما الأمي فمجازه على ثلاثة وجوه: قولهم أمي، منسوب إلى أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/35)

ويقال: رجل أمي، إذا كان من أم القرى. قال الله تعالى: " لتنذر أم القرى ومن حولها " وأما قوله تعالى: النبي الأمي فإنما أراد به الذي لا يقرأ ولا يكتب. والأمية في النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة، لأنها أدل على صدق ما جاء به أنه من عند الله لا من عنده، وكيف يكون من عنده وهو لا يكتب ولا يقرأ ولا يقول الشعر ولا ينشده. قال المأمون لأبي العلاء المنقري: بلغني أنك أمي، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن في كلامك. فقال: يا أمير المؤمنين، أما اللحن، فربما سبقني لساني بالشيء منه؛ وأما الأمية وكسر الشعر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا، وكان لا ينشد الشعر. فقال المأمون: سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا، وهو الجهل؛ أما علمت يا جاهل أن ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة، وفيك وفي أمثالك نقيصة!
شرف الكتاب وفضلهم
فمن فضلهم قول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: " علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " وقوله تعالى: " كراما كاتبين " . وقوله: " بأيدي سفرة. كرام برزة " وللكتاب أحكام بينة، كأحكام القضاة، يعرفون بها، وينسبون إليها، ويتقلدون التدبير وسيارة الملك بها، دون غيرهم، وبهم يقام أود الدين، وأمور العالمين.
فمن أهل هذه الصناعة: علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وكان مع شرفه ونبله وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكتب الوحي، ثم أفضت إليه الخلافة بعد الكتابة؛ وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحي، فإن غابا، كتب ابن بن كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يشهد واحد منهما، كتب غيرهما. وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه، وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان ما بين الناس وكانا ينوبان عن خالد ومعاوية إذا لم يحضرا، وكان عبد الله بن الأرقم ابن عبد يغوث والعلاء بن عقبة يكتبان وبين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء، وكان ربما كتب عبد الله بن الأرقم إلى الملوك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص ثمار الحجاز، وكان زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي، وقيل: إنه تعلم بالفارسية من رسول كسرى، وبالرومية من حاجب النبي صلى الله عليه وسلم، وبالحبشية من خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وبالقبطية من خادمه عليه الصلاة والسلام. وروي عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقام لحاجة، فقال لي: ضع القلم على أذنك فإنه أذكر للمملي وأقضى للحاجة. وكان معيقيب بن أبي فاطمة يكتب مغانم النبي صلى الله عليه وسلم. وكان حنظلة بن الربيع بن المرقع بن صيفي، ابن أخي أكثم بن صيفي الأسيدي، خليفة كل كاتب من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب، وكان يضع عنده خاتمه، وقال له: الزمني وأذكر في بكل شيء أنا فيه، وكان لا يأتي على مالك ولا طعام ثلاثة أيام إلا أذكره، فلا يبيت صلى الله عليه وسلم وعنده منه شيء. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بامرأة مقتولة يوم فتح مكة، فقال لحنظلة: الحق خالدا وقل له: لا تقتلن ذرية ولا عسيفا. ومات حنظلة بمدينة الرها، فقالت فيه امرأته، وحكي أنه من قول الجن، وهذا محال:
يا عجب الدهر لمحزونة ... تبكي على ذي شيبة شاحب
إن تسألني اليوم ما شفني ... أخبرك قيلا ليس بالكاذب
أن سواد الرأس أودى به ... وجدي على حنظلة الكاتب

(2/36)

ولما وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعدا إلى العراق وكتب إليه أن يسبع القبائل أسباعا، ويجعل على كل سبع رجلا، ففعل سعد ذلك، وجعل السبع الثالث تميما وأسدا وغطفان وهوازن، وأميرهم حنظلة بن الربيع الكاتب؛ وكان أحد من سير إلى يزدجرد يدعوه إلى الإسلام. وكان الحصين بن نمير، من بني عبد مناة، شهد بيعة الرضوان، ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب صلح الحديبية، فأبى ذلك سهيل بن عمرو، وقال: لا يكتب إلا رجل منا، فكتب علي بن أبي طالب. وروي عنه عليه السلام أنه قال: لما جاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قريشا، كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب له، ثم ارتد ولحق بالمشركين، وقال: إن محمدا يكتب بما شئت. فسمع ذلك رجل من الأنصار، فحلف بالله إن أمكنه الله منه ليضربنه ضربا بالسيف، فلما كان يوم فتح مكة، جاء به عثمان، وكان بينهما رضاع، فقال: يا رسول الله، هذا عبد الله قد أقبل تائبا، فأعرض عنه، والأنصاري مطيف به ومعه سيفه، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعه يده وبايعه، وقال للأنصاري: لقد تلومتك أن توفي بنذرك. فقال: هلا أومضت إلي. فقال صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لي أن أومض.
أيام أبي بكر
رضي الله عنه
كان يكتب لأبي بكر عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت. وروي أن عبد الله ابن الأرقم كتب له، وأن، حنظلة بن الربيع كتب له أيضا. ولما تقلد الخلافة دعا زيد بن ثابت، وقال له: أنت شاب عاقل لا نتهمك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت تكتب الوحي، فتتبع القرآن فأجمعه، وفيه يقول حسان بن ثابت:
فمن للقوافي بعد حسان وابنه ... ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت
أيام عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
كتب لعمر بن الخطاب زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله ابن خلف الخزاعي، أبو طلحة الطلحات، على ديوان البصرة. وكتب له على ديوان الكوفة أبو جبيرة بن الضحاك، فلم يزل عليه إلى أن ولي عبيد الله بن زياد فعزله وولي مكانه حبيب بن سعد القيسي.
أيام عثمان بن عفان
رضي الله عنه كان يكتب لعثمان مروان بن الحكم. وكان عبد الملك بن مروان يكتب له على ديوان المدينة، وأبو جبيرة على ديوان الكوفة، وعبد الله بن الأرقم عل بيت المال، وأبو غطفان بن عوف بن سعد بن دينار، من بني دهمان، من قيس عيلان، يكتب له أيضا، وكان يكتب له أهيب، مولاه، وحمران، مولاه.
أيام علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه كان يكتب له سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولي قضاء الكوفة لابن الزبير، وكان عبد الله بن جعفر يكتب له. وروي أن عبد الله بن حسن كتب له، وكان عبد الله بن أبي رافع يكتب له، وسماك بن حرب.
أيام بني أمية
وكان يكتب لمعاوية. بن أبي سفيان. سعيد بن أنس الغساني. وكاتب يزيد بن معاوية سرجون بن منصور وكاتب مروان بن الحكم حميد بن عبد الرحمن بن عوف. وكاتب عبد الملك بن مروان سالم مولاه، ثم كتب له عبد الحميد بن يحيى، وهو عبد الحميد الأكبر. وكاتب الوليد بن عبد الملك جناح مولاه. وكاتب سليمان بن عبد الملك عبد الحميد الأصغر. وكاتب عمر بن عبد العزيز الليث بن أبي رقية، مولى أم الحكم، وكتب له رجاء بن حيوة وخص به، وإسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير، وسليمان بن سعد الخشني على ديوان الخراج، وكان عمر يكتب كثيرا بيده. وكاتب يزيد ابن عبد الملك عبد الحميد أيضا، ثم لم يزل كاتبا لبني أمية إلى أيام مروان بن محمد وانقضاء دولة بني أمية. وكان عبد الحميد أول من فتق أكمام البلاغة، وسهل طرقها، وفك رقاب الشعر.
أيام الدولة العباسية

(2/37)

فكان كاتب أبي العباس وأبي جعفر أبا أيوب المورياني الأهوازي. وكاتب موسى الهادي بن محمد المهدي إبراهيم بن ذكوان الحراني. وكاتب هارون الرشيد بن محمد المهدي يحيى بن خالد البرمكي، ثم الفصل بن الربيع، ثم إبراهيم بن صبيح. وكاتب محمد بن زبيدة الأمين الفضل بن الربيع، وكاتب عبد الله المأمون بن هارون الرشيد الفضل بن سهل، ثم الحسن بن سهل، ثم عمرو بن مسعدة، ثم أحمد بن يوسف. وكاتب أبي إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وهو المعروف بابن ماردة، الفضل بن مروان، ومحمد بن عبد الملك الزيات. وكاتب الواثق هارون بن محمد المعتصم محمد بن عبد الملك الزيات أيضا. وكاتب المتوكل جعفر بن محمد المعتصم إبراهيم بن العباس بن صول، مولى لبني العباس. وكاتب المنتصر محمد، ويكنى أبا جعفر، بن المتوكل، أحمد بن الخصيب، ثم كتب للمستعين أحمد بن محمد المعتصم، فظهر من عجزه وعيه ما أسخطه عليه، ثم جعل وزارته إلى أوتامش، وقام بخدمته شجاع بن القاسم كاتبه، ثم سخط عليهما فقتلهما، واستوزر أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، ثم صرفه وقلد وزارته محمد بن الفضل الجرجاني. ثم كانت الفتنة بين المستعين والمعتز، فقلد المعتز وزارته جعفر بن محمود الجرجاني، فلما استقام الأمر رد وزارته إلى أحمد ابن إسرائيل. وكاتب المهتدي محمد بن الواثق جعفر بن محمود الجرجاني، ثم استوزر بعده أبا أيوب سليمان بن وهب. واستوزر المعتمد أحمد بن المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فلما توفي استوزر بعده الحسن بن مخلد، وكان سبب موته أنه صدمه غلام له في الميدان يقال له رشيق، فحمل إلى منزله فمات بعد ثلاث ساعات. وتقفد الوزارة للمعتضد أحمد بن طلحة، وللموفق بن جعفر المتوكل عبيد الله بن سليمان بن وهب، وتقلد الوزارة للمكتفي بالله أبي محمد علي بن المعتضد بالله علي بن محمد بن الفرات، ثم محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، ثم علي بن عيسى، ثم حامد بن العباس، ثم محمد بن علي بن مقلة، الذي يوصف خطه بالجودة، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد، ثم عبيد الله بن محمد الكلوذاني. ثم الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، ولقب بعميد الدولة، وكان يكتب على كتبه: من عميد الدولة أبي علي بن ولي الدولة، وذكر لقبه على الدنانير والدراهم، ثم الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات. وتقلد الوزارة للقاهر بالله أبي منصور محمد بن المعتضد محمد بن علي بن مقلة، ثم محمد بن القاسم بن عبيد الله، ثم القاسم بن عبيد الله الحصيني. وتقلد الوزارة للراضي بالله أبي العباس محمد بن جعفر المقتدر محمد بن علي بن مقلة، ثم عبد الرحمن بن عيسى، أخو الوزير علي بن عيسى، ثم محمد بن القاسم الكرخي، ثم الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات، ثم محمد بن يحيى بن شيرزاد. وتقلد الوزارة للمتقي بالله إبراهيم بن جعفر ابن المقتدر كاتبه أحمد بن محمد بن الأفطس. ثم أبو إسحاق القراريطي، ثم علي بن محمد بن مقلة. وتقلد الوزارة للمستكفي بالله أي القاسم عبد الله بن علي المكتفي بالله الحسين بن محمد بن أبي سليمان، ثم محمد بن علي السامري، المكنى أبا الفرج. ثم ولي المطيع بالله الفضل بن المقتدر، فوزر له الحسن بن هارون.
أسماء من كتب لغير الخليفة

(2/38)

كان المغيرة بن شعبة كاتبا لأبي موسى الأشعري. وكان سعيد بن جبير كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان قاضيا بعد ذلك. وكان الحسن بن أبي الحسن البصري، مع نبله وفقهه وورعه وزهده كاتبا للربيع بن زياد الحارثي بخراسان، ثم ولي قضاء البصرة لعمر بن عبد العزيز، فقيل له: من وليت القضاء بالبصرة؟ فقال: وليت سيد التابعين الحسن بن أبي الحسن البصري. وكان محمد بن سيرين، مع علمه وورعه كاتبا لأنس بن مالك بفارس. وكان زياد ابن أبيه، مع رأيه، ودهائه، وما كان من معاوية في ادعائه، يكتب للمغيرة ابن شعبة، ثم لعبد الله بن عامر بن كريز، ثم لعبد الله بن عباس، ثم لأبي مولى الأشعري. فوجهه أبو موسى من البصر ة لعمر بن الخطاب ليرفع إليه حسابه، فأمر له عمر بألف درهم، لما رأى منه من الذكاء، وقال: له لا ترجع لأبي موسى؟ فقال: يا أمير المؤمنين. أعن خيانة صرفتني أم عن تقصير؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعية، ثم ولي بعد الكتابة العراق. وكان عامر الشعبي مع فقهه وعلمه ونبله كاتبا لعبد الله بن مطيع، ثم لعبد الله بن يزيد، عامل عبد الله بن الزبير على الكوفة؛ ثم ولي قضاء الكوفة بعد الكتابة. وكان قبيصة بن ذؤيب كاتبا لعبد الملك على ديوان الخاتم. وكان عبد الرحمن كاتب نافع بن الحارث، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عبد الله بن خلف الخزاعي، أبو طلحة الطلحات، كاتبا على ديوان البصرة لعمر وعثمان، ثم قتل يوم الجمل مع عائشة، رضي الله عنها. وكان خارجة بن زيد بن ثابت على ديوان المدينة، ثم طلب الخلافة فقتل دونها. وكان يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى كاتبا على ديوان المدينة زمن يزيد بن معاوية، وكان بعده حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري.
أشراف الكتاب
كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم
كتب له عشرة كتاب: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وخالد بن سعيد بن العاصي، وأبان بن سعيد بن العاصي، وأبو سعيد بن العاصي، وعمرو بن العاصي، وشرحبيل بن حسنة، وزيد بن ثابت، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان، فلم يزل يكتب له حتى مات عليه الصلاة والسلام.
وكان عثمان بن عفان كاتبا لأبي بكر، ثم صار خليفة. وكان مروان بن الحكم كاتبا لعثمان بن عفان ثم صار خليفة. وكان عمرو بن سعيد بن العاصي كاتبا على ديوان المدينة، ثم طلب الخلافة فقتل دونها وكان المغيرة بن شعبة كاتبا لأبي موسى الأشعري. وكان الحسن بن أبي الحسن البصري كاتبا للربيع ابن زياد الحارثي بخراسان. وكان سعيد بن جبير كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود؛ وكان فاضلا. وكان زياد كاتبا للمغيرة بن شعبة، ثم أبي موسى الأشعري، ثم لعبد الله بن عامر بن كريز، ثم لعبد الله بن عباس. وكان عامر الشعبي كاتبا لعبد الله بن مطيع، وهو والي الكوفة لعبد الله بن الزبير. وكان محمد بن سيرين كاتبا لأنس بن مالك بفارس. وكان قبيصة بن ذؤيب كاتبا لعبد الملك، على ديوان الخاتم. وكان عبد الرحمن بن أبزى كاتب نافع بن الحارث الخزاعي، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عبيد الله بن أوس الغساني، سيد أهل الشام، كاتب معاوية. وكان سعيد ابن نمران الهمداني، سيد همدان، كاتب علي بن أبي طالب، ثم ولي بعد ذلك قضاء الكوفة لابن الزبير. وكان عبد الله بن خلف الخزاعي، أبو طلحة الطلحات، كاتبا على ديوان البصرة لعمر وعثمان، وقتل يوم الجمل مع عائشة. وكان خارجة بن زيد بن ثابت على ديوان المدينة من قبل عبد الملك. وكان يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى على ديوان المدينة زمان يزيد بن معاوية. وكان بعده حميد، ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.
من نبل بالكتابة وكان قبل خاملا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:16 pm

سرجون بن منصور الرومي، كاتب لمعاوية ويزيد ابنه ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، إلى أن أمره عبد الملك بأمر فتوانى فيه، ورأى منه عبد الملك، بعض التفريط، فقال لسليمان بن سعد كاتبه على الرسائل: إن سرجون يدل علينا بصناعته، وأظن أنه رأى ضرورتنا إليه في حسابه، فما عندك فيه حيلة؟ فقال: بلى، لو شئت لحولت الحساب من الرومية إلى العربية. قال: أفعل. قال: أنظرني أعان ذلك. قال: لك نظرة ما شئت. فحول! الديوان، فولاه عبد الملك جميع ذلك. وحسان النبطي كاتب الحجاج، وسالم مولى هشام بن عبد الملك، وعبد الحميد الأكبر، وعبد الصمد، وجبلة بن عبد الرحمن، وقحذم، جد الوليد بن هشام القحذمي، وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية. ومنهم: الفراء، كاتب خالد بن عبد الله القسري. ومنهم: الربيع، والفضل بن الربيع، ويعقوب بن داود، ويحيى بن خالد وجعفر بن يحيى، وأبو محمد، عبد الله بن المقفع، والفضل ابن سهل، والحسن بن سهل، وجعفر بن محمد بن، الأشعث، وأحمد بن يوسف، وأبو عبد السلام الجند يسابوري، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن وهب، وإبراهيم بن العباس الصولي، ونجاح بن سلمة، وأحمد بن محمد بن، المدبر. فهؤلاء نبلوا بالكتابة واستحقوا اسمها.
من أدخل نفسه في الكتابة ولم يستحقها
صالح بن شيرزاد، وجعفر بن سابور، كاتب الأفشين، والفضل بن مروان، وداود بن الجراح، وأبو صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وأحمد ابن الخصيب. فهؤلاء لطخوا أنفسهم بالكتابة وما دانوها.
وقال بعض الشعراء في صالح بن شيرزاد:
حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثوبك في المداد
ومنهم: أبو أيوب، ابن أخت أبي الزير، وهو القائل يرثي أم سليمان بن وهب الكاتب:
لأم سليمان علينا مصيبة ... مغلغلة مثل الحسام البواتر
وكنت سراج البيت يا أم سالم ... فأضحى سراج البيت وسط المقابر
فقال سليمان بن وهب: ما نزل بأحد من خلق الله ما نزل به، ماتت أمي فرثيت بمثل هذا الشعر، ونقل اسمي من سليمان إلى سالم.
صفة الكتاب
قال إبراهيم بن محمد الشيباني: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وصغر الهامة، وخفة اللهازم، وكثافة اللحية، وصدق الحس، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل، وحسن الإشارة، وملاحة الزي، حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيوا بزي الكتاب، فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة. وقال إبراهيم بن محمد الكاتب: من كمال آل الكتابة أن يكون الكتاب: نقي الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهب، صادق الحس، حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسالك، مستقر التركيب؛ ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية، عظيم الهامة؛ فإنهم زعموا أن هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة. وأنشد سعيد بن حميد في إبراهيم بن العباس:
رأيت لهازم الكتاب خفت ... ولهزمتاك شأنهما الفدامة
وكتاب الملوك لهم بيان ... كمثل الدر قد رصفوا نظام،
وأنت إذا نطقت كأن عيرا ... يلوك بما يفوه به لجامه
وقال آخر:
عليك بكاتب لبق رشيق ... زكي في شمائله حراره
تناجيه بطرفك من بعيد ... فيفهم رجع لحظك بالإشارة
ونظر أحمد بن الخصيب إلى رجل من الكتاب: فدم المنظر، مضطرر الخلق، طويل العثنون، فقال: لأن يكون هذا فنطاس مركب أشبه من أن يكون كاتبا.
فإذا اجتمعت للكاتب هذه الخلال، وانتظمت فيه هذه الخصال، فهو الكاف البليغ، والأديب النحرير، وإن قصرت به آلة من هذه الآلات، وقعدت به أداة كل هذه الأدوات، فهو منقوص الجمال منكسف الحس، مبخوس النصيب.

(2/40)

ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه
قال إبراهيم الشيباني: أول ذلك حسن الخط الذي هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقل، ووحي الفكرة، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة ومحادثتهم على بعد المسافة، ومستودع السر، وديوان الأمور. ولست أجد لحسن الحظ حدا أقف عليه أكثر من قول علي بن ربن، النصراني الكاتب، فإني سألته واستوصفته الخط، فقال: أعلمك الخط في كلمة واحدة، فقلت له: تفضل بذلك فقال: لا تكتب حرفا حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف، وتجعل في نفسك إنك تكتب غيره حتى تعجز عنه، ثم تنتقل، إلى ما بعده. وإياك والنقط والشكل في كتابك إلا أن تمر بالحرف المعضل الذي تعلم أن المكتوب إليه يعجز عن استخراجه فإني سمعت سعيد بن حميد بن عبد الحميد، الكاتب يقول: لأن يشكل الحرف عن القارىء أحب إلي من أن يعاب الكتاب بالشكل. وكان المأمون يقول: إياكم والشونيز في كتبكم - يعني النقط والإعجام. ومن ذلك أن يصلح الكاتب آلته التي لا بد منها، وأداته التي لا تتم صناعته إلا بها، مثل دواته، فلينعم ربها وإصلاحها، وليتخير من أنابيب القصب أقله عقدا، وأكثره لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواء، ويجعل لقرطاسه سكينا حادا لتكون عونا له على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصبة. وأعلم أن محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.
قال العتابي: سألني الأصمعي يوما في دار الرشيد: أي الأنابيب للكتابة أصلح وعليها أصبر؛ فقلت له: ما نشف بالهجير ماؤه، وستره عن تلويحه غشاؤه، من التبرية القشور، الدرية الظهور، الفضية الكسور. قال: فأي نوع من البري أصوب وأكتب؟ فقلت: البرية المستوية القطة، التي عن يمين سنها قرنة تأمن معها المجة عند المدة والمطة، للهواء في شقها فتيق، والريح في جوفها خريق، والمداد في خرطومها رقيق. قال العتابي: فبقي الأصمعي شاخصا إلي ضاحكا لا يحير مسألة ولا جوابا.
ولا يكون الكاتب كاتبا حتى لا يستطيع أحد تأخير أول كتابه وتقديم آخره. وأفضل الكتاب ما كان في أول كتابته دليل على حاجته، كما أن أفضل الأبيات ما دل أول البيت على قافيته. فلا تطيلن صدر كتابك إطالة تخرجه عن حده، ولا تقصر به دون حده، فإنهم قد كرهوا في الجملة أن تزيد صدور كتب الملوك على سطرين أو ثلاثة أو ما قارب ذلك.
وقيل للشعبي: أي شيء تعرف به عقل الرجل؟ قال: إذا كتب فأجاد. وقال الحسن بن وهب: الكاتب نفس واحدة تجزأت في أبدان متفرقة.
فأما الكاتب المستحق اسم الكتابة، والبليغ المحكوم له بالبلاغة، من إذا حاول صيغة كتاب سالت عن قلمه عيون الكلام من ينابيعها، وظهرت من معادنها، وبدرت من مواطنها، من غير استكراه ولا اغتصاب.
بلغني أن صديقا لكلثوم العتابي أتاه يوما فقال له: اصنع لي رسالة، فاستعد مدة ثم علق القلم، فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلا شاردة عنك. فقال له العتابي: إني لما تناولت القلم تداعت علي المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه ثم أجتني لك أحسنها. قال أحمد بن محمد: كنت عند يزيد بن عبد الله أخي ذبيان، وهو يملي على كاتب له، فأعجل الكاتب ودارك في الإملاء عليه، فتلجلج لسان قلم الكاتب عن تقييد إملائه، فقال له: اكتب يا حمار. فقال له الكاتب: أصلح الله الأمير، إنه لما هطلت شآبيب الكلام وتدافعت سيوله على حرف القلم، كل القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده. فكان حضور جواب الكاتب أبلغ من بلاغة يزيد. وقال له يوما وقد مط حرفا في غير موضعه: ما هذا؟ قال: طغيان في القلم.
فإن كان لا بد لك من طلب أدوات الكتابة فتصفح من رسائل المتقدمين ما

(2/41)

يعتمد عليه، ومن رسائل المتأخرين ما يرجع إليه، ومن نوادر الكلام ما تستعين به، ومن الأشعار والأخبار والسير والأسمار ما يتسع به منطقك، ويطول به قلمك، وانظر في كتب المقامات والخطب، ومجاوبة العرب، ومعاني العجم، وحدود المنطق، وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم وسيرهم ووقائعهم ومكايدهم في حروبهم، والوثائق والصور وكتب السجلات والأمانات، وقرض الشعر الجيد، وعلم العروض، بعد أن تكون متوسطا في، علم النحو والغريب، لتكون ماهرا تنتزع آي القرآن في مواضعها، والأمثال في أماكنها، فإن تضمين المثل السائر، والبيت الغابر البارع، مما يزين كتابك، ما لم تخاطب خليفة أو ملكا جليل القدر، فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء عيب، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له، فإن ذلك يزيد في أبهته.
خبر حائك الكلام
أبو جعفر البغدادي قال: حدثنا عثمان بن سعيد قال: لما رجع المعتصم من الثغر وصار بناحية الرقة، قال لعمرو بن مسعدة: ما زلت تسألني في الرخجي حتى وليته الأهواز، فقعد في سرة الدنيا يأكلها خضما وقضما؛ ولم يوجه إلينا بدرهم واحد. اخرج إليه من ساعتك. فقلت في نفسي: أبعد الوزارة أصير محستحثا على عامل خراج! ولكن لم أجد بدا من طاعة أمير المؤمنين، فقلت: أخرج إليه يا أمير المؤمنين. فقال: حلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوما واحدا. فحلفت له، ثم انحدرت إلى بغداد، فأمرت ففرش لي زورق بالطبري وغشي بالسلخ، وطرح عليه الكر. ثم خرجت، فلما صرت بين دير هزقل ودير العاقول إذا رجل يصيح: يا ملاح، رجل منقطع. فقلت للملاح: قرب إلى الشط. فقال: يا سيدي، هذا شحاذ، فإن قعد معك آذاك. فلم ألتفت إلى قوله، وأمرت الغلمان فأدخلوه، فقعد في كوثل الزورق. فلما حضر وقت الغداء عزمت أن أدعوه إلى طعامي، فدعوته، فجعل يأكل أكل جائع بنهامة إلا أنه نظيف الأكل. فلما رفع الطعام أردت أن يستعمل معي ما يتسعمل العوام مع الخواص: أن يقوم فيغسل يده في ناحية، فلم يفعل، فغمزه الغلمان فلم يقم، فتشاغلت عنه ثم قلت؟ يا هذا، ما صناعتك قال: حائك: فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى. فقال لي: جعلت فداك، قد سألتني عن صناعتي فأخبرتك، فما صناعتك أنت؟ قال: فقلت في نفسي: هذه أعظم من الأولى، وكرهت أن أذكر له الوزارة، فقلت: اقتصر له على الكتابة، فقلت: كاتب. قال: جعلت فداك، الكتاب على خمسة أصناف: فكاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف الفصل من الوصل، والصدور، والتهاني، و التعازي، والترغيب والترهيب، والمقصور والممدود، وجملا من العربية؛ وكاتب خراج يحتاج إلى أن يعرف الزرع والمساحة

(2/42)

والأشوال والطسوق، والتقسيط، والحساب؟ وكاتب جند يحتاج إلى أن يعرف مع الحساب الأطماع، وشيات الدواب، وحلى الناس؛ وكاتب قاض يحتاج إلى أن يكون عالما بالشروط والأحكام والفروع والناسخ والمنسوخ والحلال والحرام والمواريث؛ وكاتب شرطة يحتاج إلى أن يكون عالما بالجروح والقصاص والعقول والديات. فأيهم أنت أعزك الله؟ قال: قلت: كاتب رسائل. قال: فأخبرني إذا كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه وجميع الأسباب، فتزوجت أمه، فكيف تكتب له، أتهنيه أم تعزيه؟ قلت: والله ما أقف على ما تقول. قال: فلست بكاتب رسائل، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب خراج. قال: فما تقول أصلحك الله وقد ولاك السلطان عملا فبثثت عمالك فيه، فجاءك قوم يتظلمون من بعض عمالك، فأردت أن تنظر في أمورهم، وتنصفهم إذا كنت تحب العدل والبر، وتؤثر حسن الأحدوثة وطيب الذكر، وكان لأحدهم قراح، كيف كنت تمسحه؟ قال: كنت أضرب العطوف في العمود، وأنظر كم مقدار ذلك. قال: إذن تظلم الرجل. قلت: فامسح العمود على حدة. قال: إذا تظلم السلطان. قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب خراج، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب جند. قال: فما تقول في رجلين اسم كل واحد منهما أحمد، أحدهما مقطوع الشفة العليا والآخر مقطوع الشفة السفلى، كيف كنت تكتب حليتهما؟ قال: كنت أكتب، أحمد الأعلم وأحمد الأعلم. قال: كيف يكون هذا ورزق هذا مائتا درهم ورزق هذا ألف درهم، فيقبض هذا على دعوة هذا، فتظلم صاحب الألف! قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب جند، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب قاض. فمال: فما تقول أصلحك الله في رجل توفي وخلف زوجة وسرية، وكان للزوجة بنت وللسرية ابن، فلما كان في تلك الليلة أخذت الحرة ابن السرية فادعته، وجعلت ابنتها مكانه، فتنازعا فيه، فقالت هذه: هذا ابني، وقالت هذه: هذا ابني، كيف تحكم بينهما وأنت خليفة القاضي؟ قلت: والله لمست أدري. قال: فلست بكاتب قاض، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب شرطة. قال: فما تقول: أصلحك الله في رجل وثب على رجل فشجه شجة موضحة، فوثب عليه المشجوج فشجه شجة مأمومة؛ قلت: ما أعلم. ثم قلت: أصلحك الله، قد سألت ففسر لي ما ذكرت. قال: أما الذي تزوجت أمه فتكتب إليه: أما بعد، فإن أحكام الله تجري بغير محاب المخلوقين والله يختار للعباد، فخار الله لك في قبضها إليه، فإن القبر أكرم لها، والسلام؛ وأما القراح، فتضرب واحدا في مساحة العطوف، فمن ثم بابه، وأما أحمد وأحمد، فتكتب حلية المقطوع الشفة العليا: أحمد الأعلم، والمقطوع الشفة السفلى، أحمد الأشرم، وأما المرأتان، فيوزن لبن هذه ولبن هذه، فأيهما كان أخف فهي صاحبة البنت؛ وأما الشجة، فإن في الموضحة خمسا مني الإبل، وفي المأمومة ثلاثا وثلاثين وثلثا، فيرد صاحب المأمومة ثمانية وعشرين وثلثا. قلت: أصلحك الله، فلا نزع بك إلى هنا؟ قال؛ ابن عم لي كان عاملا على ناحية، فخرجت إليه فألفيته معزولا، فقطع بي، فأنا خارج أضطرب في المعاش. قلت: ألست ذكرت أنك حائك؟ قال: أنا أحوك الكلام ولست بحائك الثياب. قال: فدعوت المزين فأخذ من شعره، وأدخل الحمام فطرحت عليه شيئا من ثيابي. فلما صرت إلى الأهواز كلمت الرخجي فأعطاه خمسة آلاف درهم ورجع معي، فلما صرت إلى أمير المؤمنين، قال: ما كان من خبرك في طريقك؟ فأخبرته خبري حتى حدثته حديث الرجل. فقال لي: هذا لا يستغنى عنه، فلأي شيء يصلح؛ قلت: هذا أعلم الناس بالمساحة والهندسة. قال: فولاه أمير المؤمنين البناء والمرمة. فكنت والله ألقاه في الموكب النبيل فينحط عن دابته، فأحلف عليه، فيقول: سبحان الله! إنما هذه نعمتك، وبك أفدتها.
فضائل الكتابة
قالت أبو عثمان الجاحظ: ما رأيت قوما أنفذ طريقة في الأدب من هؤلاء الكتاب، فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا. وقال بعض المهالبة لبنيه: تزيوا بزي الكتاب فإنهم جمعوا أدب الملوك وتواضع السوقة. وعتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكتاب فأمر بحبسهم، فرفعوا إليه رقعة ليس فيها إلا هذا البيت:

(2/43)

ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا
فعفا عنهم وأمر بتخلية سبيلهم.
وقال المؤيد: كتاب الملوك عيونهم الناظرة، وآذانهم الواعية، وألسنتهم الناطقة. والكتابة أشرف مراتب الدنيا بعد المحلافة، وهي صناعة جليلة تحتاج إلى آلات كثيرة. وقال سهل بن هارون: الكتابة، أول زينة الدنيا التي إليها يتناهى الفضل، وعندها تقف الرغبة.
ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها
قال إبراهيم بن محمد الشيباني: إذا احتجت إلى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتاب والخطباء والأدباء والشعراء وأوساط الناس وسوقتهم، فخاطب كلا على قدر أبهته وجلالته، وعلوه وارتفاعه، وفطنته وانتباهه. واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام؛ منها: الطبقات العلية أربع، والطبقات الآخر، وهي دونها، أربع؛ لكل طبقة منها درجة، ولكل قسمها، لا ينبغي للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها ويقلب معناها إلى غيرها. فالحد الأول: الطبقات العليا، وغايتها القصوى الخلافة، التي أجل الله قدرها وأعلى شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير؛ والطبقة الثانية لوزرائها وكتابها الذين يخاطبون الخلفاء بعقولهم وألسنتهم، ويرتقون الفتوق بآرائهم؛ والطبقة الثالثة أمراء ثغورهم وقواد جنودهم، فإنه تجب مخاطبة كل أحد منهم على قدره وموضعه، وحظه وغنائه وإجزائه، واضطلاعه بما حمل من أعباء أمورهم وجلائل أعمالهم؛ والرابعة القضاة، فإنهم وإن كان لهم تواضع العلماء، وحلية الفضلاء، فمعهم أبهة السلطنة وهيبة الأمراء. وأما الطبقات الأربع الآخر فهم: الملوك الذين أوجبت نعمهم تعظيمهم في الكتب إليهم، وأفضالهم تفضيلهم فيها؛ والثانية وزراؤهم وكتابهم وأتباعهم الذين بهم، تقرع أبوابهم، وبعناياتهم تستماح أموالهم؛ والثالثة هم العلماء الذين، يجب توقيرهم في الكتب بشرف العلم وعلو درجة أهله؛ والطبقة الرابعة لأهل القدر والجلالة، والحلاوة والطلاوة، والظرف والأدب، فإنهم يضطرونك بحدة أذهانهم، وشدة تمييزهم وانتقادهم، وأدبهم وتصفحهم، إلى الاستقصاء على نفسك في مكاتبتهم. واستغنينا عن الترتيب للسوقة والعوام والتجار باستغنائهم بمهناتهم عن هذه الآلات، واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات. ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إياهم في كتبك، فتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمه، وتوفيه نصيبه؛ فإنك متى أهملت ذلك وأضعته لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، ويجرى شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه. فلا تعتد بالمعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا لاثقا لمن كاتبته، وملتئما بمن راسلته، فإن إلباسك المعنى، وإن صح وشرف، لفظا متخلفا عن قدر المكتوب إليه لم تجر به عاداتهم، تهجين للمعنى، وإحلال بقدره، وظلم بحق المكتوب إليه، ونقص مما يجب له؛ كما أن في إتباع تعارفهم، وما انتشرت به عادتهم، وجرت به سنتهم، قطعا لعذرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غاية مرادهم، وإسقاطا لحجة أدبهم. فمن الألفاظ المرغوب عنها، والصدور المستوحش منها في كتب السادات والملوك والأمراء، على اتفاق المعاني، مثل: أبقاك الله طويلا، وعمرك مليا. وإن كنا نعلم أنه لا فرق بين قولهم: أطال الله بقاك، وبين قولهم: أبقاك الله طويلا. ولكنهم جعلوا هذا أرجح وزنا، وأنبه قدرا في المخاطبة. كما أنهم جعلوا: أكرمك الله، وأبقاك، أحسن منزلا في كتب الفضلاء والأدباء، من: جعلت فداك، على اشتراك معناه، واحتمال أن يكون فداءه من الخير، كما يحتمل أن يكون فداءه من الشر؛ ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص: ارم فداك أبي وأمي، لكرهنا أن يكتب بها أحد. على أن كتاب العسكر وعوامهم قد ولعوا بهذه اللفظة حتى استعملوها في جميع محاوراتهم، وعلوها هجيراهم في مخاطبة الشريف والوضيع، والكبير والصغير. وذلك قال محمود الوراق:

(2/44)

كل من حل سر من نرى من الناس ... ومن قد يداخل الأملاكا
لو رأى الكلب ماثلا بطريق ... قال للكلب يا جعلت فداكا
وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل، أبقاك الله، وأمتع بك، إلا في الابن والخادم المنقطع إليك؛ وأما في كتب الإخوان، فغير جائز بل مذموم مرغوب عنه. ولذلك كتب عبد الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أحلت عما عهدت من أدبك ... أم نلت ملكا فتهت في كتبك
أم قد ترى أن في ملاطفة ال ... إخوان نقصا عليك في أدبك
أكان حقا كتاب ذي مقة ... يكون في صدره: وأمتع بك
أتعبت كفيك في مكاتبتي ... حسبك ما قد لقيت في تعبك
فكتب إليه محمد بن عبد الملك الزيات:
كيف أخون الإخاء يا أملي ... وكل شيء أنال من سببك
أنكرت شيئا فلست فاعله ... ولن تراه يخط في كتبك
إن يك جهل أتاك من قبلي ... فعد بفضل علي من حسبك
فاعف فدتك النفوس عن رجل ... يعيش حتى الممات في أدبك
ولكل مكتوب إليه قدر ووزن، ينبغي للكاتب ألا يتجاوز به عنه، ولا يقصر به دونه. وقد رأيتهم عابوا الأحوص حين خاطب الملوك خطاب العوام في قوله:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل
وهذا معنى صحيح في المدح، ولكنهم أجلوا قدر الملوك أن يمدحوا بما تمدح به العوام؛ لأن صدق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان من المدح فهو واجب على العامة، والملوك لا يمدحون بالفرائض الواجبة، إنما يحسن مدحهم بالنوافل، لأن المادح لو قال لبعض الملوك: إنك لا تزني بحليلة جارك، وإنك لا تخون ما استودعت، وإنك لتصدق في وعدك وتفي بعهدك، فكأنه قد أثنى بما يجب، ولو قصد بثنائه إلى مقصده كان أشبه في الملوك.
ونحن نعلم أن كل أمير يتولى من أمر المؤمنين شيئا فهو أمير المؤمنين، غير أنهم لم يطلقوا هذه اللفظة إلا على الخلفاء خاصة. ونحن نعلم أن الكيس هو العاقل، لكن لو وصفت رجلا فقلت: إنه لعاقل، كنت مدحته عند الناس، وإن قلت: إنه لكيس، كنت قد قصرت به عن وصفه وصغرت من قدره، إلا عند أهل العلم باللغة؛ لأن العامة لا تلتفت إلى معنى الكلمة، ولكن إلى ما جرت به العادة من استعمالها في الظاهر، إذ كان استعمال العامة لهذه الكلمة مع الحداثة والغرة وخساسة القدر وصغر السن. وقد روينا عن علي كرم الله وجهه أنه تسمى بالكيس حين بنى سجن الكوفة، فقال في ذلك:
أما تراني كيسا مكيسا ... بنيت بعد نافع مخيسا
حصنا حصينا ... وأمينا كيسا
وقال الشاعر:
ما يصنع الأحمق المرزوق بالكيس
وكذلك نعلم أن الصلاة رحمة، غير أنهم كرهوا الصلاة إلا على الأنبياء، كذلك روينا عن ابن عباس. وسمع سعد بن أبي وقاص ابن أخ له يلبي ويقول في تلبيته: لبيك يا ذا المعارج، فقال: نحن نعلم أنه ذو المعارج، ولكن ليس كذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كنا نقول: لبيك اللهم لبيك. وكان أبو إبراهيم المزني يقول في بعض ما خاطب به داود ابن خلف الأصبهاني: فإن قال كذا فقد خرج عن الملة، والحمد لله. فنقض ذلك عليه داود، وقال فيما رد عليه: تحمد الله على أن تخرج امرأ مسلما من الإسلام، وهذا موضع استرجاع، وللحمد مكان يليق به! وإنما يقال في المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون.

(2/45)

فامتثل هذه المذاهب، واجر على هذه القواعد، وتحفظ في صدور كتبك وفصولها وخواتمها، وضع كل معنى في موضع يليق به، وتخير لكل لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر البلوى بمثل: نسأل الله دفع المحذور، وصرف المكروه، وأشباه هذا؟ وفي موضع ذكر المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون؟ وفي موضع ذكر النعمة: الحمد لله خالصا والشكر لله واجبا. فإن هذه المواضع يجب على الكاتب أن يتفقدها ويتحفظ فيها؛ فإن الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كل معنى في موضعه، ويعلق كل لفظة على طبقتها من المعنى. واعلم أنه لا يجوز في الرسائل استعمال ما أتت به أي القرآن من الاقتصار والحذف، ومخاطبة الخاص بالعام والعام بالخاص، لأن الله جل ثناؤه خاطب بالقرآن قوما فصحاء فهموا عنه جل ثناؤه أمره ونهيه ومراده، والرسائل إنما يخاطب بها أقوام دخلاء على اللغة، لا علم لهم بلسان العرب. وكذلك ينبغي للكاتب أن يجتنب اللفظ المشترك والمعنى الملتبس، فإنه إذن ذهب يكاتب على مثل معنى قول الله تعالى: " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " وكقوله تعالى: " بل مكر الليل والنهار " ، أحتاج الكاتب أن يبين معناه: بل مكرهم بالليل والنهار، ومثل هذا كثير لا يتسع الكتاب لذكره. وكذلك لا يجوز أيضا في الرسائل والبلاغات المشهورة ما يجوز في الأشعار الموزونة، لأن الشاعر مضطر، والشعر مقصور مقيد بالوزن والقوافي، فلذلك أجازوا لهم صرف ما لا ينصرف من الأسماء، وحذف ما لا يحذف منها، واغتفروا فيه سوء النظم، وأجازوا فيه التقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار، وذلك كله غير مستساغ في الرسائل ولا جائز في البلاغات. فمما أجيز في الشعر من الحذف مثل، قول الشاعر:
قواطنا مكة من ورق الحمى يعني الحمام
وقول الآخر:
صفر الوشاحين صموت الخلخل يريد: الخلخال
وكقول الآخر:
دار لسلمى إذ من هواكا يريد: إذ هي
وكقول الحطيئة:
فيها الرماح وفيها كل سابغة ... جدلاء مسرودة من صنع سلام
يريد: سليمان. وكقول الآخر:
من نسج داود أبي سلام ... والشيخ عثمان أبي عفان
أراد: عثمان بن عفان. وكما قال الآخر:
وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق
وأراد: ثعلبة بن سيار. وكما، قال الآخر:
ولست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
أراد: ولكن.
وكذلك لا ينبغي في الرسائل أن يصغر الاسم في موضع التعظيم، وإن كان ذلك جائزا، مثل قولهم: دويهية، تصغير داهية. وجذلل، تصغير جذل. وعذيق، تصغير عذق. وقال الشاعر، هو لبيد:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل
وقال الحباب بن المنذر، يوم سقيفة بني ساعدة: أنا عذيقها المرجب، وجذيلها المحكك. وقد شرحه أبو عبيد.
ومما لا يجوز في الرسائل وكرهوه في الكلام أيضا مثل قولهم: كلمت إياك، وأعني إياك، وهو جائز في الشعر. وقال الشاعر:
وأحسن وأجمل في أسيرك إنه ... ضعيف ولم يأسر كإياك آسر
وقال الراجز:
إياك حتى بلغت إياك
فتخير من الألفاظ أرجحها لفظا، وأجزلها معنى، وأشرفها جوهرا، وأكرمها حسبا، وأليقها في مكانها، وأشكلها في موضعها؛ فإن حاولت صنعة رسالة فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت، وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنحت، فإنه ربما مر بك موضع يكون مخرج الكلام إذا كتبت: أنا فاعل، أحسن من أن تكتب: أنا أفعل، وموضع آخر يكون فيه: استفعلت، أحلى من: فعلت. فأدر الكلام على أماكنه، وقلبه على جميع وجوهه، فأي لفظة رأيتها أخف في المكان

(2/46)

الذي ندبتها إليه، وأنزع إلى الموضع الذي راودتها عليه، فأوقعها فيه، ولا تجعل اللفظة قلقة في موضعها، نافرة عن مكانها، فإنك متى فعلت هجنت الموضع الذي حاولت تحسينه، وأفسدت المكان الذي أردت إصلاحه؛ فإن وضع الألفاظ في غير أماكنها، وقصدك بها إلى غير مصابها، وإنما هو كترقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، فخرج من حد الجدة، وتغير حسنه، كما قال الشاعر:
إن الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبن الناس أن الثوب مرقوع
وكذلك كلما احلولى الكلام وعذب وراق وسهلت مخارجه كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشد اتصالا بالقلوب، وأخف على الأفواه؛ لا سيما إذا كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف، ومعايرا بكلام عذب لم يسمه التكليف بميسمه، ولم يفسده التعقيد باستغلاقه.
وكتب عيسى بن لهيعة إلى أخيه أبي الحسن وزور كلامه وجاوز المقدار في التنطع، فوقع في أسفل كتابه:
أني يكون بليغا ... من اسمه كان عيا
وثالث الحرف منه ... أذى كفيت ميسا
قال: وبلغني أن بعض الكتاب عاد بعض الملوك فوجده يئن من علة، فخرج عنه ومر بباب الطاق، فإذا بطير يدعى الشفانين، فاشتراه وبعث به إليه، وكتب كتابا وتنطع في بلاغته: وتذكر أنه يقال له شفانين، أرجو أن يكون شفاء من أنين. فرفع في أسفل الكتاب: والله لو عطست ضبا ما كنت عندنا إلا نبطيا، فاقصر عن تنطعك، وسهل كلامك.
قوله: لو عطست ضبا، يريد أن الضباب من طعام الأعراب وفي بلدهم؛ فقال: لو عطست فنثرت ضبا من عطاسك لم تلحق بالأعراب ولم تكن إلا نبطيا. وقد جاء في بعض الحديث: إن القط من نثرة عطسة الأسد، وإن الفأر من نثرة عطسة الخنزير. فقال هذا: لو أن الضب من نثرتك لم تكن إلا نبطيا. وفي هذا المعنى قال مخلد الموصلي يهجو حبيبا:
أنت عندي عربي ... ليس في ذاك كلام
شعر ساقيك وفخذي ... ك خزامى وثمام
وقذى عينك صبغ ... ونواصيك ثغام
وضلوع الصدر من شل ... وك نبع وبشام
لو تحركت كذا ان ... جفلت منك نعام
وظباء راتعا ... ت ويرابيع عظام
وحمام يتغنى ... حبذا ذاك الحمام
أنا ما ذنبي لأن ... كذبني فيك الأنام
وفتى يحلف ما إن ... عرقت فيه الكرام
ثم قالوا جاسمي ... من بني الأنباط حام
كذبوا ما أنت ... إلا عربي والسلام
وقد رأيتهم شبهوا المعنى الخفي بالروح الخفي، واللفظ الظاهر بالجثمان الظاهر، وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف الجزل لفظ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة، ولا النظام متسقا، وتضاؤل المعنى الحسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الحسناء في الأطمار الرثة.
وإنما يدل على المعنى أربعة أصناف: لفظ وإشارة وعقد وخط. وقد ذكر له أرسطا طاليس صنفا خامسا في كتاب المنطق، وهو الذي يسمى النصيبة. والنصيبة: الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة، وهي الناطقة بغير لفظ، ومشير إليك بغير يد. وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض وكل صامت وناطق. وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن أعيان المعاني، وسافرة عن وجوهها. وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف، صنفان، هما: القلم واللسان، وكلاهما للقلب ترجمان. فأما اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حد الاستبهام إلى حد الإنسانية بالكلام، ولذلك قال صاحب المنطق: حد الإنسان الحي الناطق. وقالت هشام بن عبد الملك: إن الله رفع درجة اللسان فانطقه بين الجوارح. وقال علي بن عبيده: إنما يبين عن الإنسان اللسان، وعن المودة العينان. وقال آخر: الرجل مخبوء تحت لسانه. وقالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. وقال الشاعر:
وما المرء إلا الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصور
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالسبت ديسمبر 15, 2012 10:17 pm

فإن طرة راقتك يوما فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر
وللخط صورة معروفة، وحلية موصوفة، وفضيلة بارعة، ليست لهذه الأصناف؟ لأنه يقوم مقامها الإيضاح عند المشهد، ويفضلها في المغيب، لأن الكتب تقرأ في الأماكن المتباينة، والبلدان المتفرقة، وتدرس في كل عصر وزمان، وبكل لسان، واللسان وإن كان ذلقا فصيحا لا يعدو سامعه، ولا يجاوزه إلى غيره.
البلاغة
قال سهل بن هارون: سياسة البلاغة أشد من البلاغة. وقيل لجعفر بن يحيى بن، خالد: ما البلاغة؟ قال: التقرب من المعنى البعيد، والدلالة بالقليل على الكثير. وقيل لابن المقفع: ما البلاغة؟ قال: قلة الحصر، والجرأة على البشر؛ قيل له: فما العي؟ قال: الإطراق من غير فكرة، والتنحنح من غير غلة. وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: تطويل القصير، وتقصير الطويل. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: حذف الفضول، وتقريب البعيد. وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ فقال: حسن الاستعارة. قيل لجالينوس: ما البلاغة؟ فقال: إيضاح المعضل، وفك المشكل. وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة؟ فقال: ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه. وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟ قال: إصابة المعنى، والقصد للحجة. وقيل لآخر: ما البلاعة؟ قال: تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق. وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ فقال: الجزالة والإصابة.
تضمين الأسرار في الكتب
وأما تضمين الأسرار في الكتب حتى، لا يقرؤها غير المكتوب إليه ففيه أدب تجب معرفته. وقد تعلقت العامة بكتاب القمي والأصبهاني. وكان أبو حاتم سهل بن محمد قد وصف لي منهما أشياء جليلة من تبديل الحروف، وذلك ممكن لكل إنسان. غير أن اللطيف من ذلك: أن تأخذ لبنا حليبا فتكتب به في القرطاس، فيذر المكتوب له عليه رمادا سخنا من رماد القراطيس، فيظهر ما كتبت به إن شاء الله. وإن شئت كتبت بماء الزاج الأبيض، فإذا وصل إلى المكتوب إليه أمر عليه شيئا من غبار الزاج، وإن أحببت أن لا يقرأ الكتاب بالنهار ويقرأ بالليل فاكتبه بمرارة السلحفاة،
قولهم في الأقلام
قالوا: القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسرائر القلوب، على لغات مختلفة، من معان معقودة بحروف معلومة مؤلفة؛ متباينات الصور، مختلفات الجهات؛ لقاحها التفكير، ونتاجها التدبير؛ تخرس منفردات، وتنطق مزدوجات؛ بلا أصوات مسموعة، ولا ألسن محدودة، ولا حركات ظاهرة؛ خلا قلم حرف باريه قطته ليتعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليرد ما انتشر عنه إليه، وشق رأسه ليحتبس المداد عليه، فهنالك استمد القلم بشقه، ونثر في القرطاس بخطه، حروفا أحكمها التفكر، وجرى على أسلته الكلام، الذي سداه العقل، وألحمه اللسان، ونهسته اللهوات، وقطعته الأسنان، ولفظته الشفاه، ووعته الأسماع، عن أنحاء شتى من صفات وأسماء. وقالت الشاعر، وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي:
وأسمر طاوي الكشح أخرس ناطق ... له ذملان في بطون المهارق
إذا استعجلته الكف أمطر وبله ... بلا صوت إرعاد ولا ضوء بارق
إذا ما حدا غر القوافي رأيتها ... مجلية تمضي أمام السوابق
كأن عليه من دجى الليل حلة ... إذا ما استهلت مزنه بالصواعق
كأن اللآلي والزبرجد نطقه ... ونور الخزامى في عيون الحدائق
وقال العلوي في صفة القلم:
وعريان من خلعة مكتس ... يميس من الوشي في يلمق
تحدر من رأسه ريقة ... تسيل على ذروة المفرق
فكم من أسير له مطلق ... وكم من طليق له موثق
يقيم ويوطن غرب البلاد ... وينهي ويأمر بالمشرق
قليل كثير ضروب الخطوط ... وأخرس مستمع المنطق
يسير بركب ثلاث عجال ... إذا ما حدا الفكر في مهرق
وقالت آخر في القلم:

(2/48)

لك القلم المطيعك غير أنا ... وجدنا رسمه خير المطاع
له ذوقان من أري هني ... ومن شري وبي ذي امتناع
أحذ اللفظ ينطق عن سواه ... فيسمع وهو ليس بذي استماع
إذا استسقى بلاغتك استهلت ... عليه سماء فكرك باندفاع
وبيت بعلياء العلاة بنيته ... بأسمر مشقوق الخياشيم يرعف
كأن عليه ملبسا جلد حية ... مقيم فما يمضي وما يتخلف
جليل شؤون الخطب ما كان راكبا ... يسير وإن أرجلته فمضعف
وقال حبيب بن أوس، وهو من أحسن ما قيل فيه:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل
له ريقة طل ولكن وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا وتقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استغزر الذهن الجلي وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رفدته الخنصران وسددت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنى وسمينا خطبه وهو ناحل
ولما قال حبيب هذا الشعر حسده الخثعمي، فقال لابن الزيات:
ما خطبة القلم التي أنبيتها ... وردت عليك لشاعر مجدود
وأنشد البحتري لنفسه يصف قلم الحسن بن وهب:
وإذا تألق في الندي كلامه ال ... مصقول خلت لسانه من عضبه
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبه
باللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربه
حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفق وقليبها في قلبه
وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه
وأنشد أحمد بن أبي طاهر في بعض الكتاب ويصف القلم:
قلم الكتابة في يمينك آمن ... مما يعود عليه فيما يكتب
قلم به ظفر العدو مقلم ... وهو الأمان لما يخاف ويرهب
يبدي السرائر وهو عنها محجب ... ولسان حجته بصمت يعرب
ومن قولنا في القلم:
بكفه ساحر البيان إذا ... أداره في صحيفة سحرا
ينطق في عجمة بلفظته ... نصم عنها وتسمع البصرا
نوادر يقرع القلوب بها ... إن تستبنها وجدتها صورا
نظام در الكلام ضمنه ... سلكا لخط الكتاب مستطرا
إذا امتطى الخنصرين أذكر من ... سحبان فيما أطال واختصرا
يخاطب الغائب البعيد بما ... يخاطب الشاهد الذي حضرا
ترى المقادير تستدف له ... وتنفذ الحادثات ما أمرا
شخت ضئيل لفعله خطر ... أعظم به في ملمة خطرا
تمج فكاه ريقة صغرت ... وخطبها في القلوب قد كبرا
تواقع النفس منه ما حذرت ... وربما جنبت به الحذرا
مهفهف تزدهي به صحف ... كأنما حليت به دررا
كأنما ترتع العيون بها ... خلال روض مكلل زهرا
إن قربت مرطت طوابعها ... ما فض طين لها ولا كسرا

(2/49)

يكاد عنوانها لروعته ... ينبيك عن سرها الذي استترا
ومن أحسن ما شبهت به الأقلام وشبه بها قول ذي الرمة:
كأن أنوف الطير في عرصاتها ... خراطيم أقلام تخط وتعجم
ومثله قول عدي بن الرقاع في ولد البقرة:
تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
ومن قولنا:
يخرجن من فرجات النقع دامية ... كأن آذانها أطراف أقلام
ومنه قول المأمون:
كأنما قابل القرطاس إذ مشقت ... منها ثلاثة أقلام على قلم
ومثله قولنا
إذا أدارت بنانه قلما ... لم تدر للشبه أيها القلم
ومن قولنا في الأقلام:
ومعشر تنطق أقلامهم ... بحكمة تلقنها الأعين
تلفظها في الصك أفلامهم ... كأنما أقلامهم ألسن
ومن قولنا في الأقلام:
يا كاتبا نقشت أنامل كفه ... سحر البيان بلا لسان ينطق
إلا صقيل المتن ملموم القوى ... حدت لها زمه وشق المفرق
فإذا تكلم رغبة أو رهبة ... في مغرب أصغى إليه المشرق
يجرى بريقة أريه أو شريه ... يبكي ويضحك من سراه المهرق
ولعبد الله بن المعتز كلام يصف فيه القلم: القلم يخدم الإرادة، ولا يمل الأستزادة؛ يسكت واقفا، وينطق ساكتا؛ على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء. وقال سليمان بن وهب، وزير المهدي: كل قلم تطيل جلفته فإن الخط يخرج به أوقص.
وكتب جعفر بن يحيى إلى محمد بن الليث يستوصفه الخط، فكتب إليه: أما بعد، فليكن قلمك بحريا، لا سمينا ولا رقيقا، ما بين الرقة والغلظ، ضيق النقب. فابره بريا مستويا كمنقار الحمامة، اعطف قطته، ورقق شفرته. وليكن مدادك صافيا، خفيفا إذا استمددت منه، فانقعه ليلة ثم صفه في الدواة. وليكن قرطاسك رقيقا مستوي النسج، تخرج السحاة مستوية من أحد الطرفين إلى الآخر، فليست تستقيم السطور إلا فمما كان كذلك. وليكن أكثر تمطيطك في طرف القرطاس الذي في يسارك وأقله في الوسط، ولا تمط في الطرف الآخر، ولا تمط كلمة ثلاثة أحرف ولا أربعة، ولا تترك الأخرى بغير مط؛ فإنك إذا فرقت القليل كان قبيحا، وإذا جمعت الكثير كان سمجا. ثم ابتدىء الألف برأس القلم كله وإخططه بعوضه واختمه بأسفله. وأكتب الباء والتاء والسين والشين؛ والمطة العليا من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين، ورأس كل مرسل، برأس القلم. واكتب الجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء، والمطة السفلى من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين بالسن السفلى من القلم، وامطط بعرض القلم. والمط نصف الخط، ولا يقوى عليه إلا العاقل، ولا أحسب العاقل يقوى عليه أيضا إلا بالنظر إلى اليد في استعمالها الحركة، والسلام.
وقال ابن طاهر لكاتبه: ألق دواتك، وأطل سن قلمك، وفرج بين السطور، وقرمط بين الحروف. وقال إبراهيم بن جبلة: مر بي عبد الحميد، وأنا أخط خطا رديئا، فقال لي: أتحب أن يجود خطك؟ قلت: بلى. قالت: أطل جلفة القلم وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها. ففعلت فجاد خطي: وقال العتابي: ببكاء القلم تبتسم الكتب. وقال بعض الحكماء: أمر الدين والدنيا تحت شباة السيف والقلم. وقال حبيب الطائي:
لولا مناشدة القربى لغادركم ... حصائد المرهفين: السيف والقلم
وقال أرسطاطاليس: عقول الرجال تحت سن أقلامهم وقال أبو حكيمة: كنت أكتب المصاحف، فمر بي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقال: أجلل قلمك. فقصمت من قلمي قصمة. فقال: هكذا، نوره كما نوره الله. وكان ابن سيرين يكره أن يكتب القرآن مشقا، وقال: أجود الخط أبينه.

(2/50)

وقال سليمان بن وهب: زينوا خطوطكم بإسبال ذوائبها. وقال عمرو بن مسعدة: الخط صورة ضئيلة، لها معان جليلة، وربما ضاق على العيون، وقد ملأ أقطار الظنون. وذكر على بن عبيدة القلم فقال: أصم يسمع النجوى، أعيا من باقل، وأبلغ من سحبان وائل، يجهل الشاهد، ويخبر الغائب، ويجعل الكتب بين الإخوان ألسنا ناطقة، وأعينا لاحظة، وربما ضمنها من ودائع القلوب ما لا تبوح به الألسن عند المشاهدة. وقال أحمد بن يوسف الكاتب: ما عبرات الغواني في خدودهن بأحسن من عبرات الأقلام في خدود الكتب. وقال العتابي: الأقلام مطايا الفطن. وتخاير غلامان في بعض الدواوين فقاما إلى أستاذهما يعرضان عليه خطوطهما، فكره أن يفضل أحدهما على الآخر، فقال لأحدهما: أما خطك أنت فوشي محوك. وقال للآخر: وأما خطك أنت فذهب مسبوك، تكافيتما في غاية، وتوافيتما في نهاية. وقال آخر: دخلت الديوان فنظرت إلى غلام بيده قلم كأنه قضيب عقيان وعليه مكتوب:
وا بأبي، وا بأبي ... من كف من يكتب بي
وقال أبو هفان يصف القلم:
وإذا أمر على المهارق كفه ... بأنامل يحملن شختا مرهفا
ومقصرا ومطولا ومقطعا ... وموصلا ومشتتا ومؤلفا
كالحية الرقشاء إلا أنه ... يستنزل الأروى إليه تلطفا
يهفو بها قلم يمج لعابه ... فيعود سيفا صارما ومثففا
وقال آخر في وصف الدواة:
ومسودة الأرجاء قد خضت حالها ... ورويت من قعر لها غير منبط
خميص الحشي يروى على كل شرب ... أمينا على سر الأمين المسلط
وقال بعض الكتاب:
وما روض الربيع وقد زهاه ... ندى الأسحار يأرج بالغداة
بأضوع أو بأسطع من نسيم ... تؤديه الأفاوه من دواة
وقال آخر في وصف محبرة:
ولجة بحر أجم العبا ... ب باد وأمواجه تزخر
إذا غاص فيه أخو غوصة ... سريع السباحة ما يفتر
فأنفس بذلك من غائص ... بديع الكلام له جوهر
وأكرم ببحر له لجة ... جواهرها حكم تنثر
وقال ثمامة بن أشرس: ما أثرته الأقلام لم تطمع في درسه الأيام. ونظر المأمون إلى جارية من جواريه تخط خطا حسنا، فقال فيها:
وزادت لدينا حظوة حين أطرقت ... وفي إصبعيها أسمر اللون أهيف
أصم سميع ساكن متحرك ... ينال جسيمات المنى وهو أعجف
وقال بعض الكتاب:
إذا ما التقينا وانتضينا صوارما ... يكاد يصم السامعين صريرها
تساقط في القرطاس منها بدائع ... كمثل اللآلى نظمها ونثيرها
قال بشر بن المعتمر: القلب معدن، والحلم جوهر، واللسان مستنبط، والقلم صائغ، والخط صيغة. وقال سهل بن هارون: القلم لسان الضمير، إذا رعف أعلن أسراره، وأبان آثاره. وقالوا: حسن الخط يناضل عن صاحبه، ويوضح الحجة، ويمكن له درك البغية. وقال آخر: الخط الردىء زمانة الأديب. وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال، منها: جودة بري القلم، وإطالة جلفته، وتحريف قطته، وحسن التأتي لإمطاء الأنامل، وإرسال المدة بقدر اتساع الحروف، والتحرز عند فراغها من الكسوف، وترك الشكل على الخطأ، والإعجام على التصحيف، واستواء الرسوم، وحلاوة المقاطع.
وقال سعيد بن حميد: من أدب الكاتب أن يأخذ قلمه في أحسن أجزائه وأبعد ما يتمكن المداد فيه، ويعطيه من القرطاس حقه. وقال عبد الله بن عباس: كل كتاب غير مختوم فهو غفل. وفي تفسير قول الله تعالى: " إني ألقي إلي كتاب كريم " قال: مختوم. ورفع إلى عبد الله بن طاهر قصة قد أكثر صاحبها إعجامها، فقال: ما أحسن ما كتبت، إلا أنك أكثرت شونيزها.

(2/51)

وقال أبو عبيدة: لا يقال: كأس، إلا إذا كان فيها شراب، وإلا فهي زجاجة؛ ولا مائدة، إلا إذا كان عليها طعام، وإلا فهي خوان؛ ولا قلم، إلا إذا بري، وإلا فهو قصبة. وقاك آخر: جلوس الأدباء عند الوراقين، وجلوس المخمنين عند النخاسين، وجلوس الطفيليين عند الطباخين.
وكتب على بن الأزهر إلى صديق له يسأله أقلاما يبعث بها إليه: أما بعد، فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم، فحلت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب، وجدنا الأقلام الصحرية أسرع في الكواغد، وأمر في الجلود، كما أن البحرية منها أسلس في القراطيس، وألين في المعاطف، وأشد لتصريف الخط فيها. ونحن في بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت أن تتقدم في اختيار أقلام بحرية، وتتأنق في انتقائها قبلك، وتطلبها في مظانها ومنابتها من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمم باختيارك منها الشديدة المحص، الصلبة المعض، النقية الخدود، القليلة الشحوم، المكتنزة اللحوم، الضيقة الأجواف، الرزينة المحمل؛ فإنها أبقى على الكتابة، وأبعد من الحفاء، وأن تقصد بانتقائك الرقاق القضبان، المقومات المعون، الملس المعاقد، الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبسا، وهي قائمة على أصولها، لم تعجل عن إبان ينعها، ولم تؤخر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر الشتاء، وعفن الأنداء، فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعا ذراعا، قطعا رقيقا، ثم عبأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية، ووجهتها مع من يؤدي الأمانة في حراستها وحفظها وإيصالها، وكتبت معه رقعة بعدتها وأصنافها، بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى.
قولهم في الحبر
قال بعض الكتاب: عطروا دفاتر آدابكم بجيد الحبر، فإن الأدب غواني، والحبر غوالي. ونظر جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثر المداد وهو يستره، فقال له:
لا تجزعن من المداد فإنه ... عطر الرجال وحلية الكتاب
وأتى وكيع بن الجراح رجل يمت إليه بحرمة، فقال له: وما حرمتك؟ وقال له: كنت تكتب من محبرتي عند الأعمش، فوثب وكيع ودخل منزله، تم أخرج له بضعة دنانير، وقال له: أعذر فما أملك غيرها.
الأقلام
أهدى ابن الحرون إلى رجل من إخوانه من الكتاب أقلاما وكتب إليه: إنه لما كانت الكتابة، أبقاك الله، أعظم الأمور، وقوام الخلافة، وعمود المملكة، خصصتك من آلتها بما يخف محمله، وتثقل قيمته، ويعظم نفعه، ويجل خطره، وهي أقلام من القصب النابت في الصحر، الذي نشف في حر الهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه، فهي كاللالىء المكنونة في الصدف، والأنوار المحجوب في السدف، تبرية القشور، درية الظهور، فضية الكسور، قد كستها الطبيعة جواهر كالوشي المحبر، وفرند الديباج المنير.
قولهم في الصحف
نعم الأنيس إذا خلوت كتاب ... تلهو به إن ملك الأحباب!
لا مفشيا سرا إذا استودعته ... وتفاد منه حكمة وصواب
وقال آخر:
ولكل صاحب لذة متنزه ... أبدا ونزهة عالم في كتبه
وقال حبيب
مداد مثل خافية الغراب ... وقرطاس كرقراق السراب
وألفاط كألفاظ المثاني ... وخط مثل وشم يد الكعاب
كتبت ولو قدرت هوى وشوقا ... إليك لكنت سطرا في الكتاب
وقال في صحيفة جاءته من عند الحسن بن وهب:
لقد جلى كتابك كل بث ... جو وأصاب شاكلة الرمي
فضضت ختامه فتبلجت لي ... غرائبه عن الخبر الجلي
وكان أغض في عيني وأندى ... على كبدي من الزهر الجني
وأحسن موقعا مني وعندي ... من البشرى أتت بعد النعي
وضمن صدره ما لم تضمن ... صدور الغانيات من الحلي
فكائن فيه من معنى خطير ... وكائن فيه من لفظ بهي

(2/52)

فيا ثلج الفؤاد وكان رضفا ... ويا شبعي برونقه وريي
فكم أفصحت عن بر جليل ... به ووأيت من وأي سني
كتبت به بلا لفظ كريه ... على أذن ولا خط قمي
رسالة من تمتع منذ حين ... ومتعنا من الأدب الرضي
لئن غربتها في الأرض بكرا ... لقد زفت إلى قلب وفي
وإن يك من هداياك الصفايا ... فرب هدية لك كالهدي
وقال ابن أبي طاهر في ابن ثوابة:
في كل يوم صدور الكتب صادرة ... من رأيه وندى كفيه عن مثل
عن خط أقلامه خط القضاء على ال ... أعداء بالموت بين البيض والأسل
لعابها علل في الصدر تنفثه ... وربما كان فيه النفع للعلل
كأن أسطارها في بطن مهرقها ... نور يضاحك دمع الواكف الخضل
وقال البحتري في محمد بن عبد الملك الزيات:
قد تصرفت في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميد
في نظام من البلاغة ما شك ... امرؤ أنه نظام فريد
وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديد
ما أعيرت منه بطون القراطي ... س وما حملت ظهور البريد
حجج تخرس الألد بألفا ... ظ فرادى كالجوهر المعدود
حزن مستعمل الكلام اختيارا ... وتجنبن ظلمة التعقيد
كالعذارى غدون في الحلل البي ... ض إذا رحن في الخطوط السود
وقال علي بن الجهم في رقعة جاءته بخط جيد:
ما رقعة جاءتك مثنية ... كأنها خد على خد
نثر سواد في بياض كما ... ذر فتيت المسك في الورد
ساهمة الأسطر مصروفة ... عن جهة الهزل إلى الجد
يا كاتبا أسلمني عتبه ... إليك حسبي منك ما عندي
وقال محمد بن إبراهيم بن محمد الشيباني: رفع أبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى الفضل بن يحيى بن خالد رقعة بأبيات له يصف فيها قامته، وكثافة لحيته، وحلاوة شمائله، وبراعة أدبه، وبلاغة قلمه، فقال:
أنا من بغية الأمير وكنز ... من كنوز الأمير ذو أرباح
كاتب حاسب أديب لبيب ... ناصح زائد على النصاح
شاعر مفلق أخف من الري ... شة مما تكون تحت الجناح
لي في النحو فطنة ونفاذ ... أنا فيه قلادة بوشاح
لو رمى بي الأمير أصلحه الله ... رماحا صدمت حد الرماح
ثم أروى من ابن سيرين في الفق ... ه بقول منور الإفصاح
لست بالضخم في روائي ولا الفد ... م ولا بالمجعد الدحداح
لحية كثة وأنص طويل ... واتقاد كشعلة المصباح
وكثير الحديث من ملح النا ... س بصير بخافيات ملاح
كم وكم قد خبأت عندي حديثا ... هو عند الأمير كالتفاح
أيمن الناس طائرا يوم صيد ... في غدو أو بكرة أو رواح
أعلم الناس بالجوارح والصي ... د وبالخرد الحسان الملاح
كل هذا جمعت والحمد لل ... ه على أنني ظريف المزاح
لست بالناسك المشمر ثوبي ... ه ولا الفاتك الخليع الوقاح
لو دعاني الأمير عاين مني ... شمريا كالبلبل الصداح
قال: فدعاه. فلما دخل عليه أتاه كتاب من إرمينية فرمى به إليه وقال له: أجب. فأجاب بما في غرضه وأحسن. فأمر له بألف ألف درهم، وكنا نراه أول داخل وآخر خارج، وكان إذا ركب فركابه مع ركابه. قال محمد بن يزيد: فبلغ هذا الشعر أبا نواس فقال:
أنت أولى بقلة الحظ مني ... يا مسمى بالبلبل الصداح

(2/53)

قبلوا منه حين عز لديهم ... أخرس القول غير ذي إفصاح
ثم بالريش شبه النفس في الخف ... ه مما يكون تحت الجناح
إذا الشم من شماريخ رضوى ... خفة عنده نوى المسباح
لم يكن فيك غير شيئين مما ... قلت في نعت خلقك الدحداح
لحية جعدة وأنف طويل ... وسوى ذاك ذاهب في الرياح
فيك ما يحمل الملوك على السخ ... ف ويزري بالماجد الجحجاح
بارد الطرف مظلم اللب تيا ... ه معيد الحديث سمج المزاح
قال: فبعث إليه أبان بأن لا تذيعها وخذ الألف ألف درهم. فبعث إليه أبو نواس: لو أعطيتني مائة ألف ألف درهم لم أجد بدا من إذاعتها. فيقال: إن الفضل بن يحيى لما سمع شعر أبي نواس قال: لا حاجة لي في أبان، لقد رمي بخمس في بيت لا يقبل على واحدة منهن إلا جاهل، فقيل له: كذب عليه. فقال: قد قبل ذلك، فأقصاه. وإنما أغرى أبا نواس بهذا الكاتب أبان بن عبد الحميد اللاحقي أن الفضل بن يحيى أعطاه مالا يفرقه في الشعراء ويعطى كل واحد على قدره، فبعث إلى أبي نواس بدرهم زائف ناقص، وقال: إني أعطيت كل شاعر على مقدار شعره، وكان هذا أوفر نصيبك عندي. فهجاه لذلك.
توقيعات الخلفاء
عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
كتب إليه سعد بن أبي وقاص في بنيان يبنيه، فوقع في أسفل كتابه: ابن ما يكنك من الهواجر وأذى المطر. ووقع إلى عمرو بن العاص: كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك.
عثمان بن عفان
رضي الله عنه
وقع في قصة قوم تظلموا من مروان بن الحكم وذكروا أنه أمر بوجء أعناقهم: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون. ووقع في قصة رجل شكا عيلة: قد أمرنا لك بما يقيمك، وليس من مال الله فضل للمسرف.
علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه
وقع إلى طلحة بن عبيد الله: في بيته يؤتى الحكم. ووقع في كتاب جاءه من الحسن بن علي رضي الله عنهما: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام. ووقع في كتاب لسلمان الفارسي، وكان سأله كيف يحاسب الناس يوم القيامة: يحاسبون كما يرزقون. ووقع في كتاب الحصين بن المنذر إله يذكر أن السيف قد أكثر في ربيعة: بقية السيف أنمى عددا. وفي كتاب جاءه من الأشتر النخعي فيه بعض ما يكره: من لك بأخيك كله؟ وفي كتاب صعصعة ابن صوحان يسأله في شيء: قيمة كل امرىء ما يحسن.
معاوية بن أبي سفيان
كتب إليه عبد الله بن عامر في أمر عاتبه فيه، فوقع في أسفل كتابه: بيت أمية في الجاهلية أشرف من بيت حبيب. فأما في الإسلام، فأنت تراه. وفي كتاب عبد الله بن عامر يسأله أن يقطعه مالا بالطائف: عش رجبا ترى عجبا: وفي كتاب زياد يخبره بطعن عبد الله بن عباس في خلافته: إن أبا سفيان وأبا الفضل كانا في الجاهلية في مسلاخ واحد، وذلك حلف لا يحله سوء أدبك. وكتب إليه ربيعة بن عسل اليربوعي يسأله أن يعينه في بناء داره بالبصرة باثنى عشر ألف جذع: أدارك في البصرة أم البصرة في دارك؟
يزيد بن معاوية
وقع في كتاب عبد الله بن جعفر إليه يستميحه لرجال من خاصته: احكم لهم بآمالهم إلى منتهى آجالهم. فحكم بتسعمائة ألف، فأجازها. وكتب إليه مسلم ابن عقبة المري بالذي صنع أهل الحرة، فوقع في أسفل كتابه: فلا تأس على القوم الفاسقين. وفي كتاب مسلم بن زياد عامله على خراسان وقد استبطأه في الخراج: قليل العتاب يحكم مرائر الأسباب، وكثيره يقطع أواخي الإنتساب. ووقع إلى عبد الرحمن بن زياد، وهو عامله على خراسان: القرابة واشجة، والأفعال متباينة، فخذ لرحمك من فعلك. وإلى عبيد الله بن زياد: أنت أحد أعضاء ابن عمك فأحرص أن تكون كلها.
عبد الملك بن مروان
وقع في كتاب أتاه من الحجاج: جنبني دماء بني عبد المطلب، فليس فيها شفاء

(2/54)

من الطلب. وكتب إليه الحجاج يخبره بسوء طاعة أهل العراق وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم، فوقع له: إن من يمن السائس أن يتألف به المختلفون، ومن شؤمه أن يختلف به المؤتلفون. وفي كتاب الحجاج يخبره بقوة ابن الأشعث: بضعفك قوي، وبخرقك طلع. ووقع في كتاب ابن الأشعث:
فما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظا وينوي من سفاهته كسري؟
ووقع أيضا في كتاب:
كيف يرجون سقاطي بعدما ... شمل الرأس مشيب وصلع؟
الوليد بن عبد الملك
كتب إليه الحجاج لا بلغه أنه خرق فيما خلف له عبد الملك، ينكر ذلك عليه ويعرفه أنه على، غير صواب، فوقع في كتابه: لأجمعن المال جمع من يعيش أبدا، ولا فرقنه تفريق من يموت غدا. ووقع إلى عمر بن عبد العزيز: قد رأب الله بك الداء، وأوذم بك السقاء.
سليمان بن عبد الملك
كتب قتيبة بن مسلم إلى سليمان يتهدده بالخلع، فوقع في كتابه:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع
ووقع في كتابه أيضا: العاقبة للمتقين. وإلى قتيبة أيضا جواب وعيده: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا.
عمر بن عبد العزيز
كتب بعض العمال إليه يستأذنه في مرمة مدينته، فوقع أسفل كتابه: ابنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم. وإلى بعض عماله في مثل ذلك: حصنها ونفسك بتقوى الله. وإلى رجل ولاه الصدقات، وكان دميما، فعدل وأحسن: ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا. وكتب إليه صاحب العراق يخبره عن سوء طاعة أهلها، فوقع له: ارض لهم ما ترضى لنفسك، وخذهم بجرائمهم بعد ذلك. وإلى عدي بن أرطاة في أمر عاتبه عليه: إن آخر آية أنزلت: " وأتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " . وإلى عامله على الكوفة، وكتب إليه أنه فعل في أمر كما فعل عمر بن الخطاب: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتد. وإلى الوليد بن عبد الملك، وعمر عامله على المدينة، فوقع في كتابه: الله أعلم أنك لست، أول خليفة تموت. وأتاه كتاب عدي يخبره بسوء طاعة أهل الكوفة، فوقع في كتابه: لا تطلب طاعة من خذل عليا، وكان إماما مرضيا. وإلى عامله بالمدينة، وسأله أن يعطيه موضعا يبنيه، فوقع: كن من الموت على حذر وفي قصه متظلم: العدل إمامك:وفي رقعه محبوس: تب تطلق، وفي رقعت رجل قتل: كتاب الله بيني وبينك،وفي رقعه متنصح: لو ذكرت الموت شغلك عن نصيحتك وفي رقعته رجل شكا أهل بيته: أنتما في الحق سيان. وفي رقعه امرأة حبس زوجها: الحق حبسه. وفي رقعة رجل تظلم من ابنه: إن لم أنصفك منه فأنا ظلمتك
يزيد بن عبد الملك
وقع إلى صاحب خراسان: لا يغرنك حسن رأي فإنما تفسده عثرة وإلى صاحب المدينة عثر فاستقل وفي قصة متظلم شكا بعض أهل بيته: ما كان عليك لو صفحت عنه واستوصلتني
هشام بن عبد الملك
في قصه متظلم: أتاك الغوث إن كنت صادقا وحل بك النكال إن كنت كاذبا فتقدم أو تأخر. في قصه قوم متظلم شكوا أميرهم: إن صح ما أدعيتم عليه عزلناه وعاقبناه. وإلى صاحب خراسان حين أمره بمحاربة الترك: أحذر ليالي البيات. وإلى صاحب المدينة وكتب يخبره بوثوب أبناء الأنصار: احفظ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبهم له ووقع في رقعة محبوس لزمه الحد: نزل بحدك الكتاب. ووقع في قصة رجل شكا إليه الحاجة وكثرة العيال وذكر أن له حرمة: لعيالك في بيت مال المسلمين سهم، ولك بحرمتك منا مثلاه، وإلى عامله على العراق في أمر الخوارج: ضع سيفك في كلاب النار، وتقرب إلى الله بقتل الكفار. وإلى جماعة يشكون تعدي عاملهم عليهم لنفوضكم دونكم. وفي كتاب عامله يخوه قيه بقلة الأمطار في بلده: مرهم بالاستغفار وإلى لسهل ابن سيار: خف الله وإمامك فإنه يأخذه عند أول زله
يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
وقع إلى مروان: أراك تقدم وجلا وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت. وإلى صاحب خراسان في المسودة: نجم أمر أنت عنه نائم، وما أراك منه أو مني سالم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أم ضياء
مديرة عامه
مديرة عامه
أم ضياء


الجنــــــــس : انثى
عدد المساهمات : 1529
تاريخ التسجيل : 14/01/2011
العمـــر : 46
الموقــــع : الأردن
العمل\ الترفيه : ربة بيت
المزاج : رايق

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالأحد ديسمبر 16, 2012 8:22 am

موضوع في غاية الروعه
اشكرك على المجهود الذي تبذلينه معنا اخت سرى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:20 pm

يتبع

مروان بن محمد
كتب إلى نصر بن سيار في أمر أبي مسلم: تحول الظاهر يدل على ضعف الباطن، والله المستعان. ووقع إلى ابن هبيرة أمير خراسان: الأمر مضطرب، وأنت نائم وأنا ساهر. وإلى حوثرة بن سهيل حين وجهه إلى قحطبة: كن من بيات المارقة على حذر. ووقع حين أتاه غرق قحطبة وانهزام ابن هبيرة: هذا والله الإدبار، وإلا فمن رأى ميتا هزم حيا. وفي جواب أبيات نصر بن سيار إذ كتب إليه:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام
الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول. فكتب نصر: الثؤلول قد امتدت أغصانه، وعظمت نكايته. فوقع إليه: يداك أوكتا وفوك نفخ.
توقيعات بني العباس
السفاح كتب إليه جماعه من أهل الأنبار يذكرون أن منازلهم أخذت منهم وأدخلت في البناء الذي أمر به ولم يعطوا أثمانها، فوقع: هذا بناء أسس على غير تقوى، ثم أمر بدفع قيم منازلهم إليهم. ووقع في كتاب أبي جعفر وهو يحارب ابن هبيرة بعد أن أرجعه فيه غير مرة: لست منك ولست مني إن لم تقتله. وجاءه كتاب من أبي مسلم يستأذنه في الحج وفي زيارته، فوقع إليه: لا أحول بينك وبين زيارة بيت الله الحرام أو خليفته، وإذنك لك. ووقع في كتاب جماعة من بطانته يشكون احتباس أرزاقهم: من صبر في الشدة شارك في النعمة؛ ثم أمر بأرزاقهم. وإلى عامل تظلم منه: وما كنت متخذ المضلين عضدا. وفي قوم شكوا غرق ضياعهم في ناحية الكوفة: وقيل بعدا للقوم الظالمين.
أبو جعفر وقع في كتابه إلى عبد الله بن علي عمه: لا تجعل للأيام وفي وفيك نصيبا من حوادثها. ووقع إليه أيضا: ادفع بالتي هي أحسن إلى قوله: وما يلقاه إلا ذو حظ عظيم. فاجعل الحظ لي دونك يكن لك كله. ووقع إلى عبد الحميد صاحب خراسان: شكوت فأشكيناك، وعتبت فأعتبناك؛ ثم خرجت عن العامة، فتأهب لفراق السلامة. وإلى أهل الكوفة، وشكوا عاملهم: كما تكونون يؤمر عليكم. وإلى قوم تظلموا من عاملهم: لا ينال عهدي الظالمين. وفي قصة رجل شكا عيلة: سل الله من رزقه. وفي قصة رجل سأله أن يبني بقربه مسجدا فإن مصلاه على بعد: ذلك أعظم لثوابك. وفي قصة رجل قطعت عنه أرزاقه: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " الآية. وفي قصة رجل شكا الدين: إن كان دينك في مرضاة الله قضاه. وإلى صارورة سأله أن يحج: " لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " . وإلى صاحب مصر حين كتب يذكر نقصان النيل: طهر عسكرك من الفساد يعطك النيل القياد. وإلى عامله على حمص، وجاءه منه كتاب فيه خطأ: استبدل بكاتبك وإلا استبدل بك. وإلى صاحب أرمينية: إن لي في قفاك عينا، وبين عينيك عينا، ولهما أربع آذان. وإلى رجل استوصله: لا مانع لما أعطاه الله. وفي كتاب أتاه من صاحب الهند يخبره أن جندا شغبوا عليه وكسروا أقفال بيت المال فأخذوا أرزاقهم منه: لو عدلت لم يشغبوا، ولو وفيت لم ينهبوا.
المهدي وقع في قصة متظلمين شكوا بعض عماله: لو كان عيسى عاملكم قدناه إلى الحق كما يقاد الجمل المخشوش - يريد عيسى ولده. ووقع إلى صاحب إرمينية، وكتب إليه يشكو سوء طاعة رعاياه: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. وإلى صاحب خراسان في أمر جاءه: أنا ساهر وأنت نائم. وفي قصة قوم أصابهم قحط: يقدر لهم قوت سنة القحط والسنة التي تليها. وإلى شاعر، أظنه مروان بن أبي حفصة: أسرفت في مديحك فقصرنا في حبائك. وفي قصة رجل من الغارمين: خذ من بيت مال المسلمين ما تقضي به دينك، وتقر به عينك. وفي قصة رجل شكا الحاجة: أتاك الغوث. وإلى رجل من بطانته استوصله: ليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك. وفي قصة قوم تظلموا من عاملهم وسألوه إشخاصه إلى بابه: قد أنصف القارة من راماها. وفي قصة رجل حبس في دم: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب. وإلى صاحب خراسان، وكتب إليه يخبره بغلاء الأسعار: خذهم بالعدل في المكيال والميزان. وإلى يوسف البرم حين خرج بخراسان: لك أماني ومؤكد أيماني.

(2/56)

موسى الهادي كتب إلى الحسن بن قحطبة في أمر راجعه فيه: قد أنكرناك منذ لزمت أبا حنيفة، كفاناه الله. وإلى صاحب إفريقية في أمر فرط منه: يا بن اللخناء، أني تتمرس.
هارون الرشيد وقع إلى صاحب خراسان: داو جرحك لا يتسع. وإلى عامله على مصر: احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف، فيأتيك مني ما لا قبل لك به، ومن الله أكثر منه. وقيع في قصة رجل من، البرامكة: أنبتته الطاعة وحصدته المعصية وإلى عامله على فارس: كن مني على مثل ليلة البيات. والى عامل خراسان: إن الملوك يؤثر عنهم الحزم. وإلى خزيمة بن خازم، إذ كتب إليه أنه وضع فيهم، السيف حين دخل أرض أرمينية: لا أم لك! تقتل بالذنب من لا ذنب له. وفي قصة محبوس: من لجأ إلى الله نجا. وفي قصة متظلم: لا يجاوز بك العدل، لا يقصر بك دون الإنصاف. وإلى صاحب السند، إذ ظهرت العصبية؛ كل من دعا إلى الجاهلية، تعجلي إلى المنية. وإلى عامله على خراسان: كل من رفع رأسه فأنزله عن بدنه وفي رقعة متظلم من عامله على الأهواز، وكان بالمتظلم عارفا؛ قد وليناك موضعه فتنكب سيرته. وفي كتاب بكار الزبيري وفي كتاب بكر الزبيري إليه يخبره بسر من أسرار الطالبين: جزى الله الفضل خير الجزاء فاختياره إياك، وقد أثابك أمير المؤمنين مائة ألف بحسن نيتك. وإلى محفوظ صاحب خراج مصر: يا محفوظ، اجعل خرج مصر خرجا وأحدا وأنت أنت. وإلى صاحب المدينة. ضع رجليك على رقاب أهل هذا البطن، فإنهم قد أطالوا ليلي بالسهاد، ونفوا عن عيني لذيذ الرقاد. ووقع إلى السندي بن شاهك: خف الله وإمامك فهما نجاتك. وإلى سليمان بن أبي جعفر في كتاب ورد عليه منه يذكر فيه وثوب أهل دمشق. استحييت لشيخ ولده المنصور أن يهرب عمن ولدته كندة وطيء، فهلا قابلتهم بوجهك، وأبديت لهم صفحتك، وكنت كمروان ابن عمك إذ خرج مصلتا سيفه متمثلا ببيت الجحاف بن حكيم:
متقلدين صفائحا هندية ... يتركن من ضربوا كمن لم يولد
فجلد به حتى قتل، لله أم ولدته، وأب انهضه! وكتب متملك الروم إلى هارون الرشيد: إني متوجه نحوك بكل صليب في مملكتي، وكل بطل في جندي فوقع في كتابه: سيعلم الكافر لمن عقبى الدار. وكتب إليه يحيى بن خالد من الحبس حين أحس بالموت: قد تقدم الخصم! إلى موقف الفصل، وأنت بالأثر؛ والله الحكم العادل، وستقدم فتعلم، فوقع فيه الرشيد: الحكم الذي رضيته في الآخرة لك هو الذي أعدى الخصم في الدنيا عليك، وهو من لا يرد حكمه، ولا يصرف قضاؤه.
المأمون وقع إلى علي بن هشام في أمر تظلم فيه منه: من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من دونه، فأي الرجلين أنت؟ وإلى هشام: لا أدنيك ولك ببابي خصم. وإلى الرستمي في قصة من تظلم منه: ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة، وغريمك خاو، وجارك طاو. وفي قصة متظلم من عمرو بن مسعدة: يا عمرو، اعمر نعمتك بالعدل، فإن الجور يهدمها. وفي قصة متظلم من أبي عياد: يا ثابت، ليس بين الحق والباطل قرابة. وفي قصة متظلم من أبي عيسى أخيه: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون. وفي قصة متظلم من حميد الطوسي: يا أبا غانم، لا تغتر بموضعك من إمامك، فإنك وأخس عبيده في الحق سيان. وإلى طاهر صاحب خراسان: أحمد الله أبا الطيب إذا أحلك من خليفته محل نفسه، فما لك موضع تسمو إليه نفسك إلا وأنت فوقه عنده. وفي كتاب بشر بن داود: هذا أمان عاقدت الله عليه، في مناجاتي إياه. وفي كتاب إبراهيم بن جعفر في فدك حين أمره بردها: قد أرضيت خليفة الله في فدك كما أرضى الله رسوله فيها. وفي قصة متظلم من محمد بن الفضل الطوسي: قد احتملنا بذاءك وشكاسة خلقك، فأما ظلمك للرعية فإنا لا نحتمله. ووقع إلى بعض عماله: طالع كل ناحية من نواحيك، وقاصية من أقاصيك، بما فيه استصلاحها. وكتب إليه إبراهيم بن المهدي في كلام له: إن غفرت فبفضلك، وإن أخذت فبحقك. فوقع

(2/57)

في كتابه: القدرة تذهب الحفيظة، والندم جزء من التوبة، وبينهما عفو الله. ووقع في رقعة مولى طلب كسوة: لو أردت الكسوة للزمت الخدمة، ولكنك آثرت الرقاد فحظك الرؤيا. ووقع في يوم عاشوراء لبعض أصحابه، وقد وافته الأموال: يؤمر له بخمسمائة ألف لطول همته. ولثمامة بن أشرس بثلثمائة ألف لتركة ما لا يعنيه. ولأبي محمد اليزيدي: يؤمر له بخمسمائة ألف لكبره. وللمعلى بخمسمائة ألف لصحيح نيته. ولإسحاق بن إبراهيم بخمسمائة ألف لصدق لهجته. وللعباس بخمسمائة ألف لفصاحة منطقه. ولأحمد بن أبي خالد بألف ألف لمخالفة شهوته. ولإبراهيم بن بويه كذلك لسرعة دمعته. وللمريسي بثلثمائة ألف لإسباغ وضوئه. ولعبد الله بن بشر بمثلها لحسن وجهه.
توقيعات الأمراء والكبراء
زياد وقع إلى بعض عماله
قد كنت على الدعار، وأخالك داعرا. وكتبت إليه عائشة في وصاة برجل، فوقع في كتابها: هو بين أبويه. وإلى صاحب خراسان في أمر خالفه فيه: اشتر بعض دينك ببعض وإلا ذهب كله. وإلى عامله بالكوفة: أمط الحدود عن ذوي المروآت. وفي قصة متظلم: أنا معك. وفي قصة قوم رفعوا على عامل رفيعة، من أماله الباطل قومه الحق. وفي قصة مستمنح: لك المواساة. وإلى عامله في خوارج خرجوا بالبصرة: النساء تحاربهم دونك. وفي قصة سارق: القطع جزاؤك. وفي قصة امرأة حبس زوجها: حكمه إلى الله. وفي قصة قوم نقبوا: تنقب ظهورهم. وفي قصة نباش: يدفن حيا في قبره. وفي قصة متظلم. الحق يسعك. وفي قصة متنصح: مهلا فقد أبلغت إسماعي وفي قصة متظلم: كفيت. وفي قصة رجل شكا إليه عقوق ابنه: ربما كان عقوق الولد من سوء تأديب الوالد. وقي قصة رجل شكا الحاجة: لك في مال الله نصيب أنت آخذه. وفي قصة رجل جارح: الجروح قصاص. وفي قصة محبوس: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وفي قصة قوم شكوا غرق ضياعهم: لا نعوض فيما تفرد الله به. وفي قصة قوم اشتكوا اجتياح الجراد لزروعهم: لا حكم فيما استأثر الله به.
الحجاج بن يوسف
وقع في كتاب أتاه من قتيبة بن مسلم يشكو كثرة الجراد وذهاب الغلات وما حل بالناس من القحط: إذا أزف خراجك فانظر لرعيتك في مصالحها، فبيت المال أشد اضطلاعا بذلك من الأرملة واليتيم وذي العيلة. وفي كتاب قتيبة إليه أنه على عبور النهر ومحاربة الترك: لا تخاطر بالمسلمين حتى تعرف موضع قدمك، ومرمى سهامك. وفي كتاب صاحب الكوفة يخبره بسوء طاعتهم وما يقاسي من مداراتهم: ما ظنك بقوم قتلوا من كانوا يعبدونه. وفي قصة محبوس ذكروا أنه تاب: ما على المحسنين من سبيل. وإلى قتيبة: خذ عسكرك بتلاوة القرآن، فإنه أمنع من حصونك. وفي كتابه إلى بعض عماله: إياك والملاهي حتى تستنظف خراجك. وفي كتابه إلى ابن أخيه: ما ركب يهودي قبلك منبرا. وفي كتابه إلى يزيد بن أبي مسلم: أنت أبو عبيدة هذا القرن.
أبو مسلم
وقع يا كتاب سليمان بن كثير الخزاعي: لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون. وإلى أبي العباس في يزيد بن عمر بن هبيرة: قل طريق سهل تلقى فيه الحجارة إلا عاد وعرا، والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة أبدا. وإلى ابن قحطبة: لا تنس نصيبك من الدنيا. وإليه: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. وإليه: لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار. وإلى محمد بن صول، وكتب إليه بسلامة أطرافه: وأما بنعمة ربك فحدث. وكتب إليه قحطبة: إن بعض قواده خرج إلى عسكر ابن ضبارة راغبا، فوقع في كتابه: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " الآية. وإلى عامله ببلخ: لا تؤخر عمل اليوم لغد. وإلى أبي سلمة الخلال حين أنكر نيته: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم.
جعفر بن يحيى

(2/58)

وقع في قصة محبوس: لكل أجل كتاب. وفي مثله: العدل يوبقه، والتوبة تطلقه. وفي قصه متنصح: بعض الصدق قبيح. وإلى بعض عماله: قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما عدلت وإما اعتزلت. وفي قصة رجل شكا بعض خدمه: خذ بأذنه ورأسه فهو مالك وإلى عامل فارس في رجل كتب إليه بالوصاة: كن له كأبيه لو كان مكانك وإلى عامل مصر رجل من بطانته يوصيه. إنه رغب إلى شعبك. فارغب في اصطناعه. وفي قصه متظلم من بعض عماله: أني ظلمتك دونه وفي قصة عبوس: الجناية حسبه، والتوبة تطلقه، وإلى قوم، عين الخليفة تكلؤكم وفي رقعه صارورة استأذنه في الحج: من سافر إلى الله أنجح وفي قصه رجل شكا عزوبه: الصوم لك وجاء وفي رقعه رجل سأل ولاية: لا أولى بعض الظالمين بعضا وفي قصه رجل سأله أن يقفل ابنه فقد طالت غيبته عنه: غيبة يوسف صلى الله عليه وسلم كانت أطول رجل تظلم من بعض عماله: أنا لمثله حتى بنصفك، وفي قصة قوم شكوا سوء جوار بعض قرابته: يرحل عنكم وفي قصه مستمنح قد كان وصله مرارا: دع الضرع يدر لغيرك كما در لك. وإلى الفضل بن الربيع، وجاءه منه كتاب غمه وأكربه: كثرة ملاحاة الرجال ربما أراقت الدماء. وإلى منصور بن زياد في أمر عاتبه فيه: لم نزرعك لنحصدك. وإلى بعض عماله اجعل وسيلتك إلينا ما يزيدك عندنا وإلى بعض ندمائه: لا تبعد عمن ضمك ووقع إلى منتصل من ذنب: حكم الفلتات خلاف حكم الإصرار.
الفضل بن سهيل
كتب إلى أخيه الحسن: أحمد الله يا أخي، فما يبيت خليفة الله إلا على ذكرك. وإلى طاهر: لخير ما اتضعت. وإليه: لشر ما سموت. وإلى هرثمة وأشار عليه برأي: لا يحل ما عقدت. وفي قصة متظالم: كفى بالله للمظلوم ناصرا. ويا قصة رجل نقب بيت المال: يدرأ عنه الحد إن كان له فيه سهم. ووقع إلى حاجبه: تمهل وتسهل. وإلى صاحب الشرطة: ترفق توفق. وإلى رجل شكا غلبة الدين. قد أمرنا لك بثلاثين ألفا وسنشفعهما بمثلها ليرغب المستمنحون وفي قصه متظلم: طب نفسا فإن الله مع المظلوم وإلى رجل شكا إليه الدين: الدين سوء يهيض الأعناق، وقد أمرنا بقضائه. وفي قصة قوم قطعوا الطريق إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية. وفي امرىء قاتل شهد عليه العدول فشفع فيه: كتاب الله أحق أن يتبع. وفي قصه رجل شهد عليه أنه شتم أبا بكر وعمر: يضرب دون الحد ويشهر ضربه.
الحسن بن سهل ذو الرياستين
وقع في قصة متظلم: ينظر فيما رفع: فإن الحق منيع، وإلا فشفاء السقيم دواء السقيم. وفي قصة قوم تظلموا من واليهم: الحق أولى بنا، والعدل بغيتنا، وإن صح ما أدعيتم عليه صرفناه وعاقبناه. وفي قصة امرأة حبس زوجها: الحق يحبسه والإنصاف يطلقه. وفي رقعة رائد قد أمرنا لك بشيء وهو دون قدرك في الأستحقاق، وفوق الكفاية مع الاقتصاد. وكتب إليه رجل من الشعراء يقول له:
رأيت في النوم إني راكب فرسا ... ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم فهم ومعرفة ... رأيت خيرا وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غدا عند الأمير تجد ... في الحلم خيرا وفي النوم التباشير
فوقع في أسفل كتابه: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وأطلق له ما التمسه. ودخل بعض الشعراء على عبد الملك بن بشر بن مروان فأنشده:
أغفيت عند الصبح نوم مسهد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت إنك رعتني بوليدة ... رعبوبة حسن علي قيامها
وببدرة حملت إلي وبغلة ... دهماء مشرفة يصل لجامها
فدعوت ربي أن يثيبك جنة ... عوضا يصيبك بردها وسلامها
ليت المنابر يا بن مروان الندى ... أضحت وأنت خطيبها وإمامها
فقال له عبد الملك بن بشر: في كل شيء أصبت إلا البغلة، فإني لا أملك إلا شهباء. فقال له: امرأتي طالق أن كنت رأيتها إلا شهباء، إلا أني غلطت.
طاهر بن الحسين

(2/59)

وقع في كتاب رجل تظلم من أصحاب نصر بن شبيب: طلبت الحق في دار الباطل. وفي قصة رجل طلب قبالة بعض أعماله: القبالة مفتاح الفساد، ولو كانت صلاحا ما كنت لها موضعا. وإلى السندي بن شاهك، وجاءه منه كتاب يستعطفه وفيه: عش ما لم أرك. وإلى خزيمة بن خازم: الأعمال بخواتيمها، والصنيعة باستدامتها، وإلى الغاية ما جرى الجواد، فحمد السابق، وذم الساقط. وإلى العباس بن موسى الهادي واستبطأه قي خراج ناحيته:
وليس أخو الحاجات من بات نائما ... ولكن أخوها من يبيت على رحل
وفي رقعة متنصح: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين. وفي قصة محبوس: يطلق ويعتق. وفي رقعة مستوصل: يقام أوده. وكتب أبو جعفر إلى عمرو بن عبيد: أبا عثمان، أعني بأصحابك، فإنهم أهل العدل، وأصحاب الصادق، والمؤثرون له فوقع في كتابه: ارفع علم الحق يتبعك أهله.
توقيعات العجم
وقع أردشير في أزمة عمت المملكة: من العدل أن لا يفرح الملك ورعيته محزونون. ثم أمر ففرق في الكور جميع ما في بيوت الأموال. ورفع رجل إلى كسرى بن قباذ رقعة يخبره فيها أن جماعة من بطانته قد فسدت نياتهم وخبثت ضمائرهم، منهم فلان وفلان. فوقع في أسفل كتابه: إنما أملك ظاهر الأجسام لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. ووقع كسرى في رقعة مدح: طوبى للممدوح إذا كان للمور مستحقا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلا. وكتب إليه متنصح: إن قوما من بطانته اجتمعوا للمنادمة، فعابوه وثلموه. فوقع: لئن كانوا نطقوا بألسنة شتى لقد اجتمعت مساويهم على لسانك، فجرحك أرغب، ولسانك أكذب. ورفع إليه جماعة من بطانته رقعة يشكون فيها، سوء حالهم. فوقع: ما أنصفكم من إلى الشكية أحوجكم؛ ثم فرق بينهم ما وسعهم وأغناهم. ووقع أنوشروان إلى صاحب خراجه: ما استغزر الخراج بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور. ووقع في قصة رجل تظلم منه: لا ينبغي للملك الظلم، ومن عنده يلتمس العدل، ولا البخل، ومن عنده يتوقع الجود؛ ثم أمر بإحضار الرجل وقعد منه بين يدي الموبذ. ووقع في قصة محبوس: من ركب ما نهي عنه حيل بينه وبين ما يشتهي. ورفع إليه بعض خدمه رقعة يخبره فيها بكثرة عياله، وسوء حاله، فعرف كذبه، فوقع: إن الله خفف ظهرك فثقلته، وأحسن إليك فكفرته، فتب إلى الله يتب عليك. ووقع في قصة رجل سعى إليه بباطل: باللسان احفظ رأسك. ووقع في قصة رجل ذكر أن بعض قرابة الملك ظلمه وأخذ ماله: لا تصلح العامة إلا ببعض الحيف على الخاصة، فإن كنت صادقا أبحتك جميع ما يملكه. فلم يتظلم بعدها أحد من قرابته.
فصول في المودة
كتب عبد الرحمن بن أحمد الحراني إلى محمد بن سهل: أعزك الله، إن كل مجازاة قاصرة عن حق السابق إلى افتتاح الود، وقد علمت أني استقبلتك من الإقبال عليك بما لم تستدعه، واعتمدتك من الرغبة فيك بما لم توله.
وفصل لأبي علي البصير: قد أكد الله بيننا من الود، ما نأمن الدهر على حل عقده، ونقض مرائره، وما يستوي فيه ثقتنا بأنفسنا لك، وثقتنا بما عندك. وفصل له: الحال فيما بيننا تحتمل الدالة، وتوجب الأنس والثقة، وبسط اللسان بالاستزادة، وأنا أمت إليك بالحرمة المتقدمة، والأسباب المؤكدة، التي تحل صاحبها محل خاصة الأهل والقرابة.
وفصل. لإبراهيم بن العباس: المودة يجمعنا حبلها، والصناعة تؤلفنا أسبابها، وما بين ذلك من تراخ في لقاء، أو تخلف قي مكاتبة، موضوع بيننا يجب العذر فيه. وفصل لسعيد بن عبد الملك: أنا صب إليك، سامي الطرف نحوك، وذكرك ملصق بلساني، واسمك حلو على لهواتي، وشخصك ماثل بين عيني، وأنت أقرب الناس من قلبي، أخذهم بمجامع هواي.
وفصل له: لنحن أحق بابتدائك بما ابتدأتنا به من الصلة، إلا أنك أحق بالفضل الذي سبقت إليه.
وفصل لسعيد بن حميد: إني أهديت مودتي إليك رغبة، ورضيت بالقبول منك مثوبة، فصرت بقبولها قاضيا لحق، ومالكا لرق، وصرت بالتسرع إلى الهدية، والتنظر للمثوبة، مرتهن اللسان بالجزاء، واليدين بالوفاء.

(2/60)

وفصل له: إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد لك بغير زمام، لأن النفس يقود بعضها بعضا. ولمحال أبو العتاهية:
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وللناس من الناس ... مقاييس وأشباه
وفصل ل: لساني رطب بذكرك، وقلبي معمور بمحبتك، حضرت أو غبت، سرت أو قمت، كقول معقل أخي أبي دلف:
لعمري لئن قرت بقربك أعين ... لقد سخنت بالبين منك عيون
فسر أو أقم وقف عليك مودتي ... مكانك من قلبي عليك مصون
وفصل لإبراهيم بن المهدي: كتابي إليك كتاب مخبر وسائل؛ فأما الإخبار، فعن تصرف الخطوب بما يوجب العذر عنه صديقي العزي علي في إبطائي بالتعهد له، وأما السؤال، فعن إمساك هذا الأخ الودود المودود عن مثل ذلك؛ وإن العذر كاشف ما سلف، مصلح لما استؤنف.
فصول في الزيارة
كتب الحسين بن الحسن بن سهل إلى صديق له: نحن في مأدبة لنا تشرف على روضة تضاحك الشمس حسنا، قد باتت السماء تطلها، فهي شرقة بمائها، حالية بنوارها، فبادر إلينا لنكون على سواء من، استمتاع بعضنا ببعض. فكتب إليه: هذه صفة لو كانت في أقاصي الأطراف لوجب انتجاعها، وحث المطي في ابتغائها، فكيف في موضع أنت تسكنه، وتجمع إلى أنيق منظره، حسن وجهك، وطيب شمائلك، وأنا الجواب.
وفصل: كتب حكيم إلى حكيم: يا أخي، إن أيام العمر أقل من أن تحتمل الهجر، والسلام وفصل: كتب إسحاق بين إبراهيم الموصلي إلى أحمد بن يوسف في المصير إليه، وعند أحمد بن يوسف إبراهيم بن المهدي فكتب إليه: عندي من أنا عنده، وحجتنا عليك إعلامنا إياك.
وفصل: إنه من ظمىء شوقه من رؤيتك، استوجب الري من زيارتك. ثم كتب تحت هذا:
سر إلينا تفديك تفسي من السو ... ء فقد طال عهدنا بالتلاقي
واجعلن ذاك إن رأيت جوابي ... فلقد خفت سطوة الإشتياق
وفصل: إلى الله أشكو شدة الوحشة لغيبتك، وفرط الحزن من فراقك، وظلم الأيام بعدك، وأقول كما قال بعض المحدثين.
غضارة دنيا أظلم العيش بعدها ... وعند غروب الشمس يعرف فقدها
وفصل: الشوق إليك وإلى عهد أيامنا التي حسنت بك، حتى كأنها أعياد، وقصرت بك حتى كأنها ساعات، يفوت الصفات؛ ومما يجدده ويكثر دواعيه تصاقب الديار، وقرب الجوار، تمم الله لنا النعمة المجددة فيك بالنظر إلى الغرة المباركة، التي لا وحشة معها ولا أنس بعدها.
وفصل: مثلنا - أعزك الله - في قرب تجاورنا، وبعد تزاورنا، ما قيل في أهل القبور:
هم جيرة الأحياء أما مزارهم ... فدان، وأما الملتقى فبعيد
وكل علة معك محتملة، وكل جفوة مغفورة؛ للشغف بك، والثقة بحسن نيتك، وسنأخذ بقول أبي قيس بن الأسلت:
ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتغفل عن إتيانهن فتعذر
وفصل: كتب حكيم إلى حكيم: يا أخي، إن أيام القمر أقل من أن تحتمل الهجر، والسلام وفصل: كتب أحمد بن يوسف: لا تجوز قطيعة الصديق، لأنها لا تخلو من أحد وجهن: إما ضعف في نفس الاختيار، وإما ملل. وكلاهما لا حجة فيه.
وفصل: طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند الالتقاء، وقد جعلك الله للسرور نظاما، ولأنس تماما، وجعل المشاهد موحشة إذا خلت منك. وكتب الحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أوجب العذر في تراخي اللقاء ... ما توالى من هذه الأنواء
فسلام الإله أهديه مني ... كل يوم لسيد الوزراء
لست أدري ماذا أقول وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو على تلك بالثك ... ل وأدعو لهذه بالبقاء
وقال آخر:
أزور محمدا فإذا التقينا ... تكلمت الضمائر في الصدور
فأرجع لم ألمه ولم يلمني ... وقد رضي الضمير عن الضمير
فصول في وصاة

(2/61)

كتب الحسن بن وهب إلى مالك بن طوق في ابن، أبي الشيص: كتابي إليك خططته بيميني، وفرغت له ذهني، فما ظنك بحاجة هذا موقعها مني؟ أتراني أقبل العذر فيها، أو أقصر في الشكر عليها؟ وابن أبي الشيص قد عرفته وعرفت، نسبه وصفاته، ولو كانت أيدينا تنبسط ببره ما عدانا إلى غيرنا، فاكتف بهذا منا.
وفصل: كتابي إليك كتاب معني بمن كتب له، واثق بمن كتب إليه، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله.
وفصل: كتب العتابي فكاد أن يخل بالمعنى من شدة الاختصار، فكتب: حامل كتاب إليك أنا، فكن له أنا، والسلام.
وفصل للحسن بن سهل: فلان قد استغنى باصطناعك إياه عن تحريكي إياك في أمره، فإن الصنيعة حرمة للمصنوع إليه، ووسيلة إلى مصطنعه، فبسط الله يدك بالخيرات، وجعلك من أهلها، ووصل بك أسبابها.
وفصل له: موصك كتابي إليك أنا، فكن له أنا، وتأمله بعين مشاهدتي وخلتي، فلسانه أشكر ما آتيت إليه، وأذم ما قصرت فيه.
فصول في عتاب
كتب أحمد بن يوسف: لولا حسن الظن بك - أعزك الله - لكان في إغضائك عني ما يقبضني عن الطلبة إليك، ولكن أمسك برمق من الرجاء علمي برأيك في رعاية الحق، وبسط يدك إلى الذي لو قبضتها عنه لم يكن له إلا كرمك مذكرا، وسؤددك شافعا.
فصل: ما أبعد البرء من مريض داؤه في دوائه، وعلته في حميته، وأنا منك كالغاص بالماء لا مساغ له. وكما قال الشاعر:
كنت من كربتي أفر إليهم ... وهم كربتي، فأين الفرار؟
فصل: أنا منتظر واحدة من اثنتين: عتبى تكون منك، أو عتبى تغني عنك.
فصل: أما بعد فقد كنت لنا كلك، فاجعل لنا بعضك، ولا نرضى إلا بالكل لك منا فصل: أنا ابقي على ودك من عارض يغيره، أو عتاب يقدح فيه، وآمل عائدا من حسن رأيك يغني عن اقتضائك.
فصل: ألهمك الله من الرشد بحسب ما منحك من الفضل. ولو أن كل من نزع إلى الصرم قلدناه عنان الهجر لكنا أولى بالذنب منه، ولكنا نرد عليك من نفسك، ونأخذ لها منك.
فصل: لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين: أما بعد، فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأني بلطف عن غير خبرة، وأعقبته جفاء من غير ذنب، فاطمعني أولك في إخائك، وآيسني أخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء لكشف من أمرك عن عزيمة الرأي فيك، فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف.
وفصل: إذا جعلت الظن شاهدا تعدل شهادته، بعد أن جعلته حكما يحيف في حكومته، فأين الموئل من جورك، ولست أسلك طريقا من العتب عليك، إلا سده ما أنطوى عليه من مودتك. ولا سبيل إلى شكايتك إلا إليك، ولا استعانة إلا بك، وما أحق من جعلك على أمره عونا أن تكون له إلى النجاح سببا. وقال الشاعر:
عجبت لقلبك كيف انقلب ... ومن طول ودك، أنى ذهب؟
وأعجب من ذا وذا أنني ... أراك بعين الرضا من الغضب
وفصل: إن مسألتي إليك حوائجي مع عتبك علي لمن اللؤم، خالط إمساكي عنها في حالة ضرورة إليها مع علمي بكرامك في السخط والرضا لعجز؛ غير أني أعلم أقرب الوسائل في طلب رضاك مساءلتك ما سنح من الحاجة، إذ كنت لا تجعل عتبك سببا لمنع معروفك.
وفصل: لو كانت الشكوك تحتلجني في صحة مودتك، وكريم إخائك، ودوام عهدك، لطال عتبي عليك في تواتر كتبي واحتباس جواباتها عني؛ ولكن الثقة بما تقدم عندي تعذرك، وتحسن ما يقبحه جفاؤك، والله يديم نعمته لك ولنا بك.
وفصل لابن المدبر: وصل كتابك المفتتح بالعتاب الجميل، والتقريع اللطيف: فلولا ما غلب علي من السرور بسلامتك، لتقطعت غما بعتابك الذي لطف حتى كاد يخفى عن أهل الرقة والفطنة، وغلظ حتى كاد يفهمه أهل الجهل والبله. فلا أعدمني الله رضاك مجازيا على ما استحقه عتبك، وأت ظالم فيه، فهو ولي المخرج منه. وقالت أبو الدرداء: عتاب الأخ خير من فقده وقال الشاعر:
إذا ذهب العتاب فليس ود ... ويبقى الود ما بقي العتاب
وقال آخر في هذا المعنى:
إذا كنت تغضب من غير ذنب ... وتعتب في كل يوم عليا

(2/62)

طلبت رضاك فإن عزني ... عددتك ميتا وإن كنت حيا
فلا تعجبن بما في يديك ... فأكثر منه الذي في يديا
وفصل في عتاب: العتاب قبل العقاب، فليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.
وفصل: قد حميت جانب الأمل فيك، وقطعت أسباب الرجاء منك، وقد أسلمني اليأس منك إلى العزاء عنك، فإن ترغب من الآن فصفح لا تثريب معه، وإن تماديت فهجر لا وصل بعده.
فصول في التنصل
كتب ابن مكرم: لا وعظيم أملى فيك، ما أتيت فيما بيني وبينك ذنبا مخطئا ولا متعمدا، ولعل فلتة لم ألق لها بالا فأوطىء لها اعتذارا، وإن تكن فنفثة حاسد زخرفها على لسان واش نبذها إليك في بعض غراتك أصابت مني مقتلا، وشفت منه غليلا.
وفصل: ليس يزيلني عن حسن الظن بك فعل حملك الأعداء عليه، ولا يقطعني عن رجائك عتب حدث منك علي، بل أرجو أن يتقاضى كرمك إنجاز وعدك؛ إذ كان أبلغ الشفعاء إليك، وأوجب الوسائل لديك.
وفصل: أنت - أعزك الله - أعلم بالعفو والعقوبة من أن تجازيني بالسوء على ذنب لم أجنه بيد ولا لسان، بك جناه علي لسان واش. فأما قولك إنك لا تسفك سبيل العذر، فأنت أعلم بالكرم، وأرعى لحقوقه، وأعرف بالشرف، وأحفظ لذماماته من أن ترد يد مؤملك صفرا من عفوك إذا التمسه، ومن عذرك إذا جعل فضلك شافعا فيه، وذريعة له.
وفصل لإبراهيم بن العباس: الكريم أوسع ما تكون مغفرته، إذا ضاقت بالمذنب معذرته.
وفصل: يا أخي،، أشكو إلى الله وإليك تحامل الأيام علي، وسوء أثر الدهر عندي، وأني معلق في حبائل من لا يعرف موضعي، ولا يحلو عنده موقعي، أطلب منه الخلاص فيزيدني كلفا، وأرتجي منه الحق فيزداد به ضنا، فالثواء ثواء مقيم، والنية نية ظاعن، والزماع زماع مرتحل. ما أذهب إلى ناحية من الحيلة إلا وجدت من دونها مانعا من العوائق، فأحمل الذنب على الدهر، وارجع إلى الله بالشكوى وأسأله جميل العقبى، وحسن الصبر.
فصول في حسن التواصل
للمفضل أن يخص بفضله من شاء، وله الحمد فيما أعطى. ولا حجة عليه فيما منع و، كن كيف شئت، فإني قد أوليتك خالصة سريرتي، أرى ببقائك بقاء سروري، وبدوام النعمة عندك، دوامها عندي.
وفصل: قد أغنى الله بكرمك عن الذريعة إليك، والاستعانة عليك، لأن حسن الظن فيك، وتأميل نجح الرغبة إليك، فوق الشفعاء عندك.
وفصل: قد أفردتك برجائي بعد الله، وتعجلت راحة اليأس ممن يجود بالوعد، ويضن بالإنجاز، ويحسن الفضل ويزهد في أن يتفضل، ويعيب الكذب ولا يصدق. وفصل: ضعني - أكرمك الله - من نفسك حيث وضعت نفسي من رجائك، أصاب الله بمعروفك مواضعه، وبسط بكل خير يدك.
وفصل: لا أزال - أبقاك الله - أسأل الكتاب إليك. فمرة أتوقف توقف المخفف عنك من المؤونة، ومرة أكتب كتاب الراجع منك إلى الثقة، والمعتمد منك على المقة. لا أعدمنا الله دوام عزك، ولا سلب الدنيا بهجتها بك، ولا أخلانا من الصنع لك، فإنا لا نعرف إلا نعمتك، ولا نجد للحياة طعما إلا في ظلك، ولئن كانت الرغبة إلى نفر من الناس خساسة وذلا، لقد جعل الله الرغبة إليك كرامة وعزا، لأنك لا تعرف حرا قعد به دهره إلا سبقت مسألته بالعطية، وصنت وجهه عن الطلب والذلة.
وفصل: لي عليك حق التأميل في الزيادة بما ابتدأت من المعروف، ولك علي حق الاصطناع والفضل، والتنويه بالاسم والشكر، وليس يمنعني علمي بزيادة حقك على ما أبلغه من شكرك من مساءلتك المزيد، إذ كنت قد انتهيت إلى ما بلغه المجهود، وخرجت من منزله الإضاعة والتقصير؛ وإذ كنت تسمح بالحق عليك، وتطيب نفسا عن حقك، وتنكر اليسير، ولا تكفف أحدا شكرك على الكثير.
وفصل: لك - أصلحك الله - عندي أياد تشفع لي إلى محبتك، ومعروف يوجب عليك الرب والإتمام.
وفصل: أنا أسأل الله أن ينجز لي ما لم تزل الفراسة تعدنيه فيك.
وفصل: قد أجل الله قدرك عن الاعتذار، وأغناك في القول عن الاعتلال، وأوجب علينا أن نقنع بما فعلت، ونرضى بما أتيت، وصلت أو قطعت.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:23 pm

فصول في الشكر
كتب محمد بن عبد الملك الزيات كتابا عن المعتصم إلى عبد الله بن طاهر الخراساني، فكان في فصل منه: لو لم يكن من فضل الشكر إلا أنك لا تراه إلا بين نعمة مقصورة عليك، أو زيادة منتظرة لها الكفى. ثم قال لمحمد بن إبراهم بن زياد: كيف ترى؟ قال: كأنهما قرطان بينهما وجه حسن.
وفصل للحسن بن وهب: في شكرك على درجة رفعته إليها، أو ثروة أفدته إياها، فإن شكري لك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق أمسكت به، وقمت بين التلف وبينه. فلكل نعمة من نعم الدنيا حد تنتهي إليه، ومدى يوقف عنده، وغاية من الشكر يسمو إليها الطرف، خلا هذه النعمة التي قد فاقت الوصف، وطالت الشكر، وتجاوزت كل قدر، وأتت من وراء كل غاية؛ ردت عنا كيد العدو، وأرغمت أنف الحسود، فنحن نلجأ منها إلى ظل ظليل، وكنف كريم. فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جهد المجتهد؟ وقال إبراهيم بن المهدي يشكر المأمون:
رددت مالي ولم تمنن علي به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
فأبت منك وقد جعلتني نعما ... هي الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
البر بي منك وطي العذر عندك لي ... فيما أتيت فلم تعتب ولم تلم
وقام علمك بي يحتج عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متهم
فصول في البلاغة
كتب الحسن بن وهب إلى إبراهيم بن العباس: وصل كتابك فما رأيت كتابا أسهل فنونا، ولا أملس متونا، ولا أكثر عيونا، ولا أحسن مقاطع ومطالع، منه؛ أنجزت فيه عدة الرأي، وبشرى الفراسة، وعاد الظن يقينا، والأمل مبلوغا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
فصل: الكلام كثيرة فنونه، قليلة عيونه؛ فمنه ما يفكه الأسماع، ويؤنس القلوب، ومنه ما يحمل الآذان ثقلا، ويملأ الأذهان وحشة.
فصول في المدح
وكتب ابن مكرم إلى أحمد بن المدبر: إن جميع أكفائك ونظرائك يتنازعون الفضل، فإذا انتهوا إليك أقروا لك، ويتنافسون في، المنازل، فإذا بلغوك وقفوا دونك فزادك الله وزادنا بك وفيك، وجعلنا ممن يقبله رأيك، ويقدمه اختيارك، ويقع من الأمور بموقع موافقتك، ويجري فيها على سبيل طاعتك.
وفصل له: إن من النعمة على المثنى عليك أنه لا يخاف الإفراط ولا يأمن التقصير، ويأمن أن تلحقه نقيصة الكذب، ولا ينتهي به المدح إلى غاية إلا وجد فضلك تجاوزها. ومن سعادة جدك أن الداعي لا يعدم كثرة المشايعين له، والمؤمنين منه وفصل: أن مما يطمعني في بقاء النعمة عندك، ويزيدني بصيرة في العلم بدوامها لديك، أنك أخذتها بحقها، واستوجبتها بما فيك من أسبابها؛ ومن شأن الأجناس أن تتألف، وشأن الأشكال أن تتقارب، وكل شيء يتقلقل إلى معدنه، ويحن إلى عنصره، فإذا صادف منيته، ونزل في مغرسه، ضرب بعرقه، وسفق بفرعه، وتمكن تمكن الإقامة، وتبنك تبنك الطبيعة.
وفصل: إني فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر عن ضوء النهار الزاهر، والقمر الباهر، الذي لا يخفى على كل ناظر. وأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية، فانصرفت من الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
وفصل: لمحمد بن الجهم: إنك لزمت من الوفاء طريقة محمودة، وعرفت مناقبها، وشهرت بمحاسنها، فتنافس الإخوان فيك يبتدرون ودك، ويتمسكون بحبلك، فمن أثبت الله له عندك ودا فقد وضعت خلته موضع حرزها.
وفصل لابن مكرم: السيف العتيق إذا أصابه الصدا استغنى بالقليل من الجلاء حتى تعود جدته ويظهر فرنده، للين طبيعته، وكرم جوهره، ولم أصف نفسي لك عجبا بل شكرا.
وفصل له: زاد معروفك عندي عظما، أنه عندك مستور حقير، وعند الناس مشهور كبير. أخذه الشاعر فقال:

(2/64)

زاد معروفك عندي عظما ... أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير
وفصل العتابي: أنت أيها الأمير وارث سلفك، وبقية أعلام أهل بيتك، المسدود به ثلمهم، المجدد به قديم شرفهم، والمحيا به أيام سعيهم. وإنه لم يخمل من كنت وارثه، ولا درست آثار من كنت سالك سبيله، ولا انمحت أعلام من خلفته في رتبته.
فصول في الذم
كتب أحمد بن يوسف: أما بعد، فإني لا أعرف للمعروف طريقا أوعر من طريقه إليك، فالمعروف لديك ضائع، والشكر عندك مهجور؛ وإنما غايتك في المعروف أن تحقره، وفي وليه أن تكفره.
وكتب أبو العتاهية إلى الفضل بن معن بن زائدة: أما بعد، فإني توسلت في طلب نائلك بأسباب الأمل، وذرائع الحمد فرارا من الفقر، ورجاء للغنى، فازددت بهما بعدا مما فيه تقربت، وقربا مما فيه تبعدت. وقد قسمت اللائمة بيني وبينك؛ لأني أخطأت في سؤالك وأخطأت في منعي، أمرت باليأس من أهل البخل فسألتهم، ونهيت عن منع أهل الرغبة فمنعتهم. وفي ذلك أقول:
فررت من الفقر الذي هو مدركي ... إلى بخل محظور النوال منوع
فأعقبني الحرمان غب مطامعي ... كذلك من تلقاه غير قنوع
وغير بديع منع ذي البخل ماله ... كما بذل أهل الفضل غير بديع
إذا أنت كشفت الرجال وجدتهم ... لأعراضهم من حافظ ومضيع
وفصل لإبراهيم بن المهدي: أما بعد، فإنك لو عرفت فضل الحسن لتجنبت شين القبيح، ورأيتك آثر القول عندك ما يضرك، فكنت فيما كان منك ومنا، كما قال زهير بن أبي سلمى:
وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله
عبأت له حلما وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله
فصل: إن مودة الأشرار متصلة بالذلة والصغار، تميل معهما، وتتصرف في آثارهما. وقد كنت أحل مودتك بالمحل النفيس، وأنزلها بالمنزل الرفيع، حتى رأيت ذلتك عند الضعة، وضرعك عند الحاجة، وتغيرك عند الاستغناء، واطراحك لإخوان الصفاء، فكان ذلك أقوى أسباب عذري في قطيعتك عند من يتصفح أمري وأمرك بعين عدل، لا يميل إلى هوى ولا يرى القبيح حسنا.
فصل للعتابي: تأتينا إفاقتك من سكرتك، وترقبنا انتباهك من وقدتك، وصبرنا على تجرع الغيظ فيك. فها أنا قد عرفتك حق معرفتك في تعديك لطورك، وأطراحك حق من غلط في اختيارك.
فصول في الأدب
كتب سعيد بن حميد: إن من أمارات الحزم وصحة الرأي في الرجل تركه التماس ما لا سبيل إليه؛ إذ كان ذلك داعية لعناء لا ثمرة له، وشقاء لا درك فيه، وقد سمحت في أمر تخبرك أوائله عن أواخره، وينبيك بدؤه عن عواقبه، لو كان لهذا الخبر الصادق مستمع حازم. ورأيت رائد الهوى مال بك إلى هذا الأمر ميلا أيأس من رغب فيك، ودل عدوك على معايبك، وكشف له عن مقاتلك. ولولا علمي بأن غلظة الناصح تؤدي إلى نفع في اعتقاد صواب الرأي، لكان غير هذا القول أولى بك. والله يوفقك لما يحب، ويوفق لك ما تحب وفصل: أنت رجل لسانك فوق عقلك، وذكاؤك فوق عزمك، فقدم على نفسك من قدمك على نفسه.
وفصل: من أخطأ في ظاهر دنياه وفيما يؤخذ بالعين كان أحرى أن يخطىء في أمر دينه وفيما يؤخذ بالعقل.
وفصل: قد حسدك من لا ينام دون الشفاء، وطلبك من لا ينام دون الظفر، فاشدد حيازيمك وكن على حذر.
وفصل: قد آن أن تدع ما تسمع بما تعلم، ولا يكن غيرك فيما يبلغه أوثق من نفسك فيما تعرفه.
وفصل: لست بحال يرضى بها حر، ولا يقيم عليها كريم، وليس يرضى لك بهذا إلا من يبتغي لك أن ترضى به.
وفصل: أنت طالب مقيم، وأنا دافع مغرم، فإن كنت شاكرا فيما مضى، فاعذر فيما بقى.
وفصل: للعتابي، أما بعد، فإن قريبك من قرب منك خيره، وابن عمك من عمك نفعه، وعشيرك من أحسن عشرتك، وأهدى الناس إلى مودتك من أهدى بره إليك.

(2/65)

فصول إلى عليل
ليست حالي - أكرمك الله - في الاغتمام بعلتك حال المشارك فيها بأن ينالني نصيب منها وأسلم من أكثرها، بل اجتمع علي منها أني مخصوص بها دونك، مؤلم منها بما يؤلمك، فأنا عليل مصروف العناية إلى عليل، كأني سليم يسهر على سليم؛ فأنا أسأل الله الذي جعل عافيتي في عافيتك أن يخصني بها فيك، فإنها شاملة لي ولك. وفصل: إن الذي يعلم حاجتي إلى بقائك، قادر على المدافعة عن حوبائك. فلو قلت إن الحق قد سقط عني في عيادتك لأني عليل بعلتك، لقام لي بذلك شاهد عدل في ضميرك، وأثر باد في حالي لعينك. وأصدق الخبر ما حققه الأثر، وأفضل القول ما كان عليه دليل من العقل.
وفصل: لئن تخلفت عن عيادتك بالعذر الواضح من العفة لما أغفل قلبي ذكرك، ولا لساني فحصا عن خبرك، فحص من تقسم جوارحه وصبك، وزاد في ألمها ألمك، ومن تتصل به أحوالك في السراء والضراء. ولما بلغتني إفاقتك كتبت مهنئا بالعافية، معفيا من الجواب، إلا بخبر السلامة إن شاء الله.
ولأحمد بن يوسف: قد أذهب الله وصب العلة ونصبها، ووفر أجرها وثوابها، وجعل فيها من إرغام العدو بعقباها، أضعاف ما كان عنده من السرور بقبح أولاها.
فصول إلى خليفة وأمير
منها: كتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، إن كل من عنيت به فكرتك فما هو إلا سعيد يوثر، أو شقي يوتر.
كتب الحسن بن لسهل يصف عقل المأمون: وقد أصبح أمير المؤمنين عمود السيرة، عفيف الطعمة، كريم الشيمة، مبارك الضريبة، محمود النقيبة، موفيا بما أخذ الله عليه، مضطلعا بما حمله منه، مؤديا إلى الله حقه، مقرا له بنعمته، شاكرا لآلائه، لا يأمر إلا عدلا، ولا ينطق إلا فصلا، راعيا لدينه وأمانته، كافا ليده ولسانه. وكتب محمد بن عبد الملك الزيات: إن حق الأولياء على السلطان تنفيذ أمورهم، وتقويم أودهم، ورياضة أخلاقهم، وأن يميز بينهم، فيقدم محسنهم، ويؤخر مسيئهم، ليزداد هؤلاء في إحسانهم، ويزدجر هؤلاء عن إساءتهم.
وفصل له: إن أعظم الحق حق الدين، وأوجب الحرمة حرمة المسلمين. فحقيق لمن راعى ذلك الحق وحفظ تلك الحرمة أن يراعى له حسب ما رعاه الله به، ويحفظ له حسب ما حفظ الله على يديه.
وفصل له: إن الله أوجب لخلفائه على عباده حق الطاعة والنصيحة، ولعبيده على خلفائه بسط العدل والرأفة، وإحياء السنن الصالحة. فإذا أدى كل إلى كل حقه. كان سببا لتمام المعونة، واتصال الزيادة، واتساق الكلمة، ودوام الألفة.
وفصل: ليس من نعمة يجددها الله لأمير المؤمنين في نفسه خاصة إلا اتصلت برعيته عامة، وشملت المسلمين كافة، وعظم بلاء الله عندهم فيها، ووجب عليهم شكره عليها؛ لأن الله جعل بنعمته تمام نعمتهم، وبتدبيره وذبه عن دينه حفظ حريمهم، وبحياطته حقن دمائهم وأمن سبيلهم. فأطال الله بقاء أمير المؤمنين، مؤيدا بالنصر، معززا بالتمكين، موصول البقاء بالنعيم المقيم.
فصل: الحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين معقود النية بطاعته، منطوي القلب على مناصحته، مشحوذ السيف على عدوه؛ ثم وهب له الظفر، ودوخ له البلاد، وشرد به العدو، وخصه بشرف الفتوح شرقا وغربا، وبرا وبحرا.
وفصل: أفعال الأمير عندنا معسولة كالأماني، متصلة كالأيام، ونحن نواتر الشكر لكريم فعله، ونواصل الدعاء له مواصلة بره؛ إنه الناهض بكلنا، والحامل لأعبائنا، والقائم بما ناب من حقوقنا.

(2/66)

وفصل: أما بعد، فقد انتهى إلى أمير المؤمنين كذا فأنكره، ولا يخلو من إحدى منزلتين ليس في واحدة منهما عذر يوجب حجة، ويزيل لائمة: إما تقصير في عمل دعاك للإخلال بالحزم والتفريط في الواجب، وإما مظاهرة لأهل الفساد ومداهنة لأهل الريب. وأية هاتين كانت منك لمحلة النكر بك، وموجبة العقوبة عليك، لولا ما يلقاك به أمير المؤمنين من الأناة والنظرة، والأخذ بالحجة، والتقدم في الإعذار والإنذار. وعلى حسب ما أقلت من عظيم العثرة يجب اجتهادك في تلافي التقصير والإضاعة، والسلام.
وكتب طاهر بن الحسين، حين أخذ بغداد، إلى إبراهيم بن المهدي: أما بعد، فإنه عزيز علي أن أكتب إلى أحد من بيت الخلافة بغير كلام الإمرة وسلامها، غير أنه بلغني عنك أنك مائل الهوى والرأي للناكث المخلوع، فإن كان كما بلغني فكثير ما كتبت به قليل لك، وإن يكن غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. وقد كتبت في أسفل كتابي أبياتا فتدبرها:
ركوبك الهول ما لم تلف فرصته ... جهل رمى بك بالإقحام تغرير
أهون بدنيا يصيب المخطئون بها ... حظ المصيبين والمغرور مغرور
فازرع صوابا وخذ بالحزم حيطته ... فلن يذم لأهل الحزم تدبير
فإن ظفرت مصيبا أو هلكت به ... فأنت عند ذوي الألباب معذور
وإن ظفرت على جهل ففزت به ... قالوا جهول أعانته المقادير
فصل: للحسن بن وهب: أما بعد، فالحمد لله متمم النعم برحمته، الهادي إلى شكره بفضله، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله، الذي جمع له من الفضائل ما فرقه في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصه بخلافته، وسلم تسليما.
فصول لعمرو بن بحر الجاحظ
منها فصول في عتاب: أما بعد، فإن المكافأة بالإحسان فريضة، والتفضل على غير، ذوي الإحسان نافلة.
أما بعد، فليكن السكوت على لسانك، إن كانت العافية من شأنك.
أما بعد، فلا تزهد فيمن رغب إليك فتكون لحظك معاندا، وللنعمة جاحدا.
أما بعد، فإن العقل والهوى ضدان، فقرين العقل التوفيق، وقرين الهوى الخذلان، والنفس طالبة، فبأيهما ظفرت كانت في حزبه.
أما بعد، فإن الأشخاص كالأشجار، والحركات كالأغصان، والألفاظ كالثمار.
أما بعد، فإن القلوب أوعية، والعقول معادن، فما في الوعاء ينفد إذا لم يمده المعدن.
أما بعد، فكفى بالتجارب تأديبا، وبتقلب الأيام عظة، وبأخلاق من عاشرت معرفة، وبذكرك الموت زاجرا.
أما بعد، فإن احتمال الصبر على لذع الغضب أهون من إطفائه بالشتم والقذع.
أما بعد، فإن أهل النظر في العواقب أولو الاستعداد للنوائب، وما عظمت نعمة امرىء إلا استغرقت الدنيا همته، ومن فرغ لطلب الآخرة شغله جعل الأيام مطايا عمله، والآخرة مقيل مرتحله.
أما بعد، فإن الاهتمام بالدنيا غير زائد في الرزق والأجل، والاستغناء غير ناقص للمقادير.
أما بعد، فإنه ليس كل من حلم أمسك، وقد يستجهل الحليم حين يستخفه الهجر.
أما بعد: فإن أحببت أن تتم لك المقة في قلوب إخوانك، فاستقل كثيرا مما توليهم.
أما بعد، فإن أنظر الناس في العاقبة من لطف حتى كف حرب عدوه بالصفح والتجاوز، واستل حقده بالرفق والتحبب.
وكتب إلى أبي حاتم السجستاني، وبلغه عنه أنه نال منه: أما بعد، فلو كففت عنا من غربك لكنا أهلا لذلك منك، والسلام. فلم يعد أبو حاتم إلى ذكره بقبيح: وله فصول في وصاة: أما بعد، فإن أحق في أسعفته في حاجته، وأجبته إلى طلبته، من توسل إليك بالأمل، ونزع نحوك بالرجاء.
أما بعد، فما أقبح الأحدوثة من مستمنح حرمته، وطالب حاجة رددته، ومثابر حجبت، ومنبسط إليك قبضته، ومقبل إليك بعنانه لويت عنه. فتثبت في ذلك، ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم.

(2/67)

أما بعد، فإن فلانا أسبابه متصلة بنا، يلزمنا ذمامه عندنا بلوغ موافقته من أياديك، وأنت لنا موضع الثقة من مكافأته. فأولنا فيه ما نعرف به موقعنا من حسن رأيك، ويكون مكافأة لحقه علينا.
أما بعد، فقد أتانا كتابك في فلان، وله لدينا من الذمام ما يلزمنا مكافأته ورعاية حقه، ونحن من العناية بأمره على ما يكافى حرمته، ويؤدي شكره.
وله فصول في استنجاز وعد: أما بعد، فقد رسفنا في قيود مواعيدك، وطال مقامنا في سجون مطلك، فأطلقنا - أبقاك الله - من ضيقها وشديد غمها، بنعم منك مثمرة أو لا، مريحة.
أما بعد، فإن شجرة مواعيدك قد أورقت، فليكن ثمرها سالما من جوائح المطل.
أما بعد، فإن سحاب وعدك قد برقت، فليكن وبلها سالما من صواعق المطل والاعتلال.
وله فصول في الاعتذار: أما بعد، فنعم البديل من الزلة الاعتذار، وبئس العوض من التوبة الإصرار.
أما بعد، فإن أحق من عطفت عليه بحلمك من لم يتشفع إليك بغيرك.
أما بعد، فإنه لا عوض من إخائك، ولا خلف من حسن رأيك، وقد انتقمت مني في زلتي بجفائك، فأطلق أسير تشوقي إلى لقائك.
أما بعد، فإنني بمعرفتي بمبلغ حلمك، وغاية عفوك، ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك.
أما بعد، فإن من جحد إحسانك بسوء مقالته فيك مكذب نفسه بما يبدو للناس أما بعد، فقد مسني من الألم بقطيعتك ما لا يشفيه غير مواصلتك، مع حبسك الاعتذار من هفوتك؛ لكن ذنبك تغتفره مودتك، فان علينا بصلتك تكن بدلا من مساءتك، وعوضا من هفوتك.
أما بعد، فلا خير فيمن استغرقت موجدته عليك قدر لي عنده، ولم يتسع لهنات الإخوان صدره.
أما بعد، فإن أولى الناس عندي بالصفح من أسلمه إلى ملكك التماس رضاك من غير مقدرة منك عليه.
أما بعد، فإن كنت ذممتني على الإساءة فلم رضيت لنفسك المكافأة.
وله فصول في التعازي: أما بعد، فإن الماضي قبلك الباقي لك، والباقي بعدك المأجور فيك، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
أما بعد، فإن في الله العزاء من كل هالك، والخلف من كل مصاب، وإن من لم يتعز بعزاء الله تنقطع نفسه على الدنيا حسرة.
أما بعد، فإن الصبر يعقبه الأجر، والجزع يعقبه الهلع فتمسك بحظك من الصبر تنل به الذي تطلب؛ وتدرك به الذي تأمل.
أما بعد، فقد كفى بكتاب الله واعظا، ولذوي الألباب زاجرا، فعليك بالتلاوة تنج مما أوعد الله به أهل المعصية.
صدور إلى خليفة: وفق الله أمير المؤمنين بالظفر فيما قلد وأيده، وأصلح به وعلى يديه - أكرم الله أمير المؤمنين بالظفر، وأيده بالنصر قي دوام نعمته، وحاط الرعية بطول مدته.
صدور إلى ولي عهد: متع الله أمير المؤمنين بطول مدة الأمير، وأجرى على يديه فعل الجميل، وانس بولايته المؤمنين - مد الله للأمير النعمة، وأسعد بطول عمره الأمة، وجعله غياثا ورحمة - أكمل الله له الكرامة، وحاطه بالنعمة والسلامة، ومتع به الخاصة والعامة - متع الله بسلامتك أهل الحرمة، وجمع لك شمل الأمة. واستعملك بالرأفة والرحمة.
صدور إلى ولي شرطة: أنصف الله بك المظلوم، وأغاث بك الملهوف، وأيدك بالتثبت، ووفقك للصواب - أرشدك الله بالتوفيق، وأنطقك بالصواب، وجعلك عصمة للدين، وحصنا للمسلمين - أعانك الله على ما قلدك، وحفظ لك ما استعملك بما يرضي من فعلك - سددك الله وأرشدك، وأدام لك فضل ما عودك - زادك الله شرفا في المنزلة، قدرا في قلوب الأمة، وزلفة عند الخليفة - نصر الله بعدلك المظلوم، وكشف بك كربة الملهوف، وأعانك على أداء الحقوق.
صدور إلى قاضي: ألهمك الله الحجة، وأيدك بالتثبت، ورد بك الحقوق. - ألهمك الله الاعتصام بحبله بالعلم، والتثبت في الحكم - ألهمك الله الحكمة وفصل الخطاب، وجلك إماما لذوي الألباب - زين الله بفضلك الزمان، وأنطق بشكرك اللسان، وبسط يدك في اصطناع المعروف، وأدام الله لك الإفضال، وحقق فيك الآمال.

(2/68)

صدور إلى عالم: جعل الله لك العلم نورا في الطاعة، وسببا إلى النجاة، وزلفة عند الله - نفع الله بعلمك المستفيدين، وقضى بك حوائج المتحرمين، وأوضح بك سنن الدين، وشرائع المسلمين - أدام الله لك التطول بإسعاف الراغب، وأنجح بك حاجة الطالب، وأمنك مكروه العواقب.
صدور إلى أخوان: متع الله أبصارنا برؤيتك، وقلوبنا بدوام الفتك، ولا أخلانا من جميل عشرتك، ووهب لك من كريم نفسك بحسب ما تنطوي عليه مودتك، وأبهج الله إخوانك بقربك، وجمع ألفتهم بالأنس بك، وصرف الله عن ألفتنا عواقب القدر، وأعاذ صفو إخائنا من الكدر، وجعلنا ممن أنعم الله عليه فشكر - من الله علينا بطول مدتك، وآنس أيامنا بمواصلتك، وهنأنا النعمة بسلامتك - قرب الله منا ما كنا نأمل منك، وجمع شمل السرور بك - نزه الله بقربك القلوب، وبرؤيتك الأبصار، وبحديثك الأسماع - أقبل الله بك على أودائك، ولا ابتلاهم بطول جفائك - أدال الله حرصنا من فتورك عنا، ورغبتنا فيك من تقصيرك في أمورنا - حفظ الله لنا منك ما أوحشنا فقده، ورد إلينا ما كنا نألفه ونعهده - رحم الله فاقة الحنين إليك، وما بي من تباريح الحزن عليك، وجعل حرمتنا منك، الشفيع لديك - يسر الله لنا من صفحك ما يسع تقصيرنا، ومن حلمك ما يرد سخطك عنا زين الله ألفتنا بمعاودة صلتك، واجتماعنا بزيارتك - أعاد الله علينا من إخائك وجميل رأيك ما يكون معهودا منك، ومألوفا لك.
صدور في عتاب: أنصف الله شوقنا إليك من جفائك لنا، وأخذ لبرنا بك من تقصيرك عنا.
وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص، وبلغه عنه أمر: وفقك الله لرشدك.
بلغني كلامك فإذا أوله بطر، وآخره خور، ومن أبطره الغنى أذله الفقر، وهما ضدان مخادعان للمرء عن عقله، وأولى الناس بمعرفة الدواء من يبين له الداء، والسلام. فأجابه: طاولتك النعم وطاولت بك. علو إنصافك يؤمن سطوة جورك، ذكرت أني نطقت بما تكره، وأنا مخدوع، وقد علمت أني ملت إلى محبتك ولم أخدع، ومثلك من شكر سعي معتذر، وعفا زلة معترف.
كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء
وتواريخهم وأيامهم
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى لنا قولنا في التوقيعات والفصول والصدور والكتابة، وهذا كتاب ألفناه في أخبار الخلفاء وتواريخهم وأيامهم، وأسماء كتابهم وحجابهم.
أخبار الخلفاء
نسب المصطفى
صلى الله عليه وسلم
روى أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن أشياخه: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن اليأس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب.
مولد النبي
صلى الله عليه وسلم - قالوا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت
من ربيع الأول. وقال بعضهم: لليلتين خلتا منه. وقال بعضهم: بعد الفيل بثلاثين يوما. فهذا جمع ما اختلفوا فيه عن مولده. وأوحى الله إليه وهو ابن أربعين عاما. وأقام بمكة عشرا، وبالمدينة عشرا. وقال ابن عباس: أقام بمكة خمس عشرة وبالمدينة عشرا. والمجمع عليه أنه أقام بمكة ثلاث عشرة وبالمدينة عشرا.
اليوم والشهر الذي هاجر فيه صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول. ومات يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول، اليوم والشهر الذي هاجر فيه صلى الله عليه وسلم.
جعلنا الله ممن يرد حوضه، وينال مرافقته في أعلى عليين من درجات الفردوس، وأسأل الله الذي جعلنا من أمته ولم نره أن يتوفانا على ملته، ولا يحرمنا رؤيته في الدنيا والآخرة.

(2/69)

صفة النبي صلى الله عليه وسلم - ربيعة بن أبي، عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض، مشربا حمرة، ضخم الرأس، أزج الحاجبين، عظيم العينين، أدعج أهدب، شثن الكفين والقدمين. إذا مشى تكفأ كأنما ينحط من صبب، ويمشي في صعد كأنما يتقلع من صخر. إذا التفت التفت جميعا. ليس بالجعد القطط ولا السبط. ذا وفرة إلى شحمة أذنيه. ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتطامن. عرفه أطيب من المسك الأذفر. لم تلد النساء قبله ولا بعده مثله. بين كتفيه خاتم النبوة كبيضة الحمامة. لا يضحك إلا تبسما. في عنفقته شعرات بيض لا تكاد تبين. وقال أنس بن مالك: لم يبلغ الشيب الذي كان برسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين شعرة. وقيل له: يا رسول الله، عجل عليك الشيب. قال: شيبتني هود وأخواتها.
هيئة النبي وقعدته
صلى الله عليه وسلم - كان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض،
ويمشي في الأسواق، ويلبس العباءة، ويجالس المساكين، ويقعد القرفصاء، ويتوسد يده، ويلعق أصابعه، ولا يأكل متكئا، ولم يرقط ضاحكا ملء فيه. وكان يقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدى إلي كراع لقبلت.
شرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم - قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا سيد البشر ولا فخر، وأنا أفصح العرب، وأنا أول من يقرع باب الحنة، وأنا أول من ينشق عنه التراب. دعا لي إبراهيم، وبشر بي عيسى، ورأت أمي حين وضعتني نورا أضاء لها ما بين المشرق والمغرب. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقا فجعلني في خيرهم فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خير بيت، فأنا خيركم بيتا وخيركم نسبا. وقال صلى الله عليه وسلم. أنا ابن الفواطم والعواتك من سليم، واسترضعت في بني سعد بن بكر. وقال: نزل القرآن بأعرب اللغات، فلكل العرب فيه لغة، ولبني سعد بن بكر سبع لغات. وبنو سعد ابن بكر بن هوازن أفصح العرب، فهم من الأعجاز، وهي قبائل من مضر متفرقة، وكانت ظئر النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب، من بني ناصرة بن قصية بن نصر، بن سعد بن بكر بن هوازن. وإخوته في الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وخذامة بنت الحارث، وهي التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى حنين، فبسط لها رداءه ووهب لها أسرى قومها. والعواتك من سليم ثلاث: عاتكة بنت مرة ابن هلال، ولدت هاشما وعبد شمس ونوفلا، وعاتكة بنت الأوقص بن هلال، ولدت وهب بن عبد مناف بن زهرة؟ وعاتكة بنت هلال بن، فالج. وقال علي للأشعث إذ خطب إليه: أغرك ابن أبي قحافة إذ زوجك أم فروة، وإنها لم تكن من الفواطم من قريش، ولا العواتك من سليم.
أبو النبي
صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عبد المطلب، ولم يكن له ولد غيره، صلى الله عليه وسلم، وتوفي وهو في بطن أمه. فلما ولد كفله جده عبد المطلب إلى أن توفي، فكفله عمه أبو طالب، وكان أخا عبد الله لأمه وأبيه، فمن ذلك كان أشفق أعمام النبي صلى الله عليه وسلم وأولاهم به. وأما أعمام النبي صلى الله عليه وسلم وعماته، فإن عبد المطلب بن هاشم كان له من الولد لصلبه عشرة من الذكور وستة من الإناث. وأسماء بنيه: عبد الله، والد النبي عليه الصلاة والسلام، والزبير، وأبو طالب، واسمه عبد مناف، والعباس، وضرار، وحمزة، والمقوم، وأبو لهب، واسمه عبد العزى، والحارث، والغيداق، واسمه حجل، وقال نوفل. وأسماء بناته، عمات النبي صلى الله عليه وسلم: عاتكة، والبيضاء، وهي أم حكيم، و برة، وأميمة، وأروى، وصفية.
ولد النبي
صلى الله عليه وسلم - ولد له من خديجة: القاسم والطيب وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم. وولد له من مارية القبطية: إبراهيم. فجميع ولده من خديجة غير إبراهيم.
أزواجه

(2/70)

صلى الله عليه وسلم - أولهن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ولم يتزوج عليها حتى ماتت. ثم تزوج سودة بنت زمعة، وكانت تحت السكران بن عمرو، وهو من مهاجرة الحبشة، فمات ولم يعقب، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعده. ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر بكرا، ولم يتزوج بكرا غيرها، وهي ابنة ست، وابتنى عليها ابنة تسع، وتوفي عنها وهي ابنة ثمان عشرة سنة، وعاشت بعده إلى أيام معاوية، وماتت سنة ثمان وخمسين وقد قاربت السبعين، ودفنت ليلا بالبقيع، وأوصت إلى عبد الله بن الزبير. وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت تحت خنيس بن حذافة السهمي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى، ولا عقب له. ثم تزوج زينب بنت خزيمة، من بني عامر بن صعصعة، وكانت تحت عبيدة بن الحارث ابن عبد المطلب، أول شهيد كان ببدر. ثم تزوج زينب بنت جحش الأسدية، وهي بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر. ثم تزوج أم حبيبة؛ واسمعها رملة بنت أبي سفيان، وهي أخت معاوية، وكانت تحت عبيد الله بن جحش الأسدي، فتنصر ومات بأرض الحبشة. وتزوج أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، وكانت تحت أبي سلمة، فتوفي عنها وله منها أولاد، وبقيت إلى سن تسع وخمسين. وتزوج ميمونة بنت الحارث، من بني عامر بن صعصعة، وكانت تحت أبي رهم العامري. وتزوج صفية بنت حيي بن أخطب النضرية، وكانت تحت رجل من يهود خيبر، يقال له كنانة، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنقه وسبى أهله. وتزوج جويرية بنت الحارث، وكانت من سبي بني المصطلق. وتزوج خولة بنت حكيم، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم. وتزوج امرأة يقال لها عمرة، فطلقها ولم يبن بها، وذلك أن أباها قال له: وأزيدك أنها لم تمرض قط. فقال: ما لهذه عند الله من خير، فطلقها. وتزوج امرأة يقال لها: أميمة بنت النعمان، فطلقها قبل أن يطأها. وخطب امرأة من بني مرة بن عوف، فرده أبوها، وقال: إن بها برصا. فلما رجع إليها وجدها برصاء.
كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم وخدامه - كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ارتد ولحق بمكة مشركا. وحاجبه: أبو أنسة، مولاه، وخادمه: أنس بن مالك الأنصاري، ويكنى أبا حمزة. وخازنه على خاتمه: معيقيب بن أبي فاطمة. ومؤذناه: بلال وابن أم مكتوم. وحراسه: سعد بن زيد الأنصاري، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص. وخاتمه فضة، وفصه حبشي مكتوب عليه: محمد رسول الله، في ثلاثة أسطر: محمد، سطر، ورسول، سطر، والله، سطر. وفي حديث أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم: وبه تختم أبو بكر وعمر، وتختم به عثمان ستة أشهر، ثم سقط منه في بئر ذي أروان، فطلب فلم يوجد.
وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم - توفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وحفر له تحت فراشه في بيت عائشة. وصلى عليه المسلمون جميعا بلا إمام، الرجال ثم النساء ثم الصبيان، ودفن ليلة الأربعاء في جوف الليل، ودخل القبر علي، والفضل وقثم، ابنا العباس، وشقران مولاه، ويقال: أسامة بن زيد، وهم تولوا غسله وتكفينه وأمره كله، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. واختلف في سنه. فقال عبد الله ابن عباس وعائشة وجرير بن عبد الله ومعاوية: توفي وهو ابن ستين سنة. وقال عروة بن الزبير وقتادة: اثنتين وستين سنة.
نسب أبي بكر الصديق وصفته
رضي الله عنه
هو عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وكاتبه: عثمان بن عفان. وحاجبه: رشيد، مولاه. وقيل: كتب له زيد بن ثابت أيضا. وعلى أمره كله وعلى القضاء عمر بن الخطاب، وعلى بيت المال أبو عبيدة بن الجراح، ثم وجهه إلى الشام. ومؤذنه: سعد القرظ، مولى عمار بن ياسر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:25 pm

قيل لعائشة: صفي لنا أباك. قالت: كان أبيض، نحيف الجسم، خفيف العارضين، أحنى لا يستمسك إزاره، معروق الوجه، غائر العينين، ناتىء الجبهة، عاري الأشاجع، أقرع. وكان عمر بن الخطاب أصلع. وكان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم. وقال أبو جعفر الأنصاري: رأيت أبا بكر كأن لحيته ورأسه جمر الغضى. وقال أنس بن مالك قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وليس في أصحابه أشمط غير أبي بكر. فغلفها بالحناء والكتم.
وتوفي مساء ليلة الثلاثاء، لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة من التاريخ. فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال. وكان نقش خاتم أبي بكر: نعم القادر الله.
خلافة أبي بكر رضي الله عنه - شعبة عن سعد بن إبراهيم عن عروة عن عائشة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس: قالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر، ففعلت حفصة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه! إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس.
أبو جعدة عن الزبير قال: قالت حفصة: يا رسول الله، إنك مرضت فقدمت أبا بكر. قال: لست الذي قدمته، ولكن الله قدمه.
أبو سلمة عن إسماعيل بن مسلم عن أنس قال. صلى أبو بكر بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم مريض ستة أيام.
النضر بن إسحاق عن الحسن قال: قيل لعلي: علام بايعت أبا بكر؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت فجأة، كان يأتيه بلال في كل يوم في مرضه يؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس، وقد تركني وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي المسلمون لدنياهم من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينهم، فبايعوه وبايعته.
ومن حديث الشعبي قال: أول من قدم مكة، بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، عبد ربه بن قيس بن السائب المخزومي، فقال له أبو قحافة: من ولي الأمر بعده؟ قال: أبو بكر ابنك. قال: فرضي بذلك بنو عبد مناف؟ قال: نعم. قال: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله.
جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان غائب في مسعاة أخرجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف لقي رجلا في بعض طر مقبلا من المدينة، فقال له مات محمد؟ قال: نعم. قال: فمن قام مقامه؟ قال: بكر. قال أبو سفيان: فما فعل المستضعفان علي والعباس؟ قال: جالسين. قال: أما والله لئن بقيت لهما لأرفعن من أعقابهما، ثم قال: إني أرى غيرة لا يطفئها إلا دم. فلما قدم المدينة جعل يطوف في أزقتها ويقول:
بني هاشم لا تطمع الناس فيكم ... ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم ... وليس لها إلا أبو حسن على
فقال عمر لأبي بكر: إن هذا قد قدم وهو فاعل شرا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستألفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة، ففعل. فرضي أبو سفيان وبايعه.
سقيفة بني ساعدة
أحمد بن الحارث عن أبي الحسن عن أبي معشر عن المقبري: أن المهاجرين بينما هم في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قبضه الله إليه، إذ جاء معن بن عدي وعويم ساعدة، فقالا لأبي بكر: باب فتنة إن يغلقه الله بك، هذا سعد بن عبادة والأنصار يريدون أن يبايعوه. فمضى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة حتى جاءوا سقيفة بني ساعدة وسعد على طنفس متكئا على وسادة، وبه الحمى، فقال له أبو بكر: ماذا ترى أبا ثابت؟ قال: أنا رجل منكم. فقال حباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجري في الأنصاري شيئا رد عليه، وإن عمل الأنصاري في المهاجري شيئا رد عليه، وإن لم تفعلوا فأنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، لنعيدنها جذعة.

(2/72)

قال عمر: فأردت أن أتكلم، وكنت زورت كلاما في نفسي. فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر، فما ترك كلمة كنت زورتها في نفسي إلا تكلم بها، وقال: نحن المهاجرون، أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأمسهم برسول الله صلى الله عليه وسلم رحما، وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضلهم الله به، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين - يعنى عمر ابن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح - فقال عمر: يكون هذا وأنت حي! ما كان أحد ليؤخرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب على يده فبايعه، وبايعه الناس وازدحموا على أبي بكر. فقالت الأنصار: قتلتم سعدا. فقال عمر: اقتلوه قتله الله، فإنه صاحب فتنة. فبايع الناس أبا بكر، وأتوا به المسجد يبايعونه، فسمع العباس وعلي التكبير في المسجد، ولم يفرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: ما هذا؟ قال العباس: ما رئي مثل هذا قط، أما قلت لك! ومن حديث النعمان بن بشير الأنصاري: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم الناس من يقوم بالأمر بعده، فقال قوم: أبو بكر، وقال قوم: أبي بن كعب. قال النعمان بن بشير: فأتيتا أبيا فقلت: يا أبي، إن الناس قد ذكروا أن رسول صلى الله عليه وسلم يستخلف أبا بكر أو إياك، فانطلق حتى ننظر في هذا الأمر. فقال: إن عندي في هذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما أنا بذاكره حتى يقبضه الله إليه، ثم انطلق. وخرجت معه حتى دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصبح، وهو يحسو حسوا في قصعة مشعوبة. فلما فرغ أقبل على أبي فقال: هذا ما قلت لك. قال: فأوص بنا. فخرج يخط برجليه حتى صار على المنبر، ثم قال: يا معشر المهاجرين، إنكم أصبحتم تزيدون، وأصبحت الأنصار كما هي لا تزيد،ألا وإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولى من أمرهم شيئا فليقبل من محسنهم، وليعف عن مسيئهم، ثم دخل. فلما توفي قيل لي: هاتيك الأنصار مع سعد بن عبادة يقولون: نحن الأولى بالأمر، والمهاجرون يقولون: لنا الأمر دونكم. فأتيت أبيا فقرعت بابه، فخرج إلي ملتحفا، فقلت: ألا أراك إلا قاعدا ببيتك مغلقا عليك بابك وهؤلاء قومك من بني ساعدة ينازعون المهاجرين، فأخرج إلى قومك. فخرج، فقال: إنكم والله ما أنتم من هذا الأمر في شيء، إنه لهم دونكم، يليها من المهاجرين رجلان، ثم يقتل الثالث، وينزع الأمر فيكون هاهنا، وأشار إلى الشام، وإن هذا الكلام لمبلول بريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أغلق بابه ودخل. ومن حديث حذيفة قال: كنا جلوسا عند رسول الله عظيم، فقال: إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا بالذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه. الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر - في والعباس والزبير وسعد بن عبادة. فأما علي والعباس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر ابن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم. فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة، فقالت: يا بن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة. فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر: أكرهت إمارتي؟ فقال: لا، ولكني آليت أن لا أرتدي بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفظ القرآن، فعليه حبست نفسي.

(2/73)

ومن حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وذلك لستة أشهر من موت أبيها صلى الله عليه وسلم. فأرسل علي إلى أبي بكر، فأتاه في منزله فبايعه، وقال: والله ما نفسنا عليك ما ساق الله إليك من فضل وخير، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئا فاستبددت به دوننا، وما ننكر فضلك. وأما سعد بن عبادة فإنه رحل إلى الشام. أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي قال: بث عمر رجلا إلى الشام، فقال: ادعه إلى البيعة واحمل له بكل ما قدرت عليه، فإن أي فاستعن الله عليه. فقدم الرجل الشام، فلقيه بحوران في حائط، فدعاه إلى البيعة، فقال: لا أبايع قرشيا أبدا. قال: فإني أقاتلك. قال: وإن قاتلتني! قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال: أما من البيعة فأنا خارج. فرماه بسهم، فقتله. ميمون بن مهران عن أبيه قال: رمي سعد بن عبادة في حمام بالشام، فقتل. سعيد بن أبي عروبة عن ابن سيرين قال: رمي سعد بن عبادة بسهم فوجد دفينا في جسده. فمات، فبكته الجن، فقالت:
وقتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمي ... ن فلم نخطىء فؤاده

(2/74)

فضائل أبي بكر رضي الله عنه - محمد بن المنكدر قال: نازع عمر أبا بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم تاركوني وصاحبي؟ إن الله بعثني بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة، فقالوا جميعا: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت. وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجليسه في الغار، وأول من صلى معه أمن به واتبعه. وقال عمر بن الخطاب: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا. يريد بلالا. وكان بلال عبدا لأمية بن خلف، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وكان من مولدي مكة، أبوه رباح، وأمه حمامة. وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: من أول من قام معك في هذا الأمر؟ قال: حر وعبد. يريد بالحر أبا بكر، وبالعبد بلالا. وقال بعضهم: علي وخباب. أبو الحسن المدائني قال: دخل هارون الرشيد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى مالك بن أنس، فقيه المدينة، فأتاه وهو واقف بين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنبر، فلما قام بين يديه وسلم عليه بالخلافة، قال: يا مالك، صف لي مكان أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا. فقال: مكانهما منه يا أمير المؤمنين كمكان قبريهما من قبره. فقال: شفيتني يا مالك: الشعبي عن أبي سلمة: إن عليا سئل عن أبي بكر وعمر، فقال: على الخبير سقطت، كانا والله إمامين صالحين مصلحين، خرجا من الدنيا خميصين. وقال علي بن أبي طالب: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثنى أبو بكر، وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة عمياء كما شاء الله. وقالت عائشة: توفي رسول الله عظيم بين سحري ونحري، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهدها، اشرأب النفاق، وارتدت العرب، فوالله ما اختلفوا في لفظة إلا طار أبي بحظها وغنائها في الإسلام. عمرو بن عثمان عن أبيه عن عائشة، أنه بلغها أن أناسا يتناولون من أبيها، فأرسلت إليهم، فلما حضروا قالت: إن أبي والله لا تعطوه الأيدي، طود منيف، وظل ممدود، أنجح إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد. فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا. يفك عانيها، ويريش مملقها، ويرأب صدعها، ويلم شعثها. فما برحت شكيمته في ذات الله تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون. وكان وقيد الجوامح، عزير الدمعة، شجي النشيج. وأصفقت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به، والله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون، وأكبرت ذلك رجالات قريش، فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا قناة، حتى ضرب الحق بجرانه، وألقى بركه، ورست أوتاده. فلما قبض الله نبيه ضرب الشيطان رواقه، ومد طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، فقام الصديق حاسرا مشمرا. فرد نشر، الإسلام على غره، وأقام أوده بثقافه، فابذعر النفاق بوطئه، وانتاش الناس بعدله، حتى أراح الحق على أهله، وحقن الدماء في أهبها. ثم أتته منيته، فسد ثلمته نظيره في المرحمة، وشقيقه في المعدلة، ذلك ابن الخطاب. لله در أم حفلت له ودرت عليه. ففتح الفتوح، وشرد الشرك، وبعج الأرض، فقاءت أكلها، ولفظت جناها؟ ترأمه ويأباها، وتريده ويصدف عنها، ثم تركها كما صحبها. فأروني ما ترتابون؛ وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟ أقول قولي، هذا واستغفر الله لي ولكم.
وفاة أبي بكر الصديق
رضي الله عنه
الليث بن سعد عن الزهري قال: أهدي لأبي بكر طعام وعنده الحارث ابن كلدة فأكلا منه، فقال الحارث: أكلنا سم سنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحول

(2/75)

فماتا جميعا في يوم واحد عند انقضاء السنة. وإنما سمته يهود كما سمت النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر في ذراع الشاة. فلما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة قال: ما زالت أكله خيبر تعاودني حتى قطعت أبهري. وهذا مثل ما قال الله تعالى " ثم لقطعنا منه الوتين " . والأبهر والوتين: عرقان في الصلب إذا انقطع أحدهما مات صاحبه. الزهري عن عروة عن عائشة قالت: اغتسل أبو بكر يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوما باردا، فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر يصلي بالناس. وتوفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من التاريخ. وغسلته امرأته أسماء بنت عميس. وصلى عليه عمر بن الخطاب بين القبر والمنبر، وكبر أربعا. الزهري عن سعيد بن المسيب قال: لما توفى أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فبلغ ذلك عمر فنهاهن، فأبين. فقال لهشام بن الوليد: أخرج إلي بنت أبي قحافة، فأخرج إليه أم فروة، فعلاها بالدرة ضربا، فتفرقت النوائح. وقالت عائشة وأبوها يغمض، رضي الله عنه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
قالت عائشة: فنظر إلي وقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أغمي عليه. فقالت:
لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فنظر إلي كالغضبان وقال: قولي: " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " ثم قال: انظروا ملاءتين خلقين فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.
عروة بن الزبير والقاسم بن محمد قالا: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفى حفر له وجعل رأسه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند حقوي أبي بكر. وبقي في البيت موضع قبر. فلما حضرت الوفاة الحسن بن علي أوصى بأن يدفن مع جده في ذلك الموضع. فلما أراد بنو هاشم أن يحفروا له منعهم مروان، وهو والي المدينة في أيام معاوية. فقال أبو هريرة: علام تمنعه أن يدفن مع جده؟ فأشهد لقد سمعت رسول الله عليه يقول: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. قال له مروان: لقد ضيع الله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يروه غيرك. قال: أنا والله لقد قلت ذلك، لقد صحبته حتى عرفت من أحب ومن أبغض، ومن نفى ومن أقر، ومن دعا له ومن دعا عليه. قال: وسطح قبر أبي بكر كما سطح قبر النبي صلى الله عليه وسلم ورش بالماء.

(2/76)

هشام بن عروة عن أبيه: إن أبا بكر صلي عليه ليلا ودفن ليلا. ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، ولها مات النبي صلى الله عليه وسلم. وعاش أبو قحافة بعد أبي بكر أشهرا وأياما، ووهب نصيبه في ميراثه لولد أبي بكر. وكان نقش خاتم أبي بكر: نعم القادر الله. ولما قبض أبو بكر سجى بثوب، فارتجت المدينة من البكاء، ودهش القوم كيوم قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء علي بن أبي طالب باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول. رحمك الله أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلاما، وأصدقهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأعظمهم غناء، واحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبهم برسول الله خلقا وفضلا وهديا وسمتا؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا. صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسماك الله في كتابه صديقا، فقال: " والذي جاء بالصدق وصدق به " يريد محمدا ويريدك. كنت والله للإسلام حصنا، وللكافرين ناكبا، لم تضلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك. كنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعيفا في بدنك، قويا في دينك، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في الأرض، كبيرا عند المؤمنين. لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى، فالضعيف عندك قوي، والقوي عندك ضعيف، حتى تأخذ الحق من القوي وتأخذه للضعيف، فلا حرمك الله أجرك، ولا أضلنا بعدك. القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي توفي فيه فقالت: يا أبت، اعهد إلى خاصتك، وأنفذ رأيك في عامتك، وانقل من دار جهازك إلى دار مقامك، إنك محضور ومتصل بي لوعتك، وأرى تخاذل أطرافك وانتقاع لونك، فإلى الله تعزيتي عنك، ولديه ثواب حزني عليك. أرقأ فلا أرقأ، وأشكو فلا أشكى. قال: فرفع رأسه، وقال: يا أمه، هذا يوم يخلى لي فيه عن غطائي، وأشاهد جزائي؛ إن فرحا فدائم، وان ترحا فمقيم. إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم حين كان النكوص إضاعة، والخزل تفريطا؛ فشهيدي الله، ما كان بقلبي إلا إياه، فتبلغت بصحفتهم، وتعللت بدرة لقحتهم، فأقمت صلاي معهم، لامختالا أشرا، ولا مكاثرا بطرا. لم أعد سد الجوعة، وتورية العورة، وإقامة القوام، من طوى ممعض، تهفو منه الأحشاء، وتجف له الأمعاء، فاضطررت إلى ذلك اضطرار الجرض إلى الماء، المعيف الآجن. فإذا أنا مت فردي إليهم صحفتهم وعبدهم ولقحتهم ورحاهم ودثارة ما فوقي اتقيت بها البرد، ووثارة ما تحتي اتقيت بها أذى الأرض، كان حشوها قطع السعف. قال: ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول الله، لقد كلفت القوم بعدك تعبا، ووليتهم نصبا، فهيهات من شق غبارك! فكيف اللحاق بك!.
استخلاف أبي بكر لعمر

(2/77)

عبد الله بن محمد التيمي عن محمد بن عبد العزيز: إن أبا بكر الصديق حين حضرته الوفاة كتب عهده وبعث به مع عثمان بن عفان ورجل من الأنصار ليقرآه على الناس، فلما اجتمع الناس قاما فقالا: هذا عهد أبي بكر، فإن تقروا به نقرأه، وإن تنكروه نرجعه. فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا عهد أبي بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويتقي الفاجر، ويصدق الكاذب. إني أمرت عليكم عمر بن الخطاب، فإن عدل واتقى فذاك ظني به ورجائي فيه، وإن بدل وغير فالخير أردت، لا يعلم الغيب إلا الله قال أبو صالح: أخبرنا محمد بن وضاح، قال: حدثني محمد بن رمح بن المهاجر التجيبي قال: حدثني الليث بن سعد عن علوان عن صالح بن كيسان عن حميد ابن. عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مفيقا، فقال: أصبحت بحمد الله بارئا. قال أبو بكر: أتراه؟ قال: نعم. قال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي. إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورم من ذلك أنفه، يريد أن يكون له الأمر من دونه، ورأيتم الدنيا مقبلة، ولن تقبل - وهي مقبلة - حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم الاضطجاع على شوك السعدان. والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا. ألا وإنكم أول ضال بالناس غدا فتصدوهم عن الطريق يمينا وشمالا. يا هادي الطريق إنما هو الفجر أو البحر. قال: فقلت له: خفض عليك يرحمك الله، فإن هذا يهيضك على ما بك، إنما الناس في أمرك بين رجلين، إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو يشير عليك برأيه، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير، ولم تزل صالحا مصلحا، مع أنك لا تأسي على شيء من الدنيا. فقال: أجل، إني لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وودت أني تركتهن، وثلاث تركتهن ووددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن. فأما الثلاث التي فعلتهن ووددت أني تركتهن: فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء، وإن كانوا أغلقوه على الحرب؛ ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي، وأني قتلته سريحا أو خليته نجيحا؛ ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قد رميت الأمر في عنق أحد الرجلين، فكان أحدهما أميرا وكنت له وزيرا - يعني بالرجلين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح - وأما الثلاث التي تركتهن ووددت أني فعلتهن: فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا ضربت عنقه؛ فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه؛ ووددت أني سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا وإن انهزموا كنت بصدد لقاء أو مدد؛ ووددت أني وجهت خالد بن الوليد إلى الشام ووجهت عمر ابن الخطاب إلى العراق، فأكون قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله. وأما الثلاث التي وددت أني أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: فإني وددت أني سألته: لمن هذا الأمر من بعده فلا ينازعه أحد، وأني سألته هل للأنصار يا هذا الأمر نصيب فلا يظلموا نصيب منه، ووددت أني سألته عن بنت الأخ والعمة، فإن في نفسي منهما شيئا.
نسب عمر بن الخطاب وصفته

(2/78)

أبو الحسن علي بن محمد قال: هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب ابن فهر بن مالك. وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وهاشم هو ذو الرمحين. قال أبو الحسن: كان عمر رجلا آدم مشربا حمرة طويلا أصلع له حفافان، حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين، مجدول الفحم، حسن الخلق، ضخم الكراديس، أعسر يسر، إذا مشى كأنه راكب. ولى الخلافة يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من التاريخ. وطعن لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من التاريخ. فعاش ثلاثة أيام. ويقال سبعة أيام. معدان بن أبي حفصة، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، في رواية الشعبي. ولها مات أبو بكر، ولها مات النبي صلى الله عليه وسلم.
فضائل عمر بن الخطاب

(2/79)

أبو الأشهب عز الحسن، قال: عاتب عيينة عثمان، فقال له: كان عمر خيرا لنا منك، أعطانا فأغنانا، وأخشانا فأتقانا. وقيل لعثمان: ما لك لا تكون مثل عمر؟ قال: لا أستطيع أن أكون مثل لقمان الحكيم. القاسم بن عمر قال: كان إسلام عمر فتحا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة. وقيل: إن عمر خطب امرأة من ثقيف وخطبها المغيرة؛ فزوجوها المغيرة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا زوجتم عمر؛ فإنه خير قريش أولها وآخرها، إلا ما جعل الله لرسوله. الحسن بن دينار عن الحسن، قال: ما فضل عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أطولهم صلاة، وأكثرهم صياما؛ ولكنه كان أزهدهم في الدنيا، وأشدهم في أمر الله. وتظلم رجل من بعض عمال عمر، وادعى أنه ضربه وتعدى عليه، فقال: اللهم إني لا أحل لهم أشعارهم ولا أبشارهم. كل من ظلمه أميره فلا أمير عليه دوني، ثم أقاده منه. عوانة عن الشعبي قال: كان عمر يطوف في الأسواق، ويقرأ القرآن، ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم. وقال المغيرة بن شعبة، وذكر عمر، فقال: كان والله له فضل يمنعه من أن يخدع، وعقل يمنعه من، أن ينخدع. فقال عمر: لست بخب ولا الخب يخدعني. عكرمة عن ابن عباس، قال قال: بينما أنا أمشي مع عمر بن الخطاب في خلافته وهو عامد لحاجة له وفي يده الذرة، فأنا أمشي خلفه وهو يحدث نفسه ويضرب وحشي قدميه بدرته، إذ التفت إلي، فقال: يا بن عباس، أتدري ما حملني على مقالتي التي قلت يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قال: الذي حملني على ذلك أني كنت أقرأ هذه الآية: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " فوالله إني كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد علينا بأخف أعمالنا، فهو الذي دعاني إلى ما قلت. ابن دأب قال: قال ابن عباس: خرجت أريد عمر في خلافته، فألفيته راكبا على حمار قد أرسنه بحبل أسود، وفي رجليه نعلان مخصوفتان، وعليه إزار قصير وقميص قصير، قد انكشفت منه ساقاه، فمشيت إلى جنبه وجعلت أجبذ الإزار عليه، فجعل يضحك ويقول: إنه لا يطيعك. حتى أتى العالية، فصنع له قوم طعاما من خبز ولحم، فدعه إليه، وكان عمر صائما، فجعل ينبذ إلي الطعام ويقول: كل لي ولك. ومن حديث ابن وهب عن الليث بن سعد: أن أبا بكر لم يكن يأخذ من بيت المال شيئا ولا يجري عليه من الفيء درهما، إلا أنه استلف منه مالا، فلما حضرته الوفاة أمر عائشة برده. وأما عمر بن الخطاب فكان يجرى على نفسه درهمين كل يوم. فلما ولى عمر بن عبد العزيز قيل له: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب؟ قال: كان عمر لا مال له، وأنا مال يغنيني بم فلم يأخذ منه شيئا. أبو حاتم عن الأصمعي، قال: قال عمر وقام على الردم: أين حقك يا أبا سفيان مما هنا؟ قال: مما تحت قدميك إلي. قال: طالما كنت قديم الظلم، ليس لأحد فيما وراء قدمي حق، إنما هي منازل الحاج. قال الأصمعي: وكان رجل من قريش قد تقدم صدر من داره عن قدمي عمر فهدمه. وأراد أن يغور البئر، فقيل له: في البئر للناس منفعة، فتركها. قال الأصمعي: إذا ودع الحاج ثم بات خلف قدمي عمر لم أر عليه أن يرجع. يقول: قد خرج من مكة.
مقتل عمر

(2/80)

أبو الحسن: كان للمغيرة بن شعبة غلام نصراني يقال له: فيروز أبو لؤلؤة، وكان نجارا لطيفا، وكان خراجه ثقيلا، فشكا إلى عمر ثقل الخراج، وسأله أن يكلم مولاه أن يخفف عنه من خراجه، فقال له: وكم خراجك؟ قال ثلاثة دراهم في كل شهر. قال وما صناعتك؟ قال: نجار. قالت: ما أرى هذا ثقيلا في مثل صناعتك. فخرج مغضبا، فاستل خنجرا محدود الطرفين. وكان عمر قد رأى في المنام ديكا أحمر ينقره ثلاث نقرات، فتأوله رجلا من العجم يطعنه ثلاث طعنات. فطعنه أبو لؤلؤة بخنجره ذلك في صلاة الصبح ثلاث طعنات، إحداها بين سرته وعانته، فخرقت الصفاق، وهي التي قتلته. وطعن في المسجد معه ثلاثة عشر رجلا، مات منهم سبعة. فأقبل رجل من بني تميم، يقال له حطان، فألقى كساءه عليه ثم احتضنه. فلما علم العلج أنه مأخوذ طعن نفسه وقدم عمر صهيبا يصلي بالناس، فقرأ بهم في صلاة الصبح: " قل هو الله أحد " في الركعة الأولى، و " قل يأيها الكافرون " في الركعة الثانية. واحتمل عمر إلى بيته، فعاش ثلاثة أيام ثم مات. وقد كان استأذن عائشة أن يدفن في بيتها مع صاحبيه، فأجابته وقالت: والله لقد كنت أردت ذلك المضجع لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي. فكانت ولاية عمر عشر سنين. صلى عليه صهيب بين القبر والمنبر، ودفن عند غروب الشمس. كاتبه: زيد بن ثابت، وكتب له معيقب أيضا. وحاجبه: يرفأ، مولاه. وخازنه: يسار. وعلى بيت ماله: عبد الله ابن الأرقم. وقال الليث بن سعد: كان عمر أول من جند الأجناد، ودون الدواوين، وجعل الخلافة شورى بين ستة من المسلمين، وهم: علي وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، ليختاروا منهم رجلا يولونه أمر المسلمين. وأوصى أن يحضر عبد الله بن عمر معهم، وليس له من أمر الشورى شيء.
أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان

(2/81)

صالح بن كيسان قال: قال ابن عباس: دخلت على عمر في أيام طعنته، وهو مضطجع على وسادة من أدم، وعنده جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له رجل: ليس عليك بأس. قال: لئن لم - يكن علي اليوم ليكون بعد اليوم، وإن للحياة لنصيبا من القلب، وإن للموت لكربة، وقد كنت أحب أن أنجي نفسي وأنجو منكم، وما كنت من أمركم إلا كالغريق يرى الحياة فيرجوها، ويخشى أن يموت دونها، فهو يركض بيديه ورجليه؛ وأشد من الغريق الذي يرى الجنة والنار وهو مشغول. ولقد تركت زهرتكم كما هي، ما لبستها فأخلقتها، وثمرتكم يانعة في أكمامها ما أكلتها، وما جنيت ما جنيت إلا لكم، وما تركت ورائي درهما ما عدا ثلاثين أو أربعين درهما، ثم بكى وبكى الناس معه. فقلت: يا أمير المؤمنين، أبشر، فوالله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ومات أبو بكر وهو عنك راض، وإن المسلمين راضون عنك. قال: المغرور والله من غررتموه، أما والله لو أن لي ما بين المشرق والمغرب لافتديت به من هول المطلع. داود بن أبي هند عن قتادة قال: لما ثقل عمر قال لولده عبد الله: ضع خدي على الأرض. فكره أن يفعل ذلك. فوضع عمر خذه على الأرض وقال: ويل لعمر ولام عمر إن لم يعف الله عنه. أبو أمية بن يعلى عن نافع قال: قيل لعبد الله بن عمر: تغسل الشهداء؟ قال: كان عمر أفضل الشهداء، فغسل وكفن وصلي عليه. يونس عن الحسن، وهشام بن عروة عن أبيه، قالا: لما طعن عمر بن الخطاب قيل له: يا أمير المؤمنين، لو استخلفت؟ قال: إن تركتكم فقد ترككم من هو خير مني، وإن استخلفت فقد استخلف عليكم من هو خير مني، ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة؛ ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إن سالما ليحب الله حبا لو لم يخفه ما عصاه. قيل له: فلو أنك عهدت إلى عبد الله فإنه له أهل في دينه وفضله وقديم إسلامه. قال: بحسب آل الخطاب أن يحاسب منهم رجل واحد عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولوددت أني نجوت من هذا الأمر كفافا لا لي ولا علي. ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت؟ فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولي رجلا أمركم أرجو أن يحملكم على الحق - وأشار إلى علي - ثم رأيت أن لا أتحملها حيا وميتا، فعليكم بهؤلاء الرهط الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:26 pm

إنهم من أهل الجنة، منهم سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل، ولست مدخله فيهم، ولكن الستة: علي وعثمان، ابنا عبد مناف، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، وطلحة الخير، فليختاروا منهم رجلا، فإذا ولوكم واليا فأحسنوا مؤازرته. فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم. قال: أكره الخلاف. قال: إذن ترى ما تكره. فلما أصبح عمر دعا عليا وعثمان وسعدا والزبير وعبد الرحمن، ثم قال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وإني لا أخاف الناس عليكم، ولكني أخافكم على الناس، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، فاجتمعوا إلى حجرة عائشة بإذنها، فتشاوروا واختاروا منكم رجلا، وليصل بالناس صهيب ثلاثة أيام، ولا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضركم عبد الله مشيرا، ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم. ومن لي بطلحة؛ فقال سعد: أنا لك به إن شاء الله. قال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إن الله قد أعز بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار وكونوا مع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم. وقال للمقداد بن الأسود الكندي: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم. وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن وطلحة، إن حضر، بيت عائشة وأحضر عبد الله بن عمر، وليس له في الأمر شيء، وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة على رأي واحد وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة فرضوا وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بعبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين، إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس وخرجوا. فقال علي لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم فلن يومروكم أبدا. وتلقاه العباس فقال له: عدلت عنا. قال له: وما أعلمك؟ قال: قرن بي عثمان، ثم قال: إن رضي ثلاثة رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون، فلو كان الآخران معي ما نفعاني، فقال العباس: لم أدفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخرا بما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسأله فيمن، هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم فأبيت، فاحفظ عني واحدة: كل ما عرض عليك القوم فأمسك إلى أن يولوك، واحذر هذا الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا. فلما مات عمر وأخرجت جنازته تصدى علي وعثمان أيهما يصلي عليه. فقال عبد الرحمن: كلا كما يحب الأمر، لستما من هذا في شيء، هذا صهيب، استخلفه عمر يصلي بالناس ثلاثا حتى يجتمع الناس على إمام. فصلى عليه صهيب. فلما دفن عمر جمع المقداد بن الأسود أهل الشورى في بيت عائشة بإذنها وهم خمسة، معهم ابن عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة، فحجبهم. وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في أهل، الشورى! فتنافس القوم في الأمر، وكثر بينهم الكلام، كل يرى أنه أحق بالأمر. فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها، لا والذي ذهب بنفس محمد لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر بها عمر أو أجلس في بيتي. فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؛ فلم يجبه أحد. قال: فأنا أنخلع منها. قال عثمان: أنا أول من رضي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عبد الرحمن أمين في السماء أمين في الأرض. فقال القوم: رضينا، وعلي ساكت. فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: إن أعطيتني موثقا لتؤثرن الحق، ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا

(2/83)

رحم، ولا تألو الأمة نصحا. قال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من نكل، وأن ترضوا بما أخذت لكم. فتوثق بعضهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن.رحم، ولا تألو الأمة نصحا. قال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من نكل، وأن ترضوا بما أخذت لكم. فتوثق بعضهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن.
فخلا بعلي، فقال: إنك أحق بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك، ولم تبعد، فمن أحق بها بعدك من هؤلاء؟ قال: عثمان. ثم خلا بعثمان فسأل عن مثل ذلك. فقال: علي ثم خلا بسعد. فقال عثمان ثم خلا بالزبير. فقال: عثمان. أبو الحسن قال: لما خاف علي بن أبي طالب عبد الرحمن بن عوف والزبير وسعدا أن يكونوا مع عثمان لقي سعدا ومعه الحسن والحسين، فقال له: " اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " . أسألك برحم ابني هذين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرحم عمي حمزة منك أن لا تكون مع عبد الرحمن ظهيرا علي لعثمان، فإني أدلي إليك بما لا يدلي به عثمان. ثم دار عبد الرحمن لياليه تلك على مشايخ قريش يشاورهم، فكلهم يشير بعثمان، حتى إذا كان في الليلة آلتي استكمل فيم صبيحتها الأجل أتى منزل المسور ابن مخرمة بعد هجعة من الليل فأيقظه، فقال: ألا أراك إلا، نائما ولم أذق في هذه الليالي نوما، فانطلق فادع لي الزبير وسعدا، فدعا بهما. فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد، فقال له: خل بني عبد مناف لهذا الأمر. فقال: نصيبي لعلي. فقال لسعد: أنا وأنت كالآلة فاجعل نصيبك لي فأختار. قال: أما إن اخترت نفسك فنعم، وأما إن اخترت عثمان فعلي أحب إلي منه. قال: يا أبا إسحاق، إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار، ولو لم أفعل وجعل إلي الخيار ما أردتها، إني رأيت كأني في روضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحل لم أر مثله فحلا أكرم منه، فمر كأنه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها، ودخل بعير يتلوه فأتبع أثره حتى خرج إليه من الروضة، ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه يلتفت يمينا وشمالا ويمضي قصد الأولين، ثم خرج من الروضة، ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة، ولا والله لا أكون البعير الرابع، ولا يقوم بعد أبي بكر وعمر أحد فيرضى الناس عنه. ثم أرسل المسور إلى علي، وهو لا يشك أنه صاحب الأمر. ثم أرسل المسور إلى عثمان فناجاه طويلا حتى فرق بينهما آذان الصبح. فلما صلوا الصبح جمع إليه الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين والأنصار، وإلى أمراء الأجناد، حتى ارتج المسجد بأهله فقال: أيها الناس، إن الناس قد احبوا أن تلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فقال عمار بن ياسر: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، إن بايعت عليا قلنا: سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متي كنت تنصح المسلمين! فتكلم بنو هاشم وبنو أمية. فقال عمار: أيها الناس، إن الله أكرمنا بنبينا وأعزنا بدينه، فأنى تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم! فقال له رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن، افرغ قبل أن يفتتن الناس. فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.

(2/84)

ودعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أعمل بمبلغ علمي وطاقتي. ثم دعا عثمان، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسرة الخليفتين من بعده؟ فقال: نعم، فبايعه. فقال علي: حبوته محاباة، ليس ذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا، أما والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان أحدا. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين. قال: لئن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين. ثم قال: ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم، إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول إن أحدا أعلم منه، ولا أقضي بالعدل، ولا أعرف بالحق، أما والله لو أجد أعوانا! قال له عبد الرحمن: يا مقداد، اتق الله فإني أخشى عليك الفتنة. قال: وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه عثمان، فقيل له: إن الناس قد بايعوا عثمان. فقال: أكل قريش رضوا به؟ قالوا: نعم. وأتى عثمان، فقال له عثمان: أنت على رأس أمرك. قال طلحة: فإن أبيت أتردها؟ قال: نعم. قال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم. قال: قد رضيت، لا أرغب عما اجتمعت الناس عليه، وبايعه. وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قد أصبت إذ بايعت عثمان ولو بايعت غيره ما رضيناه. قال: كذبت يا أعور، لو بايعت غيره لبايعته وقلت هذه المقالة. وقال عبد الله بن عباس: ماشيت عمر بن الخطاب يوما فقال لي: يا ابن عباس، ما يمنع قومكم منكم وأنتم أهل البيت خاص؟ قلت: لا أدري. قال: لكني أدري، إنكم فضلتموهم بالنبوة، فقالوا: إن فضلوا بالخلافة مع النبوة لم يبقوا لنا شيئا، وإن أفضل النصيبين بأيديكم، بل ما إخالها إلا مجتمعة لكم وإن نزلت على رغم أنف قريش. فلما أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلة من أصحاب محمد، قيل لعبد الرحمن: هذا عملك، قال: ما ظننت هذا، ثم مضى ودخل عليه وعاتبه، وقال: إنما قدمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، فخالفتهما وحابيت أهل بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين. فقال: إن عمر كان يقطع قرابته في الله وأنا اصل قرابتي في الله. قال عبد الرحمن: لله علي أن لا أكلمك أبدا، فلم يكلمه أبدا حتى مات، ودخل عليه عثمان عائدا له في مرضه، فتحول عنه إلى الحائط ولم يكلمه. ذكروا أن زيادا أوفد ابن حصين على معاوية، فأقام عنده ما أقام، ثم إن معاوية بعث إليه ليلا، فخلا به، فقال له: يا بن حصين، قد بلغني أن عندك ذهنا وعقلا، فأخبرني عن شيء أسألك عنه. قال: سلني عما بدا لك. قال: أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين وفرق أهواءهم وخالف بينهم؟ قال: نعم، قتل الناس عثمان. قال: ما صنعت شيئا. قال: فمسير علي إليك وقتاله إياك. قال: ما صنعت شيئا. قال: ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. قال: فأنا أخبرك، إنه لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر، وذلك أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما أمره الله به ثم قبضه الله إليه، وقدم أبا بكر للصلاة، فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر دينهم، فعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار بسيره، حتى قبضه الله، واستخلف عمر، فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بي ستة نفر، فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه. ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف. وقال المغيرة بن شعبة: إني لعند عمر بن الخطاب، وليس عنده أحد غيري، إذا أتاه آت فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزعمون أن الذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك لم يكن له، وأنه

(2/85)

كان بغير مشورة ولا مؤامرة، وقالوا: تعالوا نتعاهد أن لا نعود إلى مثلها. قال عمر: وأين هم؟ قال: ي دار طلحة. فخرج نحوهم وخرجت معه، وما أعلمه يبصرني من شدة الغضب، فلما رأواه كرهوه وظنوا الذي جاء له. فوقف عليهم، وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله لن تتحابوا حتى يتحاب الأربعة: الإنسان والشيطان يغويه وهو يلعنه، والنار والماء يطفئها وهي تحرقه، ولم يأن لكم بعد، وقد آن ميعادكم ميعاد المسيخ متى هو خارج. قال: فتفرقوا فسلك كل واحد منهم طريقا. قال المغيرة: ثم قال لي: أدرك ابن أبي طالب فاحبسه علي. فقلت: لا يفعل أمير المؤمنين وهو مغد. فقال: أدركه وإلا قلت لك يا بن الدباغة. قال: فأدركته، فقلت له: قف مكانك لإمامك واحلم فإنه سلطان وسيندم وتندم. قال: فأقبل عمر، فقال: والله ما خرج هذا الأمر إلا من تحت يدك.ان بغير مشورة ولا مؤامرة، وقالوا: تعالوا نتعاهد أن لا نعود إلى مثلها. قال عمر: وأين هم؟ قال: ي دار طلحة. فخرج نحوهم وخرجت معه، وما أعلمه يبصرني من شدة الغضب، فلما رأواه كرهوه وظنوا الذي جاء له. فوقف عليهم، وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله لن تتحابوا حتى يتحاب الأربعة: الإنسان والشيطان يغويه وهو يلعنه، والنار والماء يطفئها وهي تحرقه، ولم يأن لكم بعد، وقد آن ميعادكم ميعاد المسيخ متى هو خارج. قال: فتفرقوا فسلك كل واحد منهم طريقا. قال المغيرة: ثم قال لي: أدرك ابن أبي طالب فاحبسه علي. فقلت: لا يفعل أمير المؤمنين وهو مغد. فقال: أدركه وإلا قلت لك يا بن الدباغة. قال: فأدركته، فقلت له: قف مكانك لإمامك واحلم فإنه سلطان وسيندم وتندم. قال: فأقبل عمر، فقال: والله ما خرج هذا الأمر إلا من تحت يدك.
قال علي: اتق أن لا تكون الذي نطيعك فنفتنك. قال: وتحب أن تكون هو؟ قال: لا، ولكننا نذكرك الذي نسيت. فالتفت إلي عمر فقال: انصرف، فقد سمعت منا عند الغضب ما كفاك فتنجيت قريبا، وما وقفت إلا خشية أن يكون بينهما شيء فأكون قريبا، فتكلما كلاما غير غضبانين ولا راضيين، ثم رأيتهما يضحكان وتفرقا. وجاءني عمر، فمشيت معه وقلت: يغفر الله لك، أغضبت؟ قال: فأشار إلى علي وقال: أما والله لولا دعابه فيه ما شككت في ولايته، وإن نزلت على رغم أنف قريش.

(2/86)

العتبي عن أبيه: إن عتبة بن أبي سفيان قال: كنت مع معاوية في دار كندة، إذ أقبل الحسن والحسين ومحمد، وبنو علي بن أبي طالب، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لهؤلاء القوم أشعارا وأبشارا، وليس مثلهم كذب، وهم يزعمون أن أباهم كان يعلم. فقال: إليك من صوتك، فقد قرب القوم، فإذا قاموا فذكرني بالحديث، فلما قاموا قلت يا أمير المؤمنين، ما سألتك عنه من الحديث؟ قال: كل القوم كان يعلم وكان أبوهم من أعلمهم. ثم قال. قدمت على عمر بن الخطاب، فإني عنده إذ جاءه علي وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخلوا وهم يتدافعون ويضحكون، فلما رآهم عمر نكس، فعلموا أنه على حاجة، فقاموا كما دخلوا. فلما قاموا أتبعهم بصره، فقال: فتنة، أعوذ بالله من شرهم، وقد كفاني الله شرهم. قال: ولم يكن عمر بالرجل يسأل عما لا يفسر. فلما خرجت جعلت طريقي على عثمان فحدثته الحديث وسألته الستر. قال: نعم، على شريطة. قلت: هي لك. قال: تسمع ما أخبرك به وتسكت إذا سكت. قلت: نعم. قال: ستة يقدح بهم زناد الفتنة يجري الدم منهم على أربعة. قال: ثم سكت. وخرجت إلى الشام، فلما قدمت على عمر فحدث من أمره ما حدث، فلما مضت الشورى، ذكرت الحديث، فأتيت بيت عثمان وهو جالس وبيده قضيب، فقلت: يا أبا عبد الله، تذكر الحديث الذي حدثتني؟ قال: فأزم على القضيب عضا، ثم أقلع عنه وقد أثر فيه، فقال: ويحك يا معاوية، أي شيء ذكرتني! لولا أن يقول الناس خاف أن يؤخذ عليه لخرجت إلى. الناس منها. قال: فأبى قضاء الله إلا ما ترى. ومما نقم الناس على عثمان أنه آوى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص، ولم يؤوه أبو بكر ولا عمر، وأعطاه مائة ألف، وسير أبا ذر إلى الربذة، وسير عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام، وطلب منه عبيد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف، وتصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهزور - موضع سوق المدينة - على المسلمين، فأقطعها الحارث بن الحكم، أخا مروان، وأقطع فدك مروان، وهي صدقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وافتتح إفريقية، وأخذ خمسه فوهبه لمروان. فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي:
فأحلف بالله رب الأنا ... م ما كتب الله شيئا سدى
ولكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلى بك أو تبتلى
فإن الأمينين قد بينا ... منارا لحق عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة ... وما تركا درهما في هوى
وأعطيت مروان خمس العبا ... د هيهات شأوك ممن شأى
نسب عثمان وصفته
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، عم النبي صلى الله عليه وسلم. وكان عثمان أبيض مشربا صفرة، كأنها فضة وذهب، حسن القامة، حسن الساعدين، سبط الشعر، أصلع الرأس، أجمل الناس إذا اعتم، مشرف الأنف، عظيم الأرنبة، كثير شعر الساقين والذراعين، ضخم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين. ولما أسن شد أسنانه بالذهب، وسلس بوله، فكان يتوضأ لكل - صلاة، ولي الخلافة منسلخ ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقتل يوم الجمعة صبيح عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين. وفي ذلك يقول حسان:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
لنسمعن وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
فكانت ولايته اثنتي عشرة سنة وستة عشر يوما. وهو ابن أربع وثمانين سنة. وكان على شرطته - وهو أول من - اتخذ صاحب شرطة - عبيد الله ابن قنفذ. وعلى بيت المال، عبد الله بن أرقم، ثم استعفاه. وكاتبه: مروان. وحاجبه: حمران، مولاه.
فضائل عثمان

(2/87)

سالم بن عبد الله بن عمر، قال: أصاب الناس مجاعة في غزوة تبوك، فاشترى عثمان طعاما على ما يصلح العسكر، وجهز به عيرا. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سواد مقبل، فقال: هذا جمل أشقر قد - جاءكم بميرة. فأنيخت الركائب، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال: اللهم إني قد رضيت عن عثمان فارض عنه. وكان عثمان حليما سخيا محببا إلى قريش، حتى كان يقال: " أحبك والرحمن، حب قريش عثمان " . وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم رقية ابنته، فاتت عنده، فزوجه أم كلثوم ابنته أيضا.
الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: لما ماتت رقية جزع عثمان عليها، وقال: يا رسول الله، انقطع صهري منك. قال: إن صهرك مني لا ينقطع، وقد أمرني جبريل أن أزوجك أختها بأمر الله. عبد الله بن عباس قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، فراني ضجيعا لأم كلثوم، فاستعبر، فقلت: والذي بعثك بالحق ما اضطجعت عليه أنثى بعدها. فقال: ليس لهذا استعبرت، فإن الثياب للحي وللميت الحجر، ولو كن يا عثمان عشرا لزوجتكهن واحدة بعد واحدة. وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على عثمان فأبى منها، فشكاه عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سيزوج الله ابنتك خيرا من عثمان، ويزوج عثمان خيرا من ابنتك. فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، وزوج ابنته من عثمان بن عفان. " ومن حديث الشعبي أن النبي عليه إسلام، دخل عليه عثمان، فسوى ثوبه عليه وقال: كيف لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة!
مقتل عثمان بن عفان
الرياشي عن الأصمعي قال: كان القواد الذين ساروا إلى المدينة في أمر عثمان أربعة: عبد الرحمن بن عديس التنوخي، وحكيم بن جبلة العبدي، والأشتر النخعي، وعبد الله بن فديك الخزاعي. فقدموا المدينة فحاصروه، وحاصره معهم قوم من المهاجرين والأنصار، حتى دخلوا عليه فقتلوه والمصحف بين يديه. ثم تقدموا إليه وهو يقرأ يوم الجمعة صبيحة النحر، وأرادوا أن يقطعوا رأسه ويذهبوا به، فرمت نفسها عليه امرأته نائلة بنت الفرافصة، وابنة شيبة بن ربيعة، فتركوه وخرجوا. فلما كان ليلة السبت انتدب لدفنه رجال، منهم: خبير ابن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو الجهم بن حذيفة، وعبد الله بن الزبير، فوضعوه على باب صغير، وخرجوا به إلى البقيع، ومعهم نائلة بنت الفرافصة بيدها السراج. فلما بلغوا به البقيع منعهم من دفنه فيه رجال من بني ساعدة، فردوه إلى حش كوكب، فدفنوه فيه، وصلى عليه خبير بن مطعم، ويقال: حكيم بن حزام. ودخلت القبر نائلة بنت الفرافصة، وأم البنين بنت عيينة، زوجتاه، وهما دلتاه في القبر. والحش: البستان. وكان حش كوكب، اشتراه عثمان، فجعله أولاده مقبرة للمسلمين.

(2/88)

يعقوب بن عبد الرحمن: عن محمد بن عيسى الدمشقي عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب عن محمد بن شهاب الزهري قال: قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف قتل عثمان؟ وما كان شأن الناس وشأنه؟ ولم خذله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: قتل عثمان مظلوما، ومن قتله كان ظالما، ومن خذله كان معذورا. قلت: وكيف ذاك؟ قال: إن عثمان لما ولي كره ولايته نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة، وكان كثيرا ما يولي بني أمية، ممن لم يكن له من لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة، وكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد، فكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم. فلما كان في الحجج الآخرة استأثر ببني عمه فولاهم وأمرهم بتقوى الله، فخرجوا. وولى عبد الله بن أبي صح مصر، فمكث عليها سنين، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه. ومن قبل ذلك كانت من عثمان هناة إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر. فكانت هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لابن مسعود. وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان بما نال عمار بن ياسر. وجاء أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فكتب إليه عثمان كتابا يتهدده، فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عثمان عنه، وضرب رجلا ممن أتى عثمان، فقتله. فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح. فقام طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان بكلام شديد. وأرسلت إليه عائشة: قد تقدم إليك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت أن تعزله، فهذا قد قتل منهم رجلا، فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه علي، وكان متكلم القوم، فقال: إنما سألوك رجلا مكان رجل، وقد ادعوا قبله دما، فاعزله عنهم، واقض بينهم، وإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم: اختاروا رجلا أوله عليكم مكانه. فأشار الناس عليهم بمحمد ابن أبي بكر. فقالوا: استعمل علينا محمد بن أبي بكر. فكتب عهده وولاه، وأخرج معهم عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح. فخرج محمد ومن معه، فلما كان على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط الأرض خبطا، كأنه رجل يطلب أو يطلب. فقال له أصحاب محمد: ما قصتك؟ وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب. فقال: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر. فقالوا: هذا عامل مصر معنا. قال: ليس هذا أريد. وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر، فبعث في طلبه، فأتي به، فقال له: غلام من أنت؟ قال: فأقبل مرة يقول: غلام أمير المؤمنين، ومرة: غلام. مروان، حتى عرفه رجل منهم أنه لعثمان. فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال. إلى عامل مصر. قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: معك كتاب؟ قال: لا. ففتشوه فلم يوجد معه شيء إلا إداوة قد يبست فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج، فشقوا الإداوة، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح. فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه: إذا جاءك محمد وفلان وفلان فاحتل لقتلهم، وأبطل كتابهم، وقر على عملك حتى يأتيك رأي، واحتبس من جاء يتظلم منك ليأتيك في ذلك رأي إن شاء الله. فلما قرأوا الكتاب فزعوا وعزموا على الرجوع إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخواتم القوم الذين أرسلوا معه، ودفعوا الكتاب إلى رجل منهم، وقدموا المدينة فجمعوا عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام، وأقرأوهم الكتاب فلم يبق أحد في المدينة إلا حنق على عثمان، وازداد من كان منهم غاضبا لابن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر غضبا وحنقا، وقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلحقوا منازلهم، ما منهم أحد إلا وهو مغتم بما قرأوا في الكتاب. وحاصر الناس عثمان، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر بني تيم وغيرهم، وأعانه طلحة بن عبيد الله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:27 pm

على ذلك. وكانت عائشة تقرضه كثيرا. فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم بدري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، وقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. والبعير بعيرك؟ قال: نعم. والخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبت الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله: ما كتبت الكتاب ولا أمرت به ولا وجهت الغلام إلى مصر قط. وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان، وشكوا في أمر عثمان وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى. وكان مروان عنده في الدار. فخرج أصحاب محمد من عنده غضابا، وشكوا في أمر عثمان، وعلموا أنه لا يحلف باطلا، إلا أن قوما قالوا: لا نبرىء عثمان إلا أن يدفع إلينا مروان، حتى نمتحنه ونعرف أمر هذا الكتاب، وكيف يأمر بقتل رجال من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بغير حق! فإن يك عثمان كتبه عزلناه، وإن يك مروان كتبه على لسانه نظرنا في أمره، ولزموا بيوتهم. وأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان، وخشي عليه القتل. وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء، فأشرف عليهم، فقال: أفيكم علي؟ قالوا: لا. قال: أفيكم سعد؟ قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه ثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية، حتى وصل إليه الماء. فبلغ عليا أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا. وقالت للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه بمكروه. وبعث الزبير ولده، وبعث طلحة ولده على كره منه، وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ليمنعوا الناس أن يدخلوا على عثمان، وسألوه إخراج مروان. ورمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي الدماء على بابه، وأصاب مروان سهم في الدار، وخضب محمد بن طلحة، وشج قنبر، مولى علي. وخشي محمد بن أبي بكر أن تغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيرونها، فأخذ بيدي رجلين فمال لهما: إذا جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن والحسين كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد، ولكن مروا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم أحد. فتسور محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار. ويقال من دار محمد بن حزم الأنصاري. ومما يدل على ذلك قول الأحوص: ذلك. وكانت عائشة تقرضه كثيرا. فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم بدري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، وقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. والبعير بعيرك؟ قال: نعم. والخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبت الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله: ما كتبت الكتاب ولا أمرت به ولا وجهت الغلام إلى مصر قط. وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان، وشكوا في أمر عثمان وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى. وكان مروان عنده في الدار. فخرج أصحاب محمد من عنده غضابا، وشكوا في أمر عثمان، وعلموا أنه لا يحلف باطلا، إلا أن قوما قالوا: لا نبرىء عثمان إلا أن يدفع إلينا مروان، حتى نمتحنه ونعرف أمر هذا الكتاب، وكيف يأمر بقتل رجال من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بغير حق! فإن يك عثمان كتبه عزلناه، وإن يك مروان كتبه على لسانه نظرنا في أمره، ولزموا بيوتهم. وأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان، وخشي عليه القتل. وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء، فأشرف عليهم، فقال: أفيكم علي؟ قالوا: لا. قال: أفيكم سعد؟ قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه ثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية، حتى وصل إليه الماء. فبلغ عليا أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا. وقالت للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه بمكروه. وبعث الزبير ولده، وبعث طلحة ولده على كره منه، وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ليمنعوا الناس أن يدخلوا على عثمان، وسألوه إخراج مروان. ورمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي الدماء على بابه، وأصاب مروان سهم في الدار، وخضب محمد بن طلحة، وشج قنبر، مولى علي. وخشي محمد بن أبي بكر أن تغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيرونها، فأخذ بيدي رجلين فمال لهما: إذا جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن والحسين كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد، ولكن مروا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم أحد. فتسور محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار. ويقال من دار محمد بن حزم الأنصاري. ومما يدل على ذلك قول الأحوص:

(2/90)

لا ترثين لحزمي ظفرت به ... طرا ولو طرح الحزمي في النار
الناخسين بمروان بذي خشب ... والمدخلين على عثمان في الدار
فدخلوا عليه وليس معه إلا امرأته نائلة بنت الفرافصة، والمصحف في حجره، ولا يعلم أحد في كان معه، لأنهم كانوا على البيوت. فتقدم إليه محمد وأخذ بلحيته، فقال له عثمان: أرسل لحيتي يا بن أخي فلو رآك أبوك لساءه مكانك. فتراخت يده من لحيته، وغمز الرجلين فوجاه بمشاقص معهما حتى قتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا. وخرجت امرأته فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل. فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مذبوحا، فأكبوا عليه يبكون. وبلغ الخبر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة، فخرجوا وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا، فاسترجعوا. وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسين، وضرب صدر الحسن، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير. ثم خرج علي وهو غضبان يرى أن طلحة أعان عليه. فلقيه طلحة فقال: ما لك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين؟ فقال: عليك وعليهما لعنة الله، يقتل أمير المؤمنين ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدري، ولم تقم بينة ولا حجة! فقال طلحة: لو دفع مروان لم يقتل. فقال: لو دفع مروان قتل قبل أن تثبت عليه حجة. وخرج علي فأتى منزله. وجاءه القوم كلهم يهرعون إليه، أصحاف محمد وغيرهم، يقولون: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال: ليس ذلك إلا لأهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة، فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى عليا، فقالوا: ما نرى أحدا أولى بها منك، فمد يدك نبايعك. فقال: أين طلحة والزبير وسعد؟ فكان أول من بايعه طلحة بلسانه، وسعد بيده. فلما رأى ذلك علي خرج إلى المسجد، فصعد المنبر، فكان أولا من صعد طلحة فبايعه بيده، وكانت إصبعه شلاء، فتطير منها علي، وقال: ما أخلقه أن ينكث. ثم بايعه الزبير وسعد وأصحاب النبي جميعا. ثم نزل، ودعا الناس، وطلب مروان فهرب منه. خرجت عائشة باكية تقول: قتل عثمان مظلوما! فقال لها عمار: أنت بالأمس تحرضين عليه، واليوم تبكين عليه! وجاء علي إلى امرأة عثمان، فقال لها: من قتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل رجلان لا أعرفهما إلا أن أرى وجوههما، وكان معهما محمد بن أبي بكر، وأخبرته بما صنع محمد بن أبي بكر. فدعا علي بمحمد، فسأله عما ذكرت امرأة عثمان. فقال محمد: لم تكذب، وقد والله دخلت عليه وأنا أريد قتله، فذكر لي أبي، فقمت وأنا تائب، والله ما قتلته ولا أسكته. فقالت امرأة عثمان: صدق، ولكنه أدخلهما. لمعتمر عن أبيه عن الحسن: إن محمد بن أبي بكر أخذ بلحية عثمان، فقال له: ابن أخي، لقد قعدت مني مقعدا ما كان أبوك ليقعده. وفي حديث آخر: إنه قال: يا بن أخي، لو رآك أبوك لساءه مكانك. فاسترخت يده، وخرج محمد. فدخل عليه رجل والمصحف في حجره، فقال له: بيني وبينك كتاب الله، فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده، فقطعها. فقال: أما إنها أول يد خطت المفصل.
القواد الذين أقبلوا إلى عثمان

(2/91)

الأصمعي عن أبي عوانة قال: كان القواد الذين أقبلوا إلى عثمان: علقمة ابن عثمان، وكنانة بن بشر، وحكيم بن جبلة، والأشتر النخعي، وعبد الله بن بديل. وقال أبو الحسن: لما قدم القواد قالوا لعلي: قم معنا إلى هذا الرجل. قال: لا والله لا أقوم معكم. قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم كتابا قط. قال: فنظر القوم بعضهم إلى بعض، وخرج علي من المدينة. الأعمش عن عيينة عن مسروق قال: قالت عائشة: مصتموه موص الإناء حتى تركتموه كالثوب الرحيض نقيا من الدنس، ثم عدوتم فقتلتموه! فقال مروان: فقلت لها: هذا عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه. فقالت: والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم بسواد في بياض، حتى جلست في مجلسي هذا. فكانوا يرون أنه كتب على لسان علي وعلى لسانها، كما كتب أيضا على لسان عثمان مع الأسود إلى عامل مصر. فكان اختلاف هذه الكتب كلها سببا للفتنة. وقال أبو الحسن: أقبل أهل مصر عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، وأهل البصرة عليهم حكيم بن جبلة العبدي، وأهل الكوفة عليهم الأشتر - واسمه مالك بن الحارث النخعي - في أمر عثمان حتى قدموا المدينة. قال أبو الحسن: لما قدم وفد أهل مصر دخلوا على عثمان فقالوا: كتبت فينا كذا وكذا؟ قال: إنما هما اثنتان، أن تقيموا رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على الخاتم. قالوا: قد أحل الله دمك، وحصروه في الدار. فأرسل عثمان إلى الأشتر، فقال له: ما يريد الناس مني؟ قال: واحدة من ثلاث ليس عنها بد. قال: ما هي؟ قال: يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول: هذا أمركم فقفدوه من شئتم؟ وإما أن تقتص من نفسك؟ فإن أبيت فالقوم قاتلوك. قال: أما أن أخلع لهم أمرهم، فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله فتكون سنة من بعدي، كلما كره القوم إمامهم خلعوه، وأما أن أقتص من نفسي، فوالله لقد علمت أن صاحبي بين يدي قد كانا يعاقبان، وما يقوى بدني على القصاص؛ وأما أن تقتلوني، فلئن قتلتموني لا تتحابون بعدي أبدا ولا تصلون بعدي جميعا أبدا. قال أبو الحسن: فوالله لن يزالوا على النوى جميعا، وإن قلوبهم مختلفة. وقال أبو الحسن: أشرف عليهم عثمان وقال: إنه لا يحل سفك دم امرىء مسلم إلا في إحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس، فهل أنا في واحدة منهن؟ فما وجد القوم له جوابا. ثم قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء ومعه تسعة من أصحابه أنا أحدهم، فتزلزل الجبل حتى همت أحجاره أن تتساقط، فقال: اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد؟ قالوا: اللهم نعم. قال: شهدوا لي ورب الكعبة. قال أبو الحسن: أشرف عليهم عثمان فقال: السلام عليكم، فيا رد أحد عليه السلام. فقال: أيها الناس، إن وجدتم في الحق أن تضعوا رجلي في القبر فضعوها. فما وجد القوم له جوابا. ثم قال: أستغفر الله إن كنت ظلمت، وقد غفرت إن كنت ظلمت.
يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى أن لي عليه سمعا وطاعة أن يكف يده ويلقى سلاحه. فألقى القوم أسلحتهم. ابن أبي عروبة عن قتادة: إن زيد بن ثابت دخل على عثمان يوم الدار، فقالت: إن هذه الأنصار بالباب وتقول: إن شئت كنا أنصار الله مرتين. قال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا. ابن أبي عروبة عن يعلى بن حكيم عن نافع: إن عبد الله بن عمر لبس درعه وتقلد سيفه يوم الدار، فعزم عليه عثمان أن يخرج ويضع سلاحه ويكف يده، ففعل. محمد بن سيرين قال قال سليط: نهانا عثمان عنهم، ولو أذن لنا عثمان فيم لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارنا.
ما قالوا في قتلة عثمان

(2/92)

العتبي قال: قال رجل من ليث: لقيت الزبير قادما، فقلت: أبا عبد الله، ما بالك؟ قال: مطلوب مغلوب، يغلبني ابني، ويطلبني ذنبي. قال: فقدمت المدينة فلقيت سعد بن أبي وقاص، فقلت: أبا إسحاق، من قتل عثمان؟ قال: قتله سيف سلته عائشة، وشحذه طلحة، وسمه علي. قلت: فما حال الزبير؟ قال: أشار بيده وصمت بلسانه. وقالت عائشة: قتل الله مذمما بسعيه على عثمان، تريد محمدا أخاها، وأهرق دم ابن بديل على ضلالته، وساق إلى أعين بني تميم هوانا في بيته، ورمى الأشتر بسهم من سهامه لا يشوي. قال: فما منهم أحد إلا أدركته دعوة عائشة. سفيان الثوري قال: لقي الأشتر مسروقا فقال له: أبا عائشة، ما لي أراك غضبان على ربك من يوم قتل عثمان بن عفان؟ لو رأيتنا يوم الدار ونحن كأصحاب عجل بني إسرائيل! وقال سعد بن أبي وقاص لعمار بن ياسر: لقد كنت عندنا من أفاضل أصحاب محمد حتى إذا لم يبق من عمرك إلا ظمء الحمار فعلت وفعلت، يعرض له بقتل عثمان. قال عمار: أي شيء أحب إليك؟ مودة على دخل أو هجر جميل؟ قال: هجر جميل. قال: فلله علي ألا أكلمك أبدا. دخل المغيرة بن شعبة على عائشة فقالت: يا أبا عبد الله، لو رأيتني يوم الجمل وقد نفذت النصال هودجي حتى وصل بعضها إلى جلدي. قال لها المغيرة: وددت والله أن بعضها كان قتلك. قالت: يرحمك الله، ولم تقول هذا؟ قال: لعلها تكون كفارة في سعيك على عثمان. قالت: أما والله لئن قلت ذلك لما علم الله أني أردت قتله، ولكن علم الله أني أردت أن يقاتل فقوتلت، وأردت أن يرمى فرميت، وأردت أن يعصى فعصيت، ولو علم مني أني أردت قتله لقتلت. وقال حسان بن ثابت لعلي: إنك تقول: ما قتلت عثمان ولكن خذلته، ولم آمر به ولكن لم أنه عنه، فالخاذل شريك القاتل، والساكت شريك القاتل. أخذ هذه المعنى كعب بن جعيل التغلبي، وكان مع معاوية يوم صفين، فقال في علي بن أبي طالب:
وما في علي لمستحدث ... مقال سوى عصمه المحدثينا
وإيثاره لأهالي الذنوب ... ورفع القصاص عن القاتلينا
إذا سيل عنه زوى وجهه ... وعمى الجواب على السائلينا
فليس براض ولا ساخط ... ولا في النهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساه ولا سره ... ولا آمن بعض ذا أن يكونا
وقال رجل من أهل الشام في قتل عثمان رضي الله تعالى عنه:
خذلته الأنصار إذ حضر المو ... ت وكانت ثقاته الأنصار
ضربوا بالبلاء فيه مع النا ... س وفي ذاك للبرية عار
حرم بالبلاد من حرم الل ... ه ووال من الولاة وجار
أين أهل الحياء إذ منع الما ... ء فدته الأسماع والأبصار
من عذيرى من الزبير ومن ط ... لحة هاجا أمرا له إعصار
تركوا الناس دونهم عبرة العج ... ل فشبت وسط المدينة نار
هكذا زاغت اليهود عن الح ... ق بما زخرفت لها الأحبار
ثم وافى محمد بن أبي بك ... رجهارا وخلفه عمار
وعلي في بيته يسأل النا ... س ابتداء وعنده الأخبار
باسطا للتي يريد يديه ... وعليه لسكينة ووقار
يرقب الأمر أن يزف إليه ... بالذي سببت له الأقدار
قد أرى كثرة الكلام قبيحا ... كل قول يشينه إكثار
وقال حسان يرثي عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه:
من سره الموت صرفا لا مزاج له ... فليأت مأسدة في دار عثمانا
صبرا فدى لكم أمي وما ولدت ... قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا
لعلكم أن تروا يوما بمغيظه ... خليفة الله فيكم كالذي كانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ... ما دمت حيا وما سيمت حسانا
يا لي شعري ولي الطير تخبرني ... ما كان شأن علي وابن عفانا

(2/93)

لتسمعين وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
ضحوا، بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
مقتل عثمان بن عفان
أبو الحسن عن مسلمة عن ابن عون: كان ممن نصر عثمان سبعمائة، فيهم الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير. ولو تركهم عثمان لضربوهم حتى أخرجوهم من أقطارها.
أبو الحسن عن جبير بن سيرين قال: دخل ابن بديل على عثمان وبيده سيف، وكانت! بينهما شحناء، فضربه بالسيف، فاتقاه بيده فقطعها، فقال: أما إنها أول كف خطت المفضل.
أبو الحسن قالت: يوم قتل عثمان يقال له: يوم الدار. وأغلق على ثلاثة من القتلى: غلام أسود كان لعثمان، وكنانة بن بشر، وعثمان.
أبو الحسن قال: قال سلامة بن روح الخزاعي لعمرو بن العاص: كان بينكم وبين الفتنة فكسرتموه فما حملكم على ذلك؟ قال: أردنا أن نخرج الحق من حفيرة الباطل وأن يكون الناس في الحق سواء. عن الشعبي قال: كتب عثمان إلى معاوية: أن أمدني. فأمده بأربعة آلاف مع يزيد بن أسد بن كرز البجلي. فتلقاه الناس بقتل عثمان فانصرف، فقال: لو دخلت المدينة وعثمان حي ما تركت بها مختلفا إلا قتلته، لأن الخاذل والقاتل سواء. قيس بن رافع قال قال زيد بن ثابت: رأيت عليا مضطجعا في المسجد، فقلت: أبا الحسن، إن الناس يرون أنك لو شئت رددت الناس عن عثمان. فجلس، ثم قال: والله ما أمرتهم بشيء ولا دخلت في شيء من شأنهم. قال: فأتيت عثمان فأخبرته، فقال:
وحرق قيس علي البلا ... د حتى إذا اضطرمت أجذما
الفضل عن كثير عن سعيد المقبري قال: لما حضروا عثمان ومنعوه الماء، قال الزبير: وحيل بينهم وبين ما يشتهون، كما فعل بأشياعهم من قبل. ومن حديث الزهري قال: لما قتل مسلم بن عقبة أهل المدينة يوم الحرة، قال عبد الله بن عمر: بفعلهم في عثمان ورب الكعبة. ابن سيرين عن ابن عباس قال: لو أمطرت السماء دما لقتل عثمان لكان قليلا له

(2/94)

أبو سعيد مولى أبي حذيفة قال: بعث عثمان إلى أهل الكوفة: من كان يطالبني بدينار أو درهم أو لطمة فليأت يأخذ حقه، أو يتصدق فإن الله يجزي المتصدقين. قال: فبكى بعض القوم، وقالوا: تصدقنا. ابن عون عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد على عثمان من طلحة. أبو الحسن قال: كان عبد الله بن عباس يقول: ليغلبن معاوية وأصحابه عليا وأصحابه، لأن الله تعالى يقول: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " . أبو الحسن قال: كان ثمامة الأنصاري عاملا لعثمان، فلما أتاه قتله بكى، وقال: اليوم انتزعت خلافة النبوة من أمة محمد وصار الملك بالسيف، فمن غلب على شيء أكله. أبو الحسن عن أبي مخنف عن نمير بن وعلة عن الشعبي: أن نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان بن عفان كتبت إلى معاوية كتابا مع النعمان بن بشير، وبعثت إليه بقميص عثمان محضوبا بالدماء. وكان في كتابها: من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: فإني أدعوكم إلى الله الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم في الكفر، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وأنشدكم الله وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم الله عليكم، فإنه قال: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " . فإن أمير المؤمنين بغي عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية لحق على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب الله، وصدق كتابه، وأتبع رسوله، والله أعلم به إذ انتخبه، فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة. وإني أقص عليكم خبره، إني شاهدة أمره كله: إن أهل المدينة حصروه في داره وحرسوه ليلهم ونهارهم، قياما على أبوابه بالسلاح، يمنعونه من كل شيء قدروا عليه، حتى منعوه الماء، فمكث هو ومن معه خمسين ليلة؛ وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى علي ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وطلحة والزبير، فأمروهم بقتله، وكان معهم من القبائل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب، فهؤلاء كانوا أشد الناس عليه. ثم إنه حصر فرشق بالنبل والحجارة، فجرح ممن كان في الدار ثلاثة نفر معه، فأتاه الناس يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال، فنهاهم وأمرهم أن يردوا إليهم نبلهم، فردوها عليهم؛ فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة، وفي الأمر إلا إغراقا، فحرقوا باب الدار. ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا: إن ناسا يريدون أن يأخذوا بين الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد يأتوك. فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية، فقال: ما أرى اليوم أحدا يعدل، فدخل الدار. وكان معه نفر ليس على عامتهم لسلاح، فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست اليوم درعي. فوثب عليه القوم، فكلمهم ابن الزبير، وأخذ عليهم ميثاقا في صحيفة بعث بها إلى عثمان: عليكم عهد الله وميثاقه أن لا تقربوه بسوء حتى تكلموه وتخرجوا، فوضع السلاح، ولم يكن إلا وضعه. ودخل عليه القوم يقدمهم محمد بن أبي بكر، فأخذ بلحيته، ودعوه باللقب. فقال: أنا عبد الله وخليفته عثمان. فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به، فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي، فوطئنا وطئا شديدا، وعرينا من حلينا. وحرمة أمير المؤمنين أعظم، فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهورا على فراشه. وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه، فإنه والله إن كان أثم من قتله فما سلم من خذله، فانظروا أين أنتم من الله. وأنا أشتكي كل ما مسنا إلى الله عز وجل، وأستصرخ بصالحي عباده. فرحم الله عثمان ولعن قتلته وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة، وشفى منهم الصدور. فحلف رجال من أهل الشام أن لا يمسوا غسلا حتى يقتلوا عليا أو تفنى أرواحهم. وقال

(2/95)

الفرزذق في قتل عثمان: في قتل عثمان:
إن الخلافة لما أظعنت ظعنت ... عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا
صارت إلى أهلها منهم ووارثها ... لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا
السافكي دمه ظلما ومعصية ... أي دم لا هدوا من غيهم سفكوا
وقال حسان:
إن تمس دار بني عثمان خاوية ... باب صريع وبيت محرق خرب
فقد يصادف باغي الخير حاجته ... فيها ويأوي إليها المجد والحسب
يا معشر الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الحق عند الله والكذب
تبرؤ علي من دم عثمان
قال علي بن أبي طالب على المنبر: والله لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لا دخلتها أبدا، ولئن لم يدخل النار إلا من قتل عثمان لا دخلتها أبدا. وأشرف علي من قصر له بالكوفة، فنظر إلى سفينة في دجلة فقال: والذي أرسلها في بحره مسخرة بأمره ما بدأت في أمر عثمان بشيء، ولئن شاءت بنو أمية لأباهلنهم عند الكعبة خمسين يمينا ما بدأت في حق عثمان بشيء. فبلغ هذا الحديث عبد الملك بن مروان فقال: إني لا أحسبه صادقا. قال معبد الخزاعي: لقيت عليا بعد الجمل، فقلت له: إني سائلك عن مسألة كانت منك ومن عثمان، فإن نجوت اليوم نجوت غدا إن شاء الله. قال: سل عما بدا لك. قلت: أخبرني أي منزلة وسعتك إذ قتل عثمان ولم تنصره؟ قال: إن عثمان كان إماما وإنه نهى عن القتال، وقال: من سل سيفه فليس مني، فلو قاتلنا دونه عصينا. قال: فأي منزلة وسعت عثمان إذ استسلم حتى قتل؟ قال: المنزلة التي وسعت ابن آدم، إذ قال لأخيه: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " . قلت: فهلا وسعتك هذه المنزلة يوم الجمل؟ قال: إنا قاتلنا يوم الجمل من ظلمنا، قال الله: " ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم. ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " . فقاتلنا نحن من ظلمنا وصبر عثمان، وذلك من عزم الأمور. ومن حديث بكر بن حماد: إن عبد الله ابن الكواء سأل علي بن أبي طالب يوم صفين، فقال له: أخبرني عن مخرجك هذا، تضرب الناس بعضهم ببعض، أعهد إليك عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي ارتأيته؟ قال علي: اللهم إني كنت أول من آمن به فلا أكون أول من كذب عليه، لم يكن عندي فيه عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان عندي فيه عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تركت أخا تيم وعدي على منابرها؛ ولكن نبينا صلى الله عليه وسلم كان نبي رحمة، مرض أياما وليالي، فقدم أبا بكر على الصلاة، وهو يراني ويرى مكاني. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضيناه لأمر دنيانا إذ رضيه رسول الله لأمر ديننا. فسلمت له وبايعت وسمعت وأطعت، فكنت

(2/96)

آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه. ثم أتته منيته، فرأى أن عمر أطوق لهذا الأمر من غيره، ووالله ما أراد به المحاباة، ولو أرادها لجعلها في أحد ولديه. فسلمت له وبايعت وأطعت وسمعت، فكنت أخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه. ثم أتته منيته، فرأى أنه من استخلف رجلا فعمل بغير طاعة الله عذبه الله به في قبره، فجعلها شورى بين ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنت أحدهم، فأخذ عبد الرحمن مواثيقنا وعهودنا على أن يخلع نفسه وينظر لعامة المسلمين، فبسط يده إلى عثمان فبايعه. اللهم إن قلت إني لم أجد في نفسي فقد كذبت، ولكنني نظرت في أمري فوجدت طاعتي قد تقدمت معصيتي، ووجدت الأمر الذي كان بيدي قد صار بيد غير لم. فسلمت وبايعت وأطعت وسمعت، فكنت أخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه. ثم نقم الناس عليه أمورا فقتلوه ثم بقيت اليوم أنا ومعاوية، فأرى نفسي أحق بها من معاوية؛ لأني مهاجري وهو أعرابي، وأنا ابن عم رسول الله وصهره، وهو طليق ابن طليق. قال له عبد الله بن الكواء: صدقت، ولكن طلحة والزبير، أما كان لهما في هذا الأمر مثل الذي لك؟ قال: إن طلحة والزبير بايعاني في المدينة ونكثا بيعتي بالعراق، فقاتلتهما على نكثهما، ولو نكثا بيعة أبي بكر وعمر لقاتلاهما على نكثهما كما قاتلتهما على نكثهما، قال: صدقت، ورجع إليه. واستعمل عبد الملك بن مروان نافع بن علقمة بن صفوان على مكة، فخطب ذات يوم، وأبان بن عثمان قاعد عند أصلى المنبر، فنال من طلحة والزبير، فلما نزل قال لأبان: أرضيتك من المدهنين في أمر أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنك سؤتني، حسبي أن يكونا بريئين من أمره. وعلى هذا المعنى قال إسحاق بن عيسى: أعيذ عليا بالله أن يكون قتل عثمان، وأعيذ عثمان أن يكون قتله علي. وهذا الكلام على مذهب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي. سعيد بن جبير عن أبي الصهباء: إن رجالا ذكروا عثمان فقال رجل من القوم: إني أعرف لكم رأي علي فيه. فدخل الرجل على علي، فنال من عثمان، فقال علي: دع عنك عثمان، فوالله ما كان بأشرنا، ولكنه ولي فاستأثر فحرمنا فأساء الحرمان. وقال عثمان بن حنيف: إني شهدت مشهدا اجتمع فيه علي وعمار ومالك الأشتر وصعصعة، فذكروا عثمان، فوقع فيه عمار، ثم أخذ مالك فحذا حذوه، ووجه علي يتمعر، ثم تكلم صعصعة، فقال: ما على رجل يقول: كان والله أول من ولي فاستأثر، وأول من تفرقت عنه هذه الأمة! فقال علي: إلي أبا اليقظان، لقد سبقت لعثمان سوابق لا يعذبه الله بها أبدا. محمد بن حاطب قال: قال لي علي يوم الجمل: انطلق إلى قومك فأبلغهم كتبي وقولي. فقلت: إن قومي إذا أتيتهم يقولون: ما قول صاحبك في عثمان؟ فقال: أخبرهم أن قولي في عثمان أحسن القول، إن عثمان كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا واحسنوا والله يحب المحسنين. جرير بن حازم عن محمد بن سيرين قال: ما علمت أن عليا اتهم في دم عثمان حتى بويع، فلما بويع اتهمه الناس. محمد بن الحنفية: إني عن يمين في يوم الجمل وابن عباس عن يساره، إذ سمع صوتا فقالت: ما هذا؟ قالوا: عائشة تلعن قتلة عثمان. فقال علي: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل والبحر والبر.
ما نقم الناس على عثمان
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:29 pm

ابن دأب قال: لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلة الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا لعبد الرحمن بن عوف: هذا عملك واختيارك لأمة محمد. قال: لم أظن هذا به. ودخل على عثمان فقال له: إني إنما قدمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، وقد خالفتهما. فقال: عمر كان يقطع قرابته في الله وأنا أصل قرابتي في الله. فقال له: لله علي أن لا أكلمك أبدا. فمات عبد الرحمن وهو لا يكلم عثمان. ولما رد عثمان الحكم بن أبي العاصي، طريد النبي صلى الله عليه وسلم طريد أبي بكر وعمر إلى المدينة، تكلم الناس في ذلك، فقال عثمان: ما ينقم الناس مني! إني وصلت رحما وقربت قرابة. حصين بن زيد بن وهب قال: مررنا بأبي ذر بالربذة فسألناه عن منزله. فقال: كنت بالشام فقرأت هذه الآية: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " . فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب. فقلت: إنها لفينا وفيهم. فكتب إلي عثمان: أقبل. فلما قدمت ركبتني الناس كأنهم لم يروني قط، فشكوت ذلك إلى عثمان. فقال: لو اعتزلت فكنت قريبا. فنزلت هذا المنزل، فلا أدع قولي، ولو أمروا علي عبدا حبشيا لأطعت. الحسن بن أبي الحسن عن الزبير بن العوام في هذه الآية: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " . قال: لقد نزلت وما ندري من يختلف لها. فقال بعضهم: يا أبا عبد الله، فلم جئت إلى البصرة؟ قال: ويحك، إننا ننظر ولا نبصر. أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: إن ناسا كانوا عند فسطاط عائشة وأنا معهم بمكة، فمر بنا عثمان فما بقي أحد من القوم إلا لعنه غيري، فكان فيهم رجل من أهل الكوفة فكان عثمان على الكوفي أجرأ منه على غيره، فقال: يا كوفي، أتشتمني؟ فلما قدم المدينة كان يتهدده. قال: فقيل له: عليك بطلحة. قال: فانطلق معه حتى دخل على عثمان. فقال عثمان: والله لأجلدنه مائة سوط. قال طلحة: والله لا تجلدنه مائة إلا أن يكون زانيا. قال: والله لأحرمنه عطاءه. قال: الله يرزقه. ومن حديث ابن أبي قتيبة عن الأعمش عن عبد الله بن سنان قال: خرج علينا ابن مسعود ونحن في المسجد، وكان على بيت مال الكوفة، وأمير الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فقال: يا أهل الكوفة، فقدت من بيت مالكم الليلة مائة آلف لم يأتني بها كتاب من أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة. قال: فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك، فنزعه عن بيت المال. ومن حديث الأعمش يرويه أبو بكر بن أبي شيبة قال: كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة، ثم قالوا: من يذهب بها إليه؟ قال عمار: أنا. فذهب بها إليه. فلما قرأها قال: أرغم الله أنفك. قال: وأنف أبي بكر وعمر. قال: فقام إليه فوطئه حتى غشى عليه. ثم ندم عثمان وبعث إليه طلحة والزبير يقولان له: اختر إحدى ثلاث: إما أن تعفو، هاما أن تأخذ الأرش، وإما أن تقتص. فقال: والله لا قبلت واحدة منها حتى ألقى الله. قال أبو بكر: فذكرت هذا الحديث للحسن بن صالح، فقال: ما كان على عثمان أكثر مما صنع.
ومن حديث الليث بن سعد قال: مر عبد الله بن عمر بحذيفة فقال: لقد اختلف الناس بعد نبيهم، فما منهم أحد إلا أعطى من دينه ما عدا هذا الرجل. وسئل سعد بن أبي وقاص عن عثمان فقال: أما والله لقد كان أحسننا وضوءا، وأطولنا صلاة، وأتلانا لكتاب الله، وأعظمنا نفقة في سبيل الله. ثم ولي فأنكروا عليه شيئا، فأتوا إله أعظم مما أنكروا.

(2/98)

وكتب عثمان إلى أهل الكوفة حين ولاهم سعيد بن العاص: أما بعد. فإني كنت وليتكم الوليد بن عقبة غلاما حين ذهب شرخه، وثاب حلمه، وأوصيته بكم ولم أوصكم به، فلما أعيتكم علانيته طعنتم في سريرته. وقد وليتكم سعيد بن العاص، وهو خير عشيرته، وأوصيكم به خيرا فاستوصوا به خيرا. وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه، وكان عامله على الكوفة، فصلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران، ثم التفت إليهم فقال: وإن شئتم زدتكم. فقامت عليه البينة بذلك عند عثمان، فقال لطلحة: قم فاجلده. قال: لم أكن من الجالدين. فقام إليه علي فجلده.
وفيه يقول الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا ... لجمعت بين الشفع والوتر
مسكوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ابن دأب قال: لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا واجتمعوا إلى علي وسألوه أن يلقى لهم عثمان. فأقبل حتى دخل عليه فقال: إن الناس ورائي قد كلموني أن أكلمك، والله ما أدرى ما أقول لك، ما أعرف شيئا تنكره، ولا أعلمك شيئا تجهله، وما ابن الخطاب أولى بشيء من الخير منك، وما نبصرك من عمى، وما نعلمك من جهل، وإن الطريق لبين واضح. تعلم يا عثمان أن أفضل الناس عند الله إمام عدل، هدي وهدى، فأحيا سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة؛ وأن شر الناس عند الله إمام ضلالة، ضل وأضل، فأحيا بدعة مجهولة، وأمات سنة معلومة. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالإمام الجائر يوم القيامة ليس معه ناصر ولا له عاذر فيلقى في جهنم فيدور دور الرحى يرتطم بجمرة النار إلى آخر الأبد. وأنا أحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، يفتح به باب القتل والقتال إلى يوم القيامة، يمرج به أمرهم ويمرجون. فخرج عثمان، ثم خطب خطبته التي أظهر فيها التوبة. وكان علي كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان أرسل ابنه الحسن إليه، فلما أكثر عليه قال له: إن أباك يرى أن أحدا لا يعلم ما يعلم، ونحن أعلم بما نفعل، فكف عنا. فلم يبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك. وذكروا أن عثمان صلى العصر ثم خرج إلى علي يعوده في مرضه، ومروان معه، فرآه ثقيلا. فقالت: أما والله لولا ما أرى منك ما كنت أتكلم بما أريد أن أتكلم به، والله ما أدري أي يوميك أحب إلي أو أبغض، أيوم حياتك أو يوم موتك؟ أما والله لئن بقيت لا أعدم شامتا يعدك كنفا، ويتخذك عضدا، ولئن مت لأفجعن بك. فحظى منك حظ الوالد المشفق من الولد العاق، إن عاش عقه، وإن مات فجعه. فليتك جعلت لنا من أمرك علما نقف عليه ونعرفه، إما صديق مسالم وإما عدو معاند، ولم تجعلني كالمختنق بين السماء والأرض، لا يرقى بيد، ولا يهبط برجل. أما والله لئن قتلتك لا أصيب منك خلفا، ولئن قتلتني لا تصيب مني خلفا، وما أحب أن أبقى بعدك. قال مروان: أي والله وأخرى، إنه لا ينال ما وراء ظهورنا حتى تكسر رماحنا وتقطع سيوفنا، فما خير العيش بعد هذا. فضرب عثمان في صدره وقال: ما يدخلك في كلامنا؟ فقال على: إني والله في شغل عن جوابكما، ولكني أقول كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. وقال عبد الله بن العباس: أرسل إلي عثمان فقال لي: اكفني ابن عمك. فقلت: إن ابن عمي ليس بالرجل يرى له ولكنه يرى لنفسه، فأرسلني إليه بما أحببت. قال: قل له فليخرج إلى ماله بالينبع فلا أغتم به ولا يغتم بي. فأتيت عليا فأخبرته. فقال: ما اتخذني عثمان إلا ناصحا، ثم أنشد يقول:
فكيف به أني أداوي جراحه ... فيدوى فلا مل الدواء ولا الداء
أما والله إنه ليختبر القوم. فأتيت عثمان، فحدثته الحديث كله إلا البيت الذي أنشده. وقوله: إنه ليختبر القوم. فأنشد عثمان:
فكيف به أني أداوي جراحه ... فيدوى فلا مل الدواء ولا الداء
وجعل يقول: يا رحيم، انصرني، يا رحيم، انصرني، يا رحيم، انصرني.

(2/99)

قال: فخرج علي إلى ينبع، فكتب إليه عثمان حين اشتد الأمر: أما بعد. فقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين، وطمع في من كان يضعف عن نفسه:
فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
فأقبل إلي على أي أمريك أحببت، وكن لي أم علي، صديقا كنت أم عدوا:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
خلافة علي بن أبي طالب
رضي الله عنه
قال: لما قتل عثمان بن عفان، أقبل الناس يهرعون إلى علي بن أبي طالب فتراكمت عليه الجماعة في البيعة، فقال: ليس ذلك إليكم، إنما ذلك لأهل بدر ليبايعوا. فقال: أين طلحة والزبير وسعد؟ فأقبلوا فبايعوا، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، ثم بايعه الناس. وذلك يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكان أول من بايع طلحة، فكانت إصبعه شلاء، فتطير منها علي، وقال. ما أخلقه أن ينكث. فكان كما قال علي رضي الله عنه.
نسب علي بن أبي طالب وصفته
هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وصفته، كان أصلع بطينا حمش الساقين. صاحب شرطته معقل بن قيس الرياحي، وما لك بن حبيب اليربوعي، وكاتبه سعيد ابن نمران، وحاجبه قنبر، مولاه. وقتل يوم الجمعة بالكوفة، وهو خارج إلى المسجد لصلاة الصبح، لسبع بقين من شهر رمضان، فكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، صلى عليه ولده الحسن، ودفن برحبة الكوفة، ويقال في لحف الحيرة، وعمي قبره. واختلف في سنه، فقال الشعبي: قتل علي رحمه الله وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وولد علي بمكة في شعب بني هاشم.
فضائل علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه
أبو الحسن قال: أسلم علي وهو ابن خمس عشرة سنة، وهو أول من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟ وبهذا الحديث سمت الشيعة علي بن أبي طالب الوصي، وأولوا فيه أنه استخلفه على أمته إذ جعله منه بمنزلة هارون من موسى؛ لأن هارون كان خليفة موسى على قومه إذا غاب عنهم. وقال السيد الحميري رحمه الله تعالى:
إني أدين بما دان الوصي به ... وشاركت كفه كفي بصفينا
وجمع النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين فألقى عليهم كساءه وضمهم إلى نفسه ثم تلا هذه الآية: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. فتأولت الشيعة الرجس هاهنا بالخوض في غمرة الدنيا وكدورتها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لا يمسي حتى يفتح الله له. فدعا عليا، وكان أرمد، فتفل في عينيه، وقال: اللهم. قه داء الحر والبرد. فكان يلبس كسوة الصيف في الشتاء وكسوة الشتاء في الصيف ولا يضره. أبو الحسن قال: ذكر علي عند عائشة فقالت: ما رأيت رجلا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا رأيت امرأة كانت أحب إليه من امرأته. وقال علي بن أبي طالب: أنا أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، لا يقولها بعدي إلا كذاب. الشعبي قال: كان علي بن أبي طالب في هذه الأمة مثل المسيح بن مريم في بني إسرائيل، أحبه قوم فكفروا في حبه، وأبغضه قوم فكفروا في بغضه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما. أبو الحسن قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقسم بيت المال في كل جمعة حتى لا يبقي منه شيئا، ثم يفرش له ويقيل فيه. ويتمثل بهذا البيت:
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه
كان علي بن أبي طالب إذا دخل بيت المال ونظر إلى ما فيه من الذهب والفضة قال:
ابيضي واصفري وغري غيري ... إني من الله بكل خير

(2/100)

ودخل رجل على الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد، إنهم يزعمون أنك تبغض عليا. قال: فبكى الحسن حتى اخضلت لحيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهما صائبا من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة، وذا فضلها وسابقتها، وذا قرابة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن بالنومة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الملولة في ذات الله، ولا السروفة لمال الله. أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة وأعلام بينة، ذلك علي بن أبي طالب يا لكع.
يوم الجمل
أبو اليقظان قال: قدم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة أم المؤمنين البصرة. فتلقاهم الناس بأعلى المربد، حتى لو رموا بحجر ما وقع إلا على رأس إنسان، فتكلم طلحة وتكلمت عائشة، وكثر اللغط، فجعل طلحة يقول: أيها الناس، أنصتوا. وجعلوا يركبونه ولا ينصتون. فقال: أف أف! فراش نار، وذباب طمع. وكان عثمان بن حنيف الأنصاري عامل علي بن أبي طالب على البصرة، فخرج إليهم في رحاله ومن معه، فتواقفوا حتى زالت الشمس، ثم اصطلحوا، وكتبوا بينهم كتابا أن يكفوا عن القتال حتى يقدم علي بن أبي طالب، ولعثمان بن حنيف دار الإمارة والمسجد الجامع وبيت المال، فكفوا. ووجه علي بن أبي طالب الحسن ابنه وعمار بن ياسر إلى أهل الكوفة يستنفر انهم، فنفر معهما سبعة آلاف من أهل الكوفة. فقال لهم عمار. أما والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لتتبعوه أو تتبعوها. وخرج علي في أربعة آلاف من أهل المدينة، فيهم ثمانمائة من الأنصار، وأربعمائة ممن شهد بيعه الرضوان مع النبي صلى الله عليه وسلم. وراية علي مع ابنه محمد ابن الحنفية، وعلى ميمنته الحسن، وعل ميسرته الحسين، وعلى الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر، وعلى المقدمة عبد الله بن عباس. ولواء طلحة والزبير مع عبد الله بن حكيم بن حزام، وعلى الخيل طلحة بن عبيد الله، وعلى الرجالة عبد الله بن الزبير. فالتقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد في النصف من جمادى الآخرة يوم الخميس. وكانت الوقعة يوم الجمعة.
وقالوا: لما قدم علي بن أبي طالب البصرة قال لابن عباس: ائت الزبير ولا تأت طلحة، فإن الزبير ألين، وأنت تجد طلحة كالثور عاقصا بقرنه يركب الصعوبة، ويقول: هي أسهل، فأقرئه السلام، وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق، فما عدا ما بدا؟ قال ابن عباس: فأتيته فأبلغته. فقال: قل له: بيننا وبينك عهد خليفة، ودم خليفة، واجتماع ثلاثة، وانفراد واحد، وأم مبرورة، ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف، نحل ما أحلت، ونحرم ما حرمت. وقال علي بن أبي طالب: ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى أدركه ابنه عبد الله فلفته عنا. وقال طلحة لأهل البصرة وسألوه عن بيعة علي فقال: أدخلوني في حش ثم وضعوا الفج على قفي فقالوا: بايع وإلا قتلناك. قوله: اللج، يريد السيف، وقوله: قفي، لغة طىء، وكانت أمه طائية.

(2/101)

وخطبت عائشة أهل البصرة يوم الجمل فقالت: أيها الناس، صه صه، كأنما قطعت الألسن في الأفواه. ثم قالت: إن لي عليكم حرمة الأمومة، وحق الموعظة، لا يتهمني إلا من عصى ربه. مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادخرني ربي وسلمني من كل بضع، وبي ميز بين منافقكم ومؤمنكم، وبي أرخص لكم في صعيد الأبواء. ثم أبي ثالث ثلاثة من المؤمنين وثاني اثنين في الغار، وأول من سمي صديقا. مضى رسول الله صلى الله عليه وسلما راضيا عنه، وطوقه طوق الإمامة. ثم اضطرب حبل الدين فمسك أبي بطرفيه، ورتق لكم أثناءه فوقم النفاق، وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشت يهود، وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون العدوة، وتسمعون الصيحة، فرأب الثأي، وأوذم العطلة، وانتاش من الهوة، واجتحى دفين الداء، حتى أعطن الوارد، وأورد الصادر، وعل الناهل، فقبضه الله واطئا على هامات النفاق، مذكيا نار الحرب للمشركين. وانتظمت طاعتكم بحبله. ثم ولي أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه، بعيدا ما بين اللابتين إذا ضل، عروكة للأذاة بجنبه، يقظان الليل في نصرة الإسلام، فسلك مسلك السابقين، ففرق شمل الفتنة، وجمع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصب المسألة عن مسيري هذا. لم ألتمس إثما، ولم أورث فتنة أوطئكموها. أقول قولي هذا صدقا وعدلا، وإعذارا وإنذارا، وأسأل الله أن يصلي على محمد وأن يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين. وكتبت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين إذ عزمت على الخروج يوم الجمل: من أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد، إنك سدة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أمته، حجاب مضروب على حرمته. قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، وسكر خفارتك فلا تبتذليها. فالله من وراء هذه الأمة. لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النساء يحتملن الجهاد عهد إليك. أما علمت أنه قد نهاك عن الفراطة في البلاد، فإن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن انصدع؟ جهاد النساء غض الأطراف، وضم الذيول، وقصر الموادة. ما كنت قائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصة قعودا، من منهل إلى منهل؟ وغدا تردين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقسم لو قيل لي: يا أم سلمة، ادخلي الجنة، لاستحييت أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتكة حجابا ضربه علي. فاجعليه سترك، وقاعة البيت حصنك؛ فإنك أنصح ما تكونين لهذه الأمة ما قعدت عن نصرتهم. ولو أني حدثتك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنهشتني نهش الحية الرقشاء المطرقة. والسلام.

(2/102)

فأجابتها عائشة: من عائشة أم المؤمنين إلى أم سلمة، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد. فما أقبلني لوعظك، وأعرفني لحق نصيحتك، وما أنا بمعتمرة بعد تعريج، ولنعم المطلع مطلع فرقت فيه بين فئتين متشاجرتين من المسلمين، فإن أقعد فعن غير حرج، وإن أمض فإلى ما لا غنى بي عن الازدياد منه. والسلام. وكتبت عائشة إلى زيد بن صوحان إذ قدمت البصرة: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، سلام عليك. أما بعد، فإن أباك كان رأسا في الجاهلية وسيدا في الإسلام، وإنك من أبيك بمنزلة المصلى من السابق، يقال كاد أو لحق، وقد بلغك الذي كان في الإسلام من مصاب عثمان بن عفان، ونحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر. فإذا أتاك كتابي هذا فثبط الناس عن في بن أبي طالب، وكن مكانك حتى يأتيك أمري، والسلام. فكتب إليها: من زيد بن صوحان إلى عائشة أم المؤمنين. سلام عليك، أما بعد، فإنك أمرت بأمر وأمرنا بغيره، أمرت أن تقري في بيتك، وأمرنا أن نقاتل الناس حتى لا تكون فتنة. فتركت ما أمرت به وكتبت تنهينا عما أمرنا به، والسلام وخطب علي رضي الله عنه بأهل الكوفة يوم الجمل إذ أقبلوا إليه مع الحسن بن علي فقام فيهم خطيبا، فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله علي سيدنا محمد خاتم النبيين وآخر المرسلين، أما بعد. فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين كافة، والناس في اختلاف، والعرب بشر المنازل، مستضعفون لما بهم، فرأب الله به الثأي، ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمن به السبيل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الموغرة للقلوب، والضفائن المشحنة للصدور، ثم قبضه الله تعالى مشكورا سعيه، مرضيا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند الله نزله. فيالها من مصيبة عمت المسلمين، وخصت الأقربين. وولي أبو بكر فسار فينا بسيرة رضا، رضي بها المسلمون. ثم ولي عمر فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما. ثم ولي عثمان فنال منكم ونلتم منه. ثم كان من أمره ما كان، أتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتموني فقلتم: لو بايعتنا؟ فقلت: لا أفعل، وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتكم كفي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك، وتراكمتم علي تراكم الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى ظننت أنكم قاتلي وأن بعضكم قاتل بعضا، فبايعتموني، وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني إلى العمرة. فسارا إلى البصرة فقاتلا بها المسلمين، وفعلا بها الأفاعيل، وهما يعلمان والله أني لست بدون من مضى، ولو أشاء أن أقول لقلت: اللهم إنهما قطعا قرابتي، ونكثا بيعتي، وألبا علي عدوي. اللهم فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا. وأملى علي بن محمد عن مسلمة بن محارب عن داود عن أبي هند عن أبي حرب عن أبي الأسود عن أبيه قال: خرجت مع عمران بن حصين وعثمان بن حنيف إلى عائشة فقلنا: يا أم المؤمنين، أخبرينا عن مسيرك هذا. عهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم رأي رأيتيه؟ قالت: بل رأي رأيته حين قتل عثمان بن عفان، إنا نقمنا عليه ضربه بالسوط، وموقع المسحاة المحماة، وإمرة سعيد والوليد، فعدوتم عليه فاستحللتم منه الثلاث الحرم: حرمة البلد وحرمة الخلافة وحرمة الشهر الحرام، بعد أن مصتموه كما يماص الإناء. فغضبنا لكم من سوط عثمان، ولا نغضب لعثمان من سيفكم؟ قلنا: ما أنت وسيفنا وسوط عثمان، وأنت حبيس رسول الله صلى الله عليه وسلم! أمرك أن تقري في بيتك فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض! قالت: وهل أحذ يقاتلني أو يقوله غير هذا؟ قلنا: نعم. قالت: ومن يفعل ذلك؟ هل أنت مبلغ عني يا عمران؟ قال: لست مبلغا عنك حرفا واحدا. قلت: لكنني مبلغ عنك، فهات ما شئت. قالت: اللهم اقتل مذمما قصاصا بعثمان، وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يشوى، وأدرك عمارا بخفره بعثمان أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن الأحنف بن قيس قال: قدمنا المدينة ونحن نريد الحج، فانطلقت فأتيت طلحة والزبير، فقلت: إني لا أرى هذا إلا مقتولا

(2/103)

فمن تأمراني به كما ترضيانه لي؟ قالا: نأمرك بعلي. قلت: فتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم. قال: ثم انطلقت حتى أتيت مكة، فبينما نحن بها إذ أتانا قتل عثمان وبها عائشة أم المؤمنين، فانطلقت إليها فقلت: من تأمريني أن أبايع؟ قالت: علي بن أبي طالب. قلت: أتأمريني به وترضينه لي؟ قالت: نعم. قال: فممرت على علي بالمدينة فبايعته، ثم رجعت إلى البصرة، وأنا أرى أن الأمر قد استقام، فما راعنا إلا قدوم عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير قد نزلوا جناب الخريبة. قاد: فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: قد أرسلوا إليك يستنصرونك على دم عثمان، إنه قتل مظلوما. قال: فأتاني أفظع أمر لم يأتني قط. قلت: إن خذلان هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم لشديد، وإن قتال ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروني ببيعته لشديد. قال: فلما أتيتهم قالوا: جئناك نستصرخك على دم عثمان، قتل مظلوما. قال: فقلت: يا أم المؤمنين، أنشدك الله، أقلت لك: من تأمريني به وترضينه لي، فقلت: علي؟ قالت: بلى، ولكنه بدل. قلت: يا زبير، يا حواري رسول الله، ويا طلحة، نشدتكما بالله، قلت لكما: من تأمراني به وترضيانه لي، فقلتما علي؟ قالا: بلى، ولكنه بدل. قال: والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين، ولا أقاتل عليا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اختاروا مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي باب الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله من أمره ما يقضي، وإما أن ألحق بمكة فأكون بها، أو أتحول فأكون قريبا؟ قالوا: نأتمر ثم نرسل إليك. قال: فأتمروا وقالوا: نفتح له باب الجسر فيلحق به المفارق والخاذل، أو يلحق بمكة فيفحشكم في قريش ويخبرهم بأخباركم، اجعلوه هاهنا قريبا حيث تنظرون إليه. فاعتزل بالجلحاء، من البصرة على فرسخين، واعتزل معه زهاء ستة آلاف من بني تميم.فمن تأمراني به كما ترضيانه لي؟ قالا: نأمرك بعلي. قلت: فتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم. قال: ثم انطلقت حتى أتيت مكة، فبينما نحن بها إذ أتانا قتل عثمان وبها عائشة أم المؤمنين، فانطلقت إليها فقلت: من تأمريني أن أبايع؟ قالت: علي بن أبي طالب. قلت: أتأمريني به وترضينه لي؟ قالت: نعم. قال: فممرت على علي بالمدينة فبايعته، ثم رجعت إلى البصرة، وأنا أرى أن الأمر قد استقام، فما راعنا إلا قدوم عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير قد نزلوا جناب الخريبة. قاد: فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: قد أرسلوا إليك يستنصرونك على دم عثمان، إنه قتل مظلوما. قال: فأتاني أفظع أمر لم يأتني قط. قلت: إن خذلان هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم لشديد، وإن قتال ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروني ببيعته لشديد. قال: فلما أتيتهم قالوا: جئناك نستصرخك على دم عثمان، قتل مظلوما. قال: فقلت: يا أم المؤمنين، أنشدك الله، أقلت لك: من تأمريني به وترضينه لي، فقلت: علي؟ قالت: بلى، ولكنه بدل. قلت: يا زبير، يا حواري رسول الله، ويا طلحة، نشدتكما بالله، قلت لكما: من تأمراني به وترضيانه لي، فقلتما علي؟ قالا: بلى، ولكنه بدل. قال: والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين، ولا أقاتل عليا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اختاروا مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي باب الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله من أمره ما يقضي، وإما أن ألحق بمكة فأكون بها، أو أتحول فأكون قريبا؟ قالوا: نأتمر ثم نرسل إليك. قال: فأتمروا وقالوا: نفتح له باب الجسر فيلحق به المفارق والخاذل، أو يلحق بمكة فيفحشكم في قريش ويخبرهم بأخباركم، اجعلوه هاهنا قريبا حيث تنظرون إليه. فاعتزل بالجلحاء، من البصرة على فرسخين، واعتزل معه زهاء ستة آلاف من بني تميم.
مقتل طلحة
أبو الحسن قال: كانت وقعة الجمل يوم الجمعة في النصف من جمادى الآخرة، التقوا فكان أول مصروع فينا طلحة بن عبيد الله، أتاه سهم غرب فأصاب ركبته، فكان إذا أمسكوه فتر الدم، وإذا تركوه انفجر، فقال لهم: اتركوه، فإنما هو سهم أرسله الله.

(2/104)

حماد بن زيد عن يحيى بن لسعيد قال: قال طلحة يوم الجمل:
ندمت ندامة الكسعي لما ... طلبت رضا بني حزم بزعمي
للهم خذ مني لعثمان حتى يرضى.
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: لما رأى مروان بن الحكم يوم الجمل طلحة بن عبيد الله قال: لا أنتظر بعد اليوم بثأري في عثمان، فانتزع له سهما فقتله.
ومن حديث سفيان الثوري قال: لما انقضى يوم الجمل خرج علي بن أبي طالب في ليلة ذلك اليوم ومعه مولاه وبيده شمعة يتصفح وجوه القتلى، حتى وقف على طلحة بن عبيد الله في بطن واد متعفرا فجعل يمسح الغبار عن وجهه وبقول: أعزز علي يا أبا محمد أن أراك متعفرا تحت نجوم السماء وفي بطون الأودية، إنا لله وإنا إليه راجعون. شقيت نفسي وقتلت معشري، إلى الله أشكو عجري وبجري. ثم قال: والله إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " وإذا لم نكن نحن فمن هم؟ أبو إدريس عن ليث بن طلحة عن مطرف: أن علي بن أبي طالب أجلس طلحة يوم الجمل ومسح الغبار عن وجهه وبكى عليه. ومن حديث سفيان: أن عائشة بنت طلحة كانت ترى في نومها طلحة، وذلك بعد موته بعشرين يوما؛ فكان يقول لها: يا بنية، أخرجيني من هذا الماء الذي يؤذيني. فلما انتبهت من نومها جمعت أعوانها ثم نهضت فنبشته، فوجدته صحيحا كما دفن لم تنحسر له شعرة، وقد اخضر جنبه كالسلق من الماء الذي كان يسيل عليه، فلفته في الملاحف واشترت له عرصة بالبصرة فدفنته فيها، وبنت حوله مسجدا. قال: فلقد رأيت المرأة من أهل البصرة تقبل بالقارورة من البان فتصبها على قبره حتى تفرغها، فلم يزلن يفعلن ذلك حتى صار تراب قبره مسكا أذفر. ومن حديث الخشني قال: لما قتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل وجدوا في تركته ثلثمائة بهار من ذهب وفضة. والبهار: مزود من جلد عجل. وقع قوم في طلحة عند علي بن أبي طالب فقال: أما والله لئن قلتم فيه إنه لكما قال الشاعر:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
كأن الثريا علقت في يمينه ... وفي خده الشعري وفي الآخر البدر
مقل الزبير بن العوام
شريك عن الأسود بن قيس قال: حدثني من رأى الزبير يوم الجمل يقعص الخيل بالرمح قعصا، فنوه به علي: أيا عبد الله، أتذكر يوما أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أناجيك فقال: أتناجيه! والله ليقاتلنك وهو ظالم لك. قال: فصرف الزبير وجه دابته وانصرف. قال أبو الحسن: لما انحاز الزبير يوم الجمل مر بماء لبني تميم، فقيل للأحنف بن قيس: هذا الزبير قد أقبل. قال: وما أصنع به أن جمع بين هذين الغزيين وترك الناس وأقبل - يريد بالغزيين المعسكرين - وفي مجلسه عمرو بن جرموز المجاشعي، فلما سمع كلامه قام من مجلسه واتبعه حتى وجده بوادي الطباع نائما فقتله، وأقبل برأسه على علي بن أبي طالب. فقال علي: أبشر بالنار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشروا قاتل الزبير بالنار. فخرج عمرو بن جرموز وهو يقول:
أتيت عليا برأس الزبير ... وقد كنت أحسبها زلفه
فبشر بالنار قبل العيان ... فبئس بشارة ذي التحفه
ومن حديث ابن أبي شيبة قال: أقبل رجل بسيف الزبير إلى الحسن بن علي، فقال: لا حاجة لي به، أدخله إلى أمير المؤمنين. فدخل به إلى علي، فناوله إياه وقال: هذا سيف الزبير. فأخذه علي، فنظر إليه مليا ثم قال: رحم الله الزبير. لطالما فرج به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت امرأة الزبير ترثيه:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم الهياج وكان غير معدد
يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
ثكلتك أمك أن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد
وقال جرير ينعي على ابن مجاشع قتل الزبير رضي الله تعالى عنه:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:32 pm

إني تذكرني الزبير حمامة ... تدعو ببطن الواديين هديلا
قالت قريش ما أذل مجاشعا ... جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا
لو كنت حرا يا بن قين مجاشع ... شيعت ضيفك فرسخا أو ميلا
أفبعد قتلكم خليل محمد ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا
هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: دعاني أبي يوم الجمل فقمت عن يمينه، فقال: إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وما أراني إلا سأقتل مظلوما، وإن أكبر همي ديني، فبع مالي ثم اقض ديني، فإن فضل شيء فثلثه لولدك، وإن عجزت عن شيء ما بني فاستعن مولاي. قلت: ومن مولاك يا أبت؟ قال: الله. قال عبد الله بن الزبير: فوالله ما بقيت بعد ذلك في كربة من دينه أو عسرة إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه، فيقضيه. قال: فقتل الزبير ونظرت في دينه فإذا هو ألف ألف ومائة ألف. قال: فبعت ضيعه له بالغابة بألف ألف وستمائة ألف، ثم ناديت: من كان له قبل الزبير شيء فليأتنا نقضه. فلما قضيت دينه أتاني إخوتي فقالوا: أقسم بيننا ميراثنا. قلت: والله لا أقسم حتى أنادي أربع سنين بالموسم: من كان له على الزبير شيء فليأتنا نقضه. قال: فلما مضت الأربع السنين أخذت الثلث لولدي، ثم قسمت الباقي. فصار لكل امرأة من نسائه - وكان له أربع نسوة - في ربع الثمن ألف ألف ومائة ألف. فجميع ما ترك مائة ألف ألف وسبعمائة ألف ألف. ومن حديث ابن أبي شيبة قال: كان علي يخرج مناديه يوم الجمل يقول: لا يسلبن قتيل، ولا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح. قال: وخرج كعب بن ثور من البصرة قد تقلد المصحف في عنقه، فجعل ينشره بين الصفين ويناشد الناس في دمائهم، إذ أتاه سهم فقتله وهو في تلك الحال لا يدري من قتله. وقال في بن أبي طالب يوم الجمل للأشتر، وهو مالك بن الحارث، وكان الميمنة: أحمل. فحمل، فكشف من بإزائه. وقال لهاشم بن عقبة، أحد بني زهرة بن كلاب، وكان على الميسرة: احمل. فحمل، فكشف من بإزائه. فقال علي لأصحابه: كيف رأيتم ميسرتي وميمنتي!
من حديث الجمل
الخشني عن أبي حاتم الجستاني قال: أنشدني الأصمعي عن رجل شهد الجمل يقول:
شهدت الحروب وشيبني ... فلم تر عيني كيوم الجمل
اضر على مؤمن فتنة ... وأفتك منه لخرق بطل
فليت الظعينة في بيتها ... وليتك عسكر لم ترتحل
ابن منية وهبه لعائشة وجعل له هودجا من حديد، وجهز من ماله خمسمائة فارس بأسلحتهم وأزودتهم. وكان أكثر أهل البصرة مالا. وكان علي بن أبر طالب يقول: بليت بأنض الناس وأنطق الناس وأطوع الناس في الناس. يريد بأنض الناس: يعلى بن منية، وكان أكثر الناس ناضا؛ ويريد بأنطق الناس: طلحة بن عبيد الله؛ وأطوع الناس في الناس عائشة أم المؤمنين. أبو بكر بن أبي شيبة عن مخلد بن عبيد الله عن التميمي قال: كانت راية علي يوم الجمل سوداء، وراية أهل البصرة كالجمل. الأعمش عن رجل سماه قال: كنت أرى عليا يوم الجمل يحمل فيضرب بسيفه حتى ينثني، ثم يرجع فيقول: لا تلوموني ولوموا هذا، ثم يعود ويقومه. ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: قال عبد الله بن الزبير: التقيت مع الأشتر يوم الجمل، فما ضربته ضربة حتى ضربني خمسة أو ستة، ثم جر برجلي فألقاني في الخندق، وقال: والله لولا قربك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع فيك عضو إلى آخر. أبو بكر بن أبي شيبة قال: أعطت عائشة الذي بشرها بحياة ابن الزبير، إذ التقى مع الأشتر يوم الجمل، أربعة آلاف. سعيد عن قتادة قال: قتل يوم الجمل مع عائشة عشرون ألفا، منهم ثمانمائة من بني ضبة. وقالت عائشة: ما أنكرت رأس جملي حتى فقدت أصوات بني عدي. وقتل من أصحاب علي خمسمائة رجل، لم يعرف منهم إلا علباء بن الهيثم وهند الجملي، قتلهما ابن اليثربي، وأنشأ يقول:
إني لمن يجهلني ابن اليثربي ... قتلت علباء وهند الجملي

(2/106)

عبد الله بن عون عن أبي رجاء قال: لقد رأيت الجمل حينئذ وهو كظهر القنفذ من النبل، ورجل من بني ضبة أخذ بخطامه وهو يقول:
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ... الموت أحلى عندنا من العسل
ننعي ابن عفان بأطراف الأسل
غندر قال: حدثنا شعبة بن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة، وكان مع في بن أبي طالب يوم الجمل، والحارث بن سويد، وكان مع طلحة والزبير، وتذاكرا وقعة الجمل، فقال الحارث بن سويد: والله ما رأيت مثل يوم الجمل، لقد أشرعوا رماحهم في صدورنا وأشرعنا رماحنا في صدورهم، ولو شاءت الرجال أن تمشي عليها لمشت، يقول هؤلاء: لا إله إلا الله والله أكبر، ويقول هؤلاء: لا إله إلا الله والله أكبر، فوالله لوددت أني لم أشهد ذلك اليوم، وأني أعمى مقطوع اليدين والرجلين. وقال عبد الله بن سلمة: والله ما يسرني أني غبت عن ذلك اليوم ولا عن مشهد شهده علي بن أبي طالب بحمر النعم. علي بن عاصم عن حصين قال: حدثني أبو جميلة البكاء قال: إني لفي الصف مع علي بن طالب إذ عقر بأم المؤمنين جملها، فرأيت محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر يشتدان بين الصفين أيهما يسبق إليها، فقطعا عارضة الرحل واحتملاها في هودجها. ومن حديث الشعبي قال: من زعم أنه شهد الجمل من أهل بدر إلا أربعة، فكذبه، كان علي وعمار في ناحية، وطلحة والزبير في ناحية. أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثني خالد بن مخلد عن يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى قال: انتهى عبد الله بن بديل إلى عائشة وهي في الهودج، فقال: يا أم المؤمنين، أنشدك بالله، أتعلمين أني أتيتك يوم قتل عثمان فقلت لك: إن عثمان قد قتل فما تأمرينني به. فقلت لي: الزم عليا؟ فوالله ما غير ولا بدل. فسكتت. ثم أعاد عليها. فسكتت. ثلاث مرات. فقال: اعقروا الجمل، فعقروه. فنزلت أنا وأخوها محمد بن أبي بكر فاحتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي علي، فسر به، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل.

(2/107)

وقالوا: لما كان يوم الجمل ما كان، وظفر علي بن أبي طالب دنا من هودج عائشة، فكلمها بكلام. فأجابته: ملكت فأسجع. فجهزها علي بأحسن الجهاز وبعث معها أربعين امرأة - وقال بعضهم: سبعين امرأة - حتى قدمت المدينة. عكرمة عن ابن عباس قال: لما انقضى أمر الجمل دعا علي بن أبي طالب بآجرتين فعلاهما، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أنصار المرأة، وأصحاب البهيمة، رغا فجئتم، وعقر فهزمتم، نزلتم شر بلاد، أبعدها من السماء، بها مغيض كل ماء، ولها شر أسماء، هي البصرة والبصيرة والمؤتفكة وتدمر، أين ابن عباس؟ قال: فدعيت له من كل ناحية، فأقبلت إليه، فقال: ائت هذه المرأة، فلترجع إلى بيتها الذي أمرها الله أن تقر فيه. قال: فجئت فاستأذنت عليها، فلم تأذن لي، فدخلت بلا إذن ومددت يدي إلى وسادة في البيت فجلست عليها. فقالت: تالله يا بن عباس ما رأيت مثلك! تدخل بيتنا بلا إذننا، وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا. فقلت: والله ما هو بيتك، ولا بيتك إلا الذي أمرك الله أن تقري فيه فلم تفعلي، إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى بلدك الذي خرجت منه. قالت: رحم الله أمير المؤمنين، ذاك عمر بن الخطاب. قلت: نعم، وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. قالت: أبيت أبيت. قلت: ما كان إباوك إلا فواق ناقة بكيئة، ثم صرت ما تحلين ولا تمرين، ولا تأمرين ولا تنهين. قال: فبكت حتى علا نشيجها. ثم قالت: نعم، أرجع؛ فإن أبغض البلدان إلي بلد أنتم فيه. قلت: أما والله ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أما، وجعلنا أباك لهم صديقا. قال: أتمن في برسول الله يا بن عباس؟ قلت: نعم، نمن عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننت به علينا. قال ابن عباس: فأتيت عليا فأخبرته، فقبل بين عيني، وقال: بأبي ذرية بعضا من بعض والله سميع عليم. ومن حديث ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن عطاء بن السائب: أن قاضيا من قضاة أهل الشام أتى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفظعتني. قال: وما رأيت؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم معهما نصفين. قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس. قال عمر بن الخطاب: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الفيل وجعلنا آية النهار مبصرة " فانطلق، فوالله لا تعمل لي عملا أبدا. قال: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفين. أبو بكر بن أبي شيبة قال: أقبل سليمان بن صرد، وكانت له صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم، إلى علي بن أبي طالب بعد وقعة الجمل، فقال له: تنأنأت وتزحزحت وتربصت، فكيف رأيت الله صنع؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الشوط بطين، وقد بقي من الأمور ما تعرف به عدوك من صديقك. وكتب علي بن أبي طالب إلى الأشعث بن قيس بعد الجمل، وكان واليا لعثمان على أذربيجان: سلام عليك، أما بعد. فلولا هنات كن منك لكنت أنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس، ولعل أمرك يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله، وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك، وقد كان طلحة والزبير أول من بايعني ثم نكثا بيعتي من غير حدث ولا سبب، وأخرجا أم المؤمنين، فساروا إلى البصرة، وسرت إليهم فيمن بايعني من المهاجرين والأنصار، فالتقينا، فدعوتهم إلى أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه، فأبوا، فأبلغت في الدعاء وأحسنت في البقيا، وأمرت ألا يذف على جريح ولا يتبع منهزم ولا يسلب قتيل، ومن ألقى سلاحه وأغلق بابه فهو آمن. واعلم أن عملك ليس لك بطعمة، إنما هو أمانة في عنقك، وهو مال من مال الله، وأنت من خزاني عليه حتى تؤديه إلي إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله. فلما بلغ الأشعث كتاب علي قام فقال: أيها الناس، إن عثمان بن عفان ولاني أذربيجان فهلك، وقد بقيت في يدي، وقد بايع الناس عليا وطاعتنا له واجبة، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما كان، وهو المأمون على من غاب من ذلك المجلس، ثم جلس.
قولهم في أصحاب الجمل

(2/108)

أبو بكر بن أبي شيبة قال: سئل علي عن أصحاب الجمل: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. قال: فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قال: فما هم! قال: إخواننا بغوا علينا. ومر علي بقتلى الجمل فقال: اللهم اغفر لنا ولهم، ومعه محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر، فقال أحدهما لصاحبه: أما تسمع ما يقول! قال: اسكت لا يزيدك. وكيع عن مسعر عن عبد الله بن رباح عن عمار قال: لا تقولوا: كفر أهل الشام، ولكن قولوا: فسقوا وظلموا. وسئل عمار بن ياسر عن عائشة يوم الجمل فقال: أما والله إنا لنعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتتبعونه أم تتبعونها. وقال علي بن أبي طالب يوم الجمل: إن قوما زعموا أن البغي كان منا عليهم، وزعمنا انه منهم علينا، وإنما اقتتلنا على البغي ولم نقتتل على التكفير.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: أول ما تكلمت به الخوارج يوم الجمل قالوا: ما أحل لنا دماءهم وحرم علينا أموالهم! فقال علي: هي السنة في أهل القبلة. قالوا: ما ندري ما هذا؟ قال: فهذه عائشة رأس القوم، أتتساهمون عليها! قالوا: سبحان الله! أمنا. قال: فهي حرام؟ قالوا: نعم. قال: فإنه يحرم من أبنائها ما يحرم منها. قال: ودخلت أم أوفى العبدية على عائشة بعد وقعه الجمل فقالت لها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في امرأة قتلت ابنا لها صغيرا؟ قالت: وجبت لها النار. قالت: فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفا في صعيد واحد؟ قالت: خذوا بيد عدوة الله. وماتت عائشة في أيام معاوية، وقد قاربت السبعين. وقيل لها: تدفنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا، إني أحدثت بعده حدثا فادفنوني مع إخوتي بالبقيع. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا حميراء، كأني بك تنبحك كلاب الحوب. تقاتلين عليا وأنت له ظالمة. والحوب، بضم الحاء وتثقيل الواو، وقد زعموا أن الحوب ماء في في طريق البصرة. قال في ذلك بعض الشيعة:
إني أدين بحب آل محمد ... وبني الوصي شهودهم والغيب
وأنا البريء من الزبير وطلحة ... ومن التي نبحت كلاب الحوب
أخبار علي ومعاوية

(2/109)

كتب علي بن أبي طالب إلى جرير بن عبد الله، وكان وجهه إلى معاوية في أخذ بيعته، فأقام عنده ثلاثة أشهر يماطله بالبيعة، فكتب إليه علي: سلام عليك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخيره بين حرب مجلية، أو سلم محظية. فإن اختار الحرب فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين، وإن اختار السلم فخذ بيعته وأقبل إلي. وكتب علي إلى معاوية بعد وقعة الجمل: سلام عليك. أما بعد. فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه. فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا، وإن خرج عن أمرهم خارج ردوه إلى ما خرج عنه؛ فإن أبى قاتلوه على أتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردتهما، فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إلي قبولك العافية. وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمت القوم إلي، حملتك وإياهم على كتاب الله. وأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن. ولعمي لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا يدخلون في الشورى، وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة، فبايعه ولا قوة إلا بالله. فكتب إليه معاوية: سلام عليك. أما بعد، فلعمري لو بايعك الذين ذكرت وأنت بريء من دم عثمان لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بدم عثمان وخذلت الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف. وقد أبي أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين. وإنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام. ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، ولا حجتك علي كحجتك على طلحة والزبير، إن كانا بايعاك فلم أبايعك أنا. فأما فضلك في الإسلام وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلست أدفعه. فكتب إليه علي: أما بعد. فقد أتانا كتابك، كتاب امرىء ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاتبعه. زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خفوري لعثمان. ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا. وما كان الله ليجمعهم على ضلالة ولا ليضربهم بالعمى. وما أمرت فلزمتني خطيئة الأمر، ولا قتلت فأخاف على نفسي قصاص القاتل. وأما قولك إن أهل الشام هم حكام أهل الحجاز. فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة، فإن سميت كذبك المهاجرون والأنصار. ونحن نأتيك به من أهل الحجاز. وأما قولك: ادفع إلي قتلة عثمان. فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان، وهم أولى بذلك منك. فإن زعمت أنك أقوى على طلب دم عثمان منه، فارجع إلى البيعة التي لزمتك وحاكم القوم إلي. وأما تمييزك بين أهل الشام والبصرة، وبينك وبين طلحة والزبير. فلعمري ما الأمر هناك إلا واحد، لأنها بيعة عامة لا يتأتى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار. وأما قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمي في الإسلام، فلو استطعت دفعه لدفعته. وكتب معاوية إلى علي: أما بعد. فإنك قتلت ناصرك، واستنصرت واترك. فوايم الله لأرمينك بشهاب تزكيه الريح ولا يطفئه الماء. فإذا وقع وقب، وإذا مس ثقب، فلا تحسبني كسحيم أو عبد القيس أو حلوان الكاهن. فأجابه علي: أما بعد. فوالله ما قتل ابن عمك غيرك! أني أرجو أن ألحقك به على مثل ذنبه وأعظم من خطيئته. وإن السيف الذي ضربت به أهلك لمعي دائم. والله ما استحدثت ذنبا، ولا استبدلت نبيا، وإني على المنهاج الذي تركتموه طائعين، وأدخلتم فيه كارهين. وكتب معاوية إلى علي بن أبي طالب: أما بعد. فإن

(2/110)

الله اصطفى محمدا وجعله الأمين على وحيه، والرسول إلى خلقه، واختار له من المسلمين أعوانا أيده بهم، وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة، وخليفة الخليفة، والخليفة الثالث، فكلهم حسدت، وعلى كلهم بغيت. عرفنا ذلك في نظرك الشزر، وتنفسك الصعداء، وإبطائك على الخلفاء، وأنت في كل ذلك تقاد كما يقاد البعير المخشوش، حتى تبايع وأنت كاره. ولم تكن لأحد منهم أشد حسدا منك لابن عمك عثمان، وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك في قرابته وصهره. فقطعت رحمه، وقبحت محاسنه، وألبت عليه الناس، حتى ضربت إليه آباط الإبل، وشهر عليه السلاح في حرم الرسول، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة، لا تؤدي عن نفسك في أمره بقول ولا فعل بر. أقسم قسما صادقا لو قصت في أمره مقاما واحدا تنهين الناس عنه ما عدل بك ممن قبلنا من الناس أحد ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان، فهم بطانتك وعضدك وأنصارك. فقد بلغني أنك تنتفي من دمه، فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به، ثم نحن أسرع الناس إليك، وإلا فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا الصيف. والذي نفس معاوية بيده لأطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله. فأجابه علي: أما بعد. فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحي. فالحمد لله الذي صدقه الوعد، وتمم له النصر، ومكنه في البلاد، وأظهره على الأعادي من قومه، الذين أظهروا له التكذيب، ونابذوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وإخراج أصحابه، وألبوا عليه العرب، وحزبوا الأحزاب، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. وذكرت أن الله اختار من المسلمين أعوانا أيده بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحه لله ولرسوله الخليفة من بعده. ولعمري إن كان مكانهما في الإسلام لعظيما، وإن كان المصاب بهما لجرحا في الإسلام شديدا، فرحمهما الله وغفر لهما. وذكرت أن عثمان كان في الفضل ثالثا، فإن كان محسنا فسيلقى ربا شكورا يضاعف له الحسنات ويجزيه الثواب العظيم، وإن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا، لا يتعاظمه ذنب يغفره. ولعمري إني لأرجو إذا الله أعطى الأسهم أن يكون سهمنا أهل البيت أوفر نصيب. وايم الله، ما رأيت ولا سمعت بأحد كان أنصح لله ورسوله، ولا أنصح لرسول الله في طاعة الله، ولا أصبر على البلاء والأذى في مواطن الخوف، من هؤلاء النفر من أهل بيته، الذي قتلوا في طاعة الله: عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وجعفر وزيد يوم مؤتة. وفي المهاجرين خير كثير، جزاهم الله بأحسن أعمالهم. وذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي إياهم والبغي عليهم. فأما البغي، فمعاذ الله أن يكون. وأما الكراهة لهم، فوالله ما اعتذر للناس من ذلك. وذكرت بغيي على عثمان وقطعي رحمه، فقد عمل عثمان بما قد علمت، وعمل به الناس ما قد بلغك. فقد علمت أني كنت من أمره في عزلة، إلا أن تجنى، فتجن ما شئت وأما ذكرك قتلة عثمان وما سألت من دفعهم إليك، فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينه، فلم يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك، وإن لم تنزع عن غيك لنعرفنك عما قليل يطلبونك ولا يكلفونك أن تطلبهم في سهل ولا جبل، ولا بر ولا بحر. وقد كان أبوك أبو سفيان أتاني حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال. ابسط يدك أبايعك، فأنت أحق الناس بهذا الأمر. فكنت أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين المسلمين، لقرب عهد الناس بالكفر. فأبوك كان أعلم بحقي منك، وإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك، وإلا فنستعين الله عليك. وكتب عبد الرحمن بن الحكم إلى معاوية:ه اصطفى محمدا وجعله الأمين على وحيه، والرسول إلى خلقه، واختار له من المسلمين أعوانا أيده بهم، وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة، وخليفة الخليفة، والخليفة الثالث، فكلهم حسدت، وعلى كلهم بغيت. عرفنا ذلك في نظرك الشزر، وتنفسك الصعداء، وإبطائك على الخلفاء، وأنت في كل ذلك تقاد كما يقاد البعير المخشوش، حتى تبايع وأنت كاره. ولم تكن لأحد منهم أشد حسدا منك لابن عمك عثمان، وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك في قرابته وصهره. فقطعت رحمه، وقبحت محاسنه، وألبت عليه الناس، حتى ضربت إليه آباط الإبل، وشهر عليه السلاح في حرم الرسول، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة، لا تؤدي عن نفسك في أمره بقول ولا فعل بر. أقسم قسما صادقا لو قصت في أمره مقاما واحدا تنهين الناس عنه ما عدل بك ممن قبلنا من الناس أحد ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان، فهم بطانتك وعضدك وأنصارك. فقد بلغني أنك تنتفي من دمه، فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به، ثم نحن أسرع الناس إليك، وإلا فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا الصيف. والذي نفس معاوية بيده لأطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله. فأجابه علي: أما بعد. فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحي. فالحمد لله الذي صدقه الوعد، وتمم له النصر، ومكنه في البلاد، وأظهره على الأعادي من قومه، الذين أظهروا له التكذيب، ونابذوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وإخراج أصحابه، وألبوا عليه العرب، وحزبوا الأحزاب، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. وذكرت أن الله اختار من المسلمين أعوانا أيده بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحه لله ولرسوله الخليفة من بعده. ولعمري إن كان مكانهما في الإسلام لعظيما، وإن كان المصاب بهما لجرحا في الإسلام شديدا، فرحمهما الله وغفر لهما. وذكرت أن عثمان كان في الفضل ثالثا، فإن كان محسنا فسيلقى ربا شكورا يضاعف له الحسنات ويجزيه الثواب العظيم، وإن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا، لا يتعاظمه ذنب يغفره. ولعمري إني لأرجو إذا الله أعطى الأسهم أن يكون سهمنا أهل البيت أوفر نصيب. وايم الله، ما رأيت ولا سمعت بأحد كان أنصح لله ورسوله، ولا أنصح لرسول الله في طاعة الله، ولا أصبر على البلاء والأذى في مواطن الخوف، من هؤلاء النفر من أهل بيته، الذي قتلوا في طاعة الله: عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وجعفر وزيد يوم مؤتة. وفي المهاجرين خير كثير، جزاهم الله بأحسن أعمالهم. وذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي إياهم والبغي عليهم. فأما البغي، فمعاذ الله أن يكون. وأما الكراهة لهم، فوالله ما اعتذر للناس من ذلك. وذكرت بغيي على عثمان وقطعي رحمه، فقد عمل عثمان بما قد علمت، وعمل به الناس ما قد بلغك. فقد علمت أني كنت من أمره في عزلة، إلا أن تجنى، فتجن ما شئت وأما ذكرك قتلة عثمان وما سألت من دفعهم إليك، فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينه، فلم يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك، وإن لم تنزع عن غيك لنعرفنك عما قليل يطلبونك ولا يكلفونك أن تطلبهم في سهل ولا جبل، ولا بر ولا بحر. وقد كان أبوك أبو سفيان أتاني حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال. ابسط يدك أبايعك، فأنت أحق الناس بهذا الأمر. فكنت أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين المسلمين، لقرب عهد الناس بالكفر. فأبوك كان أعلم بحقي منك، وإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك، وإلا فنستعين الله عليك. وكتب عبد الرحمن بن الحكم إلى معاوية:

(2/111)

ألا أبلغ معاوية بن حرب ... كتابا من أخي ثقة يلوم
فإنك والكتاب إلى علي ... كدابغة وقد حلم الأديم
يوم صفين
أبو بكر بن أبي شيبة قال: خرج علي بن أبي طالب من الكوفة إلى معاوية في خمسة وتسعين ألفا، وخرج معاوية من الشام في بضع وثمانين ألفا، فالتقوا بصفين. وكان عسكر علي يسمى الزحزحة، لشدة حركته، وعسكر معاوية يسمى الخضرية، لاسوداده بالسلاح والدروع. وأبو الحسن قال: كانت أيام صفين كلها موافقة، ولم تكن هزيمة بين الفريقين إلا على حامية ثم يكرون. أبو الحسن قال: كان منادي على يخرج كل يوم وينادي: أيها الناس، لا تجهزن على جريح، ولا تتبعن موليا، ولا تسلبن قتيلا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. أبو الحسن قال: خرج معاوية إلى علي يوم صفين، ولم يبايعه أهل الشام بالخلافة، وإنما بايعوه على نصرة عثمان والطلب بدمه. فلما كان من أمر الحكمين ما كان، بايعوه بالخلافة. فكتب معاوية إلي سعد بن أبي وقاص يدعوه إلى القيام معه في دم عثمان: سلام عليك: أما بعد. فإن أحق الناس بنصرة عثمان أهل الشورى من قريش، الذين اثبتوا حقه، واختاروه على غيره، ونصرة طلحة والزبير، وهما شريكاك في الأمر، ونظيراك في الإسلام. وخفت لذلك أم المؤمنين، فلا تكره ما رضوا، ولا ترد ما قبلوا، وإنما نريد أن نردها شورى بين المسلمين. والسلام.
فأجابه سعد: أما بعد. فإن عمر رضي الله عنه لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة، فلم يكن أحد أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه. غير أن عليا كان في ما فينا، ولم يكن فينا ما فيه، ولو لم يطلبها ولزم بيته لطلبته العرب ولو بأقصى اليمن. وهذا الأمر قد كرهنا أوله وكرهنا آخره. وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما. والله يغفر لأم المؤمنين ما أتت. وكتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة: أما بعد. فإنما أنت يهودي ابن يهودي، إن ظفر أحب الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن ظفر أبغض الفريقين إليك قتلك ونكل بك. وقد كان أبوك أوتر قوسه ورمى غرضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، ثم مات طريدا بحوران.
فأجابه قيس: أما بعد. فأنت وثني ابن وثني. دخلت في الإسلام كرها، وخرجت منه طوعا، لم يقدم إيمانك، ولم يحذر نفاقك. ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي دخلت فيه. والسلام.
وخطب علي بن أبي طالب أصحابه يوم صفين فقال: أيها الناس، إن الموت طالب لا يعجزه هارب، ولا يفوته مقيم، أقدموا ولا تنكلوا، فليس عن الموت محيص. والذي نفس ابن أبي طالب بيده، إن ضربة سيف أهون من موت الفراش.
أيها الناس، اتقوا السيوف بوجوهكم، والرماح بصدوركم، وموعدي وإياكم الراية الحمراء.
فقال رجل من أهل العراق: ما رأيت كاليوم خطيبا يخطبنا! يأمرنا أن نتقي السيوف بوجوهنا، والرماح بصدورنا، ويعدنا راية بيننا وبينها مائة ألف سيف.
قال أبو عبيدة في التاج: جمع علي بن أبي طالب رياسة بكر كلها يوم صفين لحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة، وجعل ألويتها تحت لوائه، وكانت له راية سوداء يخفق ظلها إذا أقبل، فلم يغن أحد في صفين غناءه. فقال فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لمن راية سواء يخفق ظلها ... إذ قيل قدمها حضين تقدما
يقدمها في الصف حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر السم والدما
جزى الله عني والجزاء بكفه ... ربيعة خيرا ما أعف وأكرما
وكان من همدان في صفين حسن. فقال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لهمدان أخلاق ودين يزينهم ... وبأس إذا لاقوا وحسن كلام
فلو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:34 pm

أبو الحسن قال: كان في بن أبي طالب يخرج كل غداة لصفين في سرعان الخيل فيقف بين الصفين ثم ينادي: يا معاوية، علام يقتتل الناس؟ ابرز إلي وأبرز إليك فيكون الأمر لمن غلب. فقال له عمرو بن العاص: أنصفك الرجل. فقال له معاوية: أردتها يا عمرو، والله لا رضيت عنك حتى تبارز عليا. فبرز إليه متنكرأ، فلما غشيه علي بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوأته، فضرب علي وجه فرسه وانصرف عنه. فجلس معه معاوية يوما فنظر إليه فضحك. فقال عمرو: أضحك الله سنك، ما الذي أضحكك؟ قال: من حضور ذهنك يوم بارزت عليا إذ اتقيته بعورتك. أما والله لقد صادفت منانا كريما، ولولا ذلك لخرم رفغيك بالرمح. قال عمرو بن العاص: أما والله إني عن يمينك إذ دعاك إلى البراز فأحولت عيناك، وربا لسحرك، وبدأ منك ما أكره ذكره لك. وذكر عمرو بن العاصي عند علي بن أبي طالب، فقال فيه علي: عجبا لابن النابغة! يزعم أني بلقائه أعافس وأمارس، أنى وشر القول أكذبه، إنه يسأل فيلحف، ويسأل فيبخل. فإذا أحمر البأس، وحمي الوطيس، وأخذت السيوف مأخذها من هام الرجال. لم يكن له هتم إلا نزعه ثيابه، ويمنح الناس استه، أغضه الله وترحه.
مقتل عمار بن ياسر
العتبي قال: لما التقى الناس بصفين نظر معاوية إلى هاشم بن عتبة الذي يقال له: المرقال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: أرقل ليمون. وكان أعور، والراية بيده، وهو يقول.
أعور يبغي نفسه محلا ... قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو، هذا المر قال، والله لئن زحف بالراية زحفا إنه ليوم أهل الشام الأطول. ولكني أرى ابن السوداء إلى جنبه، يعني عمارا، وفيه عجلة في الحرب، وأرجو أن تقدمه إلى الهلكة. وجعل عمار يقول: أبا عتبة، تقدم. فيقول: يا أبا اليقظان، أنا أعلم بالحرب منك، دعني أزحف بالراية زحفا. فلما أضجره وتقدم، أرسل معاوية خيلا فاختطفوا عمارا، فكان يسمي أهل الشام قتل عمار فتح الفتوح. أبو بكر بن أبي شيبة: عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب عن أسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد قال: إني لجالس عند معاوية إذ أتاه رجلان يختصمان في رأس عمار، كل واحد منهما يقول: أنا قتلته. فقال لهما عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية. أبو بكر بن أبي عشيبة عن ابن علية عن ابن عون عن الحسن عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية. أبو بكر قال: حدثنا علي بن حفص عن أبي معشر عن محمد بن عمارة قال: ما زال جدي خزيمة بن ثابت كافا سلاحه يوم صفين حتى قتل عمار، فلما قتل سل سيفه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية. فما زال يقاتل حتى قتل. أبو بكر عن غندر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلملمة قال: رأيت عمارا يوم صفين شيخا آدم طوالا أخذا الحربة بيده، ويده ترعد، وهو يقول: والذي نفسي بيده، لقد قاتلت بهذه الحربة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة. والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفت أنا على حق وأنهم على باطل. ثم جعل يقول: صبرا عباد الله، الجنة تحت ظلال السيوف. أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن حبيب عن أبي البحتري قال: لما كان يوم صفين واشتدت الحرب دعا عمار بشربة لبن وشربها وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن. أبو ذر عن محمد بن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن جدته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب وما يحتاج إليه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع رداءه، فلما رأى ذلك الهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يرتجزون ويقولون ويعملون:

(2/113)

لئن قعدنا والنبي يعمل ... ذاك إذا لعمل مضلل
قالت: وكان عثمان بن عفان رجلا نظيفا متنظفا، فكان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه، فإذا أصابه شيء من التراب نفضه. فنظر إليه علي رضي الله عنه فأنشده:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها راكعا وساجدا
وقائما طورا وطورا قاعدا ... ومن يرى عن التراب حائدا
فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجزها وهو لا يدري من يعني. فسمعه عثمان، فقال: يا بن سمية، ما أعرفني بمن تعرض، ومعه جريدة، فقال: لتكفن أو لأعترضن بها وجهك. فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل حائط، فقال: عمار جلدة ما بين عيني وأنفي، فمن بلغ ذلك منه فقد بلغ مني، وأشار بيده فوضعها بين عينيه. فكف الناس عن ذلك، وقالوا لعمار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب فيك ونخاف أن ينزل فينا قرآن. فقال: أنا أرضيه كما غضب. فأقبل عليه فقال: يا رسول الله، مالي ولأصحابك؟ قال: وما لك ولهم؟ قال: يريدون قتلي، يحملون لبنة ويحملون على لبنتين. فأخذ به وطاف به في المسجد، وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول: يا بن سمية. لا يقتنك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية. فلما قتل بصفين وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال معاوية: هم قتلوه لأنهم أخرجوه إلى القتل. فلما بلغ ذلك عليا قال: ونحن قتلنا أيضا حمزة لأنا أخرجناه.
من حرب صفين
أبو الحسن قال: كانت أيام صفين كلها موافقة، ولم تكن هزيمة في أحد الفريقين إلا على حامية ثم يكرون. أبو بكر بن أبي شيبة قال: انفضت وقعة صفين عن سبعين ألف قتيل، خمسين ألفا من أهل الشام، وعشرين ألفا من أهل العراق. ولما انصرف الناس من صفين قال عمرو بن العاص:
شبت الحرب فأعددت لها ... مشرف الحارك محبوك الثبج
يصل الشر بشر فإذا ... وثب الخيل من الشر معج
جرشع أعظمه جفرته ... فإذا ابتل من الماء خرج
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص:
فإن شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفين يوما شاب منها الذوائب
عشية جا أهل العراق كأنهم ... سحاب خريف صففته الجنائب
إذا قلت قد ولوا سراعا بدت لنا ... كتائب منهم وارجحنت كتائب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم ... سراة النهار ما تولى المناكب
وقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا ... عليا فقلنا بل نرى أن تضاربوا
وقال السيد الحميري، وهو رأس الشيعة، وكانت الشيعة من تعظيمها له تلقي له وسادا بمسجد الكوفة:
إني أدين بما دان الوصي به ... وشاركت كفه كفي بصفينا
في سفك ما سفكت منها إذا احتضروا ... وأبرز الله للقسط الموازينا
تلك الدماء معا يا رب في عنقي ... ثم اسقني مثلها آمين أمينا
آمين من مثلهم في مثل حالهم ... في فتية هاجروا في الله شارينا
ليسوا يريدون غير الله ربهم ... نعم المراد توخاه المريدونا
وقال النجاشي يوم صفين، وكتب بها إلى معاوية:
يا أيها الملك المبدي عداوته ... انظر لنفسك أي الأمر تأتمر
فإن نفست على الأقوام مجدهم ... فابسط يديك فإن الخير مبتدر
واعلم بأن علي الخير من نفر ... شم العرانين لا يعلوهم بشر
نعم الفتى أنت إلا أن بينكما ... كما تفاضل ضوء الشمس والقمر
وما إخالك إلا لست منتهيا ... حتى ينالك من أظفاره ظفر
خبر عمرو بن العاص مع معاوية

(2/114)

سفيان بن عيينة قالت: أخبرني أبو موسى الأشعري قال: أخبرني الحسن قال: علم معاوية والله إن لم يبايعه عمرو لن يتم له أمر، فقال له: يا عمرو، اتبعني. قال: لماذا؟ للآخرة؟ فوالله ما معك آخرة، أم للدنيا؟ فوالله لا كان حتى أكون شريكك فيها. قال: فأنت شريكي فيها. قال: فاكتب لي مصر وكورها. فكتب له مصر وكورها، وكتب في آخر الكتاب: وعلى عمر و السمع والطاعة. قال عمرو: واكتب: إن السمع والطاعة لا ينقصان من شرطه شيئا. قال معاوية: لا ينظر الناس إلى هذا. قال عمرو: حتى تكتب. قال: فكتب، والله ما يجد بدا من كتابتها. ودخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلم عمرا في مصر، وعمرو يقول له: إنما أبايعك بها ديني. فقال عتبة: ائتمن الرجل بدينه فإنه صاحب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وكتب عمرو إلى معاوية:
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ... به منك دنيا، فانظرن كيف تصنع؟
وما الدين والدنيا سواء وإنني ... لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع
فإن تعطني مصرا فأربح صفقة ... أخذت بها شيخا يضر وينفع
وقالوا: لما قدم عمرو بن العاص على معاوية وقام معه في شأن علي، بعد أن جعل له مصر طعمة، قال له: إن بأرضك رجلا له شرف واسم، والله إن قام معك استهويت به قلوب الرجال، وهو عبادة بن الصامت. فأرسل إليه معاوية. فلما أتاه وسع له بينه وبين عمرو بن العاص، فجلس بينهما. فحمد الله معاوية وأثنى عليه، وذكر فضل عبادة وسابقته، وذكر فضل عثمان وما ناله، وحضه على القيام معه. فقال عبادة: قد سمعت ما قلت، أتدريان لم جلست بينكما في مكانكما؟ قالا: نعم، لفضلك وسابقتك وشرفك. قال: لا والله، ما جلست بينكما لذلك، وما كنت لأجلس بينكما في مكانكما، ولكن بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك إذ نظر إليكما تسيران، وأنتما تتحدثان، فالتفت إلينا فقال: إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما، فإنهما لا يجتمعان على خير أبدا. وأنا أنها كما عن اجتماعكما. فأما ما دعوتماني إليه من القيام معكما، فإن لكما عدوا هو أغلظ أعدائكما، وأنا كامن من ورائكم في ذلك العدو، إن اجتمعتم على شيء دخلت فيه.
أمر الحكمين

(2/115)

أبو الحسن قال: لما كان يوم الهرير، وهو أعظم يوم بصفين، زحف أهل العراق على أهل الشام فأزالوهم عن مراكزهم، حتى انتهوا إلى سرادق معاوية، فدعا بالفرس وهم بالهزيمة، ثم التفت إلى عمرو بن العاص، وقال له: ما عندك؟ قال: تأمر بالمصاحف فترفع في أطراف الرماح، ويقال: هذا كتاب الله يحكم بيننا وبينكم. فلما نظر أهل العراق إلى المصاحف ارتدوا واختلفوا، وقال بعضهم: نحاكمهم إلى كتاب الله. وقال بعضهم: لا نحاكمهم، لأنا على يقين من أمرنا ولسنا على شك. ثم أجمع رأيهم على التحكيم. فهم علي أن يقدم أبا الأسود الدؤلي، فأبى الناس عليه. فقال له ابن عباس: اجعلني أحد الحكمين، فوالله لأفتلن لك حبلا لا ينقطع وسطه ولا ينشر طرفاه. فقال له علي: لست من كيدك ولاحت كيد معاوية في شيء، لا أعطيه إلا السيف حتى يغلبه الحق. قال: وهو والله لا يعطيك إلا السيف حتى يغلبك الباطل. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك تطاع اليوم وتعصى غدا، وإنه يطاع ولا يعصى. فلما انتشر عن علي أصحابه قال: لله بلاء ابن عباس، إنه لينظر إلى الغيب بستر رقيق. قال: ثم اجتمع أصحاب البرانس، وهم وجوه أصحاب علي، على أن يقدموا أبا موسى الأشعري، وكان مبرنسا، وقالوا: لا نرضى بغيره، فقدمه علي. وقدم معاوية عمرو بن العاص. فقال معاوية لعمرو: إنك قد رميت برجل طويل اللسان قصير الرأي فلا ترمه بعقلك كله. فأخلي لهما مكان يجتمعان فيه، فأمهله عمرو بن العاص ثلاثة أيام، ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يشهيه بها، حتى إذا استبطن أبو موسى ناجاه عمرو، فقال له: يا أبا موسى، إنك شيخ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وذو فضلها وذو سابقتها، وقد ترى ما وقعت فيه هذه الأمة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها، فهل لك أن تكون ميمون هذه الأمة فيحقن الله بك دماءها، فإنه يقول في نفس واحدة: " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " ، فكيف بمن أحيا أنفس هذا الخلق كله! قال له: وكيف ذلك؟ قال: تخلع أنت علي بن أبي طالب، وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان، ونختار لهذه الأمة رجلا لم يحضر في شيء من الفتنة، ولم يغمس يده فيها. قال له: ومن يكون ذلك؟ وكان عمرو بن العاص قد فهم رأي أبي موسى في عبد الله بن عمر، فقال له: عبد الله بن عمر. فقال: إنه لكما ذكرت، ولكن كيف لي بالوثيقة منك؟ فقال له: يا أبا موسى، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى. ثم لم يبق عمرو بن العاص عهدا ولا موثقا ولا يمينا مؤكدة حتى حلف بها، حتى بقي الشيخ مبهوتا، وقال له: قد أحببت. فنودي في الناس بالاجتماع إليهما، فاجتمعوا. فقال له عمرو: قم فاخطب الناس يا أبا موسى. فقال: قم أنت أخطبهم. فقال: سبحان الله! أنا أتقدمك وأنت شيخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا فعلت أبدا! قال: أو عسى في نفسك أمر؟ فزاده أيمانا وتوكيدا. حتى قام الشيخ فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني قد اجتمعت أنا وصاحبي على أن أخلع أنا علي بن أبي طالب ويعزل هو معاوية بن أبي سفيان، ونجعل هذا الأمر لعبد الله بن عمر، فإنه لم يحضر في فتنة، ولم يغمس يده في دم امرىء مسلم. ألا وإني قد خلعت علي بن أبي طالب كما أختلع سيفي هذا، ثم خلع سيفه من عاتقه، وجلس، وقال لعمرو: قم. فقام عمرو بن العاص فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إنه كان من رأي صاحبي ما قد سمعتم، وانه قد أشهدكم أنه خلع علي بن أبي طالب كما يخلع سيفه، وأنا أشهدكم أني قد أثبت معاوية بن أبي سفيان كما أثبت سيفي هذا، وكان قد خلع سيفه قبل أن يقوم إلى الخطبة، فأعاده على نفسه. فاضطرب الناس، وخرجت الخوارج. وقال أبو موسى لعمرو: لعنك الله! فإن مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قال عمرو: لعنك الله! فإن مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا. وخر ج أبو موسى من فوره ذلك إلى مكة مستعيذا بها من علي، وحلف أن لا يكلمه أبدا. فأقام بمكة حينا حتى كتب إليه معاوية: سلام عليك، أما بعد، فلو كانت النية تدفع الخطأ لنجا المجتهد وأعذر الطالب، والحق لمن نصب له

(2/116)

فأصابه، وليس لمن عرض له فأخطأ. وقد كان الحكمان إذ حكما على علي لم يكن له الخيار عليهما، وقد اختاره القوم عليك، فاكره منهم ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام فإني خير لك من علي، ولا قوة إلا بالله. فكتب إليه أبو موسى: سلام عليك، أما بعد، فإني لم يكن مني في علي إلا ما كان من عمرو فيك، غير أني أردت بما صنعت ما عند الله، وأراد به عمرو ما عندك. وقد كان بيني وبينه شروط وشورى عن تراض، فلما رجع عمرو رجعت. أما قولك: إن الحكمين إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما. فإنما ذلك في الشاة والبعير والدينار والدرهم. فأما أمر هذه الأمة، فليس لأحد فيما يكره حكم، ولن يذهب الحق عجز عاجز ولا خدعة فاجر. وأما دعاؤك إياي إلى الشام، فليس لي رغبة عن حرم إبراهيم. فبلغ عليا كتاب معاوية إلى أبي موسى الأشعري فكتب إليه: سلام عليك، أما بعد. فإنك امرؤ ظلمك الهوى واستدرجك الغرور، حقق بك حسن الظن لزومك بيت الله الحرام غير حاج ولا قاطن، فاستقل الله يقلك؟ فإن الله يغفر ولا يغفل، وأحب عباده إليه التوابون. وكتبه سماك بن حرب. فكتب إليه أبو موسى: سلام عليك. فإنه والله لولا أني خشيت أن يرفعك مني منع الجواب إلى أعظم مما في نفسك لم أجبك، لأنه ليس لي عندك عذر ينفعني ولا قوة تمنعني. وأما قولك " ولزومي بيت الله الحرام غير حاج ولا قاطن " فإني اعتزلت أهل الشام، وانقطعت عن أهل العراق، وأصبت أقواما صغروا من ذنبي ما عظمتم، وعظموا من حقي ما صغرتم، إذ لم يكن لي منكم ولي ولا نصير. وكان علي بن أبي طالب إذ وجه الحكمان قال لهما: إنما حكمنا كما بكتاب الله، فتحييان ما أحيا القرآن، وتميتان ما أمات. فلما كاد عمرو بن العاص لأبي موسى اضطرب الناس على علي واختلفوا، وخرجت الخوارج، وقالوا: لا حكم إلا الله، فجعل علي يتمثل بهذه الأبيات:فأصابه، وليس لمن عرض له فأخطأ. وقد كان الحكمان إذ حكما على علي لم يكن له الخيار عليهما، وقد اختاره القوم عليك، فاكره منهم ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام فإني خير لك من علي، ولا قوة إلا بالله. فكتب إليه أبو موسى: سلام عليك، أما بعد، فإني لم يكن مني في علي إلا ما كان من عمرو فيك، غير أني أردت بما صنعت ما عند الله، وأراد به عمرو ما عندك. وقد كان بيني وبينه شروط وشورى عن تراض، فلما رجع عمرو رجعت. أما قولك: إن الحكمين إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما. فإنما ذلك في الشاة والبعير والدينار والدرهم. فأما أمر هذه الأمة، فليس لأحد فيما يكره حكم، ولن يذهب الحق عجز عاجز ولا خدعة فاجر. وأما دعاؤك إياي إلى الشام، فليس لي رغبة عن حرم إبراهيم. فبلغ عليا كتاب معاوية إلى أبي موسى الأشعري فكتب إليه: سلام عليك، أما بعد. فإنك امرؤ ظلمك الهوى واستدرجك الغرور، حقق بك حسن الظن لزومك بيت الله الحرام غير حاج ولا قاطن، فاستقل الله يقلك؟ فإن الله يغفر ولا يغفل، وأحب عباده إليه التوابون. وكتبه سماك بن حرب. فكتب إليه أبو موسى: سلام عليك. فإنه والله لولا أني خشيت أن يرفعك مني منع الجواب إلى أعظم مما في نفسك لم أجبك، لأنه ليس لي عندك عذر ينفعني ولا قوة تمنعني. وأما قولك " ولزومي بيت الله الحرام غير حاج ولا قاطن " فإني اعتزلت أهل الشام، وانقطعت عن أهل العراق، وأصبت أقواما صغروا من ذنبي ما عظمتم، وعظموا من حقي ما صغرتم، إذ لم يكن لي منكم ولي ولا نصير. وكان علي بن أبي طالب إذ وجه الحكمان قال لهما: إنما حكمنا كما بكتاب الله، فتحييان ما أحيا القرآن، وتميتان ما أمات. فلما كاد عمرو بن العاص لأبي موسى اضطرب الناس على علي واختلفوا، وخرجت الخوارج، وقالوا: لا حكم إلا الله، فجعل علي يتمثل بهذه الأبيات:
لي زلة إليكم فأعتذر ... سوف أكيس بعدها وأنشمر
وأجمع الأمر الشتيت المنتشر

(2/117)

أبو الحسن قال: لما قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية عام الجماعة، قال له معاوية: بلغني يا أبا الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يجعلك أحد الحكمين، فما كنت تحكم به؟ قال: لو جعلني أحدهما لجمعت ألفا من المهاجرين وأبناء المهاجرين، وألفا من الأنصار وأبناء الأنصار، ثم ناشدتهم الله: المهاجرين وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أم الطلقاء؟ قال له معاوية: لله أبوك! أي حكم كنت تكون لو حكمت!
احتجاج علي وأهل بيته في الحكمين
أبو الحسن قال: لما انقضى أمر الحكمين واختلف أصحاب علي قال بعض الناس: ما منع أمير المؤمنين أن يأمر بعض أهل بيته فيتكلم، فإنه لم يبق أحد من رؤساء العرب إلا وقد تكلم. قال: فبينما علي يوما على المنبر إذ التفت إلى الحسن ابنه فقال: قم يا حسن فقل في هذين الرجلين: عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص. فقام الحسن فقال: أيها الناس، إنكم قد أكثرتم في هذين الرجلين، وإنما بعثا ليحكما بالكتاب على الهوى، فحكما بالهوى على الكتاب. ومن كان هكذا لم يسم حكما، ولكنه محكوم عليه. وقد أخطأ عبد الله بن قيس إذ جعلها لعبد الله بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة، أنه خالف أباه، إذ لم يرضه لها، ولا جعله من أهل الشورى؛ وأخرى، أنه لم يستأمره في نفسه؛ وثالثة، أنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يعقدون الإمارة ويحكمون بها على الناس. وأما الحكومة، فقد حكم النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بما يرضي الله به ولا شك، ولو خالف لم يرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس. فقال لعبد الله بن عباس: قم. فقال عبد الله بن عباس، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن للحق أهلا أصابوه بالتوفيق، فالناس بين راض به وراغب عنه، فإنه بعث عبد الله بن قيس بهدى إلى ضلالة، وبعث عمرو بن العاص بضلالة إلى هدى، فلما التقيا رجع عبد الله بن قيس عن هداه وثبت عمرو على ضلاله. وايم الله، لئن كانا حكما بما سارا به، لقد سار عبد الله وعلي إمامه، وسار عمرو ومعاوية إمامه، فما بعد هذا من عيب ينتظر؟ فقال علي لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: قم. فقام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إن هذا الأمر كان النظر فيه إلى علي، والرضا إلى غيره. فجئتم إلى عبد الله بن قيس مبرنسا فقلتم: لا نرضى إلا به. وايم الله، ما استفدنا به علما، ولا انتظر نامنه غائبا، وما نعرفه صاحبا. وما أفسدا بما فعلا أهل العراق، وما أصلحا أهل الشام، ولا وضعا حق علي، ولا رفعا باطل معاوية، ولا يذهب الحق رقية راق، ولا نفحة شيطان، ونحن اليوم على ما كنا عليه أمس.
احتجاج علي على أهل النهروان

(2/118)

قالوا: إن عليا لما اختلف عليه أهل النهروان والقرى وأصحاب البرانس، ونزلوا قرية يقال لها حر وراء، وذلك بعد وقعة الجمل، فرجع إليهم علي بن أبي طالب فقال لهم: يا هؤلاء، من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء. قال: فليبرز إلي. فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يا بن الكواء، ما أخرجكم علينا بعد رضاكم بالحكمين، ومقامكم بالكوفة؛ قال: قاتلت بنا عدوا لا نشك في جهاده، فزعمت أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، فبينما نحن كذلك إذ أرسلت منافقا، وحكمت كافرا، وكان مما شكك في أمر الله أن قلت للقوم حين دعوتهم: كتاب الله بيني وبينكم، فإن قضى في بايعتكم، وإن قضى عليكم بايعتموني. فلولا شكك لم تفعل هذا والحق في يدك. فقال علي: يا بن الكواء، إنما الجواب بعد الفراغ، أفرضت فأجيبك؟ قالت: نعم. قال علي: أما قتالك معي عدوا لا نشك في جهاده، فصدقت، ولو شككت فيهم لم أقاتلهم. وأما قتلانا وقتلاهم، فقد قال الله في ذلك ما يستغنى به عن قولي؛ وأما إرسالي المنافق وتحكيمي الكافر، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنسا، ومعاوية حكم عمرا، أتيت بأبي موسى مبرنسا، فقلت: لا نرضى إلا أبا موسى، فهلا قام إلي رجل منكم فقال: يا علي، لا نعطى هذه الدنية فإنها ضلالة. وأما قولي لمعاوية: إن تجرني إليك كتاب الله تبعتك، وإن جرك إلي تبعتني. زعمت أني لم أعط ذلك إلا من شك، فقد علمت أن أوثق ما في يدك هذا الأمر، فحدثني ويحك عن اليهودي والنصراني ومشركي العرب، أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشام؟ قال: بل معاوية وأهل الشام أقرب قال علي: أفر سول الله صلى الله عليه وسلم كان أوثق بما في يديه من كتاب الله أو أنا؟ قال: بل رسول الله. قال: فرأيت الله تبارك وتعالى حين يقول: " قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين " أما كان رسول الله يعلم أنه لا يؤتى بكتاب هو أهدى مما في يديه؟ قال: بلى. قال: فلم أعطى رسول الله القوم ما أعطاهم؟ قال: إنصافا وحجة قال: فإني أعطيت القوم ما أعطاهم رسول الله. قال ابن الكواء: فإني اخطأت، هذه واحدة، زدني. قال علي: فما أعظم ما نقمتم علي؟ قال: تحكيم الحكمين، نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمهما شكا وتبذيرا. قال علي: فمتى سمي أبو موسى حكما: حين أرسل، أو حين حكم؟ قال: حين أرسل. قال: أليس قد سار وهو مسلم، وأنت ترجو أن يحكم بما أنزل الله؟ قال: نعم. قال علي: فلا أرى الضلال في إرساله. فقال ابن الكواء: سمي حكما حين حكم. قال: نعم، إذا فإرساله كان عدلا. أرأيت يا بن الكواء لو أن رسول الله بعث مؤمنا إلى قوم مشركين يدعوهم إلى كتاب الله، فارتد على عقبه كافرا، كان يضر نبي الله شيئا؟ قال. لا. قال علي: فما كان ذنبي أن كان أبو موسى ضل، هل رضيت حكومته حين حكم، أو قوله إذ قال؟ قال ابن الكواء: لا، ولكنك جعلت مسلما وكافرا يحكمان في كتاب الله. قال عي: ويلك يا بن الكواء! هل بعث عمرا غير معاوية، وكيف أحكمه وحكمه على ضرب عنقي؟ إنما رضي به صاحبه كما رضيت أنت بصاحبك، وقد يجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر الله. أرأيت لو أن رجلا مؤمنا تزوج يهودية أو نصرانية فخافا شقاقا بينهما، ففزع الناس إلى كتاب الله، وفي كتابه " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " فجاء رجل من اليهود أو رجل من النصارى ورجل من المسلمين الذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله، فحكما قال ابن

(2/119)

الكواء: وهذه أيضا، أمهلنا حتى ننظر. فانصرف عنهم علي. فقال له صعصعة بن صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لي في كلام القوة. قال: نعم، ما لم تبسط يدا. قال: فنادى صعصعة ابن الكواء، فخرج إليه، فقال: أنشدكم بالله يا معشر الخارجين ألا تكونوا عارا على من يغزو لغيره، وألا تخرجوا بأرض تسموا بها بعد اليوم، ولا تستعجلوا ضلال العام خشية ضلال عام قابل. فقال له ابن الكواء: إن صاحبك لقينا بأمر قولك فيه صغير، فامسك. قالوا: إن عليا خرج بعد ذلك إليهم فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يا بن الكواء، إنه من أذنب في هذا الدين ذنبا يكون في الإسلام حدثا استتبناه من ذلك الذنب بعينه، وإن توبتك أن تعرف هدى ما خرجت منه وضلال ما دخلت فيه. قال ابن الكواء: إننا لا ننكر أنا قد فتنا. فقال له عبد الله بن عمرو بن جرموز: أدركنا والله هذه الآية " ألم.أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " وكان عبد الله من قراء أهل حروراء، فرجعوا فصلوا خلف علي الظهر، وانصرفوا معه إلى الكوفة، ثم اختلفوا بعد ذلك في رجعتهم، ولام بعضهم بعضا. فقال زيد بن عبد الله الراسبي، وكان من أهل حروراء، يشككهم:
شككتم ومن أرسى ثبيرا مكانه ... ولو لم تشكوا ما أنثنيتم عن الحرب
وتحكيمكم عمرا على غير توبة ... وكان لعبد الله خطبا من الخطب
فأنكصه للعقب لما خلا به ... فأصبح يهوى من ذرى حالق صعب
وقال الرياحي:
ألم تر أن الله أنزل حكمه ... وعمر و وعبد الله مختلفان
وقال مسلم بن يزيد الثقفي، وكان من عباد حروراء:
إن كان ما عبناه عيبا فحسبنا ... خطايا بأخذ النصح من غير ناصح
إن كان عيبا فاعظمن بتركنا ... عليا على أمر من الحق واضح
نحن أناس بين بين وعلنا ... سررنا بأمر غبه غير صالح
ثم خرجوا على علي فقتلهم بالنهروان.
خروج عبد الله بن عباس على علي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:35 pm

قال أبو بكر بن أبي شيبة: كان عبد الله بن عباس من أحب الناس إلى عمر بن الخطاب، وكان يقدمه على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يستعمله قط، فقال له يوما: كدت استعملك ولكن أخشى أن تستحل الفيء على التأويل. فلما صار الأمر إلى علي استعمله على البصرة. فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى " واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " واستحله من قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أبو مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن عبد الرحمن بن عبيد قال: مر ابن عباس على أبي الأسود الدؤلي فقال له: لو كنت من البهائم لكنت جملا، ولو كنت راعيا ما بلغت المرعى. فكتب أبو الأسود إلى علي: أما بعد. فإن الله جعلك واليا مؤتمنا، وراعيا مسؤولا، وقد بلوناك، رحمك الله، فوجدناك عظيم الأمانة، ناصحا للأمة، توفر لهم فيئهم، وتكف نفسك عن دنياهم، فلا تأكل أموالهم، ولا ترتشي بشيء في أحكامهم. وابن عمك قد أكل ما تحت يديه من غير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك. فانظر، رحمك الله، فيما هنالك، وأكتب إلي برأيك، فما أحببت أتبعه إن شاء الله. والسلام. فكتب إليه علي: أما بعد. فمثلك نصح الإمام والأمة، ووالى على الحق، وفارق الجور. وقد كتبت لصاحبك بما كتبت إلي فيه، ولم أعلمه بكتابك إلي. فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب لله عليك. والسلام. وكتب علي إلى ابن عباس: أما بعد. فإنه قد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت الله، وأخربت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين. بلغني أنك خربت الأرض، وأكلت ما تحت يدك. فارفع إلي حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس. والسلام. وكتب إليه ابن عباس: أما بعد. فإن كل الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي ضابط، وعليه حافظ، فلا تصدق علي الظنين. فكتب إليه علي: أما بعد. فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية من أين أخذته، وما وضعت منها أين وضعته. فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك إياه، فإن المتاع بما أنت رازمه قليل، وتبعاته وبيلة لا تبيد. والسلام. فلما رأى أن عليا غير مقلع عنه، كتب إليه: أما بعد. فإنه بلغني تعظيمك علي مرزئة مال بلغك أني رزأته أهل هذه البلاد. وايم الله، لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ومخبئها، وبما على ظهرها من طلاعها ذهبا، أحب إلي من أن ألقي الله وقد سفكت دماء هذه الأمة لأنال بذلك الملك والإمرة. ابعث إلى عملك من أحبيت فإني ظاعن. والسلام. فلما أراد عبد الله المسير من البصرة دعا أخواله بني هلال بن عامر بن صعصعة ليمنعوه. فجاء الضحاك بن عبد الله الهلالي فأجاره، ومعه رجل منهم يقال له: عبد الله بن رزين. وكان شجاعا بئيسا، فقالت بنو هلال: لا غنى بنا عن هوازن. فقالت هوازن: لا غنى بنا عن بني سليم. ثم أتتهم قيس. فلما رأى اجتماعهم له حمل ما كان في بيت مال البصرة، وكان فيما زعموا ستة آلاف ألف، فجعله في الغرائر. قال: فحدثني الأزرق اليشكري، قال: سمعنا أشياخنا من أهل البصرة قالوا: لما وضع المال في الغرائر ثم مضى به، تبعته الأخماس كلها بالطف، على أربع فراسخ من البصرة، فوافقوه. فقالت لهم قيس: والله لا تصلوا إليه ومنا عين تطرف. فقال ضمرة، وكان رأس الأزد: والله إن قيسا لإخوتنا في الإسلام، - وجيراننا في الدار، وأعواننا على العدو. إن الذي تذهبون به المال، لو رد عليكم لكان نصيبكم منه الأقل، وهم خير لكم من المال. قالوا: فما ترى؟ قال: انصرفوا عنهم. فقالت بكر بن وائل وعبد القيس: نعم الرأي رأي ضمرة، واعتزلوهم. فقالت بنو تميم: والله لا نفارقهم حتى نقاتلهم عليه. فقال الأحنف بن قيس: أنتم والله أحق ألا تقاتلوهم عليه، وقد ترك قتالهم من هو أبعد منكم رحما. قالوا: والله لنقاتلنهم. فقال: والله لا نعاونكم على قتالهم، وانصرف عنهم. فقدم عليهم ابن المجاعة فقاتلهم. فحمل عليه الضحاك ابن عبد الله فطعنه في كتفه فصرعه، فسقط

(2/121)

إلى الأرض بغير قتل. وحمل سلمة بن ذؤيب السعدي على الضحاك فصرعه أيضا، وكثرت بينهم الجراح من غير قتل. فقال الأخماس الذين - اعتزلوا: والله ما صنعتم شيئا. اعتزلتم قتالهم وتركتموهم يتشاجرون. فجاءوا حتى صرفوا وجوه بعضهم عن بعض، وقالوا لبني تميم: والله إن هذا اللؤم قبيح، لنحن أسخى أنفسا منكم حين تركنا أموالنا لبني عمكم، وأنتم تقاتلونهم عليها، خلوا عنهم وأرواحهم، فإن القوم فدحوا. فانصرفوا عنهم، ومضى معه ناس من قيس، فيهم الضحاك بن عبد الله وعبد الله بن رزين، حتى قدموا الحجاز، فنزل مكة، فجعل راجز لعبد الله بن عباس يسوق له في الطريق ويقول:لى الأرض بغير قتل. وحمل سلمة بن ذؤيب السعدي على الضحاك فصرعه أيضا، وكثرت بينهم الجراح من غير قتل. فقال الأخماس الذين - اعتزلوا: والله ما صنعتم شيئا. اعتزلتم قتالهم وتركتموهم يتشاجرون. فجاءوا حتى صرفوا وجوه بعضهم عن بعض، وقالوا لبني تميم: والله إن هذا اللؤم قبيح، لنحن أسخى أنفسا منكم حين تركنا أموالنا لبني عمكم، وأنتم تقاتلونهم عليها، خلوا عنهم وأرواحهم، فإن القوم فدحوا. فانصرفوا عنهم، ومضى معه ناس من قيس، فيهم الضحاك بن عبد الله وعبد الله بن رزين، حتى قدموا الحجاز، فنزل مكة، فجعل راجز لعبد الله بن عباس يسوق له في الطريق ويقول:
صبحت من كاظمة القصر الخرب ... مع ابن عباس بن عبد المطلب
وجعل ابن عباس يرتجز ويقول:
آوي إلى أهلك يا رباب ... آوي فقد حان لك الإياب
وجعل أيضا يرتجز ويقول:
وهن يمشين بناء. هميسا ... إن يصدق الطير ننك لميسا
فقيل له: يا أبا العباس، أمثلك يرفث في هذا الموضع؟ قال: إنما الرفث ما يقال عند النساء. قال أبو محمد: فلما نزل مكة اشترى من عطاء بن جبير مولى بني كعب، من جواريه ثلاث مولدات حجازيات، يقال لهن: شاذن، وحوراء، وفتون. بثلاثة آلاف دينار.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:36 pm

وقال سليمان بن أبي راشد عن عبد الله بن عبيد عن أبي الكنود قال: كنت من أعوان عبد الله بالبصرة، فلما كان من أمره ما كان أتيت عليا فأخبرته فقال: " واتل عليه نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " . ثم كتب معه إليه: أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي، ولم يكن من أهل بيتي رجل أوثق عندي منك بمواساتي ومؤزرتي بأداء الأمانة، فلما رأيت الزمان قد كلب على ابن عمك، والعدو قد حرد، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت لابن عمك ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان، وخنته مع من خان. فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة إليه أديت، كأنك لم تكني على بينة من ربك، وإنما كدت أمة محمد عن دنياهم، وغدرتهم عن فيئهم. فلما أمكنتك الفرصة في خيانة الأمة، أسرعت الغدرة، وعالجت الوثبة، فاختطفت ما قدرت عليه من أموالهم، وانقلبت بها إلى الحجاز، كأنك إنما حزت عن أهلك ميراثك من أبيك وأمك. سبحان الله! أما تؤمن بالمعاد، أما تخاف الحساب! أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما! وتشتري الإماء وتنكحهم بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين في سبيل الله، التي أفاء الله عليهم! فاتق الله وأد إلى القوم، أموالهم، فإنك والله لئن لم تفعل وأمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك. فوالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة، ولما تركتهما حتى أخذ الحق منهما. والسلام. فكتب إليه ابن عباس: أما بعد. فقد بلغني كتابك تعظم علي أمانة المال الذي أصبت من بيت مال البصرة. ولعمري إن حقي في بيت مالك الله أكثر من الذي أخذت. والسلام. فكتب إليه علي: أما بعد، فإن العجب كل العجب منك، إذ ترى لنفسك في بيت مال الله أكثر مما لرجل من المسلمين، قد أفلحت إن كان تمنيك الباطل وادعاءك مالا يكون ينجيك من الإثم، ويحل لك ما حرم الله عليك. عمرك الله! إنك لأنت البعيد، قد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا، وضربت بها عطنا، تشتري المولدات من المدينة والطائف، وتختارهن على عينك، وتعطي بهن مال غيرك. وإني أقسم بالله ربه وربك رب العزة، ما أحب أن ما أخذت من أموالهم لي حلالا أدعه ميراثا لعقبي. فما بال اغتباطك به تأكله حراما! ضح رويدا. فكأنك قد بلغت المدى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادى فيه بالحسرة، ويتمنى المضيع التوبة، والظالم الرجعة. فكتب إليه ابن عباس: والله لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملنه إلى معاوية يقاتلك به. فكف عنه علي.
مقتل علي بن أبي طالب
رضي الله عنه

(2/123)

سفيان بن عيينة قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يخرج بالليل إلى المسجد. فقال أناس من أصحابه: نخشى أن يصيبه بعض عدوه، ولكن تعالوا نحرسه. فخرج ذات ليلة فإذا هو بنا. فقال: ما شأنكم؟ فكتمناه. فعزم علينا. فأخبرناه. فقال: تحرسوني من أهل السماء أو من أهل الأرض؟ قلنا: من أهل الأرض. قال: إنه ليس يقضى في الأرض حتى يقضى في السماء. التميمي بإسناد له قال: لما تواعد ابن ملجم وصاحباه بقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، دخل ابن ملجم المسجد في بزوغ الفجر الأول، فدخل في الصلاة تطوعا، ثم افتتح في القراءة، وجعل يكرر هذه الآية " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " . فأقبل ابن أبي طالب بيده مخفقة، وهو يوقظ الناس للصلاة، ويقول: أيها الناس، الصلاة الصلاة. فمر بابن ملجم وهو يردد هذه الآية، فظن علي أنه ينسى فيها، ففتح عليه، فقال: والله رؤوف بالعباد. ثم انصرف على وهو يريد أن يدخل الدار، فاتبعه فضربه على قرنه، ووقع السيف في الجدار، فأطار فدرة من آخره، فابتدره الناس فأخذوه، ووقع السيف منه، فجعل يقول: أيها الناس، احذروا السيف فإنه مسموم. قال: فأتي به علي فقال: احبسوه ثلاثا وأطعموه واسقوه، فإن أعش أر فيه رأي، وإن أمت فاقتلوه ولا تمثلوا به. فمات من تلك الضربة. فأخذه عبد الله بن جعفر فقطع يديه ورجليه، فلم يفزع، ثم أراد قطع لسانه ففزع. فقيل له: لم لم تفزع لقطع يديك ورجليك وفزعت لقطع لسانك؟ قال: إني أكره أن لا تمر بي ساعة لا أذكر الله فيها. ثم قطعوا لسانه وضربوا عنقه. وتوجه الخارجي الآخر إلى معاوية فلم يجد إليه سبيلا. وتوخه الثالث إلى عمرو فوجده قد أغفل تلك الليلة فلم يخرج إلى الصلاة، وقدم مكانه رجلا يقال له خارجة، فضربه الخارجي بالسيف وهو يظنه عمرو بن العاص، فقتله. فأخذه الناس، فقالوا: قتلت خارجة. قال: أو ليس عمرا؟ قالوا له: لا. قال: أردت عمرا وأراد الله خارجة. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: ألا أخبرك بأشد الناس عذابا يوم القيامة؟ قال: أخبرني يا رسول الله. قال: فإن أشد الناس عذابا يوم القيامة عاقر ناقة ثمود، وخاضب لحيتك بدم رأسك.
وقال كثير عزة:
ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة العهد أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى عنهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء
قال الحسن بن علي صبيحة الليلة التي قتل فيها في بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثني أبي البارحة في هذا المسجد، فقال: يا بني، إني صليت البارحة ما رزق الله، ثم نمت نومة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوت له ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال لي: ادع الله أن يريحك منهم، فدعوت الله. وقال الحسن صبيحة تلك الليلة: أيها الناس، إنه قتل فيكم الليلة رجل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا ينثني حتى يفتح الله له، ما ترك إلا ثلثمائة درهم.
خلافة الحسن بن علي

(2/124)

ثم بويع للحسن بن علي. وأمه فاطمة بنت رسوله الله صلى الله عليه وسلم، في شهر رمضان سنة أربعين من التاريخ، فكتب إليه ابن عباس: إن الناس قد ولوك أمرهم بعد علي، فاشدد عن يمينك، وجاهد عدوك، واستر من الظنين ذنبه بما لا يثلم دينك، واستعمل أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم. ثم اجتمع الحسن بن علي ومعاوية بمسكن، من أرض السواد من ناحية الأنبار، واصطلحا، وسلم الحسن الأمر إلى معاوية، وذلك في شهر جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، ويسمى عام الجماعة. فكانت ولاية الحسن سبعة أشهر وسبعة أيام، ومات الحسن في المدينة سنة تسع وأربعين، وهو ابن ست وأربعين سنة. وصلى عليه سعيد بن العاص، وهو والي المدينة. وأوصى أن يدفن مع جده وفي بيت عائشة، فمنعه مروان بن الحكم فردوه إلى البقيع. وقال أبو هريرة لمروان: علام تمنع أن يدفن مع جده؟ فلقد أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال له مروان: لقد ضيع الله، حديث نبيه إذ لم يروه غيرك. قال: أما إنك إذ قلت ذلك لقد صحبته حتى عرفت من أحب ومن أبغض، ومن نفى ومن أقر، ومن دعا له ومن دعا عليه. ولما بلغ معاوية موت الحسن بن علي خر ساجدا لله، ثم أرسل إلى ابن عباس، وكان معه في الشام، فعزاه وهو مستبشر، وقال له: ابن كم سنة مات أبو محمد؟ فقال له: سنه كان يسمع في قريش، فالعجب من أن يجهله مثلك! قال: بلغني أنه ترك أطفالا صغارا. قال: كل ما كان صغيرا يكبر، وإن طفلنا لكهل، وإن صغيرنا لكبير. ثم قال: مالي أراك يا معاوية مستبشرا بموت الحسن ابن علي؟ فوالله لا ينسأ في أجلك، ولا يسد حفرتك، وما أقل بقاءك وبقاءنا بعده. ثم خرج ابن عباس، فبعث إليه معاوية ابنه يزيد، فقعد بين يديه فعزاه واستعبر لموت الحسن، فلما ذهب أتبعه ابن عباس بصره، وقال: إذا ذهب آل حرب ذهب الحلم من الناس. ثم اجتمع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة، فبايعه أهل الأمصار كلها، وكتب بينه وبين الحسن كتابا وشروطا، ووصله بأربعين ألفا. وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة أنه قال له: والله لأجيزنك بجائزة ما أجزت بها أحدا فبلك، ولا أجيز بها أحدا بعدك، فأمر له بأربعمائة ألف.
خلافة معاوية
هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وكنيته أبو عبد الرحمن، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. ومات معاوية بدمشق يوم الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين، وصلى عليه الضحاك بن قيس، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، ويقال ابن ثمانين سنة. كانت ولايته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة وعشرين يوما. صاحب شرطته يزيد بن الحارث العبسي. وعلى حرسه - وهو أود من اتخذ حرسا - رجل من الموالي يقال له المختار. وحاجبه سعد، مولاه. وعلى القضاء أبو إدريس الخولاني. وولد له عبد الرحمن وعبد الله، مات فاختة بنت قرظة. أما عبد الرحمن فمات صغيرا، وأما عبد الله فمات كبيرا، وحنان ضعيفا ولا عقب له من الذكور. وكان له بنت يقال لها عاتكة، تزوجها يزيد بن عبد الملك، وفيها يقول الشاعر.
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل
ويزيد بن معاوية، وأمه ابنة بحدل، كلبية.
فضائل معاوية

(2/125)

ذكر عمرو بن العاص معاوية فقال: احذروا قرم قريش وابن كريمها، من يضحك عند الغضب، ولا ينام إلا على الرضا، ويتناول ما فوقه من تحته. سئل عبد الله بن عباس عن معاوية، فقال: سما بشيء أسرة، واستظهر عليه بشيء أعلنه، فحاول ما أسر بما أعلن فناله. كان حلمه قاهرا لغضبه، وجوده غالبا على منعه، يصل ولا يقطع، ويجمع ولا يفرق، فاستقام له أمره، وجرى إلى مدته. قيل: فأخبرنا عن ابنه. قال: كان في خير سبيله، وكان أبوه قد أحكمه، وأمره ونهاه، فتعلق بذلك، وسلك طريقا مذللا له. وقال معاوية: لم يكن في الشباب شيء إلا كان مني فيه مستمتع، غير أني لم أكن صرعة ولا نكحة ولا سبا. قال الأصمعي: الحب: كثير السباب: ميمون بن مهران قال: كان أول من جلس بين الخطبتين معاوية، وأول من وضع شرف العطاء ألفين معاوية وقال معاوية: لا زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاوية، إذا ملكت فأحسن. العتبي عن أبيه قال: قال معاوية لقريش: ألا أخبركم عني وعنكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنا أطير إذا وقعتم، وأقع إذا طرتم، ولو وافق طيراني طيرانكم سقطنا جميعا. قال معاوية: لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبدا. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، ماذا أرخوها مددتها. وقال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية قط إلا في أمر واحد، طلبت رجلا منة عمالي كسر علي الخراج فلجأ إليه، فكتبت إليه: إن هذا فساد عملي وعملك. فكتب إلي: إنه لا ينبغي لنا أن نسوس الناس سياسة واحدة، لا نلين جميعا فيمرح الناس في المعصية، ولا نشتد جميعا فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.
أخبار معاوية
قدم معاوية المدينة بعد عام الجماعة، فدخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان وبكت ونادت أباها. فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا ذلا تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه، ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا. لأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس.

(2/126)

القحذمي قال: لما قدم معاوية المدينة قال: أيها الناس، إن أبا بكر رضي الله عنه لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته ولم يردها، وأما عثمان فنال منها ونالت منه، وأما أنا فمالت بي وملت بها، وأنا ابنها، فهي أمي وأنا ابنها، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم. ثم نزل. قال جويرية بن أسماء. نال بسر بن أرطأة من علي بن أبي طالب عند معاوية، وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلا بسرا ضربا حتى شجه. فقال معاوية: يا زيد، عمدت إلى شيخ قريش وسيد أهل الشام فضربته! وأقبل على بسر وقال: تشتم عليا وهو جده وأبوه الفاروق على رؤوس الناس! أفكنت تراه يصبر على شتم علي! وكانت أم زيد أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب. ولما قدم معاوية مكة، وكان عمر قد استعمله عليها، دخل على أمه هند، فقالت له: يا بني. إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني. إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخيرنا، فصرنا أتباعا وصاروا قادة، وقد قلدوك جسيما من أمرهم، فلا تخالفن رأيهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفست فيه. قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ. العتبي عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قدم الشام على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب نبيل، فجاوز عمر حتى أخبر فرجع إليه، فلما قرب منه نزل، فأعرض عنه عمر، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا. فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذلك؟ قال: لأنا في بلاد لا يمتنع فيها من جواسيس العدو، فلا بد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. قال: لئن كان الذي قلت حقا فإنه رأي أريب، ولئن كان باطلا فإنها خدعة أحب، ولا أمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر من هذا الفتى عما أوردته فيه. قال: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه. وقال معاوية لابن الكواء: يا بن الكواء، أنشدك الله، ما علمك في؟ قال: أنشدتني الله! ما أعلمك إلا واسع الدنيا ضيق الآخرة. ولما مات الحسن بن علي حج معاوية، فدخل المدينة وأراد أن يلعن عليا على منبر رسول الله صلى عليه وسلم. فقيل له: إن هاهنا سعد بن أبي وقاص، ولا نراه يرضى بهذا، فابعث إليه وخذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك. فقال: إن فعلت لأخرجن من المسجد، ثم لا أعود إليه. فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد. فلما مات لعنه على المنبر، وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر، ففعلوا. فكتبت أم سلمة زوج النبي صلى عليه وسلم إلى معاوية: إنكم تلعن الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله، فلم يلتفت إلى كلامها. وقالت بعض العلماء لولده: يا بني، إن الدنيا لم تبن شيئا إلا هدمه الدين، وإن الدين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، ألا ترى أن قوما لعنوا عليا ليخفضوا منه فكأنما أخذوا بناصيته جرا إلى السماء. ودخل صعصعة بن صوحان على معاوية ومعه عمرو بن العاص جالس على سريره، فقال: وسع له على ترابية فيه. فقال صعصعة: إني والله لترابي، منه خلقت، وإليه أعود، ومنه أبعث، وإنك لمارج من مارج من نار. العتبي عن أبيه، قال قال معاوية لعمرو بن العاص: ما أعجب الأشياء؟ قال غلبة من لا حق له ذا الحق على حقه. قال معاوية: أعجب من ذلك أن يعطى من لا حق له ما ليس له بحق من غير غلبة. وقال معاوية: أعنت على علي بأربعة، كنت أكتم سري وكان رجلا يظهره، وكنت في أصلح جند وأطوعه وكان في أخبث جند وأعصاه، وتركته وأصحاب الجمل وقلت: إن ظفروا به كانوا أهون علي منه، وإن ظفر بهم اغتر بها في دينه، وكنت أحب إلى قريش منه. فيالك من جامع إلي ومفرق عنه!

(2/127)

العتبي قال: أراد معاوية أن يقدم ابنه يزيد على الصائفة، فكره ذلك يزيد، فأبى معاوية إلى أن يفعل، فكتب إليه يزيد يقول:
نجي لا يزال يعد ذنبا ... لتقطع وصل حبلك من حبالي
فيوشك أن يريحك من أذاتي ... نزولي في المهالك وارتحالي
وتجهز للخروج، فلم يتخلف عنه أحد، حتى كان فيمن خرج أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال العتبي: وحدثني أبو إسحاق إبراهيم قال: أرسل معاوية إلى ابن عباس، قال: يا أبا العباس، إن أحببت خرجت مع ابن أخيك فيأنس بك ويقربك وتشير عليه برأيك. ولا يدخل الناس بينك وبينه فيشغلوا كل واحد منكما عن صاحبه. وأقل من ذكر حقك؛ فإنه إن كان لك فقد تركته لمن هو أبعد منا حبا، وإن لم يكن لك فلا حاجة بك إلى ذكره، مع أنه صائر إليك، وكل آت قريب، ولتجدن، إذا كان ذلك، خيرا لكم منا.
فقال ابن العباس: والله لئن عظمت عليك النعمة في نفسك لقد عظمت عليك في يزيد، وأما ما سألتني من الكف عن ذكر حقي، فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن أنتصر بلساني. ولئن صار هذا الأمر إلينا ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك لا يرى أهلك إلا ما يحبون.
قال: فخرج يزيد، فلما صار على الخليج ثقل أبو أيوب الأنصاري، فأتاه يزيد عائدا، فقال: ما حاجتك أبا أيوب؟ فقال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها، ولكن قدمني ما استطعت في بلاد العدو، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدفن عند سور القسطنطينية رجل صالح، أرجو أن أكون هو. فلما مات أمر يزيد بتكفينه وحمل على سريره، ثم أخرج الكتائب. فجعل قيصر يرى سريرا يحمل والناس يقتتلون. فأرسل إلى يزيد: ما هذا الذي أرى؟ قال: صاحب نبينا وقد سألنا أن تقدمه في بلادك، ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله. فأرسل إليه: العجب كل العجب: كيف يدهى الناس أباك وهو يرسلك، فتعمد إلى صاحب نبيك فتدفنه في بلادنا، فإذا وليت أخرجناه إلى الكلاب! فقال يزيد: إني والله ما أردت أن أودعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له، لئن بلغني أنه نبش من قبره أو مثل به، لا تركت بأرض العرب نصرانيا إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها. فبعث إليه قيصر: أبوك كان أعلم بك، فوحق المسيح لأحفظته بيدي سنة. فلقد بلغني أنه بني على قبره قبة يسرج فيها إلى اليوم.
طلب معاوية البيعة ليزيد
أبو الحسن المدائني قال: لما مات زياد، وذلك سنة ثلاث وخمسين، أظهر معاوية عهدا مفتعلا، فقرأه على الناس، فيه عقد الولاية ليزيد بعده، وإنما أراد أن يسهل بذلك بيعة يزيد. فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور، ويعطى الأقارب ويداني الأباعد، حتى استوثق له من أكثر الناس. فقال لعبد الله بن الزبير: ما ترى في بيعة يزيد؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تتقدم. وتفكر قبل أن تندم، فإن النظر قبل التقدم، والتفكر قبل التندم. فضحك معاوية وقال: ثعلب رواغ، تعلمت السجع عند الكبر، في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك. ثم التفت إلى الأحنف فقال: ما ترى في بيعة يزيد؟ قال: نخافكم إن صدقناكم، ونخاف الله إن كذبنا.

(2/128)

فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه. فوفد عليه من كل مصر قوم. وكان فيمن وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية وقال له: ما ترى في بيعة يزيد؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصبح اليوم على الأرض أحد هو أحب إلي رشدا من نفسك سوى نفسي، وإن يزيد أصبح غنيا في المال، وسيطا في الحسب، وإن الله سائل كل راع عن رعيته، فاتق الله وانظر من تولى أمر أمة محمد. فأخذ معاوية بهر حتى تنفس الصعداء، وذلك في يوم شات، ثم قال: يا محمد، إنك امرؤ ناصح، قلت برأيك ولم يكن عليك إلا ذاك. ثم، قال معاوية: إنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، فابني أحب إلي من أبنائهم، اخرج عني. ثم جلس معاوية في أصحابه وأذن للوفود، فدخلوا عليه، وقد تقدم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد، فكان أول من تكلم الضحاك بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لا بد للناس من وال بعدك، والأنفس يغدى عليها ويراح. وإن الله قال: كل يوم هو في شان. ولا ندري ما يختلف به العصران، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن معدنه، وقصد سيرته، من أفضلنا حلما، وأحكمنا علما، فوله عهدك، واجعله لنا علما بعدك. وإنا قد بلونا الجماعة والألفة فوجدناه أحقن للدماء، وآمن للسبل، وخيرا في العاجلة والآجلة. ثم تكلم عمرو بن سعيد فقال: أيها الناس، إن يزيد أمل تأملونه، وأجل تأمنونه؛ طويل الباع، رحب الذراع، إذا صرتم إلى عدله وسعكم، وإن طلبتم رفده أغناكم؛ جذع قارح، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع، خلف من أمير المؤمنين ولا خلف منه. فقال: اجلس أبا أمية، فلقد أوسعت وأحسنت. ثم قام يزيد بن المقفع فقال: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد، فمن أي فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: اجلس، فإنك سيد الخطباء. ثم تكلم الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة، فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك، فلا تزوده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة. قال: فتفرق الناس ولم يذكروا إلا كلام الأحنف. قال: ثم بايع الناس ليزيد بن معاوية، فقال رجل، وقد دعي إلى البيعة: اللهم إني أعوذ بك من شر معاوية. فقال له معاوية: تعوذ من شر نفسك، فإنه أشد عليك، وبايع. قال: إني أبايع وأنا كاره للبيعة. قال له معاوية: بايع أيها الرجل فإن الله يقول: " فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " . ثم كتب إلى مروان بن الحكم، عامله على المدينة: أن ادع أهل المدينة إلى بيعة يزيد، فإن أهل الشام والعراق قد بايعوا. فخطبهم مروان فحضهم على الطاعة وحذرهم الفتنة ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال: سنه أبي بكر الهادية المهدية. فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر: كذبت! إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة، وبايع لرجل من بني عدي، رضي دينه وأمانته، واختاره لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. فقال مروان: أيها الناس، إن هذا المتكلم هو الذي أنزل الله فيه: " والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي " . فقال له عبد الرحمن: يا بن الزرقاء، أفينا تتأول القرآن! وتكلم الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر وأنكروا بيعة يزيد، وتفرق الناس. فكتب مروان إلى معاوية بذلك. فخرج معاوية إلى المدينة في ألف، فلما قرب منها تلقاه الناس، فلما نظر إلى الحسين قال: مرحبا بسيد شباب المسلمين، قربوا دابة لأبي عبد الله. وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر: مرحبا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق. وقال لابن عمر: مرحبا بصاحب رسول الله وابن الفاروق. وقال لابن الزبير: مرحبا بابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ودعا لهم بدواب فحملهم عليها. وخرج حتى أتى مكة فقضى حجه، ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدمت، وأمر بالمنبر فقرب من الكعبة، وأرسل إلى الحسين وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير فاجتمعوا. وقالوا لابن الزبير: اكفنا كلامه، فقال: على أن لا تخالفوني. قالوا: لك ذلك، ثم أتوا

(2/129)

معاوية، فرحب بهم وقال لهم: قد علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وإنما أردت أن أقدمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون. فسكتوا، وتكلم ابن الزبير، فقال: نخيرك بين إحدى ثلاث، أيها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار: فإن شئت فاصنع فينا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبضه الله ولم يستخلف، فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم، وإن شئت فما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلا؛ وإن شئت فما صنع عمر، صيرها إلى ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم وترك ولده وأهل بيته وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا. قال معاوية: هل غير هذا؟ قال: لا. ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن على ما قال ابن الزبير. فقال معاوية: إني أتقدم إليكم، وقد أعذر من أنذر، إني قائل مقالة، فأقسم بالله لئن رد علي رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقى إلا عليها. وأمر أن يقوم على رأس كل رجل منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يرد بها عليه قوله قتلاه. وخرج وأخرجهم معه حتى رقي المنبر، وحف به أهل الشام، واجتمع الناس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، قالوا: إن حسينا وابن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نبرم أمرا دونهم، ولا نقضي أمرا إلا عن مشورتهم، وإني دعوتهم فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا وسلموا وأطاعوا. فقال أهل الشام: وما يعظم من أمر هؤلاء، ائذن لنا فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية! فقال معاوية: سبحان الله! ما أسرع الناس إلى قريش بالشر وأحلى دماءهم عندهم! أنصتوا، فلا أسمع هذه المقالة من أحد. ودعا الناس إلى البيعة فبايعوا. ثم قربت رواحله، فركب ومضى. فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم: لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم! قالوا لم نفعل. قالوا: بلى، قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم! قالوا: خفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم.وية، فرحب بهم وقال لهم: قد علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وإنما أردت أن أقدمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون. فسكتوا، وتكلم ابن الزبير، فقال: نخيرك بين إحدى ثلاث، أيها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار: فإن شئت فاصنع فينا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبضه الله ولم يستخلف، فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم، وإن شئت فما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلا؛ وإن شئت فما صنع عمر، صيرها إلى ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم وترك ولده وأهل بيته وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا. قال معاوية: هل غير هذا؟ قال: لا. ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن على ما قال ابن الزبير. فقال معاوية: إني أتقدم إليكم، وقد أعذر من أنذر، إني قائل مقالة، فأقسم بالله لئن رد علي رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقى إلا عليها. وأمر أن يقوم على رأس كل رجل منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يرد بها عليه قوله قتلاه. وخرج وأخرجهم معه حتى رقي المنبر، وحف به أهل الشام، واجتمع الناس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، قالوا: إن حسينا وابن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نبرم أمرا دونهم، ولا نقضي أمرا إلا عن مشورتهم، وإني دعوتهم فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا وسلموا وأطاعوا. فقال أهل الشام: وما يعظم من أمر هؤلاء، ائذن لنا فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية! فقال معاوية: سبحان الله! ما أسرع الناس إلى قريش بالشر وأحلى دماءهم عندهم! أنصتوا، فلا أسمع هذه المقالة من أحد. ودعا الناس إلى البيعة فبايعوا. ثم قربت رواحله، فركب ومضى. فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم: لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم! قالوا لم نفعل. قالوا: بلى، قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم! قالوا: خفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم.

(2/130)

وفاة معاوية
عن الهيثم بن عدي قال: لما حضرت معاوية الوفاة، ويزيد غائب، دعا الضحاك بن قيس الفهري ومسلم بن عقبة المري، فقال: أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر إلى أهل الحجاز فهم أصلك وعترتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده. وانظر أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله، فإن عزل عامل واحد أهون من سل مائة ألف سيف، ولا تدري على من تكون الدائرة؟ ثم انظر إلى أهل الشام فاجعلهم الشعار دون الدثار، فإن رابك من عدوك ريب فارمه بهم؛ ثم اردد أهل الشام إلى بلدهم، ولا يقيموا في غيره فيتأدبوا بغير أدبهم. لست أخاف عليك إلا ثلاثة: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر. فأما الحسين بن علي، فأرجو أن يكفيكه الله، فإنه قتل أباه وخذل أخاه؛ وأما ابن الزبير، فإنه خب ضب، وإن ظفرت به فقطعه إربا إربا؟ وأما ابن عمر، فإنه رجل قد وقذه الورع، فخل بينه وبين آخرته يخل بينك وبين دنياك. ثم أخرج إلى يزيد بريدا بكتاب يستقدمه ويستحثه. فخرج مسرعا. فتلقاه يزيد، فأخبره بموت معاوية، فقال يزيد:
جاء البريد بقرطاس يخب به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أغبر من أركانها انقلعا
ثم انبعثنا إلى خوص مزممة ... نرمي العجاج بها ما نأتلي سرعا
فما نبالي إذا بلغن أرحلنا ... ما مات منهن بالموماة أو ظلعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه ... كذاك كنا جميعا قاطنين معا
أغر أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا
ا يرقع الناس ما أوهى ولو جهدوا ... أن يرقعوه ولا يوهون ما رقعا
قال محمد بن عبد الحكم: قال الشافعي: سرق هذين البيتين من الأعشى. ابن دأب قال: لما هلك معاوية خرج الضحاك بن قيس الفهري وعلى عاتقه ثياب حتى وقف إلى جانب المنبر، ثم قال: أيها الناس، إن معاوية كان إلف العرب وملكها، أطفأ الله به الفتنة، وأحيا به السنة، وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومخلون بينه وبين ربه، فمن أراد حضوره صلاة الظهر فليحضره. وصلى عليه الضحاك بن قيس الفهري. ثم قدم يزيد من يومه ذلك، فلم يقدم أحد على تعزيته، حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي فقال:
اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا
لا رزء أعظم في الأقوام قد علموا ... مما رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت راعي أهل الأرض كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا بقيت فلا نسمع بمنعاكا
فافتتح الخطباء الكلام. ثم دخل يزيد فأقام ثلاثة أيام لا يخرج للناس، ثم خرج وعليه أثر الحزن، فصعد المنبر، وأقبل الضحاك فجلس إلى جانب المنبر وخاف عليه الحصر. فقال له يزيد: يا ضحاك، أجئت تعلم بني عبد شمس الكلام! ثم قام خطيبا فقال: الحمد لله الذي ما شاء صنع، من شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع. إن معاوية بن أبي سفيان كان حبلا من حبال الله، مده الله ما شاء أن يمده، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه، فكان دون من قبله، وخيرا ممن يأتي بعده، ولا أزكيه وقد صار إلى ربه، فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعذبه فبذنبه. وقد وليت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا أني عن طلب، وعلى رسلكم، إذا كره الله شيئا غيره، وإذا أراد شيئا يسره.
خلافة يزيد بن معاوية ونسبه وصفته
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:37 pm

هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة، بن قنافة، أحد بني حارثة بن جناب. وكنيته أبو خالد، وكان آدم جعدا مهضوما أحور العين، بوجهه آثار جدري، حسن اللحية خفيفها، ولي الخلافة في رجب سنة ستين، ومات في النصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، ودفن بحوارين، خارجا من المدينة. وكانت ولايته أربع سنين وأياما. وكان على شرطته حميد بن حريث بن بحدل. وكاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور. وعلى القضاء أبو إدريس الخولاني. وعلى الخراج مسلمة بن حديدة الأزدي.
أولاد يزيد: معاوية وخالد وأبو سفيان، وأمهم فاختة بنت بي هاشم بن عتبة بن ربيعة، وعبد الله وعمرو، أمهما أم كلثوم بنت عبد الله بن عباس. وكان عبد الله ولده ناسكا، وولده خالد عالما، لم يكن في بني أمية أزهد من هذا ولا أعلم من هذا. الأصمعي عن أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان، أبوها خليفة، وجدها معاوية خليفة، وأخوها معاوية بن يزيد خليفة، وزوجها عبد الملك بن مروان خليفة، وأرباؤها: الوليد وسليمان وهشام، خلفاء
مقتل الحسين بن علي

(2/132)

علي بن عبد العزيز قال: قرأ علي أبو عبيد القاسم بن سلام وأنا أسمع، فسألته: نروي عنك كما قرىء عليك؟ قال: نعم. قال أبو عبيد: لما مات معاوية بن أبي سفيان وجاءت وفاته إلى المدينة، وعليها يومئذ الوليد بن عتبة، فأرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، فدعاهما إلى البيعة ليزيد، فقالا: بالغد إن شاء الله على رؤوس الناس، وخرجا من عنده. فدعا الحسين برواحله، فركبها وتوجه نحو مكة على المنهج الأكبر، وركب ابن الزبير برذونا له وأخذ طريق العرج حتى قدم مكة. ومر حسين حتى أتى على عبد الله بن مطيع وهو على بئر له، فنزل عليه، فقال للحسين: يا أبا عبد الله، لا سقانا الله بعدك ماء طيبا، أين تريد؟ قال: العراق. قال: سبحان الله! لم؟ قال: مات معاوية وجاءني أكثر من حمل صحف. قال: لا تفعل أبا عبد الله، فوالله ما حفظوا أباك وكان خيرا منك، فكيف يحفظونك، ووالله لئن قتلت لا بقيت حرمة بعدك إلا استحلت. فخرج حسين حتى قدم مكة، فأقام بها هو وابن الزبير. قال: فقدم عمرو بن سعيد في رمضان أميرا على المدينة والموسم، وعزل الوليد بن عتبة. فلما استوى على المنبر رعف. فقال أعرابي: مه! جاءنا والله بالدم! قال: فتلقاه رجل بعمامته. فقال: مه! عم الناس والله! ثم قام فخطب، فناولوه عصا لها شعبتان. فقال: تشعب الناس والله! ثم خرج إلى مكة، فقدمها قبل يوم، التروية بيوم، ووفدت الناس للحسين يقولون: يا أبا عبد الله، لو تقدمت فصليت بالناس فأنزلتهم بدارك؟ إذ جاء المؤذن فأقام الصلاة، فتقدم عمرو بن سعيد فكبر، فقيل للحسين: اخرج أبا عبد الله إذ أبيت أن تتقدم. فقال: الصلاة في الجماعة أفضل. قال: فصلى، ثم خرج. فلما انصرف عمرو بن سعيد بلغه أن حسينا قد خرج. فقال: اطلبوه، اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلبوه. قال: فعجب الناس من قوله هذا، فطلبوه، فلم يدركوه. وأرسل عبد الله بن جعفر ابنيه عونا ومحمدا ليردا حسينا. فأبى حسين أن يرجع. وخرج ابنا عبد الله بن جعفر معه. ورجع عمرو بن سعيد إلى المدينة، وأرسل إلى ابن الزبير ليأتيه، فأبى أن يأتيه. وامتنع ابن الزبير برجال من قريش وغيرهم من أهل مكة. قال: فأرسل عمرو بن سعيد لهم جيشا من المدينة، وأمر عليهم عمرو بن الزبير، أخا عبد الله بن الزبير، وضرب على أهل الديوان البعث إلى مكة، وهم كارهون للخروج، فقال: إما أن تأتوني بأدلاء وإما أن تخرجوا. قال: فبعثهم إلى مكة، فقاتلوا ابن الزبير، فانهزم عمرو بن الزبير، وأسره أخوه عبد الله، فحبسه في السجن. وقد كان بعث الحسين بن علي مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى أهل الكوفة ليأخذ بيعتهم، وكان على الكوفة حين مات معاوية، فقال: يا أهل الكوفة، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من ابن بنت بحدل. قال: فبلغ ذلك يزيد فقال: يا أهل الشام، أشيروا علي، من استعمل على الكوفة؟ فقالوا: ترضى من رضي به معاوية؟ قال: نعم. قيل له: فإن الصك بإمارة عبيد الله بن زياد على العراقين قد كتب في الديوان، فاستعمله على الكوفة. فقدمها قبل أن يقدم حسين. وبايع مسلم بن عقيل أكثر من ثلاثين ألفا من أهل الكوفة، وخرجوا معه يريدون عبيد الله بن زياد، فجعلوا كلما انتهوا إلى زقاق انسل منهم ناس، حتى بقي في شرذمة قليلة. قال: فجعل الناس يرمونه بالآجر من فوق البيوت. فلما رأى ذلك دخل دار هانىء بن عروة المرادي، وكان له شرف ورأي، فقال له هانيء: إن لي من ابن زياد مكانا، وإني سوف أتمارض، فإذا جاء يعودني فاضرب عنقه. قال: فبلغ ابن زياد أن هانيء بن عروة مريض يقيء الدم، وكان شرب المغرة فجعل يقيؤها، فجاءه ابن زياد يعوده. وقال هانيء: لا قلت لكم: اسقوني، فاخرج إليه فاضرب عنقه، يقولها لمسلم ابن عقيل. فلما دخل ابن زياد وجلس، قال هانيء: اسقوني، فتثبطوا عليه. فقال: ويحكم! اسقوني ولو كان فيه نفسي. قال: فخرج ابن زياد ولم يصنع الآخر شيئا. قال: وكان أشجع الناس، ولكن أخذ بقلبه. وقيل لابن زياد ما أراده هانيء، فأرسل إليه. فقال: إني شاك لا أستطيع. فقال: أئتوني به وإن كان شاكيا. فأسرجت له دابة

(2/133)

فركب ومعه عصا، وكان أعرج، فجعل يسير قليلا قليلا، ثم يقف ويقول: ما أذهب إلى ابن زياد، حتى دخل على ابن زياد، فقال له: يا هانيء، أما كانت يد زياد عندك بيضاء؟ قال: بلى. قال: ويدي؟ قال: بلى. ثم قال له هانيء: قد كانت لك عندي ولأبيك، وقد أمنتك في نفسي ومالي. قال: اخرج، فخرج. فتناول العصا من يده وضرب بها وجهه حتى كسرها، ثم قدمه فضرب عنقه. وأرسل إلى مسلم بن عقيل، فخرج إليهم بسيفه، فما زال يقاتلهم حتى أثخنوه بالجراح، فأسروه. وأتي به ابن زياد، فقدمه ليضرب عنقه، فقالت له: دعني حتى أوصي، فقال له: أوص. فنظر في وجوه الناس، فقالت لعمر بن سعد: ما أرى قرشيا هنا غيرك، فادن مني حتى أكلمك. فدنا منه، فقال له: هل لك أن تكون سيد قريش ما كانت قريش؟ إن حسينا ومن معه، وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة، في الطريق، فارددهم واكتب لهم ما أصابني، ثم ضرب عنقه. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ قال: اكتم على ابن عمك. قال: هو أعظم من ذلك. قال: وما هو؟ قال: قال لي: إن حسينا أقبل، وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة، فارددهم واكتب إليه بما أصابني. فقال له ابن زياد: أما والله إذ دللت عليه لا يقاتله أحد غيرك. قال: فبعث معه جيشا، وقد جاء حسينا الخبر وهم بشراف، فهم بأن يرجع ومعه خمسة من بني عقيل، فقالوا: ترجع وقد قتل أخونا وقد جاءك من الكتب ما نثق به! فقال الحسين لبعض أصحابه: والله مالي على هؤلاء من صبر. قال: فلقيه الجيش على خيولهم وقد نزلوا بكربلاء. فقال حسين: أي أرض هذه؟ قالوا: كربلاء، قال: أرض كرب وبلاء. وأحاطت بهم الخيل. فقال الحسين لعمر بن سعد: يا عمر،اختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تتركني أرجع كما جئت، وإما أن تسيرني إلى يزيد فأضع يدي في يده، وإما أن تسيرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت. فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهم أن يسيره إلى يزيد. فقال له شمر بن ذي الجوشن: أمكنك الله من عدوك فتسيره! إلا أن ينزل في حكمك. فأرسل إليه بذلك. فقال الحسين: أنا أنزل على حكم ابن مرجانة! والله لا أفعل ذلك أبدا. قال: وأبطأ عمر عن قتاله. فأرسل ابن زياد إلى شمر بن ذي الجوشن، وقال له: إن تقدم عمر وقاتل، وإلا فاتركه وكن مكانه. قال: وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلا من أهل الكوفة، فقالوا: يعرض عليكم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث خصال فلا تقبلون منها شيئا! فتحولوا مع الحسين، فقاتلوا. ورأى رجل من أهل الشام عبد الله بن حسن بن علي، وكان من أجمل الناس، فقال: لأقتلن هذا الفتى. فقال له رجل: ويحك! ما تصنع به؟ دعه. فأبى وحمل عليه فضربه بالسيف فقتله، فلما أصابته الضربة، قال: يا عماه، قال: لبيك صوتا قل ناصره، وكثر واتره. وحمل الحسين على قاتله فقطع يده، ثم ضربه ضربة أخري فقتله، ثم اقتتلوا. علي بن عبد العزيز قال: حدثني الزبير قال حدثني محمد بن الحسن قال: لما نزل عمر بن سعد بالحسين وأيقن أنهم قاتلوه، قام في أصحابه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بي ما ترون من الأمر، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واشمعلت، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء الأخنس، عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا ينهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا ذلا وندما. قتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة، يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين بالطف من شاطىء الفرات، بموضع يدعى كربلاء. وولد لخمس ليال من شعبان سن أربع من الهجرة. وقتل وهو ابن ست وخمسين سنة، وهو صابغ بالسواد، قتله سنان بن أبي أنس، وأجهز عليه خولة بن يزيد الأصبحي، من حمير. وحز رأسه وأتى به عبيد الله وهو يقول:فركب ومعه عصا، وكان أعرج، فجعل يسير قليلا قليلا، ثم يقف ويقول: ما أذهب إلى ابن زياد، حتى دخل على ابن زياد، فقال له: يا هانيء، أما كانت يد زياد عندك بيضاء؟ قال: بلى. قال: ويدي؟ قال: بلى. ثم قال له هانيء: قد كانت لك عندي ولأبيك، وقد أمنتك في نفسي ومالي. قال: اخرج، فخرج. فتناول العصا من يده وضرب بها وجهه حتى كسرها، ثم قدمه فضرب عنقه. وأرسل إلى مسلم بن عقيل، فخرج إليهم بسيفه، فما زال يقاتلهم حتى أثخنوه بالجراح، فأسروه. وأتي به ابن زياد، فقدمه ليضرب عنقه، فقالت له: دعني حتى أوصي، فقال له: أوص. فنظر في وجوه الناس، فقالت لعمر بن سعد: ما أرى قرشيا هنا غيرك، فادن مني حتى أكلمك. فدنا منه، فقال له: هل لك أن تكون سيد قريش ما كانت قريش؟ إن حسينا ومن معه، وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة، في الطريق، فارددهم واكتب لهم ما أصابني، ثم ضرب عنقه. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ قال: اكتم على ابن عمك. قال: هو أعظم من ذلك. قال: وما هو؟ قال: قال لي: إن حسينا أقبل، وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة، فارددهم واكتب إليه بما أصابني. فقال له ابن زياد: أما والله إذ دللت عليه لا يقاتله أحد غيرك. قال: فبعث معه جيشا، وقد جاء حسينا الخبر وهم بشراف، فهم بأن يرجع ومعه خمسة من بني عقيل، فقالوا: ترجع وقد قتل أخونا وقد جاءك من الكتب ما نثق به! فقال الحسين لبعض أصحابه: والله مالي على هؤلاء من صبر. قال: فلقيه الجيش على خيولهم وقد نزلوا بكربلاء. فقال حسين: أي أرض هذه؟ قالوا: كربلاء، قال: أرض كرب وبلاء. وأحاطت بهم الخيل. فقال الحسين لعمر بن سعد: يا عمر،اختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تتركني أرجع كما جئت، وإما أن تسيرني إلى يزيد فأضع يدي في يده، وإما أن تسيرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت. فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهم أن يسيره إلى يزيد. فقال له شمر بن ذي الجوشن: أمكنك الله من عدوك فتسيره! إلا أن ينزل في حكمك. فأرسل إليه بذلك. فقال الحسين: أنا أنزل على حكم ابن مرجانة! والله لا أفعل ذلك أبدا. قال: وأبطأ عمر عن قتاله. فأرسل ابن زياد إلى شمر بن ذي الجوشن، وقال له: إن تقدم عمر وقاتل، وإلا فاتركه وكن مكانه. قال: وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلا من أهل الكوفة، فقالوا: يعرض عليكم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث خصال فلا تقبلون منها شيئا! فتحولوا مع الحسين، فقاتلوا. ورأى رجل من أهل الشام عبد الله بن حسن بن علي، وكان من أجمل الناس، فقال: لأقتلن هذا الفتى. فقال له رجل: ويحك! ما تصنع به؟ دعه. فأبى وحمل عليه فضربه بالسيف فقتله، فلما أصابته الضربة، قال: يا عماه، قال: لبيك صوتا قل ناصره، وكثر واتره. وحمل الحسين على قاتله فقطع يده، ثم ضربه ضربة أخري فقتله، ثم اقتتلوا. علي بن عبد العزيز قال: حدثني الزبير قال حدثني محمد بن الحسن قال: لما نزل عمر بن سعد بالحسين وأيقن أنهم قاتلوه، قام في أصحابه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بي ما ترون من الأمر، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واشمعلت، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء الأخنس، عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا ينهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا ذلا وندما. قتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة، يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين بالطف من شاطىء الفرات، بموضع يدعى كربلاء. وولد لخمس ليال من شعبان سن أربع من الهجرة. وقتل وهو ابن ست وخمسين سنة، وهو صابغ بالسواد، قتله سنان بن أبي أنس، وأجهز عليه خولة بن يزيد الأصبحي، من حمير. وحز رأسه وأتى به عبيد الله وهو يقول:

(2/134)

أوقر ركابي فضة وذهبا ... أنا قتلت الملك المحجبا
خير عباد الله أما وأبا
فقال له عبيد الله بن زياد: إذا كان خير الناس أما وأبا وخير عباد الله، فلم قتلته؟ قدموه فاضربوا عنقه، فضربت عنقه. روح بن زنباع عن أبيه عن الغاز بن ربيع الجرشي قال: إني لعند يزيد ابن معاوية إذا أقبل زحر بن قيس الجعفي حتى وقف بين يدي يزيد، فقال: ما وراءك يا زحر! فقال: أبشرك يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، قدم علينا الحسين في سبعة عشر رجلا من أهل بيته وستين رجلا من شيعته، فبرزنا إليهم وسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير أو القتال، فأبوا إلا القتال، فغدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى أخذت السيوف مأخذها من هام الرجال، فجعلوا يلوذون منا بالآكام والحفر، كما يلوذ الحمام من الصقر، فلم يكن إلا نحر جزور أو قوم قائم حتى أتينا على أخرهم، فهاتيك أجسامهم مجزرة، وهامهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح بقاع سبسب، زوارهم العقبان والرخم. قال: فدمعت عينا يزيد، وقال: لقد كنت أقنع من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية! أما والله لو كنت صاحبه لتركته، رحم الله أبا عبد الله وغفر له. علي بن عبد العزيز عن محمد بن الضحاك بن عثمان الخزاعي عن أبيه، قال: خرج الحسين إلى الكوفة ساخطا لولاية يزيد بن معاوية. فكتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد، وهو واليه بالعراق: إنه بلغني أن حسينا سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان، وابتليت به من بين العمال، وعنده تعتق أو تعود عبدا. فقتله عبيد الله وبعث برأسه وثقله إلى يزيد. فلما وضع الرأس بين يديه تمثل بقول حصين بن الحمام المري:
نفلق هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال له علي بن الحسين، وكان في السبي: كتاب الله أولى بك من الشعر، يقول الله: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور " . فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته، ثم قال: غير هذا من كتاب الله أولى بك وبأبيك، قال الله: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " . ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء؟ فقال له رجل منهم: لا تتخذ من كلب سوء جروا. قال النعمان بن بشير الأنصاري: انظر ما كان يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم لو رآهم في هذه الحالة فاصنعه بهم. قال: صدقت، خلوا عنهم واضربوا عليهم القباب. وأمال عليهم المطبخ وكساهم وأخرج إليهم جوائز كثيرة. وقال: لو كان بين ابن مرجانة وبينهم نسب ما قتلهم. ثم ردهم إلى المدينة. الرياشي قال: أخبرني محمد بن أبي رجاء قال: أخبرني أبو معشر عن يزيد ابن زياد عن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: أتي بنا يزيد بن معاوية بعدما قتل الحسين، ونحن اثنا عشر غلاما، وكان أكبرنا يومئذ علي ابن الحسين، فأدخلنا عليه، وكان كل واحد منا مغلولة يده إلى عنقه، فقال لنا: أحرزت أنفسكم عبيد أهل العراق! وما علمت بخروج أبي عبد الله ولا بقتله. أبو الحسن المدائني عن إسحاق عن إسماعيل بن سفيان عن أبي موسى عن الحسن البصري، قال: قتل مع الحسين ستة عشر من أهل بيته. والله ما كان على الأرض يومئذ أهل بيت يشبهون بهم. وحمل أهل الشام بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا على أحقاب الإبل. فلما أدخلن على يزيد، قالت فاطمة بنت الحسين: يا يزيد، أبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا! قال: بلى حرائر كرام، ادخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتدمة تبكي. وقالت بنت عقيل بن أبي طالب ترثي الحسين ومن أصيب معه:
عيني ابكي بعبرة وعويل ... واندبي إن ندبت آل الرسول

(2/135)

ستة كلهم لصلب علي ... قد أصيبوا وخمسة لعقيل
ومن حديث أم سلمة زوج صلى الله عليه وسلم، قالت: كان عندي النبي على ومعي الحسين فدنا من النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذته فبكى، فتركته فدنا منه، فأخذته فبكى، فتركته. فقال له جبريل: أتحبه يا محمد؟ قال: نعم. قال: أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها. فبسط جناحه، فأراه منها. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم. محمد بن خالد قال: قال إبراهيم النخعي: لو كنت فيمن قتل الحسين ودخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: لقيت رأس الجالوت، فقال: إن بيني وبين داود سبعين أبا، وإن اليهود إذا رأوني عظموني وعرفوا حقي وأوجبوا حفظي، وإنه ليس بينكم وبين نبيكم إلا أب واحد قتلتم ابنه. ابن عبد الوهاب عن يسار بن عبد الحكم قال: انتهب عسكر الحسين فوجد فيه طيب، فما تطيبت به امرأة إلا برصت. جعفر بن محمد عن أبيه قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وهم صغار، ولم يبايع قط صغير إلا هم. علي بن عبد العزيز عن الزبير عن مصعب بن عبد الله قال: حج الحسين خمسة وعشرين حجة ملبيا ماشيا. وقيل لعلي بن الحسين: ما كان أقل ولد أبيك! قال: العجب كيف ولدت له؟ كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يتفرغ للنساء. يحيى بن إسماعيل عن الشعبي أن سالما قال: قيل لأبي: عبد الله، بن عمر: إن الحسين توجه إلى العراق، فلحقه على ثلاث مراحل من المدينة، وكان غائبا عند خروجه، فقال أين تريد؟ فقال: أريد العراق، وأخرج إليه كتب القوم، ثم قال: هذه بيعتهم وكتبهم. فناشده الله أن يرجع، فأبى. فقال: أحدثك بحديث ما حدثت به أحدا قبلك: إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، فوالله لا يليها أحد من أهل بيته أبدا، وما صرفها الله عنكم إلا لما هو خير لكم، فارجع، فأنت تعرف غدر أهل العراق وما كان يلقى أبوك منهم. فأبى فاعتنقه، وقال: استودعتك الله من قتيل. وقالت الفرزذق: خرجت أريد مكة، فإذا بقباب مضروبة وفساطيط، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: للحسين، فعدلت إليه فسلمت عليه، فقالت: من أين أقبلت؟ قلت: من العراق. قال: كيف تركت الناس؟ قلت: القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر من السماء.
تسمية من قتل مع الحسين بن علي رضي الله عنهما من أهل بيته ومن أسر منهم قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن أبي معشر قال: قتل الحسين بن علي، وقتل معه عثمان بن علي، وأبو بكر بن علي، وجعفر بن علي، والعباس بن علي، وكانت أمهم أم البنين بنت حرام الكلابية، وإبراهيم بن علي لأم ولد له، وعبد الله بن حسن، وخمسة من بني عقيل بن أبي طالب، وعون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وثلاثة من بني هاشم. فجميعهم سبعة عشر رجلا. وأسر اثنا عشر غلاما من بنى هاشم، فيهم: محمد بن الحسين، وعلي بن الحسين، وفاطمة بنت الحسين. فلم تقم لبني حرب قائمة حتى سلبهم الله ملكهم. وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: جنبني دماء أهل هذا البيت، فإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين.
حديث الزهري في قتل الحسين

(2/136)

رضي الله عنه حدثنا أبو محمد عبد الله بن ميسرة قال: حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال: حدثنا حماد بن عيسى الجهني عن عمر بن قيس، قال: سمعت ابن شهاب الزهري يحدث عن، سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال حماد بن عيسى: وحدثني به عباد بن بشر عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وقالا: قال الزهري: خرجت مع قتيبة أريد المصيصة، فقدمنا على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وإذا هو قاعد في إيوان له، وإذا سماطان من الناس على باب الإيوان، فإذا أراد حاجة قالها للذي يليه، حتى تبلغ المسألة باب الإيوان، ولا يمشي أحد بين السماطين. قال الزهري: فجئنا فقمنا على باب الإيوان، فقال عبد الملك للذي عن يمينه: هل بلغكم أي شيء أصبح في بيت المقدس ليلة قتل الحسين بن علي؟ قال: فسأل كل واحد منهما صاحبه، حتى بلغت المسألة الباب، فلم يرد أحد فيها شيئا. قال الزهري: فقلت: عندي في هذا علم. قال: فرجعت المسألة رجلا عن رجل حتى انتهت إلى عبد الملك. قال: فدعيت، فمشيت بين السماطين، فلما انتهيت إلى عبد الملك سلمت عليه. فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري. قال: فعرفني بالنسب، وكان عبد الملك طلابة للحديث، فعرفته. فقال: ما أصبح ببيت المقدس يوم قتل الحسين بن علي بن أبي طالب؟ - وفي رواية علي بن عبد العزيز عن إبراهيم بن عبد الله عن أبي معشر عن محمد بن عبد الله ابن سعيد بن العاص عن الزهري، أنه قال: الليلة التي قتل في صبيحتها الحسين بن علي قال الزهري: نعم، حدثني فلان - ولم يسمه لنا - أنه لم يرفع تلك الليلة، التي صبيحتها قتل الحسين بن علي بن أبي طالب، حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط. قال عبد الملك: صدقت، حدثني الذي حدثك، وإني وإياك في هذا الحديث لغريبان. ثم قال لي: ما جاء بك؟ قلت: جئت، مرابطا. قال: الزم الباب، فأقمت عنده، فأعطاني مالا كثيرا. قال: فاستأذنته في الخروج إلى المدينة، فأذن لي ومعي غلام لي، ومعي مال كثير في عيبة، ففقدت العيبة، فاتهمت الغلام، فوعدته وتواعدته، فلم يقر لي بشيء. قال: فصرعته وقعدت على صدره ووضعت مرفقي على وجهه، وغمزته غمزة وأنا لا أريد قتله، فمات تحتي، وسقط في يدي. وقدمت المدينة فسألت سعيد بن المسيب وأبا عبد الرحمن وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، فكلهم قال: لا نعلم لك توبة. فبلغ ذلك علي بن الحسين، فقال: علي به. فأتيته فقصصت عليه القصة. فقال: إن لذنبك توبة، صم شهرين متتابعين وأعتق رقبة مؤمنة وأطعم ستين مسكينا، ففعلت. ثم خرجت أريد عبد الملك، وقد بلغه أني أتلفت المال، فأقمت ببابه أياما لا يؤذن لي بالدخول، فجلست إلى معلم لولده، وقد حذق ابن لعبد الملك عنده، وهو يعلمه ما يتكلم به بين يدي أمير المؤمنين إذا دخل عليه، فقلت لمؤدبه: ما تأمل من أمير المؤمنين أن يصلك به فلك عندي، ذلك على أن تكلم الصبي إذا دخل على أمير المؤمنين، فإذا قال له: سل حاجتك، يقول له: حاجتي أن ترضى عن الزهري. ففعل، فضحك عبد الملك وقال: أين هو؟ قال: بالباب. فأذن لي، فدخلت، حتى إذا صرت بين يديه، قلت: يا أمير المؤمنين، حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
وقعة الحرة

(2/137)

أبو اليقظان قال: لما حضرة معاوية الوفاة دعا يزيد، فقال له: إن لك من أهل المدينة يوما، فإذا فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفنا نصيحته. فلما كانت سنة ثلاث وستين، قدم عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة عاملا عليها ليزيد بن معاوية، وأوفد على يزيد وفدا من رجال المدينة، فيهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، معه ثمانية بنين له، فأعطاه مائة ألف درهم، وأعطى بنيه كل رجل منهم عشرة آلاف، سوى كسوتهم وحملانهم. فلما قدم عبد الله بن حنظلة المدينة، أتاه الناس، فقالوا: ما وراءك؟ قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم. قالوا: فإنه قد بلغنا أنه أكرمك وأجازك وأعطاك. قال: قد فعل، وما قبلت ذلك منه إلا أن أتقوى به عليه أي على قتال يزيد - وحض الناس على يزيد فأجابوه. فكتب عثمان بن محمد إلى يزيد بما أجمع عليه أهل المدينة من الخلاف. فكتب إليهم يزيد بن معاوية: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد. فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. وإني قد لبستكم فأخلفتكم، ورفعتكم على رأسي، ثم على عيني، ثم على فمي، ثم على بطني، والله لئن وضعتكم تحت قدمي لأطانكم وطأة أقل بها عددكم، وأترككم بها أحاديث، تنتسخ أخباركم مع أخبار عاد وثمود. فلما أتاهم كتابه حمي القوم، فقدمت الأنصار عبد الله بن حنظلة على أنفسهم، وقدمت قريش عبد الله بن مطيع، ثم أخرجوا عثمان بن محمد بن أبي سفيان من المدينة، ومروان بن الحكم، وكل من كان بها من بني أمية. وكان عبد الله بن عباس بالطائف، فسأل عنهم، فقيل له: استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظلة على الأنصار. فقال: أميران! هلك القوم. ولما بلغ يزيد ما فعلوا أمر بقبة فضربت له خارجا عن قصره، وقطع البعوث على أهل الشام، فلم تمض ثالثة حتى توافت الحشود. فقدم عليهم مسلم بن عقبة المري، فتوجه إليهم. وقد عمد أهل المدينة فأخرجوا إلى كل ماء لهم بينهم وبين الشام، فصبوا فيه زقا من قطران وغوروه، فأرسل الله عليهم المطر، فلم يستقوا شيئا حتى وردوا المدينة. قال أبو اليقظان وغيره: إن يزيد بن معاوية ولى مسلم بن عقبة، وهو قد اشتكى فقال له: إن حدث بك حدث فاستعمل حصين بن نمير. فخرج حتى قدم المدينة، فخرج إليه أهلها في عدة وهيئة وجموع كثيرة لم ير مثلها. فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم. فأمر مسلم بن عقبة بسريره فوضع بين الصفين وهو عليه مريض، وأمر مناديا ينادي: قاتلوا عن أميركم أو دعوه. فجد الناس في القتال، فسمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة، فإذا هم، قد أقحم عليهم بنو حارثة أهل الشام، وهم على الجدر، فانهزم الناس. وعبد الله بن حنظلة متساند إلى بعض بنيه يغط نوما، فلما فتح عينيه فرأى ما صنعوا أمر أكبر بنيه، فتقدم حتى قتل، فلم يزل يقدم واحدا وأحدا حتى أتي على آخرهم، ثم كسر غمد سيفه وقاتل حتى قتل. ودخل مسلم بن عقبة المدينة، وتغلب على أهلها، ثم دعاهم إلى البيعة على أنهم خول ليزيد ابن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم، فبايعوا، حتى أتي بعبد الله ابن زمعة، فقال له: على أنك خول لأمير المؤمنين يحكم في مالك ودمك وأهلك. قال: لن أبايع على أني بزعم أمير المؤمنين يحكم في دمي ومالي وأهلي. فقال مسلم بن عقبة: اضربوا عنقه، فوثب مروان بن الحكم فضمه إليه، وقال: نبايعك على ما أحببت. فقال: لا والله لا أقيلها إياه أبدا، إن تنح وإلا فاقتلوهما جميعا. فتركه مروان وضرب عنقه. وهرب عبد الله بن مطيع حتى لحق بمكة، فكان بها حتى قتل مع عبد الله بن الزبير في أيام عبد الملك بن مروان، وجعل يقاتل أهل الشام وهو يقول:
أنا الذي فررت يوم الحره ... والشيخ لا يفر إلا مرة
فاليوم أجزى كرة بقرة ... لا بأس بالكرة بعد الفرة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:39 pm

أبو عقيل الدورقي قال: سمعت أبا نضرة يحدث، قال: دخل أبو سعيد الخدري يوم الحرة في غار، فدخل عليه رجل من أهل الشام، وفي عنق أبي سعيد السيف، فوضع أبو سعيد السيف وقال: بؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فقال: أبو سعيد الخدري أنت؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي، قال: غفر الله لك. وأمر مسلم بن عقبة بقتل معقل بن سنان الأشجعي، صبرا، ومحمد بن أبي الجهم بن حذيقة العدوي، صبرا وكان جميع من قتل يوم الحرة من قريش والأنصار ثلثمائة رجل وستة رجال. ومن الموالي وغيرهم أضعاف هؤلاء. وبعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما ألقيت بين يديه جعل يتمثل بقول ابن الزبعري يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا ... ولقالوا ليزيد: لا فشل
فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتددت عن الإسلام يا أمير المؤمنين! قال: بلى، نستغفر الله. قال: والله لا ساكنتك أرضا أبدا، وخرج عنه. ولما انقضى أمر الحرة توجه مسلم بن عقبة بمن معه من أهل الشام إلى مكة يريد ابن الزبير وهو ثقيل، فلما كان بالأبواء حضره أجله، فدعا حصين ابن نمير، فقال له: إني أرسلت إليك فلا أدري أقدمك على هذا الجيش أم أقدمك فأضرب عنقك؟ قال: أصلحك الله، أنا سهمك فارم بي حيث شئت. قال: إنك أعرابي جلف جاف، وإن هذا الحي من قريش لم يمكنهم أحد قط من أذنه إلا غلبوه على رأيه، فسر بهذا الجيش، فإذا لقيت القوم فإياك أن تمكنهم من أذنك، لا يكن إلا على الوقاف، ثم الثقاف، ثم الانصراف.
ومات مسلم بن عقبة، وليصل بالناس الضحاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم، فلما مات صلى عليه الوليد بن عقبة لا رحمه الله. ومضى حصين بن نمير بجيشه ذلك. فلم يزل محاصرا لأهل مكة حتى مات يزيد، لا رحمه الله، وذلك خمسون يوما. ونصب المجانيق على الكعبة وحرقها يوم الثلاثاء لخمس خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين، وفيها مات يزيد بن معاوية بحوارين.
وفاة يزيد بن معاوية
مات يزيد بن معاوية بحوارين من بلاد حمص، وصلى عليه ابنه معاوية ابن يزيد بن معاوية ليلة البدر في شهر ربيع الأول. وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكلبي، ومات وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وكانت ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما.
خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية
واستخلف معاوية بن يزيد بن معاوية في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، ومات بعد أبيه بأربعين يوما، ولم يزل مريضا طول ولايته لا يخرج من بيته، فلما حضرته الوفاة قيل له: لو عهدت إلى رجل من أهل بيتك واستخلفت خليفة؛ قال: لم أنتفع بها حيا، فلا أقلدها ميتا، لا يذهب بنو أمية بحلاوتها وأتجرع مرارتها، ولكن إذا مت فليصل علي الوليد بن عقبة وليصل بالناس الضحاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم. فلما مات صلى عليه الوليد بن عقبة وصلى بالناس الضحاك بن قيس بدمشق، حيث قامت دولة بني مروان.
فتنة ابن الزبير

(2/139)

قال علي بن عبد العزيز: حدثنا أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر، قال: لما مات مسلم بن عقبة سار حصين بن نمير حتى أتى مكة، وابن الزبير بها، فدعاهم إلى الطاعة، فلم يجيبوه، فقاتلهم وقاتله ابن الزبير. فقتل المنذر بن الزبير يومئذ ورجلان من إخوته، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، والمسور بن مخرمة. وكان حصين بن نمير قد نصب المجانيق على أبي قبيس وعلى قعيقعان، فلم يكن أحد يقدر أن يطوف بالبيت. فأسند ابن الزبير ألواحا من ساج على البيت، وألقى عليها الفرش والقطائف، فكان إذا وقع عليها الحجر نبا عن البيت. فكانوا يطوفون تحت الألواح، فإذا سمعوا صوت الحجر حين يقع على الفرش والقطائف كبروا، وكان ابن الزبير قد ضرب فسطاطا في ناحية، فكلما جرح رجل من أصحابه أدخله ذلك الفسطاط، فجاء رجل من أهل الشام بنار في طرف سنانه، فأشعلها في الفسطاط، وكان يوما شديد الحر، فتمزق الفسطاط، فوقعت النار على الكعبة، فاحترق الخشب والسقف، وانصدع الركن، واحترقت الأستار وتساقطت إلى الأرض. قال: ثم اقتتلوا مع أهل الشام أياما بعد حريق الكعبة. قال أبو عبيد: احترقت الكعبة يوم السبت لست خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين، فجلس أهل مكة في جانب الحجر ومعهم ابن الزبير، وأهل الشام يرمونهم بالنبل والحجارة، فوقعت نبلة بين يدي ابن الزبير، فقال: في هذه خبر. فأخذها فوجد فيها مكتوبا: مات يزيد بن معاوية يوم الخميس لأربع عشرة خلت من ربيع الأول. فلما قرأ ذلك قال: يا أهل الشام، يا أعداء الله، ومحرقي بيت الله، علام تقاتلون وقد مات طاغيتكم! فقالت حصين بن نمير: موعدك البطحاء الليلة أبا بكر. فلما كان الليل خرج ابن الزبير بأصحابه، وخرج حصين بأصحابه إلى البطحاء. ثم ترك كل واحد منهما أصحابه وانفردا فنزلا. فقال حصين: يا أبا بكر، أنا سيد أهل الشام لا أدافع، وأرى أهل الحجاز قد رضوا بك، فتعال أبايعك الساعة ويهدر كل شيء أصبناه يوم الحرة، وتخرج معي إلى الشام، فإني لا أحب أن يكون الملك بالحجاز. فقال: لا والله لا أفعل ولا أمن من أخاف الناس وأحرق بيت الله وانتهك حرمته. قال: بل فافعل على أن لا يختلف عليك اثنان. فأبي ابن الزبير. فقال له حصين: لعنك الله ولعن من زعم أنك سيد! والله لا تفلح أبدا! اركبوا يا أهل الشام. فركبوا وانصرفوا. أبو عبيد عن الحجاج عن أبي معشر قال: حدثنا بعض المشيخة الذين حضروا قتال ابن الزبير، قال: غلب حصين بن نمير على مكة كلها إلا الحجر. قال: فوالله إني لجالس عنده، معه نفر من القرشيين: عبد الله بن مطيع والمختار بن أبي عبيد، والمسور بن مخرمة، والمنذر بن الزبير: إذ هبت رويحة، فقال المختار: والله إني لأرى في هذه الرويحة النصر، فاحملوا عليهم. فحملوا عليهم حتى أخرجوهم من مكة، وقتل المختار رجلا، وقتل ابن مطيع رجلا، ثم جاءنا على إثر ذلك موت يزيد بعد حريق الكعبة بإحدى عشرة ليلة، وانصرف حصين بن نمير وأصحابه إلى الشام، فوجدوا معاوية بن يزيد قد مات ولم يستخلف، وقال: لا أتحملها حيا وميتا. فلما مات معاوية بن يزيد بايع أهل الشام كلهم ابن الزبير إلا أهل الأردن، وبايع أهل مصر أيضا ابن الزبير. واستخلف ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري على أهل الشام. فلما رأى ذلك رجال بني أمية وناس من أشراف أهل الشام ووجوههم، منهم روح بن زنباع وغيره، قال بعضهم لبعض: إن الملك كان فينا أهل الشام، فانتقل عنا إلى الحجاز، لا نرضى بذلك، هل لكم أن تأخذوا رجلا منا فينظر في هذا الأمر؟ فقال: استخيروا الله. قال: فرأى القوم أنه غلام حدث السن، فخرجوا من عنده، وقالوا: هذا حدث. فأتوا عمرو بن سعيد بن العاص، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر، فرأوه حدثا فجاءوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر، فرأوه حدثا حريصا على هذا الأمر. فلما خرجوا من عنده قالوا: هذا حدث. فأتوا مروان ابن الحكم، فإذا عنده مصباح، وإذا هم يسمعون صوته بالقرآن، فاستأذنوا ودخلوا عليه، قالوا: يا أبا عبد الملك، ارفع رأسك لهذا الأمر. فقال: استخيروا الله واسألوا أن يختار

(2/140)

لأمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرها وأعدلها. فقال له روح ابن زنباع: إن معي أربعمائة من جذام، فأنا أمرهم أن يتقدموا في المسجد غدا، ومر أنت ابنك عبد العزيز أن يخطب الناس ويدعوهم إليه، فإذا فعل ذلك تنادوا من جانب المسجد: صدقت صدقت، فيظن الناس أن أمرهم واحد. فلما اجتمع الناس قام عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان كبير قريش وسيدها، والذي نفسي بيده لقد شابت ذراعاه من الكبر. فقال الجذاميون: صدقت صدقت. فقال خالد بن يزيد: أمر دبر بليل. فبايعوا مروان بن الحكم. ثم كان من أمره مع الضحاك بن قيس بمرج راهط ما سيأتي ذكره بعد هذا في دولة بني مروان.أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرها وأعدلها. فقال له روح ابن زنباع: إن معي أربعمائة من جذام، فأنا أمرهم أن يتقدموا في المسجد غدا، ومر أنت ابنك عبد العزيز أن يخطب الناس ويدعوهم إليه، فإذا فعل ذلك تنادوا من جانب المسجد: صدقت صدقت، فيظن الناس أن أمرهم واحد. فلما اجتمع الناس قام عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان كبير قريش وسيدها، والذي نفسي بيده لقد شابت ذراعاه من الكبر. فقال الجذاميون: صدقت صدقت. فقال خالد بن يزيد: أمر دبر بليل. فبايعوا مروان بن الحكم. ثم كان من أمره مع الضحاك بن قيس بمرج راهط ما سيأتي ذكره بعد هذا في دولة بني مروان.
دولة بني مروان ووقعة مرج راهط

(2/141)

أبو الحسن قال: لما مات معاوية بن يزيد اختلف الناس بالشام، فكان أول من خالف من أمراء الأجناد النعمان بن بشير الأنصاري، وكان على حمص، فدعا لابن الزبير، فبلغ خبره زفر بن الحارث الكلابي، وهو بقنسرين، فدعا إلى ابن الزبير أيضا بدمشق سرا، ولم يظهر ذلك لمن بها من بني أمية وكلب. وبلغ ذلك حسان بن مالك بن بحدل الكلبي، وهو بفلسطين فقال لروح بن زنباع: إني أرى أمراء الأجناد يبايعون لابن الزبير وأبناء قيس بالأردن كثير، وهم قومي، فأنا خارج إليها وأقم أنت بفلسطين، فإن جل أهلها قومك من لخم وجذام، فإن خالفك أحد فقاتله بهم. فأقام روح بفلسطين، وخرج حسان إلى الأردن. فقام ناتل بن قيس الجذامي، فدعا إلى ابن الزبير، وأخرج روح بن زنباع من فلسطين، ولحق بحسان بالأردن. فقال حسان: يأهل الأردن، قد علمتم أن ابن الزبير في شقاق ونفاق وعصيان لخلفاء الله ومفارقة لجماعة المسلمين، فانظروا رجلا من بني حرب فبايعوه. فقالوا: اختر لنا من شئت من بني حرب وجنبنا هذين الرجلين الغلامين: عبد الله وخالدا، ابني يزيد بن معاوية، فإنا نكره أن يدعو الناس إلى شيخ، ونحن ندعو إلى صبي. وكان هوى حسان في خالد بن يزيد، وكان ابن أخته. فلما رموه بهذا الكلام أمسك، وكتب إلى الضحاك بن قيس كتابا يعظم فيه بني أمية وبلاءهم عنده، ويذم ابن الزبير ويذكر خلافه للجماعة، وقال لرسوله: اقرأ الكتاب على الضحاك بمحضر بني أمية وجماعة الناس. فلما قرأ كتاب حسان تكلم الناس فصاروا فرقتين، فصارت اليمانية مع بني أمية، والقيسية زبيرية، ثم اجتلدوا بالنعال ومشى بعضهم إلى بعض بالسيوف، حتى حجز بينهم خالد بن يزيد، ودخل الضحاك دار الإمارة، فلم يخرج ثلاثة أيام. وقدم عبيد الله بن زياد، فكان مع بني أمية بدمشق. فخرج الضحاك بن قيس إلى المرج - مرج راهط - فعسكر فيه، وأرسل إلى أمراء الأجناد فأتوه، إلا ما كان من كلب. ودعا مروان إلى نفسه، فبايعته بنو أمية وكلب وغسان والسكاسك وطيىء، فعسكر في خمسة آلاف. وأقبل عباد بن يزيد من حوران في ألفين من مواليه وغيرهم من بني كلب، فلحق بمروان. وغلب يزيد بن أبي أنيس على دمشق، فأخرج منها عامل الضحاك، وأمد مروان برجالي وسلاح كثير. وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد، فقدم عليه زفر بن الحارث من قنسرين، وأمده النعمان بن بشير بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، فتوافوا عند الضحاك بمرج راهط، فكان الضحاك في ستين ألفا، ومروان في ثلاثة عشر ألفا، أكثرهم رجالة، وأكثر أصحاب الضحاك ركبان. فاقتتلوا بالمرج، عشرين يوما، وصبر الفريقان. وكان على ميمنة الضحاك زياد بن عمرو بن معاوية العقيلي، وعلى مسيرته بكر بن أبي بشير الهلالي. فقال عبيد الله بن زياد لمروان: إنك على حق وابن الزبير ومن دعا إليه على الباطل، وهم أكثر منا عددا وعددا، ومع الضحاك فرسان قيس، واعلم أنك لا تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة، وإنما الحرب خدعة، فادعهم إلى الموادعة، فإذا أمنوا وكفوا عن القتال، فكر عليهم. فأرسل مروان السفراء إلى الضحاك يدعوه إلى الموادعة ووضع الحرب حتى ينظر. فأصبح الضحاك والقيسية قد أمسكوا عن القتال، وهم يطمعون أن يبايع مروان لابن الزبير، وقد أعد مروان أصحابه، فلم يشعر الضحاك وأصحابه إلا والخيل قد شدت عليهم، ففزع الناس إلى راياتهم من غير استعداد وقد غشيتهم الخيل، فنادى الناس: أبا أنيس، أعجز بعد كيس - وكنية الضحاك: أبو أنيس - فاقتتل الناس ولزم الناس راياتهم، فترجل مروان، وقال: قبح الله من ولأهم اليوم ظهره حتى يكون الأمر لإحدى الطائفتين. فقتل الضحاك بن قيس، وصبرت قيس عند راياتها يقاتلون، فنظر رجل من بني عقيل إلى ما تلقى قيس عند راياتها من القتل، فقال: اللهم العنها من رايات! واعترضها بسيفه، فجعل يقطعها، فإذا سقطت الراية تفرق أهلها. ثم انهزم الناس، فنادى منادي مروان: لا تتبعوا من ولاكم اليوم ظهره. فزعموا أن رجالا من ليس لم يضحكوا بعد يوم المرج حتى ماتوا جزعا على من أصيب من فرسان قيس يومئذ. فقتل من قيس يومئذ ممن كان يأخذ شرف العطاء ثمانون

(2/142)

رجلا، وقتل من بني سليم ستمائة، وقتل لمروان ابن يقال له عبد العزيز. وشهد مع الضحاك يوم مرج راهط عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان. فلما انهزم الناس، قال له عبيد الله بن زياد: ارتدف خلفي، فارتدف، فأراد عمرو بن سعيد أن يقتله. فقال له عبيد الله بن زياد: ألا تكف يا لطيم الشيطان! وقال زفر بن الحارث، وقد قتل ابناه يوم المرج:، وقتل من بني سليم ستمائة، وقتل لمروان ابن يقال له عبد العزيز. وشهد مع الضحاك يوم مرج راهط عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان. فلما انهزم الناس، قال له عبيد الله بن زياد: ارتدف خلفي، فارتدف، فأراد عمرو بن سعيد أن يقتله. فقال له عبيد الله بن زياد: ألا تكف يا لطيم الشيطان! وقال زفر بن الحارث، وقد قتل ابناه يوم المرج:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... بمروان صدعا بينا متنائيا
فلم يز مني زلة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا
أنترك كلبا لم تنلها رماحنا ... وتذهب قتلى راهط وهي ما هيا
وقد تنبت الخضراء في دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
فلا صلع حتى ندعس الخيل بالقنا ... وتثأر من أبناء كلب نسائيا
فلما قتل الضحاك وانهزم الناس، نادى مروان أن لا يتبع أحد. ثم أقبل إلى دمشق فدخلها ونزل دار معاوية بن أبي سفيان دار الإمارة، ثم جاءته بيعة الأجناد، فقال له أصحابه: إنا لا نتخوف عليك إلا خالد بن يزيد، فتزوج أمه، فإنك تكسره بذلك، وأمه ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة. فتزوجها مروان، فلما أراد الخروج إلى مصر قال لخالد: أعرني سلاحا إن كان عندك، فأعاره سلاحا، وخرج إلى مصر، فقاتل أهلها وسبى بها ناسا كثيرا، فافتدوا منه. ثم قدم الشام، فقال له خالد. بن يزيد: رد علي سلاحي. فأبى عليه. فألح عليه خالد. فقال له مروان، وكان فحاشا: يا بن رطبة الإست. قال: فدخل إلى أمه فبكى عندها وشكا إليها ما قاله مروان على رؤوس أهل الشام. فقالت له: لا عليك، فإنه لا يعود إليك بمثلها. فلبث مروان بعد ما قال لخالد ما قال أياما، ثم جاء إلى أم خالد فرقد عندها، فأمرت جواريها فطرحن عليه الوسائد، ثم غطته حتى قتلته، ثم خرجن فصحن وشققن ثيابهن: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين! ثم قام عبد الملك بالأمر بعده، فقال لفاخر أم خالد: والله لولا أن يقول الناس إني قتلت بأبي امرأة لقتلتك بأمير المؤمنين. وولد مروان بن الحكم بن العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بمكة. ومات بالشام، لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وصلى عليه ابنه عبد الملك بن مروان. وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوما. وكان على شرطته يحيى بن قيس الشيباني. وكاتبه سرجون بن منصور الرومي. وحاجبه أبو سهل الأسود، مولاه.
ولاية عبد الملك بن مروان
هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية. ويكنى: أبا الوليد. ويقال له: أبو الأملاك؛ وذلك أنه ولى الخلافة أربع من ولده: الوليد وسليمان ويزيد وهشام. وكان تدمى لثته فيقع عليها الذباب، فكان يلقب: أبا الذباب. أمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية. وله يقول ابن قيس الرقيات:
أنت ابن عائشة التي ... فضلت أروم نسائها
لم تلتفت للداتها ... ومشت على غلوائها
ولدت أغر مباركا ... كالشمس وسط سمائها

(2/143)

وبويع عبد الملك بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين، ومات بدمشق للنصف من شوال سنة ست وثمانين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، فصلى عليه الوليد بن عبد الملك. وولد عبد الملك بالمدينة سنة ثلاث وعشرين، ويقال سنة ست وعشرين. ويقال ولد لسبعة أشهر. وكان على شرطته ابن أبي كبشة السكسكي، ثم أبو نائل بن رياح بن عبيدة الغساني، ثم عبد الله بن يزيد الحكمي. وعلى حرسه الريان. وكاتبه على الخراج والجند سرجون ابن منصور الرومي. وكتبه على الرسائل أبو زرعة، مولاه. وعلى الختم قبيصة ابن ذؤيب. وعلى بيوت الأموال والخزائن رجاء بن حيوة. وحاجبه أبو يوسف، مولاه. ومات عبد الملك سنة ست وثمانين، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وصلى عليه الوليد ابنه. وكانت ولايته، منذ اجتمع عليه، ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، ودفن خارج باب المدينة. وفي أيام عبد الملك حولت الدواوين إلى العربية عن الرومية والفارسية، حولها عن الرومية سليمان بن سعد، مولى خشين. وحولها عن الفارسية صالح بن عبد الرحمن، مولى عتبة، امرأة من بني مرة. ويقال: حولت في زمن الوليد. ابن وهب عن ابن لهيعة قال: كان معاوية فرض للموالي خمسة عشر، فبلغهم عبد الملك عشرين، ثم بلغهم سليمان خمسة وعشرين، ثم قام هشام فأتم للأبناء منهم ثلاثين. وكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك بن مروان بيعته لما قتل ابن الزبير، وكان كتابه إليه يقول: لعبد الملك بن مروان، من عبد الله بن عمر: سلام عليك، فإني أقررت لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبيعة نافع مولاي على مثل ما بايعتك عليه.
وكتب محمد بن الحنفية ببيعته لما قتل ابن الزبير، وكان في كتابه: إني اعتزلت الأمة عند اختلافها، فقعدت في البلد الحرام الذي من دخله كان آمنا، لأحرز ديني وأمنع دمي، وتركت الناس " قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " . وقد رأيت الناس قد اجتمعوا عليك، ونحن عصابة من أمتنا لا نفارق الجماعة، وقد بعثت إليك منا رسولا ليأخذ لنا منك ميثاقا، ونحن أحق بذلك منك. فإن أبيت فأرض الله واسعة، والعاقبة للمتقين. فكتب إليه عبد الملك: قد بلغني كتابك بما سألته من الميثاق لك وللعصابة التي معك. فلك عهد الله وميثاقه أن لا تهاج في سلطاننا غائبا ولا شاهدا، ولا أحد من أصحابك ما وفوا ببيعتهم، فإن أحببت المقام بالحجاز فأقم، فلن ندع صلتك وبرك، وإن أحببت المقام عندنا فاشخص إلينا، فلن ندع مواساتك. ولعمري لئن ألجأتك إلى الذهاب في الأرض خائفا لقد ظلمناك، وقطعنا رحمك. فاخرج إلى الحجاج فبايع. فإنك أنت المحمود عندنا دينا ورأيا، وخير من ابن الزبير وأرضى وأتقى. وكتب إلى الحجاج بن يوسف: لا تعرض لمحمد ولا لأحد من أصحابه، وكان في كتابه: جنبني دماء بني عبد المطلب، فليس فيها شفاء من الحرب، وإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي. فلم يتعرض الحجاج لأحد من الطالبيين في أيامه. أبو الحسن المدائني قال: كان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم. وخطب الناس عبد الملك فقال: أيها الناس، ما أنا بالخليفة المستضعف - يريد عثمان بن عفان - ولا بالخليفة المداهن - يريد معاوية بن أبي سفيان - ولا بالخليفة المأفون - يريد يزيد بن معاوية فمن قال برأسه كذا قلنا بسيفنا كذا، ثم نزل. وخطب عبد الملك على المنبر فقال: أيها الناس، إن الله حد حدودا وفرض فروضا، فما زلتم تزدادون في الذنب ونزداد في العقوبة، حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف. أبو الحسن المدائني قال: قدم عمر بن علي بن أبي طالب على عبد الملك، فسأله أن يصير إليه صدقة علي. فقال عبد الملك متمثلا بأبيات ابن أبي الحقيق:
إني إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل
وأعتلج الناس بآرائهم ... نقضي بحكم عادل فاصل
لا نجعل الباطل حقا ولا ... نرضى بدون الحق للباطل

(2/144)

لا، لعمري، لا نخرجها من ولد الحسين إليك. وأمر له بصلة ورجع. وقال عبد الملك بن مروان لأيمن بن خريم: إن أباك وعمك كانت لهما صحبة فخذ هذا المال فقاتل ابن الزبير. فأبى فشتمه عبد الملك. فخرج وهو يقول:
فلست بقاتل رجلا يصلي ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي إثمي ... معاذ الله من سفه وطيش
وقال أيمن بن خريم أيضا:
إن للفتنة هيطا بينا ... فرويد الميل منها يعتدل
فإذا كان عطاء فانتهز ... وإذا كان قتال فاعتزل
إنما يوقدها فرساننا ... حطب النار فدعها تشتعل
وقال زفر بن الحارث لعبد الملك بن مروان: الحمد لله الذي نصرك على كره من المؤمنين. فقال أبو زعيزعة: ما كره ذلك إلا كافر. فقال زفر: كذبت، قال الله لنبيه: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون " . وبعث عبد الملك بن مروان إلى المدينة حبيش بن دلجة القيسي في سبعة آلاف. فدخل المدينة وجلس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بخبز ولحم فأكل، ثم دعا بماء فتوضأ على المنبر، ثم دعا جابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تبايع لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين بعهد الله عليك وميثاقه، وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه في الوفاء، فإن خنتنا فهراق الله دمك على ضلال. قال: أنت أطوق لذلك مني، ولكن أبايعه على ما بايعت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، على السمع والطاعة. ثم خرج ابن دلجة من يومه ذلك إلى الربذة، وقدم على أثره من الشام رجلان، مع كل واحد منهما جيش، ثم اجتمعوا جميعا في الربذة، وذلك في رمضان سنة خمس وستين. وأميرهم ابن دلجة. وكتب ابن الزبير إلى العباس بن سهل الساعدي بالمدينة أن يسير إلى حبيش بن دلجة. فسار حتى لقيه بالربذة. وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة - وهو عامل ابن الزبير على البصرة - مددا إلى العباس بن سهل، حنيف بن السجف في تسعمائة من أهل البصرة. فساروا حتى انتهوا إلى الربذة. فبات أهل البصرة وأهل المدينة يقرأون القرآن ويصلون. وبات أهل الشام في المعازف والخمور، فلما أصبحوا غدوا على القتال، فقتل حبيش بن دلجة ومن معه. فتحصن منهم خمسمائة رجل من أهل الشام على عمود الربذة، وهو الجبل الذي عليها، وفيهم يوسف أبو الحجاج، فأحاط بهم عباس بن سهل، فطلبوا الأمان، فقال: انزلوا على حكمي، فنزلوا على حكمه، فضرب أعناقهم أجمعين. ثم رجع عباس بن سهل إلى المدينة، وبعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة عاملا على البصرة، فاستضعفه القوم، فبعث أخاه مصعب بن الزبير، فقدم عليهم، فقال: يا أهل البصرة، بلغني أنه لا يقدم عليكم أمير إلا لقبتموه، إني ألقب لكم نفسي: أنا القصاب.
خبر المختار بن أبي عبيد ثم أرسل عبد الله بن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة أميرا على الكوفة، ثم عزله وأرسل المختار بن أبي عبيد. وأرسل عبد الملك عبيد الله بن زياد إلى الكوفة. فبلغ المختار إقبال عبيد الله بن زياد، فوجه إليهم إبراهيم بن الأشتر في جيش، فالتقوا بالجازر، وقتل عبيد الله بن زياد وحصين بن نمير وذا الكلاع وعامة من كان معهم. وبعث برؤوسهم إلى عبد الله بن الزبير. أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا شريك بن عبد الله عن أبي الجويرية الجرمي قال: كنت فيمن سار إلى أهل الشام يوم الجازر مع إبراهيم بن الأشتر فلقيناهم بالزاب، فهبت الريح لنا عليهم، فأدبروا، فقتلناهم عشيتنا وليلتنا حتى أصبحوا: فقال إبراهيم: إني قتلت البارحة رجلا فوجدت عليه ريح طيب، فالتمسوه، فما أراه إلا ابن مرجانة. فانطلقنا فإذا هو والله معكوس في بطن الوادي.

(2/145)

ولما التقى عبيد الله بن زياد وإبراهيم بن الأشتر بالزاب، قال: من هذا الذي يقاتلني؟ قيل له: إبراهيم بن الأشتر. قال: لقد تركته أمس صبيا يلعب بالحمام. قال: ولما قتل ابن زياد بعث المختار برأسه إلى علي بن الحسين بالمدينة. قال الرسول: فقدمت به عليه انتصاف النهار وهو يتغدى، قال: فلما رآه قال: سبحان الله! ما اغتر بالدنيا إلا من ليس لله في عنقه نعمة! لقد أدخل رأس أبي عبد الله على ابن زياد وهو يتغدى. وقال يزيد بن مفرغ:
إن الذي عاش ختارا بذمته ... ومات عبدا قتيل الله بالزاب
ثم إن المختار كتب كتابا إلى ابن الزبير، وقال لرسوله: إذا جئت مكة فدفعت كتابي إلى ابن الزبير فأت المهدي - يعني محمد بن الحفنية - فاقرأ عليه السلام وقل له: يقول لك أبو إسحاق: إني أحبك وأحب أهل بيتك. قال: فأتاه، فقال له ذلك. فقال: كذبت وكذب أبو إسحاق، وكيف يحبني ويحب أهل بيتي وهو يجلس عمر بن سعد على وسائده وقد قتل الحسين! فلما قدم عليه رسوله وأخبره. قال المختار لأبي عمرو صاحب حرسه: استأجر لي نوائح يبكين الحسين على باب عمر بن سعد، ففعل. فلما بكين، قال عمر لابنه حفص: يا بني، ايت الأمير، فقل له: ما بال النوائح يبكين الحسين على بابي؟ فأتاه فقال له ذلك. فقال: إنه أهل أن يبكى عليه. فقال: أصلحك الله، انههن عن ذلك. قال: نعم، تم دعا أبا عمرو صاحب حرسه، قال له: اذهب إلى عمر بن سعد فأتني برأسه. فأتاه، فقام له: قم إلي أبا حفص. فقام إليه وهو ملتحف بملحفة، فجلله بالسيف، فقتله وجاء برأسه إلى المختار. ثم قال: ائتوني بابن عمر. فلما حضره قال: أتعرف هذا؟ قال: نعم، رحمه الله. قال: أتحب أن نلحقك به؟ قال: لا خير في العيش بعده. فأمر به فضرب عنقه. ثم إن المختار لما قتل ابن مرجانة وعمر بن سعد جعل يتبع قتلة الحسين بن علي ومن خذله، فقتلهم أجمعين، وأمر الحسينية، وهم الشيعة، أن يطوفوا في أزقة المدينة بالليل ويقولوا: يا ثارات الحسين! فلما أفناهم ودانت له العراق، ولم يكن صادق النية ولا صحيح المذهب وإنما أراد أن يستأصل الناس، فلما أدرك بغيته أظهر قبح نيته للناس، فادعى أن جبريل ينزل عليه ويأتيه بالوحي من الله. وكتب إلى أهل البصرة: بلغني أنكم تكذبونني وتكذبون رسلي، وقد كذبت الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم. فلما انتشر ذلك عنه كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير، وهو بالبصرة، فخرج إليه. وبرز إليه المختار، فأسلمه إبراهيم بن الأشتر، ووجوه أهل الكوفة، فقتله مصعب وقتل أصحابه. أبو بكر بن أبي شيبة قال: قيل لعبد الله بن عمر: إن المختار ليزعم أنه يوحى إليه. قال: صدق، الشياطين يوحون إلى أوليائهم.
وقتل مصعب من أصحاب المختار ثلاثة آلاف. ثم حج سنة إحدى وسبعين، فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير ومعه وجوه أهل العراق، فقال: يا أمير المؤمنين، قد جئتك بوجوه أهل العراق، ولم أدع لهم بها، نظيرا، فأعطهم من المال. قال جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم من مال الله، وددت أن لي بكل عشرة منهم رجلا من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم. فلما انصرف مصعب ومعه الوفد من أهل العراق، وقد حرمهم عبد الله بن الزبير ما عنده، فسدت قلوبهم، فراسلوا عبد الملك بن مروان حتى خرج إلى مصعب فقتله. في بن عبد العزيز عن حجاج عن أبي معشر قال: لما بعث مصعب برأس المختار إلى عبد الله بن الزبير فوضع بين يديه، قال: ما من شيء حدثنيه كعب الأحبار إلا قد رأيته، غير هذا، فإنه قال لي: يقتلك شاب من ثقيف، فأراني قد قتلته. وقال محمد بن سيرين، لما بلغه هذا الحديث: لم يعلم ابن الزبير أن أبا محمد قد خبىء له. ولما قتل مصعب المختار بن أبي عبيد ودانت له العراق كلها: الكوفة والبصرة، قال فيه عبيد الله بن قيس الرقيات:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
إنما مصعب شهاب من الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء

(2/146)

وتزوج مصعب - لما ملك العراق - عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، ولم يكن لهما نظير في زمانهما. وقتل مصعب امرأة المختار، وهي ابنة النعمان بن بشير الأنصاري، فقال فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
إن من أعظم المصائب عندي ... قتل حوراء غادة عيطبول
قتلت باطلا على غير ذنب ... إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
مقتل عمرو بن سعيد الأشدق أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر قال: لما قدم مصعب بوجوه أهل العراق على أخيه عبد الله بن الزبير فلم يعطهم شيئا أبغضوا ابن الزبير، وكاتبوا عبد الملك بن مروان، فخرج يريد مصعب بن الزبير، فلما لم أخذ في جهازه وأراد الخروج، أقبلت عاتكة بنت يزيد بن معاوية في جواريها، وقد تزينت بالحلى، فقالت: يا أمير المؤمنين، لو قعدت في ظلال ملكك ووجهت إليه كلبا من كلابك لكفاك أمره. فقال: هيهات! أما سمعت قول الأول:
قوم إذا ما غزوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار.
فلما أبى عليها وعزم، بكت وبكى معها جواريها. فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي جمعة كأنه ينظر إلينا حيث يقول:
إذ ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما دهاها قطينها

(2/147)

ثم خرج يريد، مصعب، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشق وخالف عليه، فقيل له: ما تصنع، أتريد العراق وتدع دمشق؟ أهل الشام أشد عليك من أهل العراق؟ فرجع مكانه، فحاصر أهل دمشق حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفة بعده، وأن له مع كل عامل عاملا. ففتح له دمشق، وكان بيت المال بيد عمرو بن سعيد، فأرسل إليه عبد الملك: أن أخرج للحرس أرزاقهم. فقال: إذا كان لك حرس فإن لنا حرسا أيضا. فقال عبد الملك: أخرج لحرسك أيضا أرزاقهم. فلما كان يوم من الأيام أرسل عبد الملك إلى عمرو بن سعيد نصف النهار أن ائتني أبا أمية حتى أدبر معك أمورا. فقالت له امرأته: يا أبا أمية، لا تذهب إليه فإنني أتخوف عليك منه. فقال: أبو الذباب! والله لو كنت نائما ما أيقظني. قالت: والله ما آمنه عليك، وإني لأجد ريح دم مسفوح. فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجها. فخرج وخرج مه أربعة آلاف من أبطال أهل الشام الذين لا يقدر على مثلهم، مسلحين، فأحدقوا بخضراء دمشق وفيها عبد الملك، فقالوا: يا أبا أمية، إن رابك ريب فأسمعنا صوتك. قال: فدخل، فجعلوا يصيحون: أبا أمية! أسمعنا صوتك، وكان معه غلام أسحم شجاع، فقال له: اذهب إلى الناس! فقل لهم: ليس عليه بأس. فقال له عبد الملك: أمكرا عند الموت أبا أمية! خذوه، فأخذوه. فقال له عبد الملك: إني أقسمت إن أمكنتني منك يد أن أجعل في عنقك جامعة، وهذه جامعة من فضة أريد أن أبر بها قسمي. قال: فطرح في رقبته الجامعة، ثم طرحه إلى الأرض بيده. فانكسرت ثنيته، فجعل عبد الملك ينظر إليه. فقال عمرو: لا عليك يا أمير المؤمنين، عظم انكسر. قال: وجاء المؤذنون فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، لصلاة الظهر، فقال لعبد العزيز بن مروان: اقتله حتى أرجع إليك من الصلاة. فلما أراد عبد العزيز أن يضرب عنقه، قال له عمرو: نشدتك بالرحم يا عبد العزيز أن لا تقتلني من بينهم، فجاء عبد الملك فراه جالسا، فقال: مالك لم تقتله! لعنك الله ولعن أما ولدتك. ثم قال: قدموه إلي، فأخذ الحربة بيده، فقال عمرو: فعلتها يا بن الزرقاء! فقال له عبد الملك: إني لو علمت أنك تبقى ويصلح لي ملكي لفديتك بدم الناظر. ولكن قلما اجتمع فحلان في ذود إلا عدا أحدهما على الآخر، ثم رفع إليه الحربة فقتله. وقعد عبد الملك يرعد، ثم أمر به فأدرج في بساط وأدخل تحت السرير. وأرسل إلى قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، فدخل عليه، فقال: كيف رأيك في عمرو بن سعيد الأشدق؟ قال: وأبصر قبيصة رجل عمرو تحت السرير، فقال: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين. قال: جزاك الله خيرا، أما علمت إنك لموفق. قال قبيصة: اطرح رأسه وانثر على الناس الدنانير يتشاغلون بها. ففعل، وافترق الناس، وهرب يحيى بن سعيد بن العاص حتى لحق بعبد الله بن الزبير بمكة، فكان معه. وأرسل عبد الملك بن مروان بعد قتله عمرو بن سعيد إلى رجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق عليه الأمر، فقال له: ما ترى ما كان من فعلي بعمرو ابن سعيد؟ قال: أمر قد فات دركه. قال: لتقولن. قال: حزم لو قتلته وحييت أنت. قالت: أو لست بحي؟ قال: هيهات! ليس بحي من أوقف نفسه موقفا لا يوثق منه بعهد ولا عقد. قال: كلام لو تقدم سماعه فعلي لأمسكت. ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل عمرو بن سعيد، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن عبد الملك بن مروان قتل لطيم الشيطان، كذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون.
مقتل مصعب بن الزبير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:41 pm

فلما استقرت البيعة لعبد الملك بن مروان أراد الخروج إلى مصعب بن الزبير، فجعل يستنفر أهل الشام فيبطئون عليه، فقال له الحجاج بن يوسف: سلطني عليهم، فوالله لأخرجنهم معك. قال له: قد سلطتك عليهم. فكان الحجاج لا يمر على باب رجل من أهل الشام قد تخلف عن الخروج إلا أحرق عليه داره. فلما رأى ذلك أهل الشام خرجوا، وسار عبد الملك حتى دنا من العراق. وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة، فالتقوا بين الشام والعراق. وقد كان عبد الملك كتب كتبا إلى رجاله من وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نفسه ويجعل لهم الأموال، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك، على أن يخذلوا مصعبا إذا التقوا. فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: إن عبد الملك قد كتب إلي هذا الكتاب، وقد كتب إلى أصحابي بمثل ذلك، فادعهم الساعة فاضرب أعناقهم قال: ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي أمرهم. قال: فأخرى. قال: ما هي؟ قال: احبسهم حتى يستبين لك ذلك. قال: ما كنت لأفعل. قال: فعليك السلام، والله لا تراني بعد في مجلسك هذا أبدا. وقد كان قال له: دعني أدعو أهل الكوفة بما شرطه الله فقال: لا والله، قتلتهم أمس وأستنصر بهم اليوم! قال: فما هو إلا أن التقوا فحولوا وجوههم وصاروا إلى عبد الملك. وبقي مصعب في شرذمة قليلة. فجاءه عبيد الله بن زياد، بن ظبيان، وكان مع مصعب، فقال: أين الناس أيها الأمير؟ فقال: قد غدرتم يا أهل العراق! فرفع عبيد الله السيف ليضرب مصعبا، فبدره مصعب فضربه بالسيف على البيضة، فنشب السيف في البيضة، فجاء غلام لعبيد الله ابن زياد بن ظبيان، فضرب مصعبا بالسيف فقتله. ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول:
نطيع ملوك الأرض ما أقسطوا لنا ... وليس علينا. قتلهم بمحرم
قال: فلما نظر عبد الملك إلى رأس مصعب خر ساجدا. فقال عبيد الله بن زياد، بن ظبيان، وكان من فتاك العرب: ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب فخر ساجدا أن لا أكون ضربت عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد. وقال في ذلك عبيد الله ابن زياد، بن ظبيان:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت فأدمنت البكا لأقاربه
فأوردتها في النار بكر بن وائل ... وألحقت من قد خر شكرا بصاحبه
الرياشي عن الأصمعي قال: لما أتي عبد الملك برأس مصعب بن الزبير نظر إليه مليا، ثم قال: متى تلد قريش مثلك! وقال: هذا سيد شباب قريش.
وقيل لعبد الملك: أكان مصعب يشرب الطلاء؛ فقال: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه.
ولما قتل مصعب دخل الناس على عبد الملك يهنئونه، ودخل معهم شاعر فأنشده:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها

(2/149)

فأمر له بعشرة آلاف درهم. وقالوا: كان مصعب أجل الناس، وأسخى الناس، وأشجع الناس. وكان تحته عقيلتا قريش: عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. ولما قتل مصعب خرجت سكينة بنت الحسين تريد المدينة، فأطاف بها أهل العراق، وقالوا: أحسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله. فقالت: لا جزاكم الله عني خيرا، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد، قتلتم أبي وجدي وعمي وزوجي، أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرة. ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل مصعب صعد المنبر فجلس عليه، ثم سكت، فجعل لونه يحمر مرة ويصفر مرة، فقال رجل من قريش لرجل إلى جنبه: ماله لا يتكلم! فوالله إنه للخطيب اللبيب. فقال له الرجل: لعله يريد أن يذكر مقتل سيد العرب فيشتد ذلك عليه، وغير ملوم. ثم تكلم فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، والدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، أما بعد. فإنه لم يعز من كان الباطل معه، ولو كان معه الأنام طرا، ولم يذل من كان الحق معه، ولو كان فردا. ألا وإن خبرا من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا، فأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه، ثم يرعوى ذوو الألباب إلى الصبر وكريم الأجر؛ وأما الذي أفرحنا، فإن قتل مصعب له شهادة ولنا ذخيرة. أسلمه الطغام، والصلم الآذان، أهل العراق، وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه، فإن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وابن عمه، وكانوا الخيار الصالحين. أما والله لا نموت حتف أنوفنا، كما يموت بنو مروان، ولكن قعصا بالرماح وموتا تحت ظلال السيوف، فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها مأخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرف الزائل العقل. ولما توطد لابن الزبير أمره وملك الحرمين والعراقين أظهر بعض بني هاشم الطعن عليه، وذلك بعد موت الحسن والحسين، فدعا عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية وجماعة من بني هاشم إلى بيعته، فأبوا عليه، فجعل يشتمهم ويتناولهم على المنبر، وأسقط ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، فعوتب على ذلك، فقال: والله ما يمنعني أني لا أذكره علانية من ذكره سرا وأصلي عليه، ولكن رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. ثم قال: لتبايعن أو لأحرقنكم بالنار. فأبوا عليه، فحبس محمد بن الحنفية في خمسة عشر من بني هاشم في السجن، وكان السجن الذي حبسهم فيه يقال له سجن عارم. فقال في ذلك كثير عزة، وكان ابن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم يفي سجن عارم
سمي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أغلال وقاضي مغارم
وكان أيضا يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم. وفي ذلك يقول رجل من الشعراء في رملة بنت الزبير:
ألا من لقلب معنى غزل ... بذكر المحلة أخت المحل
ثم إن المختار بن أبي عبيد وجه رجالا يثق بهم من الشيعة، يكمنون النهار ويسيرون الليل، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم.
وخطب عبد الله بن الزبير بعد موت الحسن والحسين، فقال: أيها الناس، إن فيكم رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، قاتل أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفتى بزواج المتعة. وعبد الله بن عباس في المسجد، فقام وقال لعكرمة: أقم وجهي نحوه يا عكرمة، ثم قال هذا البيت:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي فؤادي وعقلي منهما نور

(2/150)

وأما قولك يا بن الزبير إني قاتلت أم المؤمنين، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سميت أم المؤمنين، فكنا لها خير بنين، فتجاوز الله عنها. وقاتلت أنت وأبوك عليا؛ فإن كان علي مؤمنا، فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان كافرا، فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزحف. وأما المتعة، فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها فأفتيت بها، ثم سمعته ينهي عنها، وأول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير.
مقتل عبد الله بن الزبير
أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر قال: لما بايع الناس عبد الملك بن مروان بعد قتل مصعب بن الزبير ودخل الكوفة، قال له الحجاج: إني رأيت في المنام كأني أسلخ ابن الزبير من رأسه إلى قدميه. فقال له عبد الملك: أنت له، فاخرج إليه. فخرج إليه الحجاج لا ألف وخمسمائة، حتى نزل الطائف. وجعل عبد الملك يرسل إليه الجيوش رسلا بعد رسل، حتى توافي إليه الناس قدر ما يظن أنه يقوى على قتال ابن الزبير، وكان ذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين. فسار الحجاج من الطائف حتى نزل منى، فحج بالناس، وابن الزبير محصور، ثم نصب الحجاج المجانيق على أبي قبيس وعلى قعيقان ونواحي مكة كلها، يرمي أهل مكة بالحجارة. فلما كانت الليلة التي قتل يا صبيحتها ابن الزبير، جمع ابن الزبير من كان معه من القرشيين فقال: ما ترون؟ فقال رجل من بني مخزوم من آل بني ربيعة: والله لقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقيلا، ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي إحدى خصلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا، وإما أن تأذن لنا فنخرج. فقالت ابن الزبير: لقد كنت عاهدت الله أن لا يبايعني أحد فأقيله بيعته إلا ابن صفوان. فقال ابن صفوان: أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت بموتك، وإنها لتأخذني الحفيظة أن أسلمك في مثل هذه الحالة. وقال له رجل آخر: اكتب إلي عبد الملك بن مروان. فقال له: كيف أكتب: من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؛ فوالله لا يقبل هذا أبدا، أم أكتب: لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟ فوالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إلي من ذلك. فقال عروة بن الزبير، وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين، قد جعل الله لك أسوة. قال: من هو؟ قال: حسن بن علي، خلع نفسه وبايع معاوية. فرفع ابن الزبير رجله فضرب بها عروة حتى ألقاه عن السرير، وقال: يا عروة، قلبي إذا مثل قلبك! والله لو قبلت ما تقولون ما عشت إلا قليلا، وقد أخذت الدنية، وإن ضربة بسيف في عز خير من لطمة في ذل. فلما أصبح دخل عليه بعض نسائه، وهي أم هاشم بنت منصور بن زياد الفزارية، فقال لها: اصنعي لنا طعاما، فصنعت له كبدا وسناما. فأخذ منه لقمة فلاكها ثم لفظها، ثم قال: اسقوني لبنا. فأتي بلبن فشرب منه. ثم قال: هيئوا لي غسلا، فاغتسل ثم تحنط وتطيب، ثم نام نومة، وخرج ودخل على أمه أسماء بنت أبي بكر ذات. النطاقين، وهي عمياء، وقد بلغت مائة سنة، فقال: يا أماه، ما ترين، قد خذلني الناس وخذلني أهل بيتي؟ فقالت: لا يلعبن بك صبيان بني أمية، عش كريما ومت كريما. فخرج فأسند ظهره إلى الكعبة ومعه نفر يسير، فجعل يقاتلهم ويهزمهم وهو يقول: ويله! يا له فتحا لو كان له رجال! فناداه الحجاج: قد كان لك رجال فضيعتهم. وجعل ينظر إلى أبواب المسجد والناس يهجمون عليه فيقول: من هؤلاء؟ فيقال له أهل مصر. قال: قتلة عثمان! فحمل عليهم، وكان فيهم رجل من أهل الشام، يقال له خلبوب، فقال لأهل الشام: أما تستطيعون إذا ولى ابن الزبير أن لأخذوه بأيديكم؛ قالوا: ويمكنك أنت أن تأخذه بيدك؟ قال نعم. قالوا: فشأنك. فاقبل وهو يريد أن يحتضنه، وابن الزبير يرتجز ويقول:
لو كان قرني واحدا كفيته

(2/151)

فضربه ابن الزبير بالسيف فقطع يده. فقال خلبوب: حس قال ابن الزبير: اصبر خلبوب. قال: وجاءه حجر من حجارة المنجنيق، فأصاب قفاه فسقط. فاقتحم أهل الشام عليه. فما فهموا قتله حتى سمعوا جارية تبكي وتقول: وا أمير المؤمنيناه! فحزوا رأسه وذهبوا به إلى الحجاج. وقتل معه عبد الله بن صفوان، وعمارة بن حزم، وعبد الله بن مطيع.
قال أبو معشر: وبعث الحجاج برؤوسهم إلى المدينة. فنصبوها للناس، فجعلوا يقربون رأس ابن صفوان إلى ابن الزبير، كأنه يساره، ويلعبون بذلك. ثم بعث برؤوسهم إلى عبد الملك بن مروان. فخرجت أسماء إلى الحجاج، فقالت له: أتأذن لي أن أدفنه فقد قضيت أربك منه؟ قال: لا. ثم قال لها: ما ظنك برجل قتل عبد الله بن الزبير؟ قالت: حسيبه الله. فلما منعها أن تدفنه قالت: أما إني سمعت رسول الله يقول: يخرج من ثقيف رجلان: الكذاب والمبير، فأما الكذاب فالمختار، وأما المبير فأنت. فقال الحجاج: اللهم مبير لا كذاب. ومن غير رواية أبي عبيد قال: لما نصب الحجاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزبير أظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصواعق، ففزع الناس وامسكوا عن القتال. فقام فيهم الحجاج فقال: أيها الناس، لا يهولنكم هذا، فإني أنا الحجاج بن يوسف وقد أصحرت لربي، فلو ركبنا عظيما لحال بيننا وبينه. ولكنها جبال تهامة لم تزل الصواعق تنزل بها. ثم أمر بكرسي، فطرح له، ثم قال: يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات أمير المؤمنين. فكان أهل الشام إذا رموا الكعبة يرتجزون ويقولون هذا:
خطارة مثل الفتيق المزبد ... يرمى بها عواذ أهل المسجد
ويقولون أيضا: دري عقاب، بلبن وأشخاب. فلما رأى ذلك ابن الزبير خرج إليهم بسيفه، فقاتلهم حينا. فناداه الحجاج: ويلك يا بن ذات النطاقين! اقبل الأمان وادخل في طاعة أمير المؤمنين. فدخل على أمه أسماء، فقال لها: سمعت - رحمك الله - ما يقول القوم وما يدعونني إليه من الأمان؟ قالت: سمعتهم لعنهم الله! فما أجهلهم وأعجب منهم إذ يعيرونك بذات النطاقين! ولو علموا ذلك لكان ذلك أعظم فخرك عندهم. قالت: وما ذاك يا أماه؟ قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره مع أبي بكر، فهيأت لهما سفرة، فطلبا شيئا يربطانها بها، فما وجداه، فقطعت من مئزري لذلك ما احتاجا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن لك به نطاقين في الجنة. فقال عبد الله: الحمد لله حمدا كثيرا، فما تأمريني به، فإنهم قد أعطوني الأمان؟ قالت: أرى أن تموت كريما ولا تتبع فاسقا لئيما، وأن يكون آخر نهارك أكرم من أوله. فقبل رأسها وودعها، وضمته إلى نفسها. ثم خرج من عندها، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الموت قد تغشاكم سحابه، وأحدف بكم ربابه، واجتمع بعد تفرق، وارجحن بعد تمشق، ورجس نحوكم رعده، وهو مفرغ عليكم ودقه، وقاد إليكم البلايا تتبعها المنايا، فاجعلوا السيوف لها غرضا، واستعينوا عليها بالصبر. وتمثل بأبيات، ثم اقتحم يقاتل وهو يقول:
قد جد أصحابك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب لها على ساق

(2/152)

ثم جعل يقاتل وحده ولا يهده شيء، كلما اجتمع عليه القوم فرقهم وذادهم، حتى أثخن بالجراحات ولم يستطع النهوض. فدخل عليه الحجاج، فدعا بالنطع فحز رأسه هو بنفسه في داخل مسجد الكعبة - لا رحم الله الحجاج - ثم بعث برأسه إلى عبد الملك بن مروان، وقتل من أصحابه من ظفر به. ثم أقبل فاستأذن على أمه أسماء بنت أبي بكر ليعزيها، فأذنت له، فقالت له: يا حجاج، قتلت عبد الله؟ قال: يا ابنة أبي بكر، إني لقاتل الملحدين. قالت: بل أنت قاتل المؤمنين الموحدين. قال لها: كيف رأيت ما صنعت بابنك؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، ولا ضير أن أكرمه الله على يديك، فقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. هشام بن عروة عن أبيه قال: كان عثمان استخلف عبد الله بن الزبير على الدار يوم الدار، فبذلك ادعى ابن الزبير الخلافة. محمد بن سعيد قال: لما نصب الحجاج راية الأمان وتصرم الناس عن ابن الزبير قال لعبد الله بن صفوان: قد أقلتك بيعتي وجعلتك في سعة، فخذ لنفسك أمانا. فقال: مه، والله ما أعطيتك إياها حتى رأيتك أهلا لها، وما رأيت أحدا أولى بها منك، فلا تضرب هذه الصلعة فتيان بني أمية أبدا، وأشار إلى رأسه. قال: فحدثت سليمان بن عبد الملك حديثه، فقال: إني كنت لأراه أعرج جبانا. فلما كانت الليلة التي قتل في صباحها ابن الزبير، أقبل عبد الله بن صفوان، وقد دنا أهل الشام من المسجد، فاستأذن. فقالت الجارية: هو نائم. فقال: أو ليلة نوم هذه؟ أيقظيه، فلم تفعل. فأقام، ثم استأذن. فقالت: هو نائم، فانصرف. ثم رجع آخر الليل وقد هجم القوم على المسجد. فخرج إليه، فقال: والله ما نمت منذ عقلت الصلاة نومي هذه الليلة وليلة الجمل، ثم دعا بالسواك، فاستاك متمكنا، ثم توضأ متمكنا، ولبس ثيابه، ثم قال: أنظرني حتى أودع أم عبد الله، فلم يبق شيء، وكان يكره أن يأتيها فتعزم عليه أن يأخذ الأمان، فدخل عليها وقد كف بصرها، فسلم، فقالت: من هذا؟ فقال: عبد الله، فشمته، ثم قالت: يا بني، مت كريما. فقال لها: إن هذا قد أمنني - يعني الحجاج - قالت: يا بني، لا ترض الدنية، فإن الموت لا بد منه. قال: إني أخاف أن يمثل بي. قالت: إن الكبش إذا ذبح لم يأمن السلخ. قال: فخرج، فقاتل قتالا شديدا. فجعل يهزمهم، ثم يرجع ويقول: يا له فتحا لو كان له رجال! أو كان المصعب أخي حيا! فلما حضرت الصلاة صلى صلاته، ثم قال: أين باب أهل مصر؟ حنقا لعثمان. فقاتل حتى قتل، وقتل معه عبد الله بن صفوان. وأتي برأسه الحجاج وهو فاتح عينيه وفاه، فقال: هذا رجل لم يكن يعرف القتل ولا ما يصير إليه المقتول، لذلك فتح عينيه وفاه. هشام بن عروة عن أبيه: إن عبد الله بن الزبير كان أول مولود ولد في الإسلام، فلما ولد كبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولما قتل كبر الحجاج ابن يوسف وأهل الشام معه. فقال ابن عمر: ما هذا؟ قالوا: كبر أهل الشام لقتل عبد الله بن الزبير. قال: الذين كبروا لمولده خير من الذين كبروا لقتله. أيوب عن أبي قلابة: شهدت ابنة أبي بكر غسلت ابنها ابن الزبير بعد شهر، وقد تقطعت أوصاله وذهب برأسه، وكفنته وصلت عليه. هشام بن عروة قال: عبد الله بن عباس للجائز به: جنبني خشبة ابن الزبير. فلم يشعر ليلة حتى عثر فيها، فقال: ما هذا؟ فقال: خشبة ابن الزبير. فوقف ودعا له، وقال: لئن علتك رجلاك لطالما وقفت عليهما في صلاتك. ثم قال لأصحابه: أما والله ما عرفته إلا صواما قواما، ولكنني ما زلت أخاف عليه منذ رأيته أن، تعجبه بغلات معاوية الشهب. قال: وكان معاوية قد حج فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء عليها رحائل الأرجوان، فيها الجواري عليهن الجلابيب والمعصفرات، ففتن الناس.
أولاد عبد الملك بن مروان الوليد، وسليمان، من العبسية، ويزيد، وهشام، وأبو بكر، ومسلمة، وسعيد الخير، وعبد الله، وعنبسة، والحجاج، والمنذر، ومروان الأكبر، ومروان الأصغر - ولم يعقب مروان الأكبر - ومحمد، ومعاوية، درج.
وفاة عبد الملك بن مروان

(2/153)

توفي عبد الملك بن مروان بدمشق للنصف من شوال سنة ست وثمانين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه الوليد بن عبد الملك. وولد عبد الملك في المدينة في دار مروان سنة ثلاث وعشرين، وكتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان عامله على المدينة، أن يدعو الناس إلى البيعة لابنيه الوليد وسليمان. فبايع الناس، غير سعيد بن المسيب، فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حي. فضربه هشام ضربا مبرحا، وألبسه المسوح، وأرسله إلى ثنية بالمدينة يقتلونه عندها ويصلبونه، فلما انتهوا به إلى الموضع ردوه. فقال سعيد: لو علمت أنهم لا يصلبونني ما لبست لهم التبان. وبلغ عبد الملك خبره فقال: قبح الله هشاما، مثل سعيد بن المسيب يضرب بالسياط! إنما كان ينبغي له أن يدعوه إلى البيعة فإن أب يضرب عنقه. وقال للوليد: إذا أنا مت فضعني في قبري ولا تعصر في عينيك عصر الأمة، ولكن شمر، وائتزر، والبس للناس جلد النمر، فمن قال برأسه كذا فقل بسيفك كذا.
ولاية الوليد بن عبد الملك
ثم بويع للوليد بن عبد الملك في النصف من شوال سنة ست وثمانين. وأم الوليد ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي. وكان على شرطته كعب بن حماد، ثم عزله وولى أبا نائل بن رياح ابن عبدة الغساني. ومات الوليد يوم السبت في النصف من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين، وهو ابن أربع وأربعين. وصلى عليه سليمان. وكانت ولايته عشر سنين غير شهور.
ولد الوليد بن عبد الملك عبد العزيز ومحمد، وعنبسة، ولم يعقبوا - وأمهم أم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان - والعباس، وبه كان يكنى، ويقال: إنه كان أكبرهم، وعمر، وبشر، وروح، وتمام، ومبشر، وحزم، وخالد، ويزيد، ويحيى، وإبراهيم، وأبو عبيدة، ومسرور ومنصور، ومروان، وصدقة، لأمهات أولاد. وأم أبي عبيدة فزارية. وكان أبو عبيدة ضعيفا. وولي الخلافة من ولد الوليد إبراهيم، شهرين ثم خلع. وولي يزيد الكامل شهرا ثم مات. وكان تمام ضعيفا، هجاه رجل فقال:
بنو الوليد كرام في أرومتهم ... نالوا المكارم طرا غير تمام
ومسرور بن الوليد، وكان ناسكا، وكانت عنده بنت الحجاج. وكان بشر من فتيانهم، وروح من غلمانهم، والعباس من فرسانهم؛ وفيه يقول الفرزدق:
إن أبا الحارث العباس نائله ... مثل السماك الذي لا يخلف المطرا
وكانت تحته بنت قطري بن الفجاءة، سباها وتزوجها. وله منها: المؤمل والحارث، وكان عمر من رجالهم، كان له تسعون ولدا، ستون منهم كانوا يركبون معه إذا ركب. وقال رجل من أهل الشام: ليس من ولد الوليد أحد إلا ومن رآه يحسب أنه من أفضل أهل بيته، ولو وزن بهم أجمعين عبد العزيز لرجحهم. وفيهم يقول جرير:
وبنو الوليد من الوليد بمنزل ... كالبدر حف بواضحات الأنجم
وعبد العزيز بن الوليد أراد أبوه أن يبايع له بعد سليمان فأي عليه سليمان. وحدث الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: لما أراد الوليد أن يبايع لابنه عبد العزيز بعد سليمان أبى ذلك سليمان وشنع عليه، فقيل للوليد: لو أمرت الشعراء أن يقولوا في ذلك لعله كان يسكت، فتشهد عليه بذلك. فدعا الأقبيل القيني، فقال له: ارتجز بذلك وهو يسمع. فدعا سليمان فسايره، والأقبيل خلفه، فرفع صوته وقال:
إن ولي العهد لابن أمه ... ثم ابنه ولي عهد عمه
قد رضي الناس به فسمه ... فهو يضم الملك في مضمه
يا ليتها قد خرجت من فمه
فالتفت إليه سليمان، وقال: يا بن الخبيثة، من رضي بهذا! أخبار الوليد

(2/154)

أبو الحسين المدائني قال: كان الوليد أسن ولد عبد الملك وكان يحبه، فتراخى في تأديبه لشدة حبه إياه، فكان لحانا. وقال عبد الملك: أضرنا في الوليد حبنا له. فلم يوجهه إلى البادية. وقال الوليد يوما وعنده عمر بن عبد العزيز: يا غلام، ادع لي صالح. فقال الغلام: يا صالحا. فقال له الوليد: انقص ألفا. فقال عمر بن عبد العزيز: وأنت يا أمير المؤمنين فزد ألفا. وكان الوليد عند أهل الشام أفضل خلفائهم، وأكثرهم فتوحا، وأعظمهم نفقة في سبيل الله، بنى مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنابر، وأعطى المجذومين حتى أغناهم عن سؤال الناس، وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا. وكان يمر بالبقال فيتناول قبضة فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها فإنك تربح. ومر الوليد بمعلم كتاب فوجد عنده صبية، فقال: ما تصنع هذه عندك؟ فقال: أعلمها الكتابة والقرآن. قال: فاجعل الذي يعلمها أصغر منها سنا. وشكا رجل من بني مخزوم دينا لزمه، فقال: نقضيه عنك إن كنت لذلك مستحقا. قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقا في منزلتي وقرابتي؟ قال: قرأت القرآن؟ قال: لا. ادن مني، فدنا منه، فنزع العمامة عن رأسه بقضيب في يده، ثم قرعه به قرعة، وقال لرجل من جلسائه: ضم إليك هذا العلج ولا تفارقه حتى يقرأ القرآن. فقام إليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين، اقض ديني، فقال له: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. فاستقرأه عشرا من الأنفال وعشرا من براءة، فقرأ. فقال نعم، نقضي دينك وأنت أهل لذلك. وركب الوليد بعيرا وحاد يحدو بين يديه، والوليد يقول:
يا أيها البكر الذي أراكا ... ويحك تعلم الذي علاكا
خليفة الله الذي امتطاكا ... لم يحب بكر مثل ما حباكا
ولاية سليمان بن عبد الملك
أبو الحسن المدائني: ثم بويع سليمان بن عبد الملك في ربيع الأول سنة ست وتسعين. ومات سنة تسع وتسعين بدابق، يوم الجمعة لعشر خلون من صفر، وهو ابن ثلاث وأربعين. وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وكانت ولايته سنتين وعشرة أشهر ونصفا. ولد سليمان فصيحا جميلا وسيما، نشأ بالبادية عند أخواله بني عبس. وكانت ولايته يمنا وبركة، افتتحها بخير وختمها بخير. أما افتتاحه فيها بخير، فرد المظالم، وأخرج المسجونين وبغزاة مسلمة بن عبد الملك الصائفة حتى بلغ القسطنطينية. وأما ختمها بخير، فاستخلافه عمر بن عبد العزيز. ولبس يوما واعتم بعمامة، وكانت عنده جارية حجازية، فقال لها: كيف ترين الهيئة؟ فقالت: أنت أجمل العرب، لولا! قال: على ذلك لتقولن. قالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
أنت خلو من العيوب ومما ... يكره الناس غير أنك فاني
قال: فتنغص عليه ما كان فيه، فما لبث بعدها إلا أياما حتى توفي رحمه الله. وتفاخر ولد لعمر بن عبد العزيز وولد لسليمان بن عبد الملك، فذكر ولد عمر فضل أبيه وخاله. فقال له ولد سليمان: إن شئت فأقلل وإن شئت فأكثر، فما كان أبوك إلا حسنة من حسنات أبي. محمد بن سليمان قال: فعل سليمان في يوم واحد ما لم يفعله عمر بن عبد العزيز في طول عمره: أعتق سبعين ألفا ما بين مملوك ومملوكة وبتتهم، أي كساهم. والبت: الكسوة.
ولد سليمان أيوب، وأمه أم أبان بنت الحكم بن العاص، وهو أكبر ولد سليمان وولي عهده، فمات في حياة سليمان، وله يقول جرير:
إن الإمام الذي ترجى فواضله ... بعد الإمام ولي العهد أيوب
وعبد الواحد، وعبد العزيز، أمهما أم عامر بنت عبدا لله بن خالد بن أسيد. وفي عبد الواحد يقول القضامي:
أهل المدينة لا يحزنك حالهم ... إذا تخطأ عبد الواحد الأجل
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
ولما مات أيوب، ولي عهد سليمان بن عبد الملك قال ابن، عبد الأعلى يرثيه، وكان من خواصه:
ولقد أقول لذي الشماتة إذ رأى ... جزعي ومن يذق الحوادث يجزع

(2/155)

أبشر فقد قرع الحوادث مروتي ... وأفرح بمروتك التي لم تقرع
إن عشت تفجع بالأحبه كلهم ... أو يفجعوا بك إن بهم لم تفجع
أيوب من يشمت بموتك لم يطق ... عن نفسه دفعا وهل من مدفع
أخبار سليمان بن عبد الملك أبو الحسن المدائني قال: لما بلغ قتيبة بن مسلم أن سليمان بن عبد الملك عزله عن خراسان واستعمل يزيد بن المهلب، كتب إليه ثلاث صحف، وقال للرسول: ادفع إليه هذه، فإن دفعها إلى يزيد فادفع إليه هذه، فإن شتمني فادفع إليه هذه. فلما سار الرسول إليه دفع الكتاب إليه، وفيه: يا أمير المؤمنين، إن من بلائي في طاعة أبيك وأخيك كيت وكيت. فدفع كتابه إلى يزيد. فأعطاه الرسول الكتاب الثاني، وفيه: يا أمير المؤمنين، كيف تأمن ابن دحمة على أسرارك وأبوه لم يأمنه على أمهات أولاده؟ فلما قرأ الكتاب شتمه وناوله ليزيد. فأعطاه الثالث وفيه: من قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد. فوالله لأوثقن له أخية لا ينزعها المهر الأرن. فلما قرأها قال سليمان: عجلنا على قتيبة، يا غلام، جدد له عهدا على خراسان. ودخل يزيد بن أبي مسلم، كاتب الحجاج، على سليمان. فقال له سليمان: أترى الحجاج استقر في قعر جهنم، أم هو يهوى فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه من النار حيث شئت. قال: فأمر به إلى الحبس، فكان فيه طول ولايته. قال محمد بن يزيد الأنصاري: فلما ولي عمر بن عبد العزيز، بعثني. فأخرجت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:43 pm

أبشر فقد قرع الحوادث مروتي ... وأفرح بمروتك التي لم تقرع
إن عشت تفجع بالأحبه كلهم ... أو يفجعوا بك إن بهم لم تفجع
أيوب من يشمت بموتك لم يطق ... عن نفسه دفعا وهل من مدفع
أخبار سليمان بن عبد الملك أبو الحسن المدائني قال: لما بلغ قتيبة بن مسلم أن سليمان بن عبد الملك عزله عن خراسان واستعمل يزيد بن المهلب، كتب إليه ثلاث صحف، وقال للرسول: ادفع إليه هذه، فإن دفعها إلى يزيد فادفع إليه هذه، فإن شتمني فادفع إليه هذه. فلما سار الرسول إليه دفع الكتاب إليه، وفيه: يا أمير المؤمنين، إن من بلائي في طاعة أبيك وأخيك كيت وكيت. فدفع كتابه إلى يزيد. فأعطاه الرسول الكتاب الثاني، وفيه: يا أمير المؤمنين، كيف تأمن ابن دحمة على أسرارك وأبوه لم يأمنه على أمهات أولاده؟ فلما قرأ الكتاب شتمه وناوله ليزيد. فأعطاه الثالث وفيه: من قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد. فوالله لأوثقن له أخية لا ينزعها المهر الأرن. فلما قرأها قال سليمان: عجلنا على قتيبة، يا غلام، جدد له عهدا على خراسان. ودخل يزيد بن أبي مسلم، كاتب الحجاج، على سليمان. فقال له سليمان: أترى الحجاج استقر في قعر جهنم، أم هو يهوى فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه من النار حيث شئت. قال: فأمر به إلى الحبس، فكان فيه طول ولايته. قال محمد بن يزيد الأنصاري: فلما ولي عمر بن عبد العزيز، بعثني. فأخرجت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:45 pm

من السجن من حبس سليمان، ما خلا يزيد بن أبي مسلم فقد رد. فلما مات عمر بن عبد العزيز ولاه يزيد بن عبد الملك إفريقية، وأنا فيها، فأخذت فأتي بي إليه في شهر رمضان عند الليل، فقال: محمد بن يزيد؛ قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي مكنني منك بلا عهد ولا عقد، فطالما سألت الله أن يمكنني منك. قلت: وأنا والله طالما استعذت بالله منك. قال: فوالله ما أعاذك الله مني، ولو أن ملك الموت سابقني إليك لسبقته. قال: فأقيمت صلاة المغرب، فصلى ركعة، فثارت عليه الجند فقتلوه، وقالوا لي: خذ أي طريق شئت. وأراد سليمان بن عبد الملك أن يحجر على يزيد بن عبد الملك، وذلك أنه تزوج سعدى بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان فأصدقها عشرين ألف دينار، واشترى جارية بأربعة آلاف دينار. فقال سليمان: لقد هممت أن أضرب على يد هذا السفيه، ولكن كيف أصنع بوصية أمير المؤمنين بابني عاتكة: يزيد ومروان! وحبس سليمان بن عبد الملك موسى بن نصير وأوحى إليه: اغرم ديتك خمسين مرة. فقال موسى: ما عندي ما أغرمه. فقال. والله لتغرمنها مائة مرة. فحملها عنه يزيد بن المهلب، وشكر ما كان من موسى إلى أبيه المهلب أيام بشر بن مروان، وذلك أن بشرا هم بالمهلب، فكتب إليه مولى يحذره، فتمارض المهلب ولم يأته حين أرسل إليه. وكان خالد بن عبد الله القسري واليا على المدينة للوليد، ثم أقره سليمان، وكان قاضي مكة طلحة بن هرم، فاختصم إليه رجل من بني شيبة، الذين إليهم مفتاح الكعبة، يقال له الأعجم، مع ابن أخ له في أرض لهما، فقضى للشيخ على ابن أخيه، وكان متصلا بخالد بن عبد الله، فأقبل إلى خالد فأخبره، فحال خالد بين الشيخ وبين ما قضى له القاضي. فكتب القاضي كتابا إلى سليمان يشكو له خالدا، ووجه الكتاب إليه مع محمد بن طلحة. فكتب سليمان إلى خالد: لا سبيل لك على الأعجم ولا ولده. فقدم محمد بن طلحة بالكتاب على خالد وقال: لا سبيل لك علينا، هذا كتاب أمير المؤمنين. فأمر به خالد فضرب مائة سوط قبل أن يقرأ كتاب سليمان. فبعث القاضي ابنه المضروب إلى سليمان، وبعث ثيابه التي ضرب فيها بدمائها. فأمر سليمان بقطع يد خالد. فكلمه يزيد ابن المهلب، وقال: إن كان ضربه يا أمير المؤمنين بعد ما قرأ الكتاب تقطع يده، وإن كان ضربه قبل ذلك فعفو أمير المؤمنين أولى بذلك. فكتب سليمان إلى داود بن طلحة بن هرم: إن كان ضرب الشيخ بعدما قرأ الكتاب الذي أرسلته فاقطع يده، وإن كان ضربه قبل أن يقرأ كتابي فاضربه مائة سوط. فأخذ داود بن طلحة، لما قرأ الكتاب، خالدا فضربه مائة سوط. فجزع خالد من الضرب، فجعل يرفع يديه. فقال له الفرزدق: ضم إليك يديك يا بن النصرانية. فقال: ليهنأ الفرزدق، وضم يديه. وقال الفرزدق:
لعمري لقد صبت على متن خالد ... شآبيب لم يصببن من صبب القطر
فلولا يزيد بن المهلب حلقت ... بكفك فتخاء الجناح إلى الوكر
فردت أم خالد عليه تقول:
لعمري لقد باع الفرزدق عرضه ... بخسف وصلى وجهه حامي الجمر
فكيف يساوي خالدا أو يشينه ... خميص من التقوى بطين من الخمر
وقال الفرزدق أيضا في خالد القسري:
سلوا خالدا، لا قدس الله خالدا ... متى ملكت قسر قريشا تدينها؟
أقبل رسول الله أو بعد عهده ... فتلك قريش قد أغث سمينها
رجونا هداه، لا هدى الله قلبه ... وما أمه بالأم يهدى جنينها
فلم يزل خالد محبوسا بمكة حتى حج سليمان وكلمه فيه المفضل بن المهلب. فقال سليمان: لاطت بك الرحم أبا عثمان، إن خالدا جرعني غيظا. قال: يا أمير المؤمنين، هبني ما كان من ذنبه. قال: قد فعلت، ولا بد أن يمشي إلى الشام راجلا. فمشى خالد إلى الشام راجلا. وقال الفرزدق يمدح سليمان ابن عبد الملك.
سليمان غيث الممحلين ومن به ... عن البائس المسكين حلت سلاسله
وما قام من بعد النبي محمد ... وعثمان فوق الأرض راع يماثله

(2/157)

جعلت مكان الجور في الأرض مثله ... من العدل إذ صارت إليك محامله
وقد علموا أن لن يميل بك الهوى ... وما قلت من شيء فإنك فاعله
زياد عن مالك: إن سليمان بن عبد الملك قال يوما لعمر بن العزيز: كذبت! قال: والله ما كذبت منذ شددت علي إزاري، وإن في غير هذا المجلس لسعة، وقام مغضبا، فتجهز يريد مصر. فأرسل إليه سليمان، فدخل عليه، فقال له: يا بن عمي. إن المعاتبة تشق علي، ولكن والله ما أهمني أمر قط من ديني ودنياي إلا كنت أول من أذكره لك.
وفاة سليمان بن عبد الملك قال رجاء بن حيوة: قال لي سليمان: إلى من ترى أن أعهد؟ فقلت: إلى عمر بن عبد العزيز. قالت: كيف نصنع بوصية أمير المؤمنين بابني عاتكة، من كان منهما حيا؟ قلت: تجعل الأمر بعده ليزيد. قالت: صدقت. قال: فكتب عهده لعمر ثم ليزيد بعده. ولما ثقل سليمان قال: ائتوني بقمص بني أنظر إليها. فأتي بها، فنشرها فرآها قصارا، فقال:
إن بني صبية صغار ... أفلح من كان له كبار
فقال له عمر: أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى.
وكان سبب موت سليمان بن عبد الملك أن نصرانيا أتاه وهو بدابق بزنبيل مملوء بيضا وآخر مملوء تينا. قال: قشروا، فقشروا. فجعل يأكل بيضة وتينة، حتى أتى على الزنبيلين. ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا بسكر، فأكله، فأتخم فمرض فمات. ولما حج سليمان تأذى بحر مكة، فقال له عمر بن عبد العزيز: لو أتيت الطائف. فأتاها، فلما كان بسحق لقيه ابن أبي الزهير، فقال: يا أمير المؤمنين، اجعل بعض منزلك علي. قال: كل منزلي، فرمى بنفسه على الرمل. فقيل له: يساق إليك الوطاء؟ فقال: الرمل أحدث إلي، وأعجبه برده، فألزق بالرمل بطنه. قال: فأتي إليه بخمس رمانات فأكلها، ثم قال: أعندكم غير هذه؟ فجعلوا يأتونه بخمس بعد خمس، حتى أكل سبعين رمانة. ثم أتوه بجدي وست دجاجات فأكلهن. وأتوه بزبيب من زبيب الطائف، فنثر بين يديه، فأكل عامته، ونعس. فلما انتبه، أتوه بالغداء، فأكل كما أكل الناس. فأقام يومه، ومن غد قال لعمر: أرانا قد أضررنا بالقوم. وقال لابن أبي الزهير: اتبعني إلى مكة، فلم يفعل. فقالوا له: لو أتيته؟ فقال: أقول ماذا: أعطني ثمن قراي الذي قريتكه! العتبي عن أبيه عن الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص قال: لما قدم سليمان بن عبد الملك الطائف دخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه بستانا لعمرو. قال: فجال في البستان ساعة ثم قال: ناهيك بمالكم هذا مالا! ثم ألقى صدره على غصن وقال: ويلك يا شمردل! ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى، والله عندي جدي كانت تغدو عليه بقرة وتروح أخرى. قال: عجل به، ويحك! فأتيته بن كأنه عكة سمن، فأكله، وما دعا عمر ولا ابنه، حتى إذا بقي الفخذ، قال: هلم أبا حفص. قال: أنا صائم، فأتى عليه. ثم قال: ويلك يا شمردل! ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، دجاجتان هنديتان كأنهما رألا النعام، فأتيته بهما، فكان يأخذ برجل الدجاجة فيلقى عظامها نقية، حتى أتى عليهما. ثم رفع رأسه فقال: وبلك يا شمردل! ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى، عندي حريرة كأنها قراضة ذهب. قال: عجل بها، ويلك! فأتيته بعس يغيب فيه الرأس، فجعل يتلقمها بيده ويشرب. فلما فرغ تجشأ فكأنما صاح في جب. ثم قال: يا غلام، أفرغت من غدائي؟ قال نعم. قال: وما هو؟ قال: ثمانون قدرا. قال: ائتني بها قدرا قدرا. قال: فأكثر ما أكل من كل قدر ثلاث لقم، وأقل ما أكل لقمة. ثم مسح يده واستلقى على فراشه، ثم أذن للناس، ووضعت الخوانات، وقعد يأكل، فما أنكرت شيئا من أكله.
خلافة عمر بن عبد العزيز

(2/158)

المدائني قال: هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكنيته أبو حفص. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. وولي الخلافة يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين. ومات يوم الجمعة لست بقين من رجب بدير سمعان من أرض دمشق سنة إحدى ومائة، وصلى عليه يزيد بن عبد الملك. علي بن زيد قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقوله: تمت حجة الله على ابن الأربعين. ومات لها. وكان على شرطته يزيد بن بشير الكناني. وعلى حرسه عمرو بن المهاجر، ويقال! أبو العباس الهلالي. وكان كاتبه على الرسائل ابن أبي رقية، وكاتبه أيضا إسماعيل بن أبي حكيم. وعلى خاتم الخلافة نعيم ابن أبي سلامة. وعلى الخراج والجند صالح بن أبي جبير. وعلى إذنه أبو عبيدة الأسود، مولاه. يعقوب بن داود الثقفي عن أشياخ من ثقيف قال: قرىء عهد عمر بالخلافة، وعمر من ناحية، فقام رجل من ثقيف يقال له: سالم، من أخوال عمر، فأخذ بضبعيه فأقامه. فمال عمر: أما والله ما الله أردت بهذا، ولن تصيب بها مني دينا. أبو بشر الخراساني قال: خطب عمر بن عبد العزيز الناس حين استخلف فقال: أيها الناس، والله ما سألت الله هذا الأمر قط في سر ولا علانية، فمن كان كارها لشيء مما وليته فالآن. فقال سعيد بن عبد الملك: ذلك أسرع فيما تكره، أتريد أن نختلف ويضرب بعضنا بعضا؟ قال رجل: سبحان الله! وليها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم يقولوا هذا ويقوله عمر! أخبار عمر بن عبد العزيز

(2/159)

بشر بن عبد الله بن عمر قال: كان عمر يخلو بنفسه ويبكي، فنسمع نحيبه بالبكاء وهو يقول: أبعد الثلاثة الذين واريتهم بيدي: عبد الملك والوليد وسليمان! وقدم رجل من خراسان على عمر بن العزيز حين استخلف، فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي قائلا يقول: إذا ولي الأشج من بني أمية يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. فولي الوليد، فسألت عنه، فقيل لي: ليس بأشج، ثم ولي سليمان، فسألت عنه فقيل: ليس بأشج. ووليت أنت، فكنت الأشج. فقال عمر: تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: فبالذي أنعم به عليك، أحق ما أخبرتني؟ قال: نعم. فأمره أن يقيم في دار الضيافة. فمكث نحوا من شهرين، ثم أرسل إليه عمر، فقال: هل تدري لم احتبسناك؟ قال: لا. قال: أرسلت إلى بلدك لنسأل عنك، فإذا ثناء صديقك وعدوك عليك سواء، فانصرف راشدا. وكان عمر بن عبد العزيز لا يأخذ من بيت المال شيئا ولا يجري على نفسه من الفيء درهما. وكان عمر بن الخطاب يجري على نفسه من ذلك درهمين في كل يوم. فقيل لعمر بن عبد العزيز: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب؟ فقال: إن عمر بن الخطاب لم يكن له مال وأنا مالي يغنيني. ولما ولي عمر بن عبد العزيز قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على هذا، وأشار إلى رجل. قال فيم؟ قال: أخذ مالي وضرب ظهري. فدعا به عمر، فقال: ما يقول هذا؟ قال صدق، إنه كتب إلي الوليد بن عبد الملك، وطاعتكم فريضة. قال: كذبت، لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله، وأمر بالأرض فردت إلى صاحبها. عبد الله بن المبارك عن رجل أخبره، قال: كنت مع خالد بن يزيد بن معاوية في صحن بيت المقدس، فلقينا عمر بن عبد العزيز ولا أعرفه، فاخذ بيد خالد، وقال: يا خالد، أعلينا عين؟ قلت: عليكما من الله عين بصيرة وأذن سميعة. قال: فاستل يده من يد خالد وأرعد ودمعت عيناه ومضى. فقلت لخالد: من هذا؟ قال: هذا عمر بن عبد العزيز، إن عاش فيوشك أن يكون إماما عدلا. وقال رياح بن عبيدة: اشتريت لعمر قبل الخلافة مطرفا بخمسمائة، فاستخشنه وقال: لقد اشتريته خشنا جدا، واشتريت له بعد الخلافة كساء بثمانية دراهم، فاستلانه وقال: اشتريته لينا جدا. ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر وعليه ريطة من رياط مصر، فقال: بكم أخذت هذه يا أبا سعيد؟ قال: بكذا وكذا. قال: فلو نقصت من ثمنها ما كان ناقصا من شرفك. فقال مسلمة: إن الاقتصاد ما كان بعد الجدة، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة، وأفضل اللين ما كان بعد الولاية. وكان لعمر غلام يقال له درهم يحتطب له، فقال له يوما: ما يقول الناس يا درهم؟ قال: وما يقولون؟ الناس كلهم بخير وأنا وأنت بشر. قال: وكيف ذلك؟ قال: إني عهدتك قبل الخلافة عطرا لباسا، فاره المركب، طيب الطعام، فلما وليت رجوت أن أستريح وأتخلص، فزاد عملي شدة وصرت أنت في بلاء. قال: فأنت حر، فاذهب عني، ودعني وما أنا فيه حتى يجعل الله لي منه مخرجا. ميمون بن مهران قال: كنت عند عمر فكثر بكاؤه ومسألته ربه الموت، فقلت: لم تسأل الموت! وقد صنع الله على يديك خيرا كثيرا، أحيا بك سننا وأمات بك بدعا. قال: أفلا أكون مثل العبد الصالح حين أقر الله عينه وجمع له أمره، قال: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين " . ولما ولي عمر بن عبد العزيز قال: إن فدك كانت مما أفاء الله على رسوله، فسألتها فاطمة رسول الله. فقال لها: ما لك أن تسأليني ولا لي أن أعطيك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصطنع فيها حيث أمره الله. ثم ولي أبو بكر وعمر وعثمان فكانوا يضعونها المواضع التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ولي معاوية فأقطعها مروان، ووهبها مروان لعبد الملك وعبد العزيز، فقسمناها بيننا أثلاثا أنا والوليد وسليمان. فلما ولي الوليد سألته نصيبه فوهبه لي، وما كان لي مال أحب إلي منها، وأنا أشهدكم أني قد رددتها إلى ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عمر: الأمور ثلاثة، أمر استبان رشده فاتبعه، وأمر استبان ضره

(2/160)

فاجتنبه، وأمر أشكل أمره عليك فرده إلى الله. وكتب عمر إلى بعض عماله: الموالي ثلاثة: مولى رحم، ومولى عتاقة، ومولى عقد، فمولى الرحم يرث ويورث، ومولى العتاقة يورث ولا يرث، ومولى العقد لا يرث ولا يورث، وميراثه لعصبته. وكتب عمر إلى عمالة: مروا من كان على غير الإسلام أن يضعوا العمائم، ويلبسوا الأكسية ولا يتشبهوا بشيء من الإسلام، ولا تتركوا أحدا من الكفار يستخدم أحدا من المسلمين. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة عامله علي العراق: إذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق القادر عليك، واعلم أن مالك عند الله أكثر مما لك عند الناس. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: مروا من كان قبلكم، فلا يبقى أحد من أحرارهم ولا مماليكهم، صغيرا ولا كبيرا، وذكرا ولا أنثى، إلا أخرج عنه صدقة فطر رمضان: مدين من قمح، أو صاعا من تمر، أو قيمة ذلك نصف درهم. فأما أهل العطاء فيؤخذ ذلك من أعطياتهم، عن أنفسهم وعيالاتهم. واستعملوا على ذلك رجلين من أهل الأمانة يقبضان ما اجتمع من ذلك ثم يقسمانه في مساكين أهل الحاضرة. ولا يقسم على أهل البادية. وكتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر: إن رجلا شتمك فأردت أن أقتله. فكتب إليه: لو قتلته لأقدتك به؛ فإنه لا يقتل أحد بشتم أحد إلا رجل شتم نبيا. وكتب رجل من عمال عمر إلى عمر: إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء، فطفت على الماء، فما ترى فيها؟ فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة وإلا خل سبيلها. كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن عامله على المدينة في المظالم فيراده فيها. فكتب إليه: إنه يخيل لي أني لو كتبت لك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلى: أذكر أم أنثى؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت إلي: أصغيرة أم كبيرة؟ ولو كتبت بأحدهما لكتبت: ضائنة أم معز؟ فإذا كتبت إليك فنفذ ولا ترد علي. والسلام. وخطب عمر فقال: أيها الناس، لا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سلف منها بالتوبة منها. إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. وقال عز وجل: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " . وقال عمر لبني مروان: أدوا ما في أيديكم من حقوق الناس ولا تلجئوني إلى ما أكره فأحملكم على ما تكرهون. فلم يجبه أحد منهم. فقال: أجيبوني. فقال رجل منهم: والله لا نخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا، فنفقر أبناءنا ونكفر آباءنا، حتى تزايل رؤوسنا أجسادنا. فقال عمر: أما والله لولا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت خدودكم عاجلا، ولكنني أخاف الفتنة، ولئن أبقاني الله لأردن إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله. وكان عمر إذا نظر إلى بعض بني أمية، قال: إني أرى رقابا سترد إلى أربابها. ولما مات عمر بن عبد العزيز قعد مسلمة على قبره، فقال: أما والله ما أمنت الرق حتى رأيت هذا القبر. العتبي قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز من دفن سليمان بن عبد الملك تبعه الأمويون، فما دخلوا إلى منزله، قال له الحاجب: الأمويون بالباب. قال وما يريدون؟ قال: ما عودتهم الخلفاء قبلك. قال ابنه عبد الملك، وهو إذ ذاك ابن أربع عشرة سنة: ائذن لي في إبلاغهم عنك. قال: وما تبلغهم؟ قال: أقول: أبي يقرئكم السلام ويقول لكم: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم.نبه، وأمر أشكل أمره عليك فرده إلى الله. وكتب عمر إلى بعض عماله: الموالي ثلاثة: مولى رحم، ومولى عتاقة، ومولى عقد، فمولى الرحم يرث ويورث، ومولى العتاقة يورث ولا يرث، ومولى العقد لا يرث ولا يورث، وميراثه لعصبته. وكتب عمر إلى عمالة: مروا من كان على غير الإسلام أن يضعوا العمائم، ويلبسوا الأكسية ولا يتشبهوا بشيء من الإسلام، ولا تتركوا أحدا من الكفار يستخدم أحدا من المسلمين. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة عامله علي العراق: إذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق القادر عليك، واعلم أن مالك عند الله أكثر مما لك عند الناس. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: مروا من كان قبلكم، فلا يبقى أحد من أحرارهم ولا مماليكهم، صغيرا ولا كبيرا، وذكرا ولا أنثى، إلا أخرج عنه صدقة فطر رمضان: مدين من قمح، أو صاعا من تمر، أو قيمة ذلك نصف درهم. فأما أهل العطاء فيؤخذ ذلك من أعطياتهم، عن أنفسهم وعيالاتهم. واستعملوا على ذلك رجلين من أهل الأمانة يقبضان ما اجتمع من ذلك ثم يقسمانه في مساكين أهل الحاضرة. ولا يقسم على أهل البادية. وكتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر: إن رجلا شتمك فأردت أن أقتله. فكتب إليه: لو قتلته لأقدتك به؛ فإنه لا يقتل أحد بشتم أحد إلا رجل شتم نبيا. وكتب رجل من عمال عمر إلى عمر: إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء، فطفت على الماء، فما ترى فيها؟ فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة وإلا خل سبيلها. كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن عامله على المدينة في المظالم فيراده فيها. فكتب إليه: إنه يخيل لي أني لو كتبت لك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلى: أذكر أم أنثى؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت إلي: أصغيرة أم كبيرة؟ ولو كتبت بأحدهما لكتبت: ضائنة أم معز؟ فإذا كتبت إليك فنفذ ولا ترد علي. والسلام. وخطب عمر فقال: أيها الناس، لا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سلف منها بالتوبة منها. إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. وقال عز وجل: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " . وقال عمر لبني مروان: أدوا ما في أيديكم من حقوق الناس ولا تلجئوني إلى ما أكره فأحملكم على ما تكرهون. فلم يجبه أحد منهم. فقال: أجيبوني. فقال رجل منهم: والله لا نخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا، فنفقر أبناءنا ونكفر آباءنا، حتى تزايل رؤوسنا أجسادنا. فقال عمر: أما والله لولا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت خدودكم عاجلا، ولكنني أخاف الفتنة، ولئن أبقاني الله لأردن إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله. وكان عمر إذا نظر إلى بعض بني أمية، قال: إني أرى رقابا سترد إلى أربابها. ولما مات عمر بن عبد العزيز قعد مسلمة على قبره، فقال: أما والله ما أمنت الرق حتى رأيت هذا القبر. العتبي قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز من دفن سليمان بن عبد الملك تبعه الأمويون، فما دخلوا إلى منزله، قال له الحاجب: الأمويون بالباب. قال وما يريدون؟ قال: ما عودتهم الخلفاء قبلك. قال ابنه عبد الملك، وهو إذ ذاك ابن أربع عشرة سنة: ائذن لي في إبلاغهم عنك. قال: وما تبلغهم؟ قال: أقول: أبي يقرئكم السلام ويقول لكم: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم.

(2/161)

زياد عن مالك قال: قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه: يا أبت، مالك لا تنفذ الأمور، فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. قال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعونه جملة، ويكون من ذلك فتنة. ولما نزل بعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز الموت قال له عمر: كيف تجدك يا بني؟ قال: أجدني في الموت، فاحتسبني، فثواب الله خير لك مني. فقال: يا بني، ولله لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك. قال: أما والله لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب، ثم مات. فلما فرغ من دفنه وقف على قبره وقال: يرحمك الله يا بني، فلقد كنت سارا مولودا، وبارا ناشئا، وما أحب أني دعوتك فأجبتني، فرحم الله كل عبد، من حر أو عبد ذكر أو أنثى، دعا له برحمة وكان الناس يترحمون على عبد الملك ليدخلوا في دعوة عمر - ثم انصرف. فدخل الناس يعزونه، فقال: إن الذي نزل بعبد الملك أمر لم نزل نعرفه، فلما وقع لم ننكره. وتوفيت أخت لعمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من دفنها دنا إليه رجل فعزاه، فلم يرد عليه، ثم آخر فلم يرد عليه. فلما رأى الناس ذلك أمسكوا ومشوا معه. فلما دخل الباب أقبل على الناس بوجهه فقال: أدركت الناس وهم لا يعزون في المرأة إلا أن تكون أما.
وفاة عمر بن عبد العزيز مرض عمر بن عبد العزيز بأرض حمص، ومات بدير سمعان، فيرى الناس أن يزيد بن عبد الملك سمه، دس إلى خادم كان يخدمه، فوضع السم على ظفر إبهامه، فلما استسقى عمر غمس إبهامه في الماء ثم سقاه، فمرض مرضه الذي مات فيه. فدخل عليه مسلمة بن عبد الملك فوقف عند رأسه فقال: جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيرا، فلقد عطفت علينا قلوبا كانت عنا نافرة: وجعلت لنا في الصالحين ذكرا. زياد عن مالك قال: دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في المرضة التي مات فيها، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال، وتركتهم عالة، ولا بد لهم من شيء يصلحهم، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مؤونتهم إن شاء الله. فقال عمر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: الحمد لله، أبالفقر تخوفني يا مسلمة، أما ما ذكرت أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقا هو لهم ولم أعطهم حقا هو لغيرهم، وأما ما سألت من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي، فإن وصيتي بهم إلى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل اتقى الله فجعل الله له من أمره يسرا ورزقه من حيث لا يحتسب، ورجل غير وفجر، فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه، ادعوا إلى بني. فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر غلاما، فجعل يصعد بصره فيهم ويصوبه حتى اغرورقت عيناه بالدمع، ثم قال: بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم. يا بني، إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله، يا بني: مثلت رأي بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحدا في النار، قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم. قال: فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر. واشترى عمر بن عبد العزيز من صاحب دير سمعان موضع قبره بأربعين درهما. ومرض تسعة أيام. ومات رضى الله عنه يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وصلى عليه يزيد بن عبد الملك.
وقال جرير بن الحطفى يرثى عمر بن عبد العزيز:
ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له ... وسرت فينا بحكم الله يا عمرا
فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وأنشد أبو عبيد الأعرابي في عمر بن عبد العزيز.
مقابل الأعواق في الطيب الطاب ... بين أبي العاص وآل الخطاب

(2/162)

قال أبو عبيدة يقال: طيب وطاب، كما يقاله: ذيم وذام.
خلافة يزيد بن عبد الملك
ثم ولي يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم. وأمه عاتكة بنت يزيد ابن معاوية، يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة. ومات ببلاد البلقاء يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وهو ابن أربع وثلاثين سنة. صلى عليه أخوه هشام بن عبد الملك. وكانت ولايته أربع سنين وشهرا. وفيه يقول جرير:
سربلت سربال ملك غير مغتصب ... قبل الثلاثين إن الملك مؤتشب
وكان على شرطته كعب بن مالك العبسي. وعلى الحرس غيلان أبو سعيد، مولاه. وعلى خاتم الخلافة مطر، مولاه، وكان فاسقا. وعلى الخاتم الصغير بكير أبو الحجاج. وعلى الرسائل والجند والخراج صالح بن جبير الهمداني، ثم عزله واستعمل أسامة بن زيد، مولى كلب. وعلى الخزائن وبيوت الأموال هشام ابن مصاد. وحاجبه خالد، مولاه.
وكان يزيد بن عبد الملك صاحب لهو ولذات، وهو صاحب حبابة وسلامة. وفي ولايته خرج يزيد بن المهلب.
أسماء ولد يزيد الوليد ويحيى وعبد الله والغمر وعبد الجبار وسليمان وأبو سفيان وهاشم وداود، ولا عقب له، والعوام، ولا عقب له. وكتب يزيد بن عبد الملك إلى عمال عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن عمر كان مغرورا، غررتموه أنتم وأصحابكم، وقد رأيت كتبكم إليه في انكسار الخراج والضريبة. فإذا أتاكم كتابي هذا فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا، والسلام. أبو الحسن المدائني قال: لما ولي يزيد بن عبد الملك، وجه الجيوش إلى يزيد بن المهلب، فعقد لمسلمة بن عبد الملك على الجيش، وللعباس بن الوليد على أهل دمشق خاصة. فقال له العباس: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق قوم، إرجاف، وقد خرجنا إليهم محاربين والأحداث تحدث، فلو عهدت إلى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. قال: غدا إن شاء الله. وبلغ مسلمة الخبر، فأتاه فقال له: يا أمير المؤمنين، أولاد عبد الملك أحب إليك أم أولاد الوليد؛ قال: ولد عبد الملك. قال: فأخوك أحق بالخلافة أم ابن أخيك؟ قال: بل أخي، إذا لم يكن ولدي، أحق بها من ابن أخي. قال: يا أمير المؤمنين، فإن ابنك لم يبلغ فبايع لهشام بن عبد الملك ولابنك الوليد من بعده. قال: غدا أن شاء الله. فلما كان من الغد بايع لهشام ولابنه الوليد من بعده، والوليد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة. فلما انقضى أمر يزيد بن المهلب وأدرك الوليد ندم يزيد، على استخلاف هشام، فكان إذا نظر إلى ابنه الوليد قال: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك. قال: ولما قتل يزيد بن المهلب جمع يزيد بن عبد الملك العراق لأخيه مسلمة بن عبد الملك. فبعث هلال بن أحوز المازني إلى قندابيل في طلب آل المهلب، فالتقوا، فقتل المفضل بن المهلب، وانهزم الناس، وقتل هلال بن أحوز خمسة من ولد المهلب، ولم يفتش النساء ولم يعرض لهن، وبعث العيال والأسرى إلى يزيد بن عبد الملك. قال: حدثني جابر بن مسلم قال: لما دخلوا عليه قام كثير بن أبي جمعة، الذي يقال له كثير عزة، فقال:
حليم إذا ما ناد عاقب مجملا ... أشد عقاب أو عفا لم يثرب
فعفوا أمير المؤمنين وحسبة ... فما تكتسب من صالح لك يكتب
أساءوا فإن تغفر فإنك قادر ... وأعظم حلم حسبة حلم مغضب
نفتهم قريش عن أباطح مكة ... وذو يمن بالمشرفي المشطب
فقال يزيد: لاطت بك الرحم، لا سبيل إلى ذلك، من كان له قبل آل المهلب دم فليقم. فدفعهم إليهم حتى قتل نحو ثمانين. قال: وبلغ يزيد بن عبد الملك أن هشاما يتنقصه، فكتب إليه: إن مثلي ومثلك كما قال الأول:
تمن رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
لعل الذي يبغي رداي ويرتجي ... به قبل موتي أن يكون هو الردي
فكتب إليه هشام: إن مثلي ومثلك كما قال الأول:

(2/163)

ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة ... يجدها ولا يبقى له الدهر صاحب
فكتب إليه يزيد: نحن مغتفرون ما كان منك، ومكذبون ما بلغنا عنك، مع حفظ وصية أبينا عبد الملك، وما حض عليه من صلاح ذات البين. وإني لأعلم أنك كما قال معن بن أوس:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول
وإني على أشياء منك تريبني ... قديما لذو صفح على ذاك مجمل
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدل
إذا سؤتني يوما صفحت وإلى غد ... ليعقب يوما منك آخر مقبل
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
وفي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
فلما جاءه الكتاب رحل هشام إليه: فلم يزل في جواره إلى أن مات يزيد، وهو معه يا عسكره مخافة أهل البغي. محمد بن الغاز قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثني الزبير بن بكار قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا بحبابة كلفا شديدا، فلما توفيت أكب عليها يتشممها أياما حتى أنتنت، فأخذ في جهازها وخرج بين يدي نعشها، حتى إذا بلغ القبر نزل فيه. فلما فرغ من دفنها لصق به مسلمة أخوه يعزيه ويؤنسه. فقال: قاتل الله ابن أبي جمعة! كأنه كان يرى ما نحن فيه حيث يقول:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليل زارني فهو قائل من ... أجلك هذا ميت اليوم أو غد
قال: وطعن في جنازتها، فدفناه إلى سبعة عشر يوما.
خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان
ثم بويع هشام بن عبد الملك بن مروان يكنى أبا الوليد. وأمه أم هشام بنت هشام بن، إسماعيل بن هشام المخزومي - يوم الجمعة لخمس ليالي بقين من شعبان سنة خمس ومائة. ومات بالرصافة يوم الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. وصلى عليه الوليد بن يزيد. وكانت خلافته عشرين سنة.
أسماء ولد هشام بن عبد الملك معاوية وخلف ومسلمة ومحمد وسليمان وسعيد وعبد الله ويزيد - وهو الأبكم - ومروان وإبراهيم ويحيى ومنذر وعبد الملك والوليد وقريش وعبد الرحمن. وكان على شرطته كعب بن عامر العبسي. وعلى الرسائل سالم، مولاه. وعلى خاتم الخلافة الربيع، مولى لبني الحريش، وهو الربيع بن ساخبور. وعلى الخاتم الصغير أبو الزبير، مولاه. وعلى ديوان الخراج والجند أسامة بن زيد، ثم عزله وولى الحثحاث. وعلى إذنه غالب بن مسعود، مولاه.
أخبار هشام بن عبد الملك أبو الحسن المدائني، قال: كان عبد الملك بن مروان رأى في منامه أن عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي فلقت رأسه فقطعته عشرين قطعة. فغمه ذلك، فأرسل إلى سعيد بن المسيب، فقصها عليه. فقال سعيد: تلد غلاما يملك عشرين سنة. وكانت عائشة أم هشام حمقاء، فطلقها عبد الملك لحمقها، وولدت هشاما وهي طالق، ولم يكن في ولد عبد الملك أكمل من هشام. قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام بن عبد الملك بعد أن سخط على خالد بن عبد الله القسري وسلط عليه يوسف بن عمر عامله على العراق، فلما دخلت عليه استدناني حتى كنت أقرب الناس إليه، فتنفس الصعداء، ثم قال: يا خالد، رب خالد قعد مقعدك هذا أشهى إلى حديثا منك. فعلمت أنه يريد خالد بن عبد الله القسرى، فقلت: يا أمير المؤمنين، أفلا تعيده؟ قال: هيهات، إن خالدا أدل فأمل، وأوجف فأعجف، ولم يدع لمراجع مرجعا، على أنه ما سألني حاجة قط. فقلت: يا أمير المؤمنين، فلو أدنيته فتفضلت عليه؟ قال: هيهات! وأنشد:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:47 pm

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن ... عليه بوجه آخر الدهر تقبل
قال أصبغ بن الفرج: لم يكن في بني مروان من ملوكها أعطر ولا ألبس من هشام، خرج حاجا فحمل ثياب طهره على ستمائة جمل. ودخل المدينة، فقال لرجل: انظر من في المسجد. فقال: رجل طويل أدلم. قال: هذا سالم بن عبد الله، ادعه. فأتاه، فقال: أجب أمير المؤمنين وإن شئت أرسل فتؤتى بثيابك. فقال: ويحك! أتيت الله زائرا في رداء وقميص ولا أدخل بهما على هشام! فدخل عليه، فوصله بعشرة آلاف. ثم قدم مكة فقضى حجه، فلما رجع إلى المدينة، قيل له: إن سالما شديد الوجع، فدخل عليه وسأله عن حاله. ومات سالم فصلى عليه هشام، وقال: ما أدري بأي الأمرين أنا أسر: بحجتي أم بصلاتي على سالم. قال: ووقف هشام يوما قريبا من حائط فيه زيتون له، فسمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: التقطوه ولا تنفضوه، فتفقئوا عيونه، وتكسروا غصونه. وخرج هشام هاربا من الطاعون، فانتهى إلى دير فيه راهب، فأدخله الراهب بستانه، فجعل ينتقي له أطايب الفاكهة والبالغ منها. فقال هشام: يا راهب، هبني بستانك هذا. فلم يجبه. فقال: مالك لا تتكلم؟ فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك. قال: ولم؟ قال: لعلك أن تشبع. فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: أتسمع ما يقول؟ قال الأبرش: بلى والله، ما لقيك حر غيره. العتبي قال: أني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم ابن محمد بن طلحة وصاحب حرس هشام حتى قعدا بين يديه، فقال الحرسي: إن أمير المؤمنين جراني في خصومة بينه وبين إبراهيم. قال القاضي: شاهديك على الجراية. فقال: أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل، وليس بيني وبينه إلا هذه الستارة؛ قال: لا، ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام، فلم يلبث حتى قعقعت الأبواب وخرج الحرسي، فقال: هذا أمير المؤمنين. قال: فقام القاضي، فأشار إليه فقعد، وبسط له مصلى فقعد عليه هو وإبراهيم، وكنا حيث نسمع بعض كلامهما ويحفى علينا البعض. قال: فتكلما وأحضرت البينة، فقضى القاضي على هشام. فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق، فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك. فقال هشام: لقد هممت أن أضربك ضربة ينتثر منها لحمك عن عظمك. قال: أما والله لئن فعلت لتفعلنه بشيخ كبير السن، قريب القرابة، واجب الحق. قال له: استرها علي يا إبراهيم. قلت: لا ستر الله علي ذنبي إذا يوم القيامة. قال: إني معطيك عليها مائة ألف. قال إبراهيم: فسترتها عليه طول حياته ثمنا لما أخذت منه وأذعتها عنه بعد موته تزيينا له. وذكروا عن الهيثم ابن عدي قال: كان سعيد بن هشام بن عبد الملك عاملا لأبيه على حمص، وكان يرمى بالنساء والشراب، فقدم حمصي لهشام، فلقيه أبو جعد الطائي في طريق، فقال له: هل ترى أن أعطيك هذه الفرس، فإني لا أعلم بمكان مثلها على أن تبلغ هذا الكتاب أمير المؤمنين، ليس فيه حاجة بمسألة دينار ولا درهم؟ فأخذها وأخذ الكتاب. فلما قدم على هشام سأله: ما قصة هذه الفرس؟ فأخبره. فقال: هات الكتاب، فإذا فيه:
أبلغ إليك أمير المؤمنين فقد ... أمددتنا بأمير ليس عنينا
عورا يخالف عمرا في حليلته ... وعند ساحته يسقى الطلا دينا
قلما قرأ الكتاب بعث إلى سعيد فأشخصه، فلما قدم عليه علاه بالخيزرانة وقال: يا بن الخبيثة، تزني وأنت ابن أمير المؤمنين! ويلك! أعجزت أن تفجر فجور قريش؟ أو تدري ما فجور قريش لا أم لك؟ قتل هذا، وأخذ مال هذا، والله لا تلي له عملا حتى تموت. قال قال: فما ولى له عملا حتى مات.

(2/165)

أحمد بن عبيد قال: أخبرني هشام الكلبي عن أبي محمد بن سفيان القرشي عن أبيه قال: كنا عند هشام بن عبد الملك وقد وفد عليه وفد أهل الحجاز، وكان شباب الكتاب إذا قدم الوفد حضروا لاستماع بلاغة خطبائهم، فحضرت كلامهم، حتى قام محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوى، وكان أعظم القوم قدرا وأكبرهم سنا، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك ما قالت، وأكثرت وأطنبت، والله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى خطيبهم فضلك، وإن أذنت في القول قلت؟ قالت: قل وأوجز. قال: تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى، وزينك بالتقوى، وجمع لك خير الآخرة والأولى، إن لي حوائج، أفأذكرها؟ قال: هاتها. قال: كبر سني، ونال الدهر مني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري، فعل. قال: وما الذي ينفي فقرك، ويجبر كسرك؟ قال: ألف دينار وألف دينار وألف دينار. قال: فأطرق هشام طويلا ثم قال: يا بن أبي الجهم، بيت المال لا يحتمل ما ذكرت، ثم قال له: هيه. قال: ما هيه؟ أما والله إن الأمر لواحد، ولكن الله آثرك بمجلسك، فإن تعطنا فحقنا أديت، وإن تمنعنا فنسأل الله الذي بيده ما حويت. يا أمير المؤمنين، إن الله جعل العطاء محبة، والمنع مبغضة. والله لأن احبك أحب إلي من أن أبغضك. قال: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها دينا قد حان قضاؤه، وقد عناني حمله، وأضر بي أهله. قال: فلا بأس، ننفس كربة، ونؤدي أمانة. وألف دينار لماذا؟ قال: أزوج بها من بلغ من ولدي. قال: نعم المسلك سلكت، أغضضت بصرا، وأعففت ذكرا، وأمرت نسلا. وألف دينار لماذا؟ قال: أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي! وأستعين بفضلها على نوائب دهري، وتكون ذخرا لمن بعدي. قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت. قال: فالمحمود الله على ذلك، وخرج. فأتبعه هشام بصره، وقال: إذا كان القرشي فليكن مثل هذا، ما رأيت رجلا أوجز في مقال ولا أبلغ في بيان منه. ثم قال: أما والله إنا لنعوف الحق إذا نزل، ونكره الإسراف والبخل، وما نعطي تبذيرا، ولا نمنع تقتيرا، وما نحن إلا خزان الله في بلاده، وأمناؤه على عباده؟ فإذا أذن أعطينا، وإذا منع أبينا؛ ولو كان كل قائل يصدق، وكل سائل يستحق؟ ما جبهنا قائلا، ولا رددنا سائلا. ونسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا. فإنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بعباده خبير بصير. فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد تكلمت فأبلغت، وما بلغ في كلامه ما قصصت. قال: إنه مبتدىء وليس المبتدىء كالمقتدي.
وذكروا أن العباس بن الوليد وجماعة من بني مروان اجتمعوا عند هشام، فذكروا الوليد بن يزيد وعابوه وذموه، وكان هشام يبغضه، ودخل الوليد، فقال له العباس: يا وليد، كيف حبك للروميات، فإن أباك كان مشغوفا بهن؟ قال: كيف لا يكون وهن يلدن مثلك؟ قال: ألا تسكت يا بن البظراء؟ قال: حسبك أيها المفتخر علينا بختان أمه. وقال له هشام: ما شرابك يا وليد؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين، وقام فخرج. فقال هشام: هذا الذي زعمتموه أحمق!

(2/166)

وقرب الوليد بن يزيد فرسه جراميزه ووثب على سرجه، ثم التفت إلى ولد هشام، وقال له: هل يقدر أبوك أن يصنع مثل هذا؟ قال: لأبي مائة عبد يصنعون مثل هذا. فقال الناس: لم ينصفه في الجواب. العتبي عن أبيه، قال: سمعت معاوية بن عمرو بن عتبة يحدث، قال: إني لقاعد بباب هشام بن عبد الملك، وكان الناس يتقربون إليه بعيب الوليد ابن يزيد، قال: فسمعت قوما يعيبونه، فقلت: دعونا من عيب من يلزمنا مدحه، ووضع من يجب علينا رفعه. وكانت للوليد بن يزيد عيون لا يبرحون بباب هشام، فنقلوا إليه كلامي وكلام القوم، فلم ألبث إلا يسيرا حتى راح إلي مولى للوليد، قد التحف على ألف دينار، فقال لي: يقول لك مولاي: أنفق هذه في يومك، وغدا أمامك. قالت: فملئت رعبا من هشام وخشيت سطوته، ورماه الله بالعلة فدفناه لثمانية عشر يوما بعد ذلك اليوم. فلما قام الوليد بعده دخلت عليه، فقال لي: يا بن عتبة، أتراني ناسيا قعودك بباب الأحول يهدمني وتبنيني، ويضعني وترفعني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، شاركت قومك في الإحسان، وتفردت دونهم بإحسانك إلي، فلست أحمد لك نفسي في اجتهاد، ولا اعذرها في تقصير، وتشهد بذلك ألسنة الجائزين بنا، ويصدق قولهم الفعال منا. قال كذلك أنتم لنا آل أبي سفيان، وقد أقطعتك مالي بالبثنية وما أعلم لقرشي مثله. وقال عبد الله بن عبد الحكم فقيه مصر: سمعت الأشياخ يقولون: سنة خمس وعشرين ومائة أديل من الشرف وذهبت المروءة، وذلك عند موت هشام بن عبد الملك. قال أبو الحسن المدائني: مات هشام بن عبد الملك بالذبحة يوم الأربعاء، بالرصافة في ربيع الآخر لست خلون منه، سنة خمس وعشرين ومائة، وصلى عليه مسلمة بن هشام أو بعض ولده، واشتري له كفن من السوق.
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك
بويع للوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة. وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، أخي الحجاج بن يوسف. وقتل بالبخراء، من تدمر على ثلاثة أميال، يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن خس وثلاثين، أو لست وثلاثين. قال حاتم بن مسلم: ابن خمس وأربعين وأشهر. وكانت ولايته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما. فأول شيء نظر فيه الوليد أن كتب إلى العباس ابن الوليد بن عبد الملك أن يأتي الرصافة يحصي ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عماله! وحشمه، إلا مسلمة بن هشام، فإنه كتب إليه أن لا يعرض له ولا يدخل منزله. وكان مسلمة كثيرا ما يكلم أباه في الرفق بالوليد. ففعل العباس ما أمره به. وكتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر، فقدم عليه من العراق، فدفع إليه خالد بن عبد الله القسري ومحمدا وإبراهيم، ابني هشام بن إسماعيل المخزومي، وأمره بقتلهم. فحدث أبو بشر بن السري قال: رأيتهم قدم بهم يوسف بن عمر الحيرة، وخالد في عباءة في شق محمل، فعذبهم حتى قتلهم. ثم عكف الوليد على البطالة وحب القيان والملاهي والشراب ومعاشقة النساء، فتعشق سعدى بنت سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، فتزوجها! ثم تعشق أختها سلمى، فطفق أختها سعدى وتزوج سلمى، فرجعت سعدى إلى المدينة فتزوجت بشر بن الوليد بن عبد الملك. ثم ندم الوليد على فراقها وكلف بحبها، فدخل عليه أشعب المضحك، فقال له الوليد: هل لك على أن تبلغ سعدى عني رسالة ولك عشرون ألف درهم؟ قال: هاتها، فدفعها إليه. فقبضها وقال: ما رسالتك؟ قال: إذا قدمت المدينة فاستأذن عليها، وقل لها: يقول لك الوليد:
أسعدى ما إليك لنا سبيل ... ولا حتى القيامة من تلاقي
بلى، ولعل دهرا أن يؤاتي ... بموت من حليلك أو فراق

(2/167)

فأتاها أشعب فاستأذن عليها، وكان نساء المدينة لا يحتجبن عنه، فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب؟ قال: يا سيدتي، أرسلني إليك الوليد برسالة. قالت: هاتها. فأنشدها البيتين. فقالت لجواريها: خذن هذا الخبيث. وقالت: ما جرأك على مثل هذه الرسالة؟ قال: إنها بعشرين ألفا معجلة مقبوضة. قالت: والله لأجلدنك أو لتبلغنه ما أبلغتني عنه. قال: فاجعلي لي جعلا. قالت: بساطي هذا. قال: فقومي عنه. فقامت عنه، وطوى البساط وضمه، ثم قال: هاتي رسالتك. فقالت له: قل له:
أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى، فما أنت صانع؟
فلما بلغه الرسالة كظم الغيظ على أشعب، وقال: اختر إحدى ثلاث خصال: ولا بد لك من إحداها: إما أن أقتلك، وإما أن أطرحك للسباع فتأكلك، وإما أن ألقيك من هذا القصر؟ فقال أشعب: يا سيدي، ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى. فضحك وخلى سبيله، وأقامت عنده سلمى حتى قتل عنها. وهو القائل في سلمى:
شاع شعري في سليمى وظهر ... ورواه كل بدو وحضر
وتهادته الغواني بينها ... وتغنين به حتى انتشر
لو رأينا من سليمى أثرا ... لسجدنا ألف ألف للاثر
واتخذناها إماما مرتضى ... ولكانت حجنا والمعتمر
إنما بنت سعيد قمر ... هل حرجنا إن سجدنا للقمر
وفيها يقول قبل تزوجه لها:
حدثوا أن سليمى ... خرجت يوم المصلى
فإذا طير مليح ... فوق غصن يتفلى
قلت: يا طيرادن ... مني فدنا ثم تدلى
قلت هل تعرف سلمى ... قال لا ثم تولى
فنكا في القلب كلما ... باطنا ثم تخلى
وقال في سلمى قبل تزوجه لها:
لعل الله يجمعني بسلمى ... أليس الله يفعل ما يشاء
ويأتي بي ويطرحني عليها ... فيوقظني وقد قضي القضاء
ويرسل ديمة من بعد هذا ... فتغسلها وليس بنا عناء
وقال فيها بعد تزوجه لها:
أنا في يمنى يديها ... وهي في يسرى يديه
إن هذا لقضاء ... غير عدل يا أخيه
ليت من لام محبا ... في الهوى لاقى منيه
فاستراح الناس منه ... ميتة غير سوية
قال: ولهج الوليد بالنساء والشراب والصيد، فأرسل إلى المدينة فحملوا له المغنين، فلما قربوا منه أمر أن يدخلوا العسكر ليلا، وكره أن يراهم الناس، فأقاموا حتى أمسوا غير محمد بن عائشة، فإنه دخل نهارا، فأمر الوليد بحبسه، فلم يزل محبوسا حتى شرب الوليد يوما فطرب، فكلمه معبد، فأمر الوليد بإخراجه، ودعاه فغناه فقال:
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تطرق عليك الحني والولج
فرضي عنه، وكان سعيد الأحوص ومعبد حين قدما على الوليد نزلا في الطريق على غدير وجارية تستقي، فزاغت فانكسرت الجرة فجلست تغنى:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل
فقال لها: يا جارية، لمن أنت؟ فقالت: كنت لآل الوليد بن عقبة، بالمدينة فاشتراني مولاي، وهو من بنى عامر بن صعصعة، أحد بني الوحيد من بني كلاب، وعنده بنت عم له فوهبنى لها، فأمرتني أن أستقي لها. فقالا لها: فلمن الشعر؟ قالت: سمعت بالمدينة أن الشعر للأحوص، والغناء لمعبد فقال معبد للأحوص: قل شيئا أغنى عليه. فقال:
إن زين الغدير من كسر الج ... ر وغنى غناء فحل مجيد
قلت: من أنت يا مليحة؟ قالت: ... كنت فيما مضى آل الوليد
ثم قد صرت بعد عز قريش ... في بنى عامر آل الوحيد
وغنائي لمعبد ونشيدي ... لفتى الناس الأحوص الصنديد
فتضاحكت ثم قلت أنا الأحوص ... والشيخ معبد فأعيدي

(2/168)

فأعادت وأحسنت ثم ولت ... تتهادى فقلت أم سعيد
يقصر المال عن شراك ولكن ... أنت في ذمه الإمام الوليد
وأم سعيد كانت للأحوص بالمدينة، فغنى معبد على الشعر. فقال: ما هذا؟ فاخبراه، فاشتراها الوليد. قال أبو الحسن: وقال ابن أبي الزناد: إني كنت عند هشام وعنده الزهري، فذكر الوليد، فتنقصاه وعاباه عيبا شديدا، ولم أعرض لشيء مما كانا فيه، فاستأذن فأذن له، فدخل وأنا أعرف الغضب لا وجهه، فجلس قليلا ثم قام. فلما مات هشام: كتب بي فحملت إليه فرحب بي، وقال: كيف حالك يا بن ذكوان؟ وألطف المسألة. ثم قال: أتذكر هشاما الأحول، وعنده الفاسق الزهري وهما يعيباني؟ فقلت: أذكر ذلك ولم أعرض لشيء مما كانا فيه. قال: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان على رأس هشام قائما؟ قلت: نعم. قال: فإنه نم إلى بما قالاه. وايم الله لو بقى الفاسق الزهري لقتلته. قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت. قال: يا بن ذكوان، ذهب الأحول. قلت: يطيل الله عمرك، ويمتع الأمة ببقائك. ودعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وتحدثنا حتى حانت العشاء الآخرة فصلينا وجلس. فقال: اسقني، فجاؤوا بإناء مغطى، وجيء بثلاث جوار، فصففن بيني وبينه حتى شرب، وذهبن، فتحدثنا، واستسقى، فصنعوا مثل ذلك. فما زال كذلك يستسقى ويتحدث ويصنعون مثل ذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا. على بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بشراعة من الكوفة، فوالله ما سأله عن نفسه ولا عن مسيره حتى قال له: يا شراعة، إني والله ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم. قال: والله لو سألتني عنهما لوجدتني فيهما حمارا، قال: إنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة. قال: دهقانها الخبير، ولقمانها الحكيم، وطبيبها العليم. قالت: فأخبرني عن الشراب؟ قال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: ما تقول في الماء؟ قال: لا بد لي منه، والحمار شريكي فيه. قالت: ما تقول في اللبن؟ ما رأيته قط إلا استحييت من أمي لطول ما أرضعتني به. قال: ما تقول في السويق؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الملء، سريع الآنفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: تلهوا به عن الشراب. قال: ما تقول في الخمر؟ قال: أوه! تلك صديقة روحي. قال: وأنت والله صديق روحي. قال: فأي المجالس أحب؟ قال. ما شرب الكأس قط على وجه أحسن من السماء. قال أبو الحسن: كان أبو كامل مضحكا غزلا مغنيا! فغنى الوليد يوما فطرب، فأعطاه قلنسوة برودا كانت عليه، فكان أبو كامل لا يلبسها إلا في عيد، ويقول: كسانيها أمير المؤمنين، فأنا أصونها، وقد أمرت أهلي إذا مت أن توضع في أكفاني. وله يقول الوليد:
من مبلغ عني أبا كامل ... أني إذا ما غاب كالهابل
وزادني شوقا إلى قربه ... ما قد مضى من دهرنا الحائل
إني إذا عاطيته مزة ... ظلت بيوم الفرح الجاذل
قال: وجلس الوليد يوما وجارية تغنيه، فأنشدها الوليد:
قينة في يمينها إبريق
قالت الجارية المغنية: لو أتممت الشعر غنيت به. قال: لست أرويه، وكتب إلى حماد الراوية فحمل إليه: فلما دخل عليه قال له الوليد:
قينة في يمينها إبريق
فأنشد حماد الراوية:
ثم نادى ألا أصبحوني فقامت ... قينة في يمينها إبريق
فذمته على عقار كعين ... الديك صفى لسلافه الراووق
مزة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق
وكتب الوليد إلى المدينة، فحمل إليه أشعب، فألبسه سراويل جلد قرد له ذنب، وقال له: ارقص وغن صوتا يعجبني، فإن فعلت أعطيتك أسف درهم. فرقص! وغنى، فأعجبه، فأعطاه ألف درهم: وأنشد الوليد هذا الصوت:
عللاني واسقياني ... من شراب أصفهاني
من شراب الشيخ كسرى ... أو شراب الهرمزان

(2/169)

إن بالكأس لمسكا ... أو بكفي من سقاني
إنما الكأس ربيع ... يتعاطى بالبنان
وقال أيضا:
وصفراء في الكأس كالزعفران ... سباها الدهاقين من عسقلان
لها حبب كلما صفقت ... تراها كلمعة برق يماني
وقال أيضا:
ليت حظي اليوم من كل ... ل معاش لي وزاد
قهوة أبذل فيها ... طارفي بعد تلادي
فيظل القلب منها ... هاشما في كل وادي
إن في ذاك فلاحي ... وصلاحي ورشادي
وقال
امدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا بالعطش
إنما الكأس ربيع باكر ... فإذا ما لم نذقها لم نعش
وبلغ الوليد أن الناس يعيبونه ويتنقصونه بالشراب وطلب اللذات، فقال في ذلك:
ولقد قضيت، ولم يجلل لمتي ... شيب، على رغم العدا لذاتي
من كاعبات كالدمى ومناصف ... ومراكب للصيد والنشوات
في فتية تأبى الهوان وجوههم ... شم الأنوف جحاجح سادات
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات
وقال معاوية بن عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد حين تغير له الناس وطعنوا عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعا أم أقول مشفقا؟ قال: كل مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك بأيام.
وقال الوليد إذا أكثر الناس القول فيه:
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ... ثباتا يساوى ما حييت عقالا
دعوا لي سليمى مع طلاء وقينة ... وكأس، ألا حسبي بذلك مالا
أبا لملك أرجو أن أخلد فيكم ... ألا رب ملك قد أزيل فزالا
ألا رب دار قد تحمل أهلها ... فأضحت قفارا والقفار حلالا
قال إسحاق بن محمد الأزرق: دخلت على منصور بن جمهور الكلبي بعد قتل الوليد بن يزيد، وعنده جاريتان من جواري الوليد، فقال لي: اسمع من هاتين الجاريتين ما يقولان. قالتا: قد حدثناك. قال: بل حدثاه كما حدثتماني. قالت إحداهما: كنا أعز جواريه عنده، فنكح هذه وجاء المؤذنون يؤذنونه بالصلاة، فأخرجها وهي سكرى جنبة متلثمة فصلت بالناس.
مقتل الوليد بن يزيد

(2/170)

إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثني عبد الله بن واقد الجرمي، وكان شهد مقتل الوليد، قال: لما أجمعوا على قتله، فقدوا أمرهم يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فخرج يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فأتى أخاه العباس ليلا فشاوره في قتل الوليد، فنهاه عن ذلك، فأقبل يزيد ليلا حتى دخل دمشق في أربعين رجلا، فكسروا باب المقصورة، ودخلوا على واليها فأوثقوه، وحمل يزيد الأموال على العجل إلى باب المضمار، وعقد لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ونادى مناديه: من انتدب إلى الوليد فله ألفان، فانتدب معه ألفا رجل، وضم مع عبد العزيز ابن الحجاج يعقوب بن عبد الرحمن، ومنصور بن جمهور. وبلغ الوليد بن يزيد بن عبد الملك ذلك، فتوجه من البلقاء إلى حمص، وكتب إلى العباس ابن الوليد أن يأتيه في جند من أهل حمص، وهو منها قريب، وخرج حتى انتهى إلى قمر في برية ورمل من تدمر على أميال، وصبحت الخيل الوليد بالبخراء. وقدم العباس بن الوليد بغير خيل، فحبسه عبد العزيز ابن الحجاج خلفه، ونادى منادي عبد العزيز: من أتى العباس بن الوليد فهو آمن، وهو بيننا وبينكم. وظن الناس أن العباس مع عبد العزيز، فتفرقوا عن الوليد، وهجم عليه الناس. فكان أول من هجم عليه السري بن زياد بن أبي كبشة السكسكي، وعبد السلام اللخمي، فأهوى إليه السري بالسيف، وضربه عبد السلام على قرنه فقتل. قال إسماعيل: وحدثني عبد الله بن واقد قال: حدثني يزيد بن أبي فروة مولى بني أمية، قال: لما أتي يزيد برأس الوليد بن يزيد، قال لي: انصبه للناس، قلت: لا أفعل، إنما ينصب رأس الخارج. فحلف لينصبن ولا ينصبه غيري. فوضع على رمح ونصب على درج مسجد دمشق. ثم قال: اذهب فطف به في مدينة دمشق. خليفة بن خياط قالت: حدثني الوليد بن هشام عن أبيه قال: لما أحاطوا بالوليد أخذ المصحف وقال: أقتل كما قتل ابن عمي عثمان.

(2/171)

أبو الحسن المدائني قال: كان الوليد صاحب لهو وصيد وشراب ولذات. فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي يراه الناس فيها، فلم يدخل مدينة من مدائن الشام حتى قتل، ولم يزل يتنقل ويتصيد حتى ثقل على الناس وعلى جنده. واشتد على بني هشام وأضر بهم، وضرب سليمان بن هشام مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته، وغر به إلى عمان، فلم يزل محبوسا حتى قتل الوليد. وحبس يزيد بن هشام، وهو الأفقم، فرماه بنو هشام وبنو الوليد. وكان أشدهم قولا فيه يزيد بن الوليد، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه كان يظهر النسك. ولما دفع الوليد خالد بن عبد الله القسري إلى يوسف بن عمر فقتله، غضبت له اليمانية كلها وغيرهم، فأتوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فأرادوه على البيعة وخلع الوليد، فامتنع عليهم وخاف أن لا تبايعه الناس، ثم لم يزل الناس به حتى بايعوه سرا. ولما قتل الوليد بن يزيد قام يزيد بن الوليد خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إني والله ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، وتزكية عملي، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكنني خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى كتاب الله وسنة نبيه، حين درست معالم الهدى، وطفىء نور التقوى، وظهر الجبار العنيد، المستحل للحرمة، والراكب للبدعة، والمغير للسنة، فلما رأيت ذلك أشفقت أن غشيتكم ظلمة لا تقلع عنكم، على كثرة من ذنوبكم، وقسوة من قلوبكم، وأشفقت أن يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو عليه فيجيبه من أجابه منكم، فاستخرت الله في أمري، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهلي وأهل ولايتي، وهو ابن عمي في نسبي، وكفئي في حسبي، فأراح الله منه العباد، وطفر منه البلاد، ولاية من الله وعونا، بلا حول منا ولا قوة، ولكن بحول الله وقوته، وولايته وعونه. أيها الناس: إن لكم علي إن وليت أموركم أن لا أضع لبنة على لبنة، وحجرا على حجر، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد، حتى أسد ثغره، وأقسم بين أهله ما يقوون به، فإن فضل رددته إلى أهل البلد الذي يليه، ومن هو أحوج إليه، حتى تستقيم المعيشة بين المسلمين وتكونوا فيه سواء، ولا أجمركم في بعوثكم فتفتنوا ويفتن أهاليكم، فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به، وإن ملت فلا بيعة لي عليكم، وإن رأيتم أحدا هو أقوى عليها مني فأردتم بيعته فأنا أول من بايع ودخل في طاعته، أقوله قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وقال خلف ين خليفة في قتل الوليد بن يزيد: لقتل خالد بن عبد الله:
لقد سكنت كلب وأسياف مذحج ... صدى كان يزقو ليله غير راقد
تركنا أمير المؤمنين بخالد ... مكبا على خيشومه غير ساجد
فإن تقطعوا منا مناط قلادة ... قطعنا بها منكم مناط قلائد
وإن تشغلوه عن أذان فإننا ... شغلنا الوليد عن غناء الولائد
ولاية يزيد الناقص
ثم بويع يزيد بن الوليد بن عبد الملك في أول رجب سنة ست وعشرين ومائة. وأمه ابنة يزدجرد بن كسرى، سباها قتيبة بن مسلم بخراسان وبعث بها إلى الحجاج بن يوسف، فبعث بها الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك، فاتخذها فولدت له يزيد الناقص، ولم تلده غيره. ومات يزيد بن الوليد بدمشق لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة. وهو ابن خس وثلاثين سنة. وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك.

(2/172)

قال عبد العزيز: بويع وهو ابن تسع وثلاثين سنة، ومات ولم يبلغ الأربعين، وعلى شرطته بكير بن الشماخ اللخمي. وكاتب الرسائل ابن سليمان ابن سعد. وعلى الخراج والجند والخاتم الصغير والحرس النصر بن عمرو، من أهل اليمن. وعلى خاتم الخلافة عبد الرحمن بن حميد الكلبي، ويقاد قطن، مولاه. وكتب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد بالجزيرة، وبلغه عنه تلكأ في بيعته: أما بعد. فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت، والسلام. ثم قطع إليه البعوث، وأمر لهم بالغطاء. فلم ينقص! عطاؤهم حتى مات يزيد. ولما بلغ مروان أن يزيد قطع البعوث إليه كتب ببيعته، وبعث وفدا عليهم سليمان بن علاثة العقيلي. فخرج، فلما قطعوا الفرات لقيهم بريد بموت يزيد، فانصرفوا إلى مروان بن محمد، والله أعلم.
ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع
العلاء بن يزيد بن سنان قال: حدثني أبي قال: حضرت يزيد بن الوليد حين حضرته الوفاة فأتاه قطن، فقال: أنا رسول من وراء بابك، يسألونك بحق الله لو وليت أمرهم أخاك إبراهيم بن الوليد. فغضب وضرب بيده على جبهته وقال: أنا أولي إبراهيم! ثم قال لي: يا أبا العلاء، إلى من ترى أن أعهد؟ قلت: أمر نهيتك عن الدخول قي أوله، فلا أشير عليك بالدخول في آخره. قال: فأصابته إغماءة حتى ظننت أنه قد مات، ففعل ذلك غير مرة، ثم خرجت من عنده. فقعد قطن وافتعل عهدا على لسان يزيد بن الوليد لإبراهيم بن الوليد، ودعا ناسا فأشهدهم عليه. قال: والله ما عهد إليه يزيد شيئا ولا إلى أحد من الناس. وقال يزيد في مرضه: لو كان سعيد بن عبد الملك قريبا مني لرأيت فيه رأيي. وفي رواية أبي الحسن المدائني، قال: لما مرض يزيد قيل له: لو بايعت لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج بعده؟ فقال له قيس بن هانيء العبسي: اتق الله يا أمير المؤمنين، وانظر لنفسك، وأرض الله في عباده، فاجعل ولي عهدك عبد الملك بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. فقال يزيد: لا يسألني الله عن فلك، ولو كان سعيد بن عبد الملك مني قريبا لرأيت فيه رأي. وكان يزيد يرى رأي القدرية ويقول بقول غيلان. فألحت القدرية عليه قالوا: لا يحل لك إهمال أمر الأمة، فبايع لأخيك إبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده. فلم يزالوا به حتى بايع لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده.
ومات يزيد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة. وكان ولايته خمسة أشهر وأثنى عشر يوما.
فلما قدم مروان. نبش يزيد من قبره وصلبه. وكان يقرأ في الكتب: يا مبذر الكنوز، يا سجادا بالأسحار، كانت ولايتك لهم رحمة، وعليهم حجة. نبشوك فصلبوك.
وبويع إبراهيم بن الوليد، وأمه بربرية، فلم يتم له الأمر، وكان يدخل عليه قوم فيسلمون بالخلافة، وقوم يسلمون بالإمرة، وقوم لا يسلمون بخلافة ولا بإمرة، وجماعة تبايع، وجماعة يأبون أن يبايعوا. فمكث أربعة أشهر، حتى قدم مروان بن محمد فخلع إبراهيم وقتل عبد العزيز بن الحجاج، وولي الأمر بنفسه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:49 pm

وفي رواية خليفة بن خياط قال: لما أتى مروان بن محمد وفاة يزيد بن الوليد دعا قيسا وربيعة، ففرض لستة وعشرين ألفا من قيس، وسبعة آلاف من ربيعة وأعطاهم أعطياتهم وولى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي وعلى ربيعة المساور بن عقبة، ثم خرج يريد الشام، واستخلف على الجزيرة أخاه عبد العزيز بن محمد بن مروان، فتلقاه وجوه قيس: الوثيق بن الهذيل بن زفر، ويزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، وأبو الورد بن الهذيل بن زفر، وعاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، في خمسة آلاف من قيس. فساروا معه حتى قدم حلب، وبها بشر ومسرور، ابنا الوليد بن عبد الملك، أرسلهما إبراهيم بن الوليد حين بلغه مسير مروان بن محمد، فالتقوا، فانهزم بشر ومسرور من ابن محمد من غير قتال، فأخذهما مروان فحبسهما عنده. ثم سار مروان حتى أتى حمص، فدعاهم للمسير معه والبيعة لوليي العهد: الحكم وعثمان، ابني الوليد بن يزيد، وهما محبوسان عند إبراهيم بن الوليد بدمشق، فبايعوه، وخرجوا معه حتى أتى عسكر سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتال شديد. وبلغ عبد العزيز ابن الحجاج بن عبد الملك ما لقي سليمان وهو معسكر في ناحية عين الجر، فأقبل إلى دمشق، وخرج إبراهيم بن الوليد من دمشق، ونزل بباب الجابية وتهيأ للقتال، ومعه الأموال على العجل، ودعا الناس فخذلوه. وأقبل عبد العزيز بن الحجاج وسليمان بن الوليد فدخلا مدينة دمشق يريدان قتل الحكم وعثمان ابني الوليد وهما في السجن. وجاء يزيد بن خالد بن عبد الله القسري فدخل السجن فقتل يوسف بن عمر، والحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وهما الحملان، وأتاهم رسول إبراهيم، فتوجه عبد العزيز بن الحجاج إلى داره ليخرج عياله، فثار به أهل دمشق فقتلوه واحتزوا رأسه، فأتوا به أبا محمد بن عبد الله بن يزيد ابن معاوية، وكان محبوسا مع يوسف بن عمر وأصحابه، فأخرجوه ووضعوه على المنبر في قيوده، ورأس عبد العزيز بين يديه، وحلوا قيوده. فخطبهم وبايع لمروان وشتم يزيد وإبراهيم ابني الوليد، وأمر بجثة عبد العزيز فصلبت على باب الجابية منكوسا، وبعث برأسه إلى مروان بن محمد. واستأمن أبو محمد لأهل دمشق، فأمنهم مروان ورضي عنهم. وبلغ إبراهيم فخرج هاربا حتى أتى مروان فبايعه وخلع نفسه، فقبل منه وأمنه، فسار إبراهيم فنزل الرقة على شاطىء الفرات، ثم أتاه كتاب سليمان بن هشام يستأمنه، فأمنه، فأتاه فبايعه. واستقامت لمروان بن محمد. وكانت ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع أشهرا. قال أبو الحسن: شهرين ونصفا.
ولاية مروان بن محمد بن مروان
ثم بويع مروان بن محمد بن مروان بن الحكم. أمه بنت إبراهيم بن الأشتر. قال بعضهم: بل كانت أمه لخباز لمصعب بن الزبير أو لابن الأشتر. واسم الخباز رزبا، وقال بعضهم: كان رزبا عبدا لمسلم بن عمرو الباهلي. وقال أبو العباس الهلالي حين دخل على أبي العباس السفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عبد المطلب. وكان مروان بن محمد أحزم بني مروان وأنجدهم وأبلغهم، ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر عنهم. ودفع إلى مروان أبيات قالها الحكم بن الوليد وهو محبوس، وهي:
ألا فتيان من مضر فيحموا ... أسارى في الحديد مكبلينا
أتذهب عامر بدمي وملكي ... فلا غثا أصبت ولا سمينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا
فأرث لا عدمتك حرب قيس ... فتخرج منهم الداء الدفينا
ألا من مبلغ مروان عني ... وعمي الغمر طال بدا حنينا
بأني قد ظلمت وطال حبسي ... لدى البخراء في لحف مهينا

(2/174)

وقتل مروان ببوصير من أرض مصر في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. الوليد بن هشام عن أبيه، وعبد الله بن المغيرة عن أبيه، وأبو اليقظان قالوا: ولد مروان بالجزيرة سنة اثنتين وسبعين، وقتل بقرية من قرى مصر يقال لها بوصير، يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكانت ولايته خمس سنين وستة أشهر وعشرة أيام، وأم مروان أمة لمصعب ابن الزبير. وقتل وهو ابن ستين سنة.
ولد مروان عبد الملك، ومحمد، وعبد العزيز، وعبيد الله، وعبد الله، وأبان، ويزيد، ومحمد الأصغر، وأبو عثمان. وكاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعيد، مولى بني عامر بن لؤي، وكان معلما وكان على القضاء سليمان بن عبد الله بن علاثة، وعلى شرطته الكوثر بن عتبة وأبو الأسود الغنوي. وكان للحرس نوب، في كل ثلاثة أيام نوبة، يلي ذلك صاحب النوبة. وعلى حجابته صقلا ومقلاص. وعلى الخام الصغير عبد الأعلى ابن ميمون بن مهران، وعلى ديوان الجند عمران بن صالح، مولى بني هذيل.
مقتل مروان بن محمد بن مروان

(2/175)

قالوا: والتقى مروان وعامر بن إسماعيل ببوصير من أرض مصر، فقاتلوهم ليلا، وعبد الله وعبيد الله، ابنا مروان، واقفان ناحية في جمع من أهل الشام، فحمل عليهم أهل خراسان فأزالوهم عن مراكزهم، ثم كروا عليهم فهزموهم حتى ردوهم إلى عسكرهم ورجعوا إلى موقفهم. ثم إن أهل الشام بدأوهم فحملوا على أهل خراسان، فكشفوا كشفا قبيحا، ثم رجعوا إلى أماكنهم، وقد مضى عبيد الله وعبد الله، فلم يروا أحدا من أصحابهم، فمضوا على وجوههم وذلك في السحر. وقتل مروان وانهزم الناس، وأخذوا عسكر مروان وما كان فيه، وأصبحوا فاتبعوا الفل وتفرق الناس، فجلعوا يقتلون من قدروا عليه، ورجع أهل خراسان عنهم. فلما كان الغد لحق الناس بعبد الله وعبيد الله ابني مروان وجعلوا يأتونهما متقطعين العشرة والعشرين وأكثر وأقل، فيقولان: كيف أمير المؤمنين؟ فيقول بعضهم: تركناه يقاتلهم، ويقول بعضهم: انحاز وثاب إليه قوم، ولا ينعونه، حتى أتوا الحرون، فقال: كنت معه أنا ومولى له فصرع فجررت برجله، فقالت: أوجعتني. فقاتلت أنا ومولاه عنه، وعلموا أنه مروان، فألحوا عليه، فتركته ولحقت بكم. فبكى عبد الله. فقال له أخوه عبيد الله: يا ألأم الناس! فررت عنه وتبكي عليه! ومضوا. فقال بعضهم: كانوا أربعة آلاف! وقال بعضهم؟ كانوا ألفين. فأتوا بلاد النوبة، فأجرى عليهم ملك النوبة ما يصلحهم، ومعهم أم خالد بنت يزيد وأم الحكم بنت عبيد الله - صبية جاء بها رجل من عسكر مروان حين انهزموا فدفعها إلى أبيها - ثم أجمع ابنا مروان على أن يأتيا اليمن وقالا: نأتيها قبل أن يأتيها المسودة، فنتحصن في حصونها وندعو الناس. فقال لهم صاحب النوبة: لا تفعلوا، إنكم في بلاد السودان وهم في عدد كثير، ولا آمن عليكم، فأقيموا، فأبوا. قال: فاكتبوا إلي كتابا، فكتبوا له: إنا قدمنا بلادك فأحسنت مثوانا وأشرت علينا أن لا نخرج من بلادك فأبينا وخرجنا من عندك وافرين راضيين شاكرين لك بطيب أنفسنا. وخرجوا، فأخذوا في بلاد العدو. فكانوا ربما عرضوا لهم ولا يأخذون منهم إلا السلاح، وأكثر من، ذلك لا يعرضون له. حتى أتوا بعض بلادهم، فتلقاهم عظيمهم فاحتبسهم، فطلبوا الماء، فمنعهم ولم يقاتلهم ولم يخلهم وعطشهم، وكان يبيعهم القربة بخمسين درهما، حتى أخذ منهم مالا عظيما. ثم خرجوا فساروا حتى عرض لهم جبل عظيم بين طريقين، فسلك عبد الله أحدهما في طائفة، وسلك عبيد الله الآخر في طائفة أخرى، وظنوا أن للجبل غاية يقطعونها ثم يجتمعون عند آخرها، فلم يلتقوا. وعرض قوم من العدو لعبيد الله وأصحابه فقاتلوهم، فقتل عبيد الله، وأخذت أم الحكم بنته، وهي صبية، وقتل رجل من أصحابه، وكفوا عن الباقين وأخذوا سلاحهم. وتقطع الجيش، فجعلوا يتنكبون العمران فيأتون الماء فيقيمون عليه الأيام، فتمضي طائفة وتقيم الأخرى، حتى بلغ العطش منهم، فكانوا ينحرون الدابة فيقطعون أكراشها فيشربونه، حتى وصلوا إلى البحر بحيال المندب، ووافاهم عبد الله وعليه مقرمة قد جاء بها. فكانوا جميعا خمسين أو أربعين رجلا، فيهم الحجاج بن قتيبة بن مسلم الحرون، وعفان، مولى بني هاشم، فعبر التجار السفن، فعبروا بهم إلى المندب، فأقاموا بها شهرا فلم تحملهم، فخرجوا إلى مكة. وقال بعضهم: أعلم بهم العامل فخرجوا مع الحجاج عليهم ثياب غلاظ وجباب الأكرياء، حتى وافوا جدة وقد تقطعت أرجلهم من المشي. فمروا بقوم، فرقوا لهم فحملوهم. وفارق الحجاج عبد الله بجدة. ثم حجوا وخرجوا من مكة إلى تبالة. وكان على عبد الله فص أحمر كان قد غيبه حين عبر إلى المندب، فلما أمن استخرجه، وكانت قيمته ألف دينار، وكان يقول وهو يمشي: ليت به دابة. حتى صار في مقرمة تكون عليه بالنهار وبلبسها بالليل. فقالوا: ما رأينا مثل عبد الله، قاتلوا فكان أشد الناس، ومشوا فكان أقواهم، وجاعوا فكان أصبرهم، وعروا فكان أحسنهم عريا. وبعث، وهو بالمندب، إلى العدو الذين أخذوا أم الحكم بنت أخيه عبيد الله ففداها وردها إليه، فكانت معه. ثم أخذ عبد الله فقدم به على المهدي، فجاءت امرأته

(2/176)

بنت يزيد بن محمد بن مروان بن الحكم، فكلمت العباس بن يعقوب، كاتب عيسى بن علي، وأعطته لؤلؤا ليكلم فيه عيسى: فكلمه وأعلمه بما أعطته فلم يكلم فيه عيسى بن علي المهدي، وأراد المهدي أن يقتله، فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بيعة، وقد أعطى كاتبي قيمة ثلاثين ألف درهم، فحبسه المهدي. وكان عبد الله بن مروان تزوج أم يزيد بنت يزيد بن محمد بن مروان، وكانت في الحبس، فلما أخرجهم العباس خرجت إلى مكة، فأقامت بها، وقدم عبد الله بن مروان سرا فتزوجها. وقال مولى مروان: كنت مع مروان وهو هارب، فقال لي يوما: أين عزبت عنا حلومنا في نسائنا! ألا زوجناهم من أكفائهن من قريش فكفينا مؤنتهن اليوم. وقال: بعض آل مروان، ما كان شيء أنفع لنا في هربنا من الجوهر الخفيف الثمن الذي يساوي خمسة دنانير فما دون، كان يخرجه الصبي والخادم فيبيعه، وكنا لا نستطيع أن نظهر الجوهر الثمين الذي له وقيمة كثيرة. وقال مصعب بن الربيع الخثعمي كاتب مروان بن محمد: لما انهزم مروان وظهر عبد الله بن علي على أهل الشام طلبت الإذن، فأنا عنده يوما جالس وهو متكىء، إذ ذكر مروان وانهزامه، فقال: شهدت القتال؟ قلت: نعم، أصلح الله الأمير، وقال لي مروان: احزر القوم، فقلت: إنما أنا صاحب فلم ولست بصاحب حرب، فأخذ يمنة ويسرة ثم نظر فقال لي: هم اثنا عشر ألف رجل. وقال مصب: قيل لمروان: قد انتهب بيت المال الصغير، فانصرف يريد بيت المال. فقيل له: قد انتهب بيت المال الأكبر، انتهبه أهل الشام.ت يزيد بن محمد بن مروان بن الحكم، فكلمت العباس بن يعقوب، كاتب عيسى بن علي، وأعطته لؤلؤا ليكلم فيه عيسى: فكلمه وأعلمه بما أعطته فلم يكلم فيه عيسى بن علي المهدي، وأراد المهدي أن يقتله، فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بيعة، وقد أعطى كاتبي قيمة ثلاثين ألف درهم، فحبسه المهدي. وكان عبد الله بن مروان تزوج أم يزيد بنت يزيد بن محمد بن مروان، وكانت في الحبس، فلما أخرجهم العباس خرجت إلى مكة، فأقامت بها، وقدم عبد الله بن مروان سرا فتزوجها. وقال مولى مروان: كنت مع مروان وهو هارب، فقال لي يوما: أين عزبت عنا حلومنا في نسائنا! ألا زوجناهم من أكفائهن من قريش فكفينا مؤنتهن اليوم. وقال: بعض آل مروان، ما كان شيء أنفع لنا في هربنا من الجوهر الخفيف الثمن الذي يساوي خمسة دنانير فما دون، كان يخرجه الصبي والخادم فيبيعه، وكنا لا نستطيع أن نظهر الجوهر الثمين الذي له وقيمة كثيرة. وقال مصعب بن الربيع الخثعمي كاتب مروان بن محمد: لما انهزم مروان وظهر عبد الله بن علي على أهل الشام طلبت الإذن، فأنا عنده يوما جالس وهو متكىء، إذ ذكر مروان وانهزامه، فقال: شهدت القتال؟ قلت: نعم، أصلح الله الأمير، وقال لي مروان: احزر القوم، فقلت: إنما أنا صاحب فلم ولست بصاحب حرب، فأخذ يمنة ويسرة ثم نظر فقال لي: هم اثنا عشر ألف رجل. وقال مصب: قيل لمروان: قد انتهب بيت المال الصغير، فانصرف يريد بيت المال. فقيل له: قد انتهب بيت المال الأكبر، انتهبه أهل الشام.
وقال أبو الجارود السلمي: حدثني رجل من أهل خراسان قال: لقينا مروان على الزاب، فحمل علينا أهل الشام كأنهم جبال حديد، فجثونا على الركب وأشرعنا الرماح، فزالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم، وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشام، فخرج إليه رجل منا، فقتله الشامي. ثم خرج إليه آخر فقتله، حتى والى بين ثلاثة. فقال رجل منا: اطلبوا إلي سيفا قاطعا وترسا صلبا، فأعطيناه، ومشى إليه فضر به بالشافي، فأتقاه بالترس، وضرب رجله فقطعها وقتله ورجع، فحملناه وكبرنا، فإذا هو عبيد الله الكابلي.

(2/177)

سمر المنصور ذات ليلة فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم. وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، وكانت همتهم، مع عظم شأن الملك وجلالة قدره، قصد الشهوات وإيثار اللذات والدخول في معاصي الله ومساخطه، جهلا باستدراج الله وأمنا لمكره، فسلبهم الله العز، ونقل عنهم النعمة. فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن مروان لما دخل النوبة هاربا فيمن تبعه، سأل ملك النوبة عنهم، فأخبر، فركب إلى عبد الله، فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة وشماله عن ذلك؟ فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة. فقال: يا أمير المؤمنين، قدمنا أرض النوبة وقد خبر الملك بأمرنا، فدخل علي رجل أقنى الأنف طوال حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب. فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟ قال: لأني ملك ويحق على الملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله. ثم قال: لأي شيء تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟ قلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وغلماننا وأتباعنا لأن الملك قد زال عنا. قال: فلم تطئون الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: يفعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم. قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة، وذلك محرم عليكم؟ قلت: ذهب الملك عنا وقل أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا، فلبسوا ذلك على الكره منا. قال: فأطرق مليا وجعل يقلب يده وينكث الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا وقوم دخلوا في ديننا وزال الملك عنا! يردد مرارا. ثم قال: ليس ذلك كذلك، رب أشتم قوم قد استحللتم ما حرم الله، وركبتم ما نهاكم عنه، وظلمتم من ملكتم، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزودوا ما احتجتم وارتحلوا عن بلدي.
أخبار الدولة العباسية
الهيثم بن عدي قال: حدثني ابن عياش قال: حدثني بكير أبو هاشم، مولى مسلمة قال: لم يزل لبني هاشم بيعة سر ودعوة باطنة منذ قتل الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم نزل نسمع بخروج الرايات السود من خراسان وزوال ملك بني أمية حتى صار ذلك.
وقيل لبعض بني أمية: ما كان سبب زوال ملككم؟ قال: اختلافنا فيما بيننا، واجتماع المختلفين علينا. الهيثم بن عدى قال: حدثني غير واحد ممن أدركت من المشايخ أن علي بن أبي طالب أصار الأمر إلى الحسن، فأصاره إلى معاوية، وكره ذلك الحسين ومحمد بن الحنفية. فلما قتل الحسين بن علي صار أمر الشيعة إلى محمد بن الحنفية - وقال بعضهم: إلى علي بن الحسين - ثم إلى محمد بن علي، ثم إلى جعفر بن محمد. والذي عليه الأكثر أن محمد بن الحنفية أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية.
فلم يزل قائما بأمر الشيعة يأتونه ويقوم بأمرهم ويؤدون إليه الخراج، حتى استخلف سليمان بن عبد الملك، فأتاه وافدا ومعه عدة من الشيعة، فلما كلمه سليمان، قال: ما كلمت قط قرشيا يشبه هذا، وما نظن الذي كنا نحدث عنه إلا حقا، فأجازه، وقضى حوائجه وحوائج من معه. ثم شخص وهو يريد فلسطين، فلما كان ببلاد لخم وجذام ضربوا له أبنية في الطريق ومعهم اللبن المسموم، فكلما مر بقوم قالوا: هل لكم في الشراب؟ قال: جزيتم خيرا، ثم بآخرين، فعرضوا عليه، فقال: هاتوا، فلما شرب واستقر بجوفه، قال لأصحابه: إني ميت فانظروا من القوم؟ فنظروا فإذا هم قوضوا أبنيتهم وذهبوا.
فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي، وما أحسبني أدركه. فأسرعوا السير، حتى أتوا الحميمة من أرض الشراة، وبها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فنزل به، فقال: يا بن عمي، إني ميت، وقد صرت إليك وأنت صاحب هذا الأمر، وولدك القائم به، ثم أخوه من بعده، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الرايات السود من قعر خراسان، ثم ليغلبن على ما

(2/178)

بين حضرموت وأقصى إفريقية، وما بين الهند وأقصى فرغانة. فعليك بهؤلاء الشيعة واستوص بهم خيرا، فهم دعاتك وأنصارك. ولتكن دعوتك خراسان ولا تعدها، لا سيما مرو؛ واستبطن هذا الحي من اليمن، فإن كل ملك لا يقوم به فمصيره إلى انتقاض، وانظر هذا الحي من ربيعة فألحقهم بهم، فإنهم معهم في كل أمر؛ وانظر هذا الحي من قيس وتميم فأقصهم، إلا من عصم الله منهم، وذلك قليل؛ ثم مرهم أن يرجعوا فليجعلوا اثني عشر نقيبا، وبعدهم سبعين نقيبا، فإن الله لم يصلح أمر بني إسرائيل إلا بهم، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإذا مضت سنة الحمار فوجه رسلك في خراسان، منهم من يقتل ومنهم من ينجو، حتى يظهر الله دعوتكم. قال محمد بن علي: يا أبا هاشم، وما سنة الحمار؟ قال: إنه لم تمض مائة سنة من نبوة قط إلا انتقض أمرها، لقول الله عز وجل: " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. قال أنى يحي هذه الله بعد موتها. فأماته الله مائة عام ثم بعثه " إلى قوله: " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس " . واعلم أن صاحب هذا الأمر من ولدك عبد الله بن الحارثية، ثم عبد الله أخوه. ولم يكن لمحمد بن علي في ذلك الحين ولد يسمى عبد الله، فولد من الحارثية ولدان سمى كل واحد منهما عبد الله، وكنى الأكبر أبا العباس، والأصغر أبا جعفر، فوليا جميعا الخلافة. ثم مات أبو هشام وقام محمد بن علي بالأمر بعده، فاختلفت الشيعة إليه. فلما ولد أبو العباس أخرجه إليهم في خرقة، وقال لهم: هذا صاحبكم، فجعلوا يلحسون أطرافه، وولد أبو العباس في أيام عمر بن عبد العزيز. ثم قدم الشيعة على محمد بن علي فأخبروه أنهم حبسوا بخراسان في السجن، وكان يخدمهم فيه غلام من السراجين ما رأوا قط مثل عقله وظرفه ومحبته في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له: أبو مسلم. قال: أحر أم عبد؟ قال: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر. قال: فاشتروه واعتقوه واجعلوه بينكم إذ رضيتموه. وأعطوا محمد بن علي مائتي ألف كانت معهم.
فلما انقضت المائة السنة بعث محمد بن علي رسله إلى خراسان فغرسوا بها غرسا، وأبو المقدم عليهم، وثارت الفتنة في خراسان بين المضرية واليمانية، فتمكن أبو مسلم وفرق رسله في كور خراسان يدعو الناس إلى آل الرسول، فأجابوه. ونصر بن سيار عامل خراسان لهشام بن عبد الملك، فكان يكتب لهشام بخبرهم، وتمضي كتبه إلى ابن هبيرة صاحب العراق لينفذها إلى أمير المؤمنين، فكان يحبسها ولا ينفذها لئلا يقوم لنصر بن سيار قائمة عند الخليفة. وكان في ابن هبيرة حسد شديد. فلما طال بنصر بن سيار ذلك ولم يأته جواب من عند هشام كتب كتابا وأمضاه إلى هشام على غير طريق ابن هبيرة، وفي جوف الكتاب هذه الأبيات مدرجة، يقول فيها:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... فيوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام
فإن لم تطفئوها تجن حربا ... مشمرة يشيب لها الغلام
فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإن كانوا لحينهم نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام
ففري عن رحالك ثم قولي ... على الإسلام والعرب السلام
فكتب إليه هشام: أن احسم ذلك الثؤلول الذي نجم عندكم. قال نصر: وكيف لنا بحسمه! وقال نصر بن سيار يخاطب المضرية واليمانية، ويحذرهم هذا العدو الداخل عليهم بقوله:
أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم ... فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا ... حربا يحرق في حافاتها الحطب
ما بالكم تلقحون الحرب بينكم ... كأن أهل الحجا عن فعلكم غيب
وتتركون عدوا أظلكم ... مما تأشب لا دين ولا حسب

(2/179)

قدما يدينون دينا ما سمعت به ... عن الرسول ولم تنزل به الكتب
فمن يكن سائلا عن أصل دينهم ... فإن دينهم أن تقتل العرب
ومات محمد بن علي في أيام الوليد بن يزيد، وأوصى إلى ولده إبراهيم بن محمد، فقام بأمر الشيعة. وقدم عليهم أبا مسلم السراج وسليمان بن كثير، وقال لأبي مسلم: إن استطعت أن لا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، ومن شككت في أمره فاقتله. فلما استعلى أمر أبي مسلم بخراسان وأجابته الكور كلها، كتب نصر بن سيار إلى مروان بن محمد بخبر أبي مسلم وكثرة من تبعه، وانه قد خاف أن يستولي على خراسان وأن يدعو إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فأتى الكتاب مروان، وقد أتاه رسول لأبي مسلم بجواب إبراهيم إلى أبي مسلم. فكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان، وهو عامله على دمشق: أن أكتب إلى عاملك بالبلقاء ليسير إلى الحميمة فيأخذ إبراهيم بن محمد فيشده وثاقا ثم يبعث به إليك، ثم وجهه إلي. فحمل إلى مروان، وتبعه من أهله عبد الله بن علي وعيسى بن موسى، فأدخل على مروان، فأمر به إلى الحبس.
وقال الهيثم: حدثني أبو عبيدة، قال: كنت آتيه في السجن ومعه فيه سعيد بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فوالله إني ذات ليلة في سقيفة السجن بين النائم واليقظان، إذ بمولى لمروان قد استفتح الباب ومعه عشرون رجلا من موالي مروان الأعاجم، ومعهم صاحب السجن، فأصبحنا وسعيد وعبد الله وإبراهيم قد ماتوا.
قال الهيثم: حدثني أبو عبيدة قال: حدثني وصيف عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الذي كان يخدمه في الحبس: إنه غم عبد الله مولاه بمرفقه. وإبراهيم بن محمد بجراب نورة، وسعيد بن عبد الملك أخرجه صاحب السجن، فلقيه بعض حرس مروان في ظلمة الليل، فوطئته الخيل وهم لا يعرفون من هو، فمات.
ثم استولى أبو مسلم على خراسان كلها، فأرسل إلى نصر بن سيار، فهرب هو وولده وكاتبه داود حتى انتهوا إلى الري، فمات نصر بن سيار بساوة، وتفرق أصحابه، ولحق داود بالكوفة وولده جميعا. واستعمل أبو مسلم عماله على خراسان ومرو وسمرقند وأحوازها، ثم أخرج الرايات السود، وقطع البعوث، وجهز الخيل والرجال عليهم قحطبة بن شبيب، وعامر بن إسماعيل، ومحرز بن إبراهيم في عدة من القواد، فلقوا من بطوس، فانهزموا، ومن مات في الزحام أكثر ممن قتل، فبلغ القتلى بضعة عشر ألفا. ثم مضى قحطبة إلى العراق، فبدأ بجرجان، وعليها نباتة بن حنظلة الكلابي. وكان قحطبة يقول لأصحابه: والله ليقتلن عامر بن ضبارة وينهزمن ابن هبيرة، ولكني أخاف أن أموت قبل أن أبلغ ثأري، وأخاف أن أكون الذي يغرق في الفرات، فإن الإمام محمد بن علي قال لي ذلك.
قال الهيثم: فقدم قحطبة جرجان فقتل ابن نباتة، ودخل جرجان فانتهبها، وقسم ما أصاب بين أصحابه، ثم سار إلى عامر بن ضبارة بأصبهان، فلقيه، فقتل ابن ضبارة وقتل أصحابه، ولم ينج منهم إلا الشريد، ولحق فلهم بابن هبيرة.
وقال قحطبة لما قتل ابن ضبارة: ما شيء رأيته ولا عدو قتلته إلا وقد حدثني به الإمام صلوات الله عليه، إلا أنه حدثني أني لا أعبر الفرات.
وسار قحطبة حتى نزل بحلوان، ووجه أبا عون في نحو ثلاثين ألفا إلى مروان بن محمد، فأخذ على شهر زور حتى أن الزاب، وذلك برأي أبي مسلم. فحدث أبو عون عبد الملك بن يزيد قال قال لي أبو هشام بكير بن ماهان: أنت والله الذي تسير إلى مروان، ولتبعثن إليه غلاما من مذحج يقال له عامر فليقتلنه. فأمضيت والله عامر بن إسماعيل على مقدمتي، فلقي مروان فقتله.
ثم سار قحطبة من حلوان إلى ابن هبيرة بالعراق، فالتقوا بالفرات فاقتتلوا حتى اختلط الظلام، وقتل قحطبة في المعركة وهو لا يعرف. فقال بعضهم: غرق في الفرات.

(2/180)

ثم انهزم ابن هبيرة حتى لحق بواسط، وأصبح المسودة وقد فقدوا أميرهم، فقدموا الحسن بن قحطبة. ولما بلغ مروان قتل قحطبة وهزيمة ابن هبيرة قال: هذا والله الإدبار، وإلا فمتى رأيتم ميتا هزم حيا! وأقام ابن هبيرة بواسط، وغلبت المسودة على العراق، وبايعوا لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ووجه عمة عبد الله بن علي لقتال مروان وأهل الشام، وقدمه على أبي عون وأصحابه. ووجه أخاه أبا جعفر إلى واسط لقتال ابن هبيرة. وأقام أبو العباس بالكوفة حتى جاءته هزيمة مروان بالزاب، وأمضى عبد الله بن علي أبا عون في طلبه، وأقام على دمشق ومدائن الشام يأخذ بيعتها لأبي العباس.
وكان أبو سلمة الخلال، واسمه حفص بن سليمان، يدعى وزير آل محمد، وكان أبو مسلم يدعى أمين آل محمد. فقتل أبو العباس أبا سلمة الخلال واتهمه بحب بني فاطمة، وأنه كان يحطب في حبالهم. وقتل أبو جعفر أبا مسلم، وكان أبو مسلم يقول لقواده إذا أخرجهم: لا تكلموا الناس إلا رمزا، ولا تلحظوهم إلا شزرا، لتمتلىء صدورهم من هيبتكم.
مقتل زيد بن علي
أيام هشام بن عبد الملك
كتب يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك: إن خالد بن عبد الله أودع زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب مالا كثيرا. فبعث هشام إلى زيد، فقدم عليه، فسأله عن ذلك، فأنكر، فاستحلفه، فحلف له، فخلى سبيله، وأقام عند هشام بعد ذلك سنة. ثم دخل عليه في بعض الأيام، فقال له هشام: بلغني أنك تحدث نفسك بالخلافة، ولا تصلح لها لأنك ابن أمة. قال: أما قولك إني ابن أمة، فهذا إسماعيل صلى الله عليه وسلم ابن أمة، أخرج الله من صلبه خير البشر محمدا صلى الله عليه وسلم، وإسحاق ابن حرة، أخرج الله من صلبه القردة والخنازير وعبدة الطاغوت. وخرج زيد مغضبا. فقال زيد: ما أحب أحد الحياة إلا ذل قال له الحاجب: لا يسمع هذا الكلام منك أحد. وخرج زيد حتى قدم الكوفة فقال:
شرده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
محتفي الرجلين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت ... له راحة والموت حتم في رقاب العباد
ثم خرج بخراسان، فوجه يوسف بن عمر إليه الخيل، وخرج في إثرها حتى لقيه، فقاتله، فرمي زيد في آخر النهار بنشابة في نحره فمات، فدفنه أصحابه في حمأة كانت قريبة منهم. وتتبع يوسف أصحاب زيد، فانهزم من انهزم، وقتل من قتل. ثم أتي يوسف فقيل له: إن زيدا دفن في حمأة. فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام، ثم صلبه في سوق الكناسة. فقال في ذلك أعور كلب، وكان مع يوسف في جيش أهل الشام:
نصبنا لكم زيدا على جذع نخلة ... وما كان مهدي على الجذع ينصب
الشيباني قال: لما نزل عبد الله بن علي نهر أبي فطرس، حضر الناس بابه للإذن، وحضر اثنان وثمانون رجلا من بني أمية، فخرج الآذن، فقال: يا أهل خراسان، قوموا. فقاموا سماطين في مجلسه، ثم أذن لبني أمية، فأخذت سيوفهم ودخلوا عليه. قال أبو محمد العبدي الشاعر: وخرج الحاجب فأدخلني، فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم قال أنشدني قولك: وقف المتيم في رسوم ديار فأنشدته حتى انتهيت إلى قولي:
أما الدعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أمية من دعاة النار
من كان يفخر بالمكارم والعلا ... فلها يتم المجد غير فخار
والغمر بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على المصلى، وبنو أمية على الكراسي، فألقى إلي صرة حرير خضراء فيها خمسمائة دينار، فقال: لك عندنا عشرة آلاف درهم وجارية وبرذون وغلام وتخت ثياب. قال: فوفى والله بذلك كله. ثم انشأ عبد الله بن علي يقول:
حسبت أمية أن سيرضى هاشم ... عنها ويذهب زيدها وحسينها
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:51 pm

كلا ورب محمد وإلهه ... حتى تباح سهولها وحزونها
ثم أخذ قلنسوته من رأسه فضرب بها الأرض، فأقبل أولئك الجند على بني أمية فخبطوهم بالسيوف والعمد. وقال الكلبي الذي كان بينهم، وكان من أتباعهم: أيها الأمير، إني والله ما أنا منهم. فقال عبد الله بن علي:
ومدخل رأسه لم يدعه أحد ... بين العرينين حتى لزه القرن
اضربوا عنقه، ثم أقبل على الغمر فقال: ما أحسب لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا. فقال: أجل. قال: يا غلام، اضرب عنقه فأقيم من المصلى فضرب عنقه. ثم أمر ببساط فطرح عليهم، ودعا بالطعام فجعل يأكل وانين بعضهم تحت البساط.
وفي رواية أخرى قال: لما قدم الغمر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلا من بني أمية، فوضعت لهم الكراسي ووضعت لهم نمارق وأجلسوا عليها، وأجلس الغمر مع نفسه في المصلى، ثم أذن لشيعته فدخلوا، ودخل فيهم سديف بن ميمون، وكان متوشحا سيفا متنكبا قوسا، وكان طويلا آدم، فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيزعم الضلال بما حبطت أعمالهم أن غير آل محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالخلافة، فلم وبم؟ أيها الناس، ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة، والشركاء في النسب، الأكفاء في الحسب، الخاصة في الحياة، الوفاة عند الوفاة، مع ضربهم على الأمر جاهلكم، وإطعامهم في اللأواء جائعكم؛ فلكم قصم الله بهم من جبار باغ، وفاسق ظالم. لم يسمع بمثل العباس، لم تخضع له الأمة بواجب حق الحرمة، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجلده ما بين عينيه، أمنية ليلة العقبة، ورسوله إلى أهل مكة، وحاميه يوم حنين، لا يرد له رأيا، ولا يخالف له قسما. إنكم والله معاشر قريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث اختار الله لكم، تيمي مرة وعدوي مرة، وكنتم بين ظهراني قوم قد اثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، وجعلوا الصدقات في الشهوات، والفيء في اللذات، والمغانم في المحارم، إذا ذكروا بالله لم يذكروا، وإذا قدموا بالحق أدبروا، فذلك كان زمانهم، وبذلك كان يعمل سلطانهم.
فلما كان الغد أذن لهم فدخلوا ودخل فيهم شبل، فلما جلسوا قام شبل فاستأذن في الإنشاد، فأذن له فأنشد:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فلقوها ... بعد ميل من الزمان وباس
لا تقيلن عبد شمس عثارا ... اقطعوا كل نخلة وغراس
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من منابر وكراسي
واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس
وقتيلا بجوف حران أضحى ... تحجل الطير حوله في الكناس
نعم شبل الهراش مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس
ثم قام وقاموا. ثم أذن لهم بعد، فدخلوا ودخل الشيعة. فلما جلسوا قام سديف بن ميمون، فأنشد:
قد أتتك الوفود من عبد شمس ... مستعدين يوجعون المطيا
عنوة أيها الخليفة لا عن ... طاعة بل تخوفوا المشرفيا
لا يغرنك ما. ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
ثم قام خلف بن خليفة الأقطع فأنشد:
إن تجاوز فقد قدرت عليهم ... أو تعاقب فلم تعاقب بريا
أو تعاتبهم على رقة الدين فقد كان دينهم سامريا
فالتفت أبو العباس إلى الغمر، فقال: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: والله إن هذا لشاعر، ولقد قال شاعرنا ما هو أشعر من هذا. قال: وما قال؟ فأنشده:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا

(2/182)

فشرق وجه أبي العباس بالدم وقال: كذبت يا بن اللخناء، إني لا أرى الخيلاء في رأسك بعد، ثم قاموا. وأمر بهم فدفعوا إلى الشيعة، فاقتسموهم فضربوا أعناقهم، ثم جزوا بأرجلهم حتى ألقوها في الصحراء بالأنبار، وعليهم سراويلات الوشي، فوقف عليهم سديف مع الشيعة وقال:
طمعت أمية أن سيرضى هاشم ... عنها ويذهب زيدها وحسينها
كلا ورب محمد وإلهه ... حتى يباد كفورها وخؤونها
وكان أشد الناس على بني أمية عبد الله بن علي، وأحنهم عليهم سليمان بن علي. وهو الذي كان يسميه أبو مسلم كنف الأمان، وكان يجير كل من استجار به، وكتب أبي العباس: يا أمير المؤمنين، إنا لم نحارب بني أمية على أرحامهم وإنما حار بناهم على عقوقهم، وقد دافت إلي منهم دافة لم يشهروا سلاحا، ولم يكثروا جمعا، فأحب أن تكتب لهم منشور أمان. فكتب لهم منشور أمان وأنفذه إليهم. فمات سليمان بن علي وعنده بضع وثمانون حرمة لبني أمية.
خلفاء بني أمية بالأندلس
عبد الرحمن بن معاوية بن هشام
أول خلفاء الأندلس من بني أمية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. ولي الملك يوم الجمعة لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة، وهو ابن ثمان وعشرين سنة. وتوفي في عشرة من جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة. فكان ملكه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر. وكان يقال له صقر قريش، وذلك أن أبا جعفر المنصور قال لأصحابه: أخبروني عن صقر قريش. من هو؟ قالوا: أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء. قال: ما صنعتم شيئا. قالوا: فمعاوية. قال: ولا هذا. قالوا: فعبد الملك بن مروان. قال: ولا هذا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفز، ودخل بلدا أعجميا مفردا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة شكيمته. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان وذللا له صعبه، وعبد الملك ببيعة تقدم له عقدها، وأمير المؤمنين بطلب عشيرته، واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه.
وقالوا: لما توطد ملك عبد الرحمن بن معاوية عمل هذه الأبيات وأخرجها إلى وزرائه، فاستغربت من قوله إذ صدقها فعله، وهي:
ما حق من قام ذا امتعاض ... بمنتضى الشفرتين نصلا
فبز ملكا وشاد عزا ... ومنبرا للخطاب فمصلا
فجاز قفرا وشق بحرا ... مساميا لجة ومحلا
وجند الجند حين أودى ... ومصر المصر حين أجلى
ثم دعا أهله جميعا ... حيث انتأوا أن هلم أهلا
فجاء هذا طريد جوع ... شريد سيف أبيد قتلا
فحل أمنا ونال شبعا ... وحاز مالا وضم شملا
ألم يكن حق ذا على ذا ... أوجب من منعم. ومولى
وكتب أمية بن يزيد عنه كتابا إلى بعض عماله يستقصره فيما فرط فيه من عمله، فأكثر وأطال الكتاب، فلما لحظه عبد الرحمن أمر بقطعه، وكتب: أما بعد، فإن يكن التقصير منك مقدما. فحري أن يكون الاكتفاء عنك مؤخرا، وقد علمت بما تقدمت، فاعتمد على أيهما أحببت.
وكان ثار عليه ثائر بغربي بلدة، فغزاه فظفر به وأسره، فبينما هو منصرف وقد حمل الثائر على بغل مكبولا، نظر إليه عبد الرحمن بني معاوية وتحته فرس له، فقنع رأسه بالقناة، وقال: يا بغل، ماذا تحمل من الشقاق والنفاق؟ قال الثائر: يا فرس، ماذا تحمل من العفو والرحمة؟ فقال له عبد الرحمن: والله لا تذوق موتا على يدي أبدا.
هشام بن عبد الرحمن

(2/183)

ثم ولي هشام بن عبد الرحمن لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين ومائة، ومات في صفر سنة ثمانين ومائة. فكانت ولايته سبع سنين وعشرة أشهر. ومات وهو ابن إحدى وثلاثين سنة. وهو أحسن الناس وجها، وأشرفهم نفسا، الكامل المروءة، الحاكم بالكتاب والسنة، الذي أخذ الزكاة على حلها، ووضعها في حقها، لم يعرف منه هفوة في حداثته، ولا زلة في أيام صباه.
ورآه يوما أبوه وهو مقبل ممتلىء شبابا فأعجبه، فقال: يا ليت نساء بني هاشم أبصرنه حتى يعدن فوارك. وكان هشام يصرر الصرر بالأموال في ليالي المطر والظلمة، ويبعث بها إلى المساجد. فيعطي من وجد فيها. يريد بذلك عمارة المساجد، وأوصى رجل في زمن هشام بمال في فك سبيه من أرض العدو، فطلبت فلم توجد؛ احتراسا منه للثغر واستنقاذا لأهل السبي.
الحكم بن هشام
ثم ولي الخلافة الحكم بن هشام في صفر سنة ثمانين ومائة، وكانت ولايته ستا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا. ومات يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ست ومائتين. وهو ابن اثنتين وخمسين سنة. وكانت فيه بطاله، إلا أنه كان شجاع النفس، باسط الكف، عظيم العفو، متخيرا لأهل عمله ولأحكام رعيته أورع من يقدر عليهم وأفضلهم، فيسلطهم. على نفسه فضلا عن ولده وسائر خاصته. وكان له قاض قد كفاه أمور رعيته بفضله وعدله وورعه وزهده، فمرض مرضا شديدا، واغتم له الحكم غما شديدا. فذكر يزيد فتاه أنه أرق ليلة وبعد عنه نومه وجعل يتململ على فراشه، فقلت: اصلح الله الأمير، إني أراك متململا وقد زال النوم عنك فلم أدر ما عرض لك؟ قال: ويحك! إني سمعت نائحة هذه الليلة وقاضينا مريض، فما أراه إلا قد قضي نحبه، وأين لنا بمثله؟ ومن يقوم للرعية مقامه؟ ثم إن القاضي مات، واستقضى الحكم بعده سعيد ابن بشير. فكان أقصد الناس إلى حق، أخذهم بعدل، وأبعدهم من هوى، وأنفذهم لحكم. رفع إليه رجل من أهل كورة جيان أن عاملا للحكم اغتصبه جارية وعمل في تصييرها إلى الحكم، فوقعت من قلبه كل موقع، وأن الرجل أثبت أمره عند القاضي، وأتاه ببينة وشهود يشهدون على معرفة ما تظلم منه وعلى عين الجارية ومعرفتهم بها. وأوجبت البينة أن تحضر الجارية، واستأذن القاضي على الحكم، فأذن له، فلما دخل عليه، قال: إنه لا يتم عدل في العامة دون إفاضته في الخاصة، وحكى له أمر الجارية وخيره في إبرازها إليه. أو عزله عن القضاء. فقال له: ألا أدعوك إلى خير من ذلك؟ تبتاع الجارية من صاحبها بأنفس ثمن وأبلغ ما يسأله فيها. فقال: إن الشهود قد شخصوا من كورة جيان يطلبون الحق في مظانه، فلما صاروا ببابك تصرفهم دون إنفاذ الحق لأهله، ولعل قائلا أن يقول: باع ما يملك بيع مقتسر على أمره. فلما رأى عزمه أمر بإخراج الجارية من قصره، وشهد الشهود على عينها، وقضى بها لصاحبها.
وكان سعيد بن بشير القاضي إذا خرج إلى المسجد، أو جلس في مجلس الحكم، جلس في رداء معصفر وشعر مفرق إلى شحمة أذنيه، فإذا طلب ما عنده وجد أورع الناس وأفضلهم.
وكانت للحكم ألف فرس مربوطة بباب قصره على جانب النهر، عليها عشرة عرفاء، تحت يد كل عريف منها مائة فرس لا تندب ولا تبرح، فإذا بلغه عن ثائر في طرف من أطرافه عاجله قبل استحكام أمره، فلا يشعر حتى يحاط به. وأتاه الخبر: أن جابر بن لبيد يحاصر جيان وهو يلعب بالصولجان في الجسر. فدكا بعريف من أولئك العرفاء فأشار إليه أن يخرج من تحت يده إلى جابر بن لبيد، ثم فعل مثل ذلك بأصحابه من العرفاء. فلم يشعر ابن لبيد حتى تساقطوا عليه متساوين، فلما رأى ذلك عدوه سقط في أيديهم وظنوا أن الدنيا قد حشرت لديهم، فولوا مدبرين.
وقال الحكم يوم الهيجاء بعد وقعة الربض:
رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعا ... وقدما رأبت الشعب مذ كنت يافعا
فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة ... أبادرها مستنضي الصيف دارعا

(2/184)

وشافه على أرض الفضاء جماجما ... كأقحاف شريان الهبيد لوامعا
تنبئك أني لم أكن عن قراعهم ... بوان وأني كنت بالسيف قارعا
ولما تساقينا سجال حروبنا ... سقيتهم يسما من الموت ناقعا
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قذرت ومصارعا
قال عثمان بن المثنى المؤدب: قدم علينا عباس بن ناصح من الجزيرة أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فاستنشدني شعر الحكم، فأنشدته، فلما انتهيت إلى قوله:
هل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم
قال: لو جوثي الحكم في حكومة لأهل الربض لقام بعذره هذا البيت.
عبد الرحمن بن الحكم
ثم ولي بعده عبد الرحمن بن الحكم، أندى الناس كفا، وأكرمهم عطفا، وأوسعهم فضلا، في ذي الحجة سنة لست ومائتين، فملك إحدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر. ومات ليلة الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وستين سنة، وكتب إليه بعض عماله يسأله عملا رفيعا لم يكن من شاكلته، فوقع في أسفل كتابه: من لم يصب وجه مطلبه، كان الحرمان أولى به.
محمد بن عبد الرحمن
ثم ولي الملك محمد بن عبد الرحمن، يوم الخميس لثلاث من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملك أربعا وثلاثين سنة، وتوفي يوم الجمعة مستهل ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وهو ابن سبع وستين سنة. وكتب عبد الرحمن بن الشمر إلى الأمير محمد بن عبد الرحمن في حياة أبيه عبد الرحمن، وكان يتجنب الوقوف ببابه مخافة نصر الفتى، فلما مات نصر كتب ابن الشمر هذه الأبيات إلى محمد يقوله فيها:
لئن غاب وجهي عنك إن مودتي ... لشاهدة في كل يوم تسلم
وما عاقني إلا عدو مسلط ... يذل ويقصي من يشاء ويرغم
ولم يستطل إلا بكم وبعزكم ... ولا ينبغي أن يمنح العز مجرم
فمكنتموه فاستطال عليكم ... وكادت بنا نيرانه تتضرم
كذلك كلب السوء إن يشبع انبرى ... لمشبعه مستشليا يترمرم
فجمع إخوانا لصوصا أرذالا ... ومناهم أن يقتلونا ويغنموا
رأى بأمين الله سقما فغره ... ولم يك يدري أنه يتقدم
فنحمد ربا سرنا بهلاكه ... فما زال بالإحسان والطول ينعم
أراد يكيد الله نصر فكاده ... ولله كيد يغلب الكيد مبرم
بكى الكفر والشيطان نصرا فأعولا ... كما ضحكت شوقا إليه جهنم
وكانت له في كل شهر جباية ... جباية آلاف تعد وتختم
فهل حائط الإسلام يوما يسومهم ... بما اجترموا يوما عليه وأقدموا
وينهبنا أموالهم وهو فاعل ... فإني أرى الدنيا له تتبسم
ألا أيها الناس اسمعوا قول ناصح ... حريص عليكم مشفق وتفهموا
محمد نور يستضاء بوجهه ... وسيف بكف الله ماض مصمم
فكونوا له مثل البنين يكن لكم ... أبا حدبا في الرحم بل هو أرحم
فيا بن أمين الله لا زلت سالما ... معافى فإنا ما سلمت سنسلم
ألست المرجى من أمية والذي ... له المجد منها الأتلد المتقدم
وأنت لأهل الخير روح ورحمة ... نعم ولأهل الشر صاب وعلقم

(2/185)

وحدث بقي بن محمد الفقيه قال: ما كلمت أحدا من الملوك أكمل عقلا، ولا أبلغ لفظا، من الأمير محمد، دخلت عليه يوما في مجلس خلافته فافتتح الكلام، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الخلفاء خليفة خليفة، فحكى كل واحد منهم بحليته ونعته ووصفه، وذكر مآثره ومناقبه، بأفصح لسان، وأبين بيان، حتى انتهى إلى نفسه فسكت.
وخرج الأمير محمد يوما متنزها إلى الرصافة ومعه هاشم بن عبد العزيز، فكان بها صدر نهاره على لذته، فلما أمسى واختلط الظلام رجع منصرفا إلى القصر وبه اختلاط، فأخبرني من سمعه وهاشم يقول له: يا سيدي، يا بن الخلائف، ما أطيب الدنيا لولا. قال له: لولا ماذا؟ قال: لولا الموت. قال له: يا بن اللخناء، لحنت في كلامك، وهل ملكنا هذا الملك الذي نحن فيه إلا بالموت، ولولا الموت ما ملكناه أبدا.
وكان الأمير محمد غزاء لأهل الشرك والخلاف، وربما أوغل في بلاد العدو الستة الأشهر أو أكثر، يحرق وينسف، وله في العدو وقيعة وادي سليط، وهي من أمهات الوقائع، لم يعرف مثلها في الأندلس قبلها، وفيها يقول عباس بن فرناس، وشعره يكفينا من صفتها:
ومختلف الأصوات مؤتلف الزحف ... لهوم الفلا عبل القنابل ملتف
إذا أومضت فيه الصوارم خلتها ... بروقا تراءى في الجهام وتستخفي
كأن ذرى الأعلام في سيلانه ... قراقير يم قد عجزن عن القذف
وإن طحنت أركانه كان قطبها ... حجى ملك نجد شمائله عف
سمى ختام الأنبياء محمد ... إذا وصف الأملاك جل عن الوصف
فمن أجله يوم الثلاثاء غدوة ... وقد نقض الإصباح عقد عرى السجف
بكى جبلا وادي سليط فأعولا ... على النفر العبدان والغصبة الغلف
دعاهم صريخ الحين فاجتمعوا له ... كما اجتمع الجعلان للبعر في قف
فما كان إلا أن رماهم ببعضها ... فولوا على أعقاب مهزومة كشف
كأن مساعير الموالي عليهم ... شواهين جادت للغرانيق بالنسف
بنفسي تنانير الوغى حين صففت ... إلى الجبل المشحون صفا على صف
يقول ابن يليوس لموسى وقد ونى ... أرى الموت قدامي وتحتي ومن خلفي
قتلناهم ألفا وألفا ومثلها ... وألفا وألفا بعد ألف إلى ألف
سوى من طواه النهر في مستلجه ... فأغرق فيه أو تدأدأ من جرف
المنذر بن محمد

(2/186)

ثم ولي المنذر بن محمد، يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ومات يوم السبت في غزاة له على ببشتر، لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وهو ابن ست وأربعين سنة. وكان أشد الناس شكيمة، وأمضاهم عزيمة. ولما ولي الملك بعث إليه أهل طليطلة بجبايتهم كاملة فردها عليهم، وقال: استعينوا بها في حربكم فأنا سائر إليكم إن شاء الله. ثم غزا إلى المارق المرتد عمر بن حفصون وهو بحصن قامره، فأحدق به وبخيله ورجله، فلم يجد الفاسق منفذا ولا متنفسا، فأعمل الحيلة ولاذ بالمكر والخديعة، وأظهر الإتابة والإجابة، وأن يكون من مستوطني قرطبة بأهله وولده، وسأل إلحاق أولاده في الموالي. فأجابه الأمير إلى كل ما سأل، وكتب لهم الأمانات، وقطعت لأولاده الثياب، وخرزت لهم الخفاف، ثم سأل مائة بغل يحمل عليها ما له ومتاعه إلى قرطبة، فأمر الأمير بها. وطلبت البغال ومضت إلى ببشتر، وعليها عشرة من العرفاء، وانحل العسكر عن الحصن بعض الانحلال، وعكف القاضي وجماعة من الفقهاء على تمام الصلح فيما حسبوا. فلما رأى الفاسق الفرصة انتهزها ففسق ليلا وخرج، فلقي العرفاء بالبغال فقتلهم، وأخذ البغال وعاد إلى سيرته الأولى. فعقد المنذر على نفسه عقدا أن لا أعطاه صلحا ولا عهدا إلا أن يلقي بيده وينزل على عهده وحكمه، ثم غزاه الغزاة التي توفي فيها، فأمر بالبنيان والسكنى عليه، وأن يرد سوق قرطبة إليه، فعاجله أجله عن ذلك.
عبد الله بن محمد
ثم تولى عبد الله بن محمد، التقي النقي، العابد الزاهد، التالي لكتاب الله، والقائم بحدود الله، يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين. فبنى الساباط وخرج إلى الجامع، والتزم الصلاة إلى جانب المنبر، حتى أتاه أجله، رحمه الله، يوم الثلاثاء لليلة بقيت من صفر سنة ثلثمائة. وكانت له غزوات، منها غزاة بلي التي أنست كل غزاة تقدمتها، في لك أن المرتد ابن حفصون ألب عليه كور الأندلس حتى لم يبقى منها إلا قرطبة وحدها، ثم أقبل في ثلاثين ألفا من أهل الكور فنزل حصن بلي، وخرج إليه الأمير عبد الله بن محمد في أربعة عشر ألفا من أهل قرطبة خاصة، وأربعة آلاف من حشمه ومواليه، فبرز إليه الفاسق، وقد كردس كراديسه في سفح الجبل، وناهضه الأمير عبد الله بجمهور عسكره، فلم يكن له فيهم إلا صدمة صادقة، أزالهم بها عن معسكرهم، فلم يقدروا أن يتراجعوا إليه. ونظر الفاسق إلى معسكر عبد الله الأمير، فإذا بمدد مقبل مثل الليل، في انحدار السيل، لا ينقطع، فجبنت نفسه، وعطف إلى الحصن يظهر إخراج من بقي فيه، فثلم ثلمة وخرج منها في خمسة معه، وقد طار بهم جناح الفرار. فلما انتهى ذلك إلى أهل عسكره ولوا مدبرين، لا يلوي أحد على أحد، فعملت الرماح في أكتافهم، والسيوف في طلا أعناقهم، حتى أفنوهم أو كادوا. وكان منهم جماعة قد افترقوا في عسكر الأمير عبد الله، فقعد الأمير في المظلة، وأمر بالتقاطهم، وأن لا يمر أحد على أحد منهم إلا قتله. فقتل منهم ألف رجل صبرا بين يدي الأمير.
عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين
ثم ولي الملك القمر الأزهر، الأسد الغضنفر، الميمون النقيبة، المحمود الضريبة، سيد الخلفاء، وأنجب النجباء، عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين، صبيحة هلال ربيع الأول سنة ثلثمائة، فقلت فيه:
بدا الهلال جديدا ... والملك غض جديد
يا نعمة الله زيدي ... ما كان فيه مزيد

(2/187)

وهي عدة أبيات، فتولى الملك، والأرض جمرة تحتدم، ونار تضطرم، وشقاق ونفاق، فأخمد نيرانها، وسكن زلازلها، وافتتحها عودا كما افتتحها بدءا سميه عبد الرحمن بن معاوية، رحمه الله. وقد قلت وقيل في غزواته كلها أشعار، قد جالت في الأمصار، وشردت في البلدان، حتى أتهمت أنجدت وأعرقت، ولولا أن الناس مكتفون بما في أيديهم منها لأعدنا ذكرها أو ذكر بعضها. ولكننا سنذكر ما سبق إلينا من مناقبه التي لم يتقدمه إليها متقدم، ولا أخت لها ولا نظير، فمن ذلك أول غزاة غزاها، وهي الغزاة المعروفة بغزاة المنتلون، افتتح بها سبعين حصنا، كل حصن منها قد نكلت عنه الطوائف، وأعيا على الخلائف. وفيها أقول:
قد أوضح الله للإسلام منهاجا ... والناس قد دخلوا في الدين أفواجا
وقد تزينت الدنيا لساكنها ... وكأنما ألبست وشيا وديباجا
يا بن الخلائف إن المزن لو علمت ... نداك ما كان منها الماء ثجاجا
والحرب لو علمت بأسا تصول به ... ما هيجت من حمياك الذي اهتاجا
مات النفاق وأعطى الكفر ذمته ... وذلت الخيل إلجاما وإسراجا
وأصبح النصر معقودا بألوية ... تطوي المراحل تهجيرا وإدلاجا
أدخلت في قبة الإسلام مارقة ... أخرجتهم من ديار الشرك إخراجا
بجحفل تشرق الأرض الفضاء به ... كالبحر يقذف بالأمواج أمواجا
يقوده البدر يسري في كواكبه ... عرمرما كسواد الليل رجراجا
تروق فيه بروق الموت لامعة ... وتسمعون به للرعد أهزاجا
غادرت في عقوتي جيان ملحمة ... أبكيت منها بأرض الشرك أعلاجا
في نصف شهر تركت الأرض ساكنة ... من بعدما كان فيها الجور قدماجا
وجدت في الخبر المأثور منصلتا ... من الخلائف خراجا وولاجا
تملأ بك الأرض عدلا مثل ما ملئت ... جورا وتوضح للمعروف منهاجا
يا بدر ظلمتها يا شمس صبحتها ... يا ليث حومتها إن هائج هاجا
إن الخلافة لن ترضى ولا رضيت ... حتى عقدت لها في رأسك التاجا
ولم يكن مثل هذه الغزاة لملك من الملوك في الجاهلية والإسلام. وله غزاة مارشن، التي كانت أخت بدر وحنين، وقد ذكرناها على وجهها في الأرجوزة التي نظمتها في مغازيه كلها من سنة إحدى وثلثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة، وأوقعناها في أسفل كتابنا لتكون جامعة لمغازي أمير المؤمنين، وجعلتها رجزا لخفة الرجز وسهولة حفظه وروايته. ومن مناقبه: أن الملوك لم تزل تبني على أقدارها، ويقضى عليها بآثارها، وأنه بنى في المدة القليلة ما لم تبن الخلفاء في المدة الطويلة. نعم، لم يبق في القصر الذي فيه مصانع أجداده ومعالم أوليته بنية إلا له فيها أثر محدث، إما تزييد أو تجديد ومن مناقبه: أنه أود من سمي أمير المؤمنين من خلفاء بنى أمية بالأندلس. ومن مناقبه التي لا أخت لها ولا نظير، ما اعجز فيه من بعده، وقات فيه من قبله، الجود الذي لم يعرف لأحد من أجواد الجاهلية والإسلام إلا له. وقد ذكرت ذلك في شعري الذي أقول فيه:
يا بن الخلائف والعلا للمعتلى ... والجود يعرف فضله للمفضل
نوهت بالخلفاء بل أخملتهم ... حتى كأن نبيلهم لم ينبل
أذكرت بل أنسيت ما ذكر الألى ... من فعلهم فكأنه لم يفعل
وأتيت آخرهم وشأوك فائت ... للآخرين ومدرك للأول
الآن سميت الخلافة باسمها ... كالبدر يقرن بالسماك الأعزل
تأبى فعالك أن تقر لآخر ... منهم وجودك أن يكون لأول
وهذه الأرجوزة التي ذكرت جميع مغازيه، وما فتح الله عليه فيها في كل غزاة

(2/188)

وهي:
سبحان من لم تحوه أقطار ... ولم تكن تدركه الأبصار
ومن عنت لوجهه الوجوه ... فما له نذو لا شبيه
سبحانه من خالق قدير ... وعالم بخلقه بصير
وأول ليس له ابتداء ... وآخر ليس له انتهاء
أوسعنا إحسانه وفضله ... وعز أن يكون شيء مثله
وجل أن تدركه العيون ... أو يحوياه الوهم والظنون
لكنه يدرك بالقريحه ... والعقل والأبنية الصحيحه
وهذه من أثبت المعارف ... في الأوجه الغامضة اللطائف
معرفة العقل من الإنسان ... أثبت من معرفة العيان
فالحمد لله على نعمائه ... حمدال جزيلا وعلى آلائه
وبعد حمد الله والتمجيد ... وبعد شكر المبدىء المعيد
أقول في أيام خير الناس ... ومن تحلى بالندى والباس
ومن أباد الكفر والنفاقا ... وشرد الفتنة والشقاقا
ونحن في حنادس كالليل ... وفتنة مثل غثاء السيل
حتى تولى عابد الرحمن ... ذاك الأغر من بني مروان
مؤيد حكم في عداته ... سيفا يسيل الموت من ظباته
وصبح الملك مع الهلال ... فأصبحا يدين في الجمال
واحتمل التقوى على جبينه ... والدين والدنيا على يمينه
قد أشرقت بنوره البلاد ... وانقطع التشغيب والفساد
هذا على حين طغى النفاق ... واستفحل النكاث والمراق
وضاقت الأرض على لسكانها ... وأذكت الحرب لظى نيرانها
ونحن في عشواء مدلهمه ... وظلمة ما مثلها من ظلمه
تأخذنا الصيحة كل يوم ... فما تلذ مقلة بنوم
وقد نصلي العيد بالنواظر ... مخافة من العدو الثائر
حتى أتانا الغوث من ضياء ... طبق بين الأرض والسماء
خليفة الله الذي اصطفاه ... على جميع الخلق واجتباه
من معدن الوحي وبيت الحكمه ... وخير منسوب إلى الأئمة
تكل عن معروفه الجنائب ... وتستحى من جوده السحائب
في وجهه من نوره برهان ... وكفه تقبيلها قربان
أحيا الذي مات من المكارم ... من عهد كعب وزمان حاتم
مكارم يقصر عنها الوصف ... وغرة يحسر عنها الطرف
وشيمة كالضاب أو كالماء ... وهمة ترقى إلى السماء
وانظر إلى الرفيع من بنيانه ... يريك بدعا من عظيم شانه
لو خايل البحر ندى يديه ... إذا لجت عفاته إليه
لغاض أو لكاد أن يغيضا ... ولا استحى من بعد أن يفيضا
من أسبغ النعمى وكانت محقا ... وفتق الدنيا وكانت رتقا
هو الذي جمع شمل الأمه ... وجاب عنها دامسات الظلمه
وجدد الملك الذي قد أخلقا ... حتى رست أوتاده واستوسقا
وجمع العدة والعديدا ... وكثف الأجناد والحشودا
أول غزاة غزاها عبد الرحمن أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد
ثم انتحى جيان في غزاته ... بعسكر يسعر من حماته
فاستنزل الوحش من الهضاب ... كأنما حطت من السحاب
فأذعنت مراقها سراعا ... وأقبلت حصونها تداعى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:52 pm

لما رماها بسيوف العزم ... مشحوذة على دروع الحزم
كادت لها أنفسهم تجود ... وكادت الأرض بهم تميد
لولا الإله زلزلت زلزالها ... وأخرجت من رهبة أثقالها
فأنزل الناس إلى البسط ... وقطع البين من الخليط
وافتتح الحصون حصنا حصنا ... وأوسع الناس جميعا أمنا
ولم يزل حتى انتحى جيانا ... فلم يدع بأرضها شيطانا
فأصبح الناس جميعا أمه ... قد عقد الإل لهم والذمه
ثم انتحى من فوره إلبيره ... وهي بكل آفة مشهوره
فداسها بخيله ورجله ... حتى توطا خدها بنعله
ولم يدع من جنها مريدا ... بها ولا من إنسها عنيدا
إلا كساه الذل والصغارا ... وعمه وأهله دمارا
فما رأيت مثل ذاك العام ... ومثل صنع الله للإسلام
فانصرف الأمير من غزاته ... وقد شفاه الله من عداته
وقبلها ما خضعت وأذعنت ... إستجة وطالما قد صنعت
وبعدها مدينة الشئيل ... ما أذعنت للصارم الصقيل
لما غزاها قائد الأمير ... باليمن في لوائه المنصور
فأسلمت ولم تكن بالمسلمة ... وزال عنها أحمد بن مسلمه
وبعدها في آخر الشهور ... من ذلك العام الزكي النور
أرجفت القلاع والحصون ... كأنما ساورها المنون
وأقبلت رجالها وفودا ... تبغي لدى إمامها السعودا
وليس من ذي عزة وشده ... إلا توافوا عند باب السده
قلوبهم باخعة بالطاعه ... قد أجمعوا الدخول في الجماعه
سنة إحدى وثلثمائة
ثم غزا في عقب عام قابل ... فجال في شذونة والساحل
ولم يدع رية والجزيرة ... حتى كوى أكلبها الهريره
حتى أناخ في ذرى قرمونه ... بكلكل كمدرة الطاحونه
على الذي خالف فيها وانتزى ... يعزى إلى سوادة إذا اعتزى
فسال أن يمهله شهورا ... ثم يكون عبده المأمورا
فأسعف الأمير منه ما سأل ... وعاد بالفضل عليه وقفل
سنة اثنتين وثلثمائة
كان بها القفول عند الجيه ... من غزو إحدى وثلثماية
فلم يكن يدرك في باقيها ... غزو ولا بعث يكون فيها
سنة ثلاث وثلثمائة
ثمت أغزى في الثلاث عمه ... وقد كساه عزمه وحزمه
فسار في جيش شديد الباس ... وقائد الجيش أبو العباس
حتى ترقى بذرى ببشتر ... وجال في ساحاتها بالعسكر
فلم يدع زرعا ولا ثمارا ... لهم ولا علقا ولا عقارا
وقطع الكروم منها والشجر ... ولم يبايع علجها ولا ظهر
ثم انثنى من بعد ذاك قافلا ... وقد أباد الزرع والمآكلا
فأيقن الخنزير عند ذاكا ... أن لا بقاء يرتجى هناكا
فكاتب الإمام بالإجابه ... والسمع والطاعة والإنابه
فأخمد الله شهاب الفتنه ... وأصبح الناس معا في هدنه
وارتعت الشاة معا والديب ... إذا وضعت أوزارها الحروب
سنة أربع وثلثمائة
وبعدها كانت غزاة أربع ... فأي صنع ربنا لم يصنع
فيها ببسط الملك الأواه ... كلتا يديه يا سبيل الله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:55 pm

وذاك أن قود قائدين ... بالنصر والتأييد ظاهرين
هذا إلى الثغر وما يليه ... على عدو الشرك أو ذويه
وذا إلى شم الربا من مرسيه ... وما مضى جرى إلى بلنسيه
فكان من وجهه للساحل ... القرشي القائد القنابل
وابن أبي عبدة نحو الشرك ... في خير ما تعبية وشك
فأقبلا بكل فتح شامل ... وكل ثكل للعدو ثاكل
وبعد هذي الغزوة الغراء ... كان افتتاح لبلة الحمراء
أغزى بجند نحوها مولاه ... في عقب هذا العام لا سواه
بدرا فضم جانبيها ضمة ... وغمها حتى أجابت حكمه
وأسلمت صاحبهما مقهورا ... حتى أتى بدر به مأسورا
سنة خمس وثلثمائة
وبعدها كانت غزاة خمس ... إلى السوادي عقيد النحس
لما طغى وجاوز الحدودا ... ونقض الميثاق والعهودا
ونابذ السلطان من شقائه ... ومن تعديه وسوء رائه
أغزى إليه القرشي القائدا ... إذ صار عن قصد السبيل حائدا
ثمت شد أزره ببدر ... فكان كالشفع لهذا الوتر
أحدقها بالخيل والرجال ... مشمرا وجد في القتال
فنازل الحصن العظيم الشان ... بالرجل والرماة والفرسان
فلم يزل بدر بها محاصرا ... كذا على قتاله مثابرا
والكلب في تهور قد انغمس ... وضيق الحلق عليه والنفس
فافترق الأصحاب عن لوائه ... وفتحوا الأبواب دون رائه
واقتحم العسكر في المدينه ... وهو بها كهيئة الظعينه
مستسلما للذل والصغار ... وملقيا يديه للإسار
فنزع الحاجب تاج ملكه ... وقاده مكتفا لهلكه
وكان في آخر هذا العام ... نكب أبي العباس بالإسلام
غزا وكان أنجد الأنجاد ... وقائدا من أفحل القواد
فسار في غير رجال الحرب ... الضاربين عند وقت الضرب
محاربا في غير ما محارب ... والحشم الجمهور عند الحاجب
واجتمعت إليه أخلاط الكور ... وغاب ذو التحصيل عنه والنظر
حتى إذا أوغل في العدو ... فكان بين البعد والدنو
أسلمه أهل القلوب القاسيه ... وأفردوه للكلاب العاويه
فاستشهد القائد في أبرار ... قد وهبوا نفوسهم للباري
في غير تأخير ولا فرار ... إلا شديد الضرب للكفار
سنة ست وثلثمائة
ثم أقاد الله من أعدائه ... وأحكم النصر لأوليائه
في مبدأ العام الذي من قابل ... أزهق فيه الحق نفس الباطل
فكان من رأي الإمام الماجد ... خير مولود وخير والد
أن احتمى بالواحد القهار ... وفاض من غيظ على الكفار
فجمع الأجناد والحشودا ... ونفر السيد والمسودا
وحشر الأطراف والثغورا ... ورفض اللذات والحبورا
حتى إذا ما وفت الجنود ... واجتمع الحشاد والحشود
قود بدرا أمر تلك الطائفه ... وكانت النفس عليه خائفه
فسار في كتائب كالسيل ... وعسكر مثل سواد الليل
حتى إذا حل على مطنيه ... وكان فيها أخبث البريه

(2/191)

ناصبهم حربا لها شرار ... كأنما أضرم فيها النار
وجد من بينهم القتال ... وأحدقت حولهم الرجال
فحاربوا يومهم وباتوا ... وقد نفت نومهم الرماة
فهم طوال الليل كالطلائح ... جراحهم تنغل في الجوارح
ثم مضوا في حربهم أياما ... حتى بدا الموت لهم زؤاما
لما رأوا سحائب المنيه ... تمطرهم صواعق البليه
تغلغل العجم بأرض العجم ... وانحشدوا من تحت كل نجم
فأقبل العلج لهم مغيثا ... يوم الخميس مسرعا حثيثا
بين يديه الرجل والفوارس ... وحوله الصلبان والنواقس
وكان يرجو أن يزيل العسكرا ... عن جانب الحصن الذي قد دمرا
فاعتاقه بدر بمن لديه ... مستبصرا في زحفه إليه
حتى التقت ميمنة بميسرة ... واعتنت الأرواح عند الحنجره
ففاز حزب الله بالعلجان ... وانهزمت بطانة الشيطان
فقتلوا قتلا ذريعا فاشيا ... وأدبر العلج ذميما خازيا
وانصرف الناس إلى القليعه ... فصبحوا العدو يوم الجمعة
ثم التقى العلجان في الطريق ... البنلوني مع الجلقي
فاعقدا على انتهاب العسكر ... وأن يموتا قبل ذاك المحضر
وأقسما بالجبت والطاغوت ... لا يهزما دون لقاء الموت
فأقبلوا بأعظم الطغيان ... قد جللوا الجبال بالفرسان
حي تداعى الناس يوم السبت ... فكان وقتا يا له من وقت
فأشرعت بينهم الرماح ... وقد علا التكبير والصياح
وفارقت أغمادها السيوف ... وفغرت أفواهها الحتوف
والتقت الرجال بالرجال ... وانغمسوا في غمرة القتال
في موقف زاغت به الأبصار ... وقصرت في طوله الأعمار
وهب أهل الصبر والبصائر ... فأوعقوا على العدو الكافر
حتى بدت هزيمة البشكنس ... كأنه متضب بالورس
فانقضت العقبان والسلالقه ... زعقا على مقدم الجلالقه
عقبان موت تخطف الأرواحا ... وتشبع السيوف والرماحا
فانهزم الخنزير عند ذاكا ... وانكشفت عورته هناك
فقتلوا في بطن كل وادي ... وجاءت الرؤوس في الأعواد
وقدم القائد ألف راس ... من الجلاليق ذوي العماس
فتم صنع الله للإسلام ... وعمنا سرور ذاك العام
وخير ما فيه من السرور ... موت ابن حفصون به الخنزير
فاصل الفتح بفتح ثاني ... والنصر بالنصر من الرحمن
وهذه الغزاة تدعى القاضية ... وقد أتتهم بعد ذاك الداهيه
سنة سبع وثلثمائة
وبعدها كانت غزاة بلده ... وهي التي أودت بأهل الرده
وبدؤها أن الإمام المصطفى ... أصدق أهل الأرض عدلا ووفا
لما أتته ميتة الخنزير ... وأنه صار إلى السعير
كاتبه أولاده بالطاعه ... وبالدخول مدخل الجماعه
وأن يقرهم على الولايه ... على درور الخرج والجبايه
فاختار ذلك الإمام المفضل ... ولم يزل من رأيه التفضل
ثم لوى الشيطان رأس جعفر ... وصار منه نافخا في المنخر
فنقض العهود والميثاقا ... واستعمل التشغيب والنفاقا

(2/192)

وضم أهل النكث والخلاف ... من غير ما كاف وغير وافي
فاعتاقه الخليفة المؤيد ... وهو الذي يشقى به ويسعد
من عليه من عيون الله ... حوافظ من كل أمر داهي
فجند الجنود والكتائبا ... وقود القواد والمقانبا
ثم غزا في أكثر العديد ... مستصحبا بالنصر والتأييد
حتى إذا مر بحصن بلده ... خلف فيه قائدا في عده
يمنعهم من انتشار خيله ... وحارسا في يومه وليلهم
ثم مضى يستنزل الحصونا ... ويبعث الطلاع والعيونا
حتى أتاه باشر من بلده ... يعدو برأس رأسها في صعده
فقدم الخيل إليها مسرعا ... واحتلها من يومه تسرعا
فحفها بالخيل والرماة ... وجملة الحماة والكماة
فاطلع الرجل على أنقابها ... واقتحم الجند على أبوابها
فأذعنت ولم تكن بمذعنه ... واستسلمت كافرة لمؤمنه
فقدمت كفارها للسيف ... وقتلوا بالحق لا بالحيف
وذاك من يمن الإمام المرتضى ... وخير من بقي وخير من مضى
ثم انتحى من فوره ببشترا ... فلم يدع بها قضيبا أخضرا
وحطم النبات والزروعا ... وهتك الرباع والربوعا
فإذا رأى الكلب الذي رآه ... من عزمه في قطع منتواه
ألقى إليه باليدين ضارعا ... وسال أن يبقى عليه وادعا
وأن يكون عاملا في طاعته ... على درور الخرج من جبايته
فوثق الإمام من رهانه ... كيلا يكون في عمى من شانه
وقبل الإمام ذاك منه ... فضلا وإحسانا وسار عنه
سنة ثمان وثلثمائة
ثم غزا الإمام دار الحرب ... فكان خطبا يا له من خطب
فحشدت إليه أعلام الكور ... ومن له في الناس ذكر وخطر
إلى ذوي الديوان والريات ... وكل منسوب إلى الشامات
وكل من أخلص للرحمن ... بطاعة في السر والإعلان
وكل من طاوع في الجهاد ... أو ضمه سرج على الجياد
فكان حشدا ياله من حشد ... من كل حر عندنا وعبد
فتحسب الناس جرادا منتشر ... كما يقول ربنا فيمن حشر
ثم مضى المظفر المنصور ... على جبينه الهدى والنور
أمامه جند من الملائكه ... آخذة لربها وتاركه
حتى إذا فوز في العدو ... جنبه الرحمن كل سو
وأنزل الجزية والدواهي ... على الذين أشركوا بالله
فزلزلت أقدامهم بالرعب ... واستنفروا من خوف نار الحرب
واقتحموا الشعاب والمكامنا ... وأسلموا الحصون والمدائنا
فما بقي من جنبات دور ... من بيعة لراهب أو دير
إلا وقد صيرها هباء ... كالنار إذ وافقت الأباء
وزعزعت كتائب السلطان ... لكل ما فيها من البنيان
فكان من أول حصن زعزعوا ... ومن له من العدو أوقعوا
مدينة معروفة بوخشمه ... فغادروها فحمة مسخمه
ثم ارتقوا منها إلى حواضر ... فغادروها مثل أمس الدابر
ثم مضوا والعلج يحتذيهم ... بجيشه يخشى ويقتفيهم
حتى أتوا توا لوادي دي ... ففيه عفى الرشد سبل الغي

(2/193)

لما التقوا بمجمع الجوزين ... واجتمعت كتائب العلجين
من أهل أليون وبنبلونه ... وأهل أرنيط وبرشلونه
تضافر الكفر مع الإلحاد ... واجتمعوا من سائر البلاد
فاضطربوا في سفح طود عالي ... وصففوا تعبية القتال
فبادرت إليهم المقدمه ... سامية في خيلها المسومه
وردها متصل برد ... يمده بحر عظيم المد
فانهزم العلجان في علاج ... ولبسوا ثوبا من العجاج
كلاهما ينظر حينا خلفه ... فهو يرى في كل وجه حتفه
والبيض في إثرهم والسمر ... والقتل ماض فيهم والأسر
فلم يكن للناس من براح ... وجاءت الرؤوس في الرماح
فأمر الأمير بالتقويض ... وأسرع العسكر في النهوض
فصادفوا الجمهور لما هزموا ... وعاينوا قوادهم تخرموا
فدخلوا حديقة للموت ... إذ طمعوا في حصنها بالفوت
فيالها حديقة ويالها ... وافت بها نفوسهم آجالها
تحضنوا إذ عاينوا الأهوالا ... لمعقل كان لهم عقالا
وصخرة كانت عليهم صيلما ... وانقلبوا منها إلى جهنما
تساقطوا يستطعمون الماء ... فأخرجت أرواحهم ظماء
فكم لسيف الله من جزور ... في مأدب الغربان والنسور
وكم به قتلى من القساوس ... تندب للصلبان والنواقس
ثم ثنى عنانه الأمير ... وحوله التهليل والتكبير
مصمما بحرب دار الحرب ... قدامه كتائب من عرب
فداسها وسامها بالخسف ... والهتك والسفك لها والنسف
فحرقوا ومزقوا الحصونا ... وأسخنوا من أهلها العيونا
فانظر عن اليمين واليسار ... فما ترى إلا لهيب النار
وأصبحت ديارهم بلاقعا ... فما ترى إلا دخانا ساطعا
ونصر الإمام فيها المصطفى ... وقد شفى من العدو واشتفى
سنة تسع وثلثمائة
وبعدها كانت غزاة طرش ... لسما إليها جيشه لم ينهش
وأحدقت بحصنها الأفاعي ... وكل صل أسود شجاع
ثم بنى حصنا عليها راتبا ... يعتور القواد فيه دائبا
حتى أنابت عنوة جنانها ... وغاب عن يافوخها شيطانها
فأذعنت لسيد السادات ... وأكرم الأحياء والأموات
خليفة الله على عباده ... وخير من يحكم في بلاده
وكان موت بدر بن أحمد ... بعد قفول الملك المؤيد
واستحجب الإمام خير حاجب ... وخير مصحوب وخير صاحب
موسى الأغر من بني جدير ... عقيد كل رأفة وخير
سنة عشر وثلثمائة
وبعدها غزاة عشر غزوه ... بها افتتاح منتلون عنوه
غزا الإمام في ذوي السلطان ... يؤم أهل النكث والطغيان
فاحتل حصن منتلون قاطعا ... أسباب من أصبح فيه خالعا
سار إليه وبنى عليه ... حتى أتاه ملقيا يديه
ثم انثنى عنه إلى شذونه ... فعاصها سهلا من الحزونه
وساقها بالأهل والولدان ... إلى لروم قبة الإيمان
ولم يدع صعبا ولا منيعا ... إلا وقد أذلهم جميعا
ثم انثنى بأطيب القفول ... كما مضى بأحسن الفضول
سنة إحدى عشرة وثلثمائة

(2/194)

وبعدها غزاة إحدى عشره ... كم نبهت من نائم في سكره
غزا الإمام ينتحي ببشترا ... في عسكر أعظم بذاك عسكرا
فاحتل من ببشتر ذراها ... وجال في شاط وفي سواها
فخرب العمران من ببشتر ... وأذعنت شاط لرب العسكر
فأدخل العدة والعديدا ... فيها ولم يترك بها عنيدا
ثم انتحى بعد حصون العجم ... فداسها بالقضم بعد الخضم
ما كان في سواحل البحور ... منها وفي الغابات والوعور
وأدخل الطاعة في مكان ... لم يدر قط طاعة السلطان
ثم رمى الثغر بخير قائد ... وذادهم عنه بخير ذائد
به قما الله ذوي الإشراك ... وأنقذ الثغر من الهلاك
وانتاش من مهواتها تطيله ... وقد جرت دماؤها مطلوله
وطهر الثغر وما يليه ... من شيعة الكفر ومن ذويه
ثم انثنى بالفتح والنجاح ... قد غير الفساد بالصلاح
سنة اثنتي عشرة وثلثمائة
وبعدها غزاة ثنتي عشره ... وكم بها من حسرة وعبره
غزا الإمام حوله كتائبه ... كالبدر محفوفا به كواكبه
غزا وسيف النصر في يمينه ... وطالع السعد على جبينه
وصاحب العسكر والتدبير ... موسى الأغر حاجب الأمير
فدمر الحصون من تدمير ... واستنزل الوحش من الصخور
فاجتمعت عليه كل الأمه ... وبايعته أمراء الفتنة
حتى إذا أوعب من حصونها ... وجمل الحق على متونها
مضى وسار في ظلال العسكر ... تحت لواء الأسد الغضنفر
رجال تدمير ومن يليهم ... من كل صنف يعتزى إليهم
حتى إذا حل على تطيله ... بكت على دمائها المطلوله
وعظم ما لاقت من العدو ... والحرب في الرواح والغدو
فهم أن يديخ دار الحرب ... وأن تكون ردأه في الدرب
ثم استشار ذا النهى والحجر ... من صحبه ومن رجال الثغر
فكلهم أشار أن لا يدربا ... ولا يجوز الجبل المؤشبا
لأنه في عسكر قد انخرم ... بندب كل العرفاء والحشم
وشنعوا أن وراء الفج ... خمسين ألفا من رجال العلج
فقال لا بد من الدخول ... وما إلى حاشاه من سبيل
وأن أديخ أرض بنبلونه ... وساحة المدينة الملعونه
وكان رأيا لم يكن من صاحب ... ساعده عليه غير الحاجب
فاستنصر الله وعبى ودخل ... فكان فتحا لم يكن له مثل
لما مضى وجاوز الدروبا ... وادرع الهيجاء والحروبا
عبى له علج من الأعلاج ... كتائبا غطت على الفجاج
فاستنصر الإمام رب الناس ... ثم استعان بالندى والباس
وعاذ بالرغبة والدعاء ... واستنزل النصر من السماء
فقدم القواد بالحشود ... وأتبع المدود بالمدود
فانهزم العلج وكانت ملحمه ... جاوز فيها الساقة المقدمه
فقتلوا مقتلة الفناء ... فارتوت البيض من الدماء
ثم أمال نحو بنبلونه ... واقتحم العسكر في المدينه
حتى إذا جاسوا خلال دورها ... وأسرع الخراب في معمورها
بكت على ما فاتها النواظر ... إذ جعلت تدقها الحوافر
لفقد من قتل من رجالها ... وذل من أيتم من أطفالها
فكم بها وحولها من أغلف ... تهمى عليه الدمع عين الأسقف

(2/195)

وكم بها حقر من كنائس ... بدلت الآذان بالنواقس
يبكي لها الناقوس والصليب ... كلاهما فرض له النحيب
وانصرف الإمام بالنجاح ... والنصر والتأييد والفلاح
ثم ثنى الرايات في طريقه ... إلى بني ذي النون من توفيقه
فأصبحوا من بسطهم في قبض ... قد ألصقت خدودهم بالأرض
حتى بدوا إليه بالبرهان ... من أكبر الأباء والولدان
فالحمد لله على تأييده ... حمدا كثيرا وعلى تسديده
سنة ثلاث عشرة وثلثمائة
ثم غزا بيمنه أشونا ... وقد أشادوا حولها حصونا
وحفها بالخيل والرجال ... وقاتلوهم أبلغ القتال
حتى إذا ما عاينوا الهلاكا ... تبادروا بالطوع حينذاكا
وأسلموا حصنهم المنيعا ... وسمحوا بخرجهم خضوعا
وقبلهم في هذه الغزاة ... قد هدمت معاقل العصاة
وأحكم الإمام في تدبيره ... على بني هابل في مسيره
ومن سواهم من ذوي العشيره ... وأمراء الفتنة المغيرة
إذ حبسوا مراقبا عليهم ... حتى أتوا بكل ما لديهم
من البنين والعيال والحشم ... وكل من لاذ بهم من الخدم
فهبطوا من أجمع البلدان ... وأسكنوا مدينة السلطان
فكان في آخر هذا العام ... بعد خضوع الكفر للإسلام
مشاهد من أعظم المشاهد ... على يدي عبد الحميد القائد
لما غزا إلى بنى ذي النون ... فكان فتحا لم يكن بالدون
إذ جاوزوا في الظلم والطغيان ... بقتلهم لعامل السلطان
وحاولوا الدخول في الأذية ... حتى غزاهم أنجد البرية
فعاقهم عن كل ما رجوه ... بنقضه كل الذي بنوه
وضبطه الحصن العظيم الشان ... أشنين بالرجل وبالفرسان
ثم مضى الليث إليهم زحفا ... يختطف الأرواح منهم خطفا
فانهزموا هزيمة لن ترفدا ... وأسلموا صنوهم محمدا
وغيره من أوجه الفرسان ... مغرب في مأتم الغربان
مقطع الأوصال بالسنابك ... من بعد ما مزق بالنيازك
ثم لجوا إلى طلاب الأمن ... وبذلهم ودائعا من رهن
فقبضت رهانهم وأمنوا ... وأنغضوا رؤوسهم وأذعنوا
ثم مضى القائد بالتأييد ... والنصر من ذي العرش والتسديد
حتى أتى حصن بني عماره ... والحرب بالتدبير والإداره
فافتتح الحصن وخلى صاحبه ... وأمن الناس جميعا جانبه
سنة أربع عشرة وثلثمائة
لم يغز فيها وغزت قواده ... واعتورت ببشترا أجناده
فكلهم أبلى وأغنى واكتفى ... وكلهم شفى الصدور واشتفى
ثم تلاهم بعد ليث الغيل ... عبد الحميد من بني بسيل
هو الذي قام مقام الضيغم ... وجا في غزاته بالصيلم
برأس جالوت النفاق والحسد ... من جمع الخنزير فيه والأسد
فهاكه مع صحبه في عدة ... مصلبين عند باب السدة
قد امتطى مطية لا تبرح ... صائمة قائمة لا ترمح
مطية إن يعرها انكسار ... يطبها النجار لا البيطار
كأنه من فوقها أسوار ... عيناه في كلتيهما مسمار

(2/196)

مباشرا للشمس والرياح ... على جواد غير ذي جماح
يقول للخاطر بالطريق ... قول محب ناصح شفيق
هذا مقام خادم الشيطان ... ومن عصى خليفة الرحمن
فما رأينا واعظا لا ينطق ... أصدق منه في الذي لا يصدق
فقل لمن غر بسوء رائه ... يمت إذا شاء بمثل دائه
كم مارق مضى وكم منافق ... قد ارتقى في مثل ذاك الحالق
وعاد وهو في العصا مصلب ... ورأسه في جذعه مركب
فكيف لا يعتبر المخالف ... بحال من تطلبه الخلائف
أما تراه في هوان يرتع ... معتبرا لمن يرى ويسمع
سنة خمس عشرة وثلثمائة
فيها غزا معتزما ببشترا ... فجال في ساحتها ودمرا
ثم غزا طلجيرة إليها ... وهي الشجى من بين أخدعيها
وامتدها بابن السليم راتبا ... مشمرا عن ساقه محاربا
حتى رأى حفص سبيل رشده ... بعد بلوغ غاية من جهده
فدان للإمام قصدا خاضعا ... وأسلم الحصن إليه طائعا
سنة ست عشرة وثلثمائة
لم يغزو فيها وانتحى ببشترا ... فرمها بما رأى ودبرا
واحتلها بالعز والتمكين ... ومحو آثار بني حفصون
وعاضها الإصلاح من فسادهم ... وطهر القبور من أجسادهم
حتى خلا ملحود كل قبر ... من كل مرتد عظيم الكفر
عصابة من شيعة الشيطان ... عدوة لله والسلطان
فخرمت أجسادها تخرما ... وأصليت أرواحهم جهنما
ووجه الإمام في ذا العام ... عبد الحميد وهو كالضرغام
إلى ابن داود الذي تقلعا ... في جبلي شذونة تمنعا
فحطه منها إلى البسيط ... كطائر آذن بالسقوط
شم أتى به إلى الإمام ... إلى وفي العهد والذمام
سنة سبع عشرة وثلثمائة
وبعد سبع عشرة وفيها ... غزا بطليوس وما يليها
فلم يزل يسومها بالخسف ... وينتحيها بسيوف الحتف
حتى إذا ما ضم جانبيها ... محاصرا ثم بنى عليها
خلى ابن إسحاق عليها راتبا ... مثابرا في حربه مواظبا
ومر يستقصي حصون الغرب ... ويبتليها بوبيل الحرب
حتى قضى منهن كل حاجه ... وافتتحت أكشونية وباجه
وبعد فتح الغرب واستقصائه ... وحسمه الأدواء من أعدائه
لجت بطليوس على نفاقها ... وغرها اللجاج من مراقها
حتى إذا شافهت الحتوفا ... وشامت الرماح والسيوفا
دعا ابن مروان إلى السلطان ... وجاءه بالعهد والأمان
فصار في توسعة الإمام ... وساكنا في قبة الإسلام
سنة ثماني عشرة وثلثمائة
فيها غزا بعزمه طليطله ... وامتنعوا بمعقل لا مثل له
حتى بنى جرنشكه بجنبها ... حصنا منيعا كافلا بحربها
وشدها بابن سليم قائدا ... مجالدا لأهلها مجاهدا
فجاسها في طول ذاك العام ... بالخسف والنسف وضرب الهام
سنة تسع عشرة وثلثمائة
ثم أتى ردفا له دري ... في عسكر قضاؤه مقضي
فحاصروها عام تسع عشره ... بكل محبوك القوى ذي مره
ثم أتاهم بعد بالرجال ... فقاتلوهم أبلغ القتال
سنة عشرين وثلثمائة

(2/197)

حتى إذا ما سلفت شهور ... من عام عشرين لها ثبور
ألقت يديها للإمام طائعه ... واستسلمت قسرا إليه باخعه
فأذعنت وقبلها لم تذعن ... ولم تقد من نفسها وتمكن
ولم تدن لربها بدين ... سبعا وسبعين من السنين
ومبتدى عشرين مات الحاجب ... موسى الذي كان الشهاب الثاقب
وبرز الإمام بالتأييد ... في عدة منه وفي عديد
صمدا إلى المدينة اللعينه ... أتعسها الرحمن من مدينه
مدينة الشقاق والنفاق ... وموئل الفساق والمراق
حتى إذا ما كان منها بالأمم ... وقد ذكا حر الهجير واحتدم
أتاه واليها وأشياخ البلد ... مستسلمين للإمام المعتمد
فوافقوا الرحب من الإمام ... وأنزلوا في البر والإكرام
ووجه الإمام في الظهيرة ... خيلا لكي تدخل في الجزيره
جريدة قائدها دري ... يلمع في متونها الماذي
فاقتحموا في وعرها وسهلها ... وذاك حين غفلة من أهلها
ولم يكن للقوم من دفاع ... بخيل دري ولا امتناع
وقوض الإمام عند ذلكا ... وقلبه صب بما هنالكا
حتى إذا ما حل في المدينه ... وأهلها ذليلة مهينه
أقمعها بالخيل والرجال ... من غير ما حرب ولا قتال
وكان من أول شيء نظرا ... فيه وما روى له ودبرا
تهدم لبابها والسور ... وكان ذاك أحسن التدبير
حتى إذا صيرها براحا ... وعاينوا حريمها مباحا
أقر بالتشييد والتأسيس ... في الجبل النامي إلى عمروس
حتى استوى فيها بناء محكم ... فحله عامله والحشم
فعند ذاك أسلمت واستسلمت ... مدينة الدماء بعد ما عتب
سنة إحدى وعشرين وثلثمائة
فيها مضى عبد الحميد ملتئم ... في أهبة وعدة من الحشم
حتى أتى الحصن الذي تقلعا ... يحيى بن ذي النون به وامتنعا
فحطه من هضبات ولب ... من غير تعنيت وغير حرب
إلا بترغيب له في الطاعه ... وفي الدخول مدخل الجماعه
حتى أتى به الإمام راغبا ... في الصفح عن ذنوبه وتائبا
فصفح الإمام عن جنايته ... وقبل المبذول من إنابته
ورده إلى الحصون ثانيا ... مسجلا له عليها واليا
سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة
ثم غزا الإمام ذو المجدين ... في مبتدا عشرين واثنتين
في فيلق مجمهر لهام ... مدكدك الرؤوس والآكام
حاف الربى لزحفه تجيش ... تجيش في حافاته الجيوش
كأنهم جن على سعالي ... وكلهم أمضى من الرئبال
فاقتحموا ملوندة ورومه ... ومن حواليها حصون حيمه
حتى أتاه المارق التجيبي ... مستجديا كالتائب المنيب
تخصه الإمام بالترحيب ... والصفح والغفران للذنوب
ثم حباه وكساه ووصل ... بشاحج وصاهل لا يمتثل
كلاهما من مركب الخلائف ... في حلية تعجز وصف الواصف
وقال كن منا وأوطن قرطبه ... ندنيك فيها من أجل مرتبة
تكن وزيرا أعظم الناس خطر ... وقائدا تجبي لنا هذا الثغر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 7:57 pm

فقال إني ناقة من علتي ... وقد ترى تغيري وصفرتي
فإن رأيت سيدي إمهالى ... حتى أرم من صلاح حالي
ثم أوافيك على استعجال ... بالأهل والأولاد والعيال
وأوثق الإمام بالعهود ... وجعل الله من الشهود
فقبل الإمام من أيمانه ... ورده عفوا إلى مكانه
ثم أتته ربة البشاقص ... تدلى إليه بالوداد الخالص
وأنها مرسلة من عنده ... وجدها متصل بجده
واكتفلت بكل بنبلونى ... وأطلقت أسرى بني ذي النون
فأوعد الإمام في تأمينها ... وتكب العسكر عن حصونها
ثم مضى بالعز والتمكين ... وناصرا لأهل هذا الدين
في جملة الرايات والعساكر ... وفي رجال الصبر والبصائر
إلى عدى الله من الجلالق ... وعابدي المخلوق دون الخالق
فدمروا السهول والقلاعا ... وهتكوا الربوع والرباعا
وخربوا الحصون والمدائنا ... وأنفروا من أهلها المساكنا
فليس في الديار من ديار ... ولا بها من نافخ للنار
فغادروا عمرانها خرابا ... وبدلوا ربوعها يبابا
وبالقلاع أحرقوا الحصونا ... وأسخنوا من أهلها العيونا
ثم ثنى الإمام من عنانه ... وقد شفى الشجي من أشجانه
وأمن القفار من أنجاسها ... وطهر البلاد من أرجاسها
127 - /كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج
والطالبين والبرامكة
فرش كتاب أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رضي الله تعالى عنه: قد مضى قولنا في أخبار الخلفاء وتواريخهم وأيامهم وما تصرفت به دولهم، ونحن قائلون بعون الله في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة، وماسحون على شيء من أخبار الدولة، إذ كان هؤلاء الذين جردنا لهم كتابنا هذا قطب الملك الذي عليه مدار السياسة، ومعادن التدبير، وينابيع البلاغة، وجوامع البيان. هم راضوا الصعاب حتى لانت مقاردها، وخزموا الأنوف حتى سكنت شواردها، ومارسوا الأمور، وجربوا الدهور؟ فاحتملوا أعباءها، واستفتحوا مغالقها، حتى استقرت قواعد الملك، وانتظمت قلائد الحكم، ونفذت عزائم السلطان.
أخبار زياد
كانت سمية أم زياد قد وهبها أبو الخير بن عمرو الكندي للحارث بن كلدة، وكان طبيبا يعالجه فولدت له على فراشه نافعا، ثم ولدت أبا بكرة، فأنكر لونه. وقيل له: إن جاريتك بغي. فانتفى من أبي بكرة ومن نافع، وزوجها عبيدا، عبدا لابنته. فولدت على فراشه زيادا. فلما كان يوم الطائف نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله. فنزل أبو بكرة واسلم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقال الحارث بن كلدة لنافع: أنت ابني، فلا تفعل كما فعل هذا، يريد أبا بكرة. فلحق به، فهو ينتسب إلى الحارث بن كلدة.
وكانت البغايا في الجاهلية لهن رايات يعرفن بها، وينتحيها الفتيان. وكان أكثر الناس يكرهون إماءهم على البغاء والخروج إلى تلك الرايات، يبتغون بذلك عرض الحياة الدنيا. فنهى الله تعالى في كتابه عن ذلك بقوله جل وعز: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن " يريد في الجاهلية " فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " يريد في الإسلام. فيقال: إن أبا سفيان خرج يوما، وهو ثمل، إلى تلك الرايات، فقال لصاحبة الراية: هل عندك من بغي؟ فقالت: ما عندي إلا سمية. قال: هاتها على نتن إبطيها، فوقع بها. فولدت له زيادا، على فراش عبيد.

(2/199)

ووجه عامل من عمال عمر بن الخطاب زيادا إلى عمر بفتح فتحه الله على المسلمين. فأمره عمر أن يخطب الناس به على المنبر. فاحسن في خطبته وجود، وعند أصل المنبر أبو سفيان بن حرب وعلي بن أبي طالب. فقال أبو سفيان لعلي: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك. قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمه سمية. قال: فما يمنعك أن تدعيه؟ قال: أخشى هذا القاعد على المنبر - يعني عمر بن الخطاب - أن يفسد علي إهابي. فبهذا الخبر استلحق معاوية زيادا وشهد له الشهود بذلك. وهذا خلاف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: الولد للفراش وللعاهر الحجر.
العتبي عن أبيه قال: لما شهد الشهود لزياد قام في أعقابهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: هذا أمر لم أشهد أوله ولا علم لي بآخره، وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهد الشهود بما سمعتم. فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيعوا. وأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب مشكور. ثم جلس. وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشد علي من قول الشاعر:
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سمية ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش في الجماهير
سبحان من ملك عباد بقدرته ... لا يدفع الناس أسباب المقادير
وكان زياد عاملا لعلي بن أبي طالب على فارس: فلما مات علي رضي الله عنه، وبايع الحسن معاوية عام الجماعة، بقي زياد بفارس وقد ملكها وضبط قلاعها، فاغتم به معاوية، فأرسل إلى المغيرة بن شعبة. فلما دخل عليه قال: لكل نبأ مستقر، ولكل سر مستودع، وأنت موضع سري وغاية ثقتي. فقال: المغيرة: يا أمير المؤمنين، إن تستودعني سرك تستودعه ناصحا شفيقا، وورعا رفيقا، فلا ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرت زيادا واعتصامه بأرض فارس ومقامه بها، وهو داهية العرب، ومعه الأحوال، وقد تحصن بأرض فارس وقلاعها يدبر الأمور، فما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو أعاد جذعه. قال له المغيرة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه؟ قال: نعم. فخرج إليه. فلما دخل عليه وجده وهو قاعد في بيت له مستقبل الشمس. فقام إليه زياد ورحب به سر بقدومه، وكان له صديقا - وذلك أن زيادا كان أحد الشهود الأربعة الذين شهدوا على المغيرة، وهو الذي تلجج في شهادته عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنجا المغيرة وجلد الثلاثة من الشهود، وفيهم أبو بكرة أخو زياد، فحلف أن لا يكلم زيادا أبدا - فلما تفاوضا في الحديث قال له المغيرة: أعلمت أن معاوية استخف الوجل حتى بعثتي إليك، ولا نعلم أحدا يمد يده إلى هذا الأمر غير الحسن، وقد بايع معاوية فخذ لنفسك قبل التوطين فيستغني عنك معاوية. قال: أشر علي وارم الغرض الأقصى، فإن المستشار مؤتمن. قال: أرى أن تصل حبلك بحبله وتسير إليه وتعير الناس أذنا صماء، وعينا عمياء. قال يا بن شعبة، لقد قلت قولا لا يكون غرسه في غير منبته، ولا مدرة تغذية، ولا ماء يسقيه، قال زهير:
وهل ينبت التخطيء إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
ثم قال: أرى ويقضي الله. وذكر عمر بن عبد العزيز زيادا فقال: سعي لأهل العراق سعي الأم البرة وجمع لهم جمع الذرة. وقال غيره: تشبه زياد بعمر فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد فأهلك الناس. وقالوا: الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لكل صغيرة وكبيرة.
ولما قدم زياد العراق قال: من على حرسكم؟ قالوا: بلج. قال: إنما يحترس من مثل بلج، فكيف يكون حارسا! أخذه الشاعر فقال:
وحارس من مثله يحترس

(2/200)

العتبي قال: كان في مجلس زياد مكتوب: الشدة في غير عنف، واللين في غير ضعف. المحسن يجازى بإحسانه، والمسيء يعاقب بإساءته. الأعطيات في أيامها. لا احتجاب عن طارق ليل ولا صاحب ثغر. وبعث زياد إلى رجال من بني تميم ورجال من بني بكر، وقال: دلوني على صلحاء كل ناحية ومن يطاع فيها. فدلوه، فضمنهم الطريق وحد لكل رجل منهم حدا. فكان يقول: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان عرفت من أخذ به وكان زياد يقول: من سقى صبيا خمرا حددناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا. وكان يقول: اثنان لا تقاتلوا فيهما: الشتاء وبطون الأودية. وأول من جمعت له العراق زياد، ثم ابنه عبيد الله بن زياد، لم تجتمع لقرشي قط غيرهما. وعبيد الله بن زياد أول من جمع له العراق وسجستان وخراسان والبحران وعمان، وإنما كان البحران وعمان إلى عمال أهل الحجاز، وهو أول من عرف العرفاء، ودعا النقباء، ونكبالمناكب، وحصل الدواوين، ومشي بين يديه بالعمد، ووضع الكراسي، وعمل المقصورة، ولبس الزيادي، وربع الأرباع بالكوفة وخمس الأخماس بالبصرة، وأعطى في يوم واحد للمقاتلة والذرية من أهل البصرة وأهل الكوفة وبلغ بالمقاتلة من أهل الكوفة ستين ألفا، ومقاتلة البصرة ثمانين ألفا، والذرية مائة ألف وعشرين ألفا. وضبط زياد وابنه عبيد الله العراق بأهل العراق.
قال عبد الملك بن مروان لعباد بن زياد: أين كانت سيرة زياد من سيرة الحجاج؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن زيادا قدم العراق وهي جمرة تشتعل، فسل أحقادهم، وداوى أدواءهم، وضبط أهل العراق بأهل العراق. وقدمها الحجاج فكسر الخراج، وأفسد قلوب الناس، ولم يضبطهم بأهل الشام فضلا عن أهل العراق، ولو رام منهم ما رامه زياد لم يفجأك إلا على قعود يوجف به.
وقال نافع لزياد: استعملت أولاد بكرة وتركت أولادي؟ قال: إني رأيت أولادك كزما قصارا، ورأيت أولاد أبي بكرة نجباء طوالا. ودخل عبد الله بن عامر على معاوية، فقال له: حتى متى تذهب بخراج العراق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول هذا لمن هو أبعد مني رحما! ثم خرج. فدخل على يزيد فاخبره وشكا إليه. فقال له: لعلك أغضبت زيادا؟ قال: قد فعلت. قال: فإنه لا يرضى حتى ترضي زيادا عنك. فانطلق ابن عامر، فاستأذن على زياد، فأذن له وألطفه. فقال ابن عامر: إن شئت فصلح بعتاب، وإن شئت فصلح بغير عتاب. " قال زياد: بل صلح بغير عتاب " فإنه أسلم للصدر. ثم راح زياد إلى معاوية فأخبره، وأصبح ابن عامر غاديا على معاوية. فلما دخل عليه، قال: مرحبا بأبي عبد الرحمن، ها هنا، وأجلسه إلى جنبه، فقال له: يا أبا عبد الرحمن:
لنا سياق ولكم سياق ... قد علمت ذلكم الرفاق
الحسن بن أبي الحسن قال: ثقل أبو بكرة فأرسل زياد إليه أنس بن مالك ليصالحه ويكلمه، فانطلقت معه. فإذا هو مول وجهه إلى الجدار، فلما قعد قال له: كيف تجدك أبا بكرة؟ فقال صالحا، كيف أنت أبا حمزة؟ فقال له أنس: اتق الله أبا بكرة في زياد أخيك، فإن الحياة يكون فيها ما يكون، فأما عند فراق الدنيا فليستغفر الله أحد كما لصاحبه، فوالله ما علمت إنه لوصول للرحم؟ هذا عبد الرحمن ابنك على الأبلة، وهذا داود على مدينة الرزق، وهذا عبد الله على فارس كلها. والله ما اعلمه إلا مجتهدا: قال: أقعدوني. فأقعدوه، فقالت: أخبرني ما قلت في أخر كلامك، فأعاد عليه القول. فقال: يا أنس، وأهل حروراء قد اجتهدوا فأصابوا أم أخطئوا؟ والله لا أكلمه أبدا ولا يصلي علي. فلما رجع أنس إلى زياد أخبره بما قال، وقال له: إنه قبيح أن يموت مثل أبي بكرة بالبصرة، فلا تصلي عليه ولا تقوم على قبره، فاركب دوابك والحق بالكوفة. قال: ففعل، ومات أبو بكرة بالغد عند صلاة الظهر، فصلى عليه أنس بن مالك.

(2/201)

وقدم شريح على زياد من الكوفة فقضى بالبصرة، وكان زياد يجلسه إلى جنبه ويقول له: إن حكمت بشيء ترى غيره أقرب إلى الحق منه فأعلمنيه. فكان زياد يحكم فلا يرد شريح عليه. فيقول زياد لشريح: ما ترى؟ فيقول: هذا الحكم؟ حتى أتاه رجل من الأنصار، فقال: إ ني قدمت البصرة والخطط موجودة فأردت أن أختط لي، فقال لي بنو عمي؟ وقد اختطوا ونزلوا: أين تخرج عنا؟ أقم معنا واختط عندنا، فوسعوا لي، فاتخذت فيهم دارا وتزوجت، ثم نزع الشيطان بيننا فقالوا لي: اخرج عنا. فقال زياد: ليس ذلك لكم، منعتموه أن يختط والخطط موجودة، وفي أيديكم فضل فأعطيتموه، حتى إذا ضاقت الخطط أخرجتموه وأردتم الإضرار به، لا تخرج من منزلك. فقال شريح: يا مستعير القدر ارددها. قال زياد: يا مستعير القدر أحبسها ولا ترددها. فقال محمد بن سيرين: القضاء بما قال شريح، وقول زياد حسن. وقال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية إلا في واحدة، طلبت رجلا فلجأ إليه وتحرم به، فكتبت إليه: إن هذا فساد لعملي، إذا طلبت أحدا لجأ إليك فتحرم بك. فكتب إلي: إنه لا ينبغي لنا أن نسوس الناس بسياسة واحدة فيكون مقامنا مقام رجل واحد، ولكن تكون أنت للشدة والغلطة، وأكون أنا للرأفة والرحمة فيستريح الناس فيما بيننا.
ولما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه زيادا عن كتابة أبي موسى، قال له: أعن عجز أم خيانة؟ قال له: أعن عجز أم خيانة؟ لا عن واحدة منهما، ولكنى كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك. وكتب الحسن بن علي رضي الله عنه إلى زياد في رجل من أهل شيعته، عرض له زياد وحال بينه وبين جميع ما يملكه، وكان عنوان كتابه: من الحسن بن علي إلى زياد. فغضب زياد إذ قدم نفسه عليه ولم ينسبه إلى أبي سفيان، فكتب إليه: من زياد بن أبي سفيان إلى حسن: أما بعد، فإنك كتبت إلي فاسق لا يأويه إلا الفساق، وايم الله لأطلبنه ولو بين جلدك ولحمك، فإن احب لحم إلى أن آكله لحم أنت منه. فكتب الحسن إلى معاوية يشتكي زيادا، وادرج كتاب زياد في داخل كتابه. فلما قرأه معاوية أكثر التعجب من زياد، وكتب إليه: أما بعد. فإن لك رأيين أحدهما من أبي سفيان والآخر من سمية، فأما الذي من أبى سفيان فحزم وعزم، وأما الذي من سمية فكما يكون رأي مثلها، وإن الحسن بن علي كتب إلى يذكر أنك عرضت لرجل من أصحابه، وقد حجزناه عنك ونظراءه، فليس لك على واحد منهم سبيل ولا عليه حكم. وعجبت منك حين كتبت إلى الحسن لا تنسبه إلى أبيه، أفإلى أمه وكلته لا أم لك؟ فهو ابن فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن حين اخترت له! وكتب زياد إلى معاوية: إن عبد الله بن عباس يفسد الناس علي، فإن أذنت لي أن أتوعده فعلت. فكتب إليه: إن أبا الفضل وأبا سفيان كانا في الجاهلية في مسلاخ واحد، وذلك حلف لا يحله سوء رأيك. واستأذن زياد معاوية في الحج، فأذن له. وبلغ ذلك أبا بكرة، فأقبل حتى دخل على زياد، وقد أجلس له بنيه، فسلم عليهم ولم يسلم على زياد. ثم قال: يا بني أخي، إن أباكم ركب أمرا عظيما في الإسلام بادعائه إلى أبي سفيان، فوالله ما علمت سمية بغت قط، وقد استأذن أمير المؤمنين في الحج وهو مار بالمدينة لا محالة، وبها أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه و سلم، ولا بد له من الاستئذان عليها، فإن أذنت له فقعد منها مقعد الأخ من أخته فقد انتهك من رسول الله صلى الله عليه و سلم حرمة عظيمة، وإن لم تأذن له فهو عار الأبد، ثم خرج. فقال له زياد: جزاك الله خيرا من أخ، فما تدع النصيحة على حال. وكتب إلى معاوية يستقيله، فأقاله. وكتب زياد إلى معاوية: إني قد أخذت العراق بيميني وبقيت شمالي فارغة، وهو يعرض له بالحجاز. فبلغ ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: اللهم أكفنا شماله. فعرضت له قرحة في شماله، فقتلته. ولما بلغ عبد الله ابن عمر موت زياد قال: اذهب إليك ابن سمية، لا يدا رفعت من حرام، ولا دنيا تمليت.

(2/202)

قال زياد لعجلان حاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأنساب، ثم على. الآداب. قال: فمن تؤخر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف!، وكسوة الصيف في الشتاء. وقال زياد لحاجبه: وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاح والفلاح، لا تعوجنه عنى ولا سلطان لك عليه؟ وطارق الليل، لا تحجبه فشر ما جاء به ولو كان خيرا ما جاء في تلك الساعة؟ ورسول صاحب الثغر، فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة؟ وصاحب الطعام، فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد.
وقال عجلان حاجب زياد: صار لي في يوم واحد مائة ألف دينار وألف سيف.
قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أعطى زياد ألف رجل مائتى ألف دينار وسيفا، فأعطاني كل رجل منهم نصف عطائه وسيفه.
أخبار الحجاج
دخل المغيرة بن شعبة على زوجته فارعة، فوجدها تتخلل حين انفلتت من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام البارحة فإنك لقذرة، وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة، كنت فبنت. قالت: والله ما فرحنا إذ كنا ولا أسفنا إذ بنا، وما هو بشيء مما ظننت، ولكنى استكت فأردت أن أتخلل للسواك. فندم المغيرة على ما بدر منه، فخرج أسفا، فلقي يوسف بن أبي عقيل، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلت الساعة عن سيدة نساء ثقيف، فتزوجها فإنها تنجب لك، فتزوجها فولدت له الحجاج.
ومما رواه عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: إن الحجاج بن يوسف كان يعلم الصبيان بالطائف، واسمه كليب، وأبوه يوسف معلم أيضا. وفي ذلك يقول مالك بن الريب:
فماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقر بذلة ... يروح صبيان القرى ويغادي
ثم لحق الحجاج بن يوسف بروح بن زنباع، وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته إلى أن شكا عبد الملك بن مروان ما رأى من انحلال عسكره، وأن الناس لا يرحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله. فقال روح بن زنباع: يا أمير المؤمنين، إن في شرطتي رجلا لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحلهم برحيله وأنزلهم بنزوله، يقال له الحجاج بن يوسف. قال: فإنا قد قلدناه ذلك. فكان لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع. فوقف عليهم يوما وقد رحل الناس وهم على طعام يأكلون، فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا بن اللخناء، فكل معنا. فقال: هيهات! ذهب ما هنالك. ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط، وطوفهم في العسكر. وأمر بفساطيط روح بن زنباع فأحرقت بالنار. فدخل روح بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكيا. فقال له: مالك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الحجاج بن يوسف الذي كان في عديد شرطتي ضرب عبيدي وأحرق فساطيطي. قال: علي به. فلما دخل عليه قال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: ما أنا فعلته يا أمير المؤمنين قال: ومن فعله ؟قال: أنت والله فعلته، إنما يدي يدك وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين أن يخلف على روح بن زنباع للفسطاط فسطاطين، وللغلام غلامين، ولا يكسرني فيما قدمني له. فأخلف لروح بن زنباع ما ذهب له، وتقدم الحجاج في منزلته. وكان ذلك أول ما عرف من كفايته.
قال أبو الحسن المدائني: كانت أم الحجاج الفارعة بنت هبار قال: وكان الحجاج بن يوسف يضع في كل يوم ألف خوان في رمضان، وفي سائر الأيام خمسمائة خوان، على كل خوان عشرة أنفس وعشرة ألوان وسمكة مشوية طرية وأرزة بسكر، وكان يحمل في محفة ويدار به على موائده يتفقدها، فإذا رأى أرزة ليس عليها سكر وسعى الخباز ليجيء بسكرها، فأبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سكر، أمر به فضرب مائتي سوط. فكانوا بعد ذلك لا يمشون إلا متأبطي خرائط السكر. قال: وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يضع خمسمائة خوان، فكان طعام الحجاج لأهل الشام خاصة، وطعام يوسف بن عمر لمن حضره، فكان عند الناس أحمد.

(2/203)

العتبي قال: دخل على الحجاج سليك بن سلكة، فقال: أصلح الله الأمير، أعرني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف عني غربك، فإن سمعت خطأ أو زللا فدونك والعقوبة. فقال: قل، فقال: عصى عاص من عرض العشيرة فحلق على اسمي، وهدمت داري، وحرمت عطائي. قال: هيهات! أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ... ونجا المقارف صاحب الذنب
قال: أصلح الله الأمير، فإني سمعت الله قال غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال: " يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين. قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون " . فقال الحجاج: علي بزيد بن أبي مسلم، فأتي به، فمثل بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، ومر مناديا يناد في الناس: صدق الله وكذب الشاعر.
أتي الحجاج بامرأة عبد الرحمن بن الأشعث بعد دير الجماجم، فقال لحرسى: قل لها: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلته تحت ذيلك؟ فقال: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلته تحت استك؟ فقال له: كذبت، ما هكذا قلت، أرسلها فخلى عنها. الأصمعي قال: ماتت رفقة عطشا بالشجي - والشجي: ربو من الأرض في بطن فلج - فشجي به الوادي فسمى شج - فقال الحجاج: إني أراهم قد تضرعوا إذا نزل بهم الموت، فاحفروا في مكانهم، فحفروا. فأمر الحجاج رجلا، يقال له عضيدة يحفر البئر، فلما أنبطها حمل منها قربتين إلى الحجاج بأواسط، فلما قدم بهما عليه. قال: يا عديدة، لقد تجاوزت مياها عذابا، أخسف أم أشلت؟ لا واحد منهما، ولكن نبطا بين الماءين. قال: وكيف يكون قدره؟ قال: مرت بنا رفقة فيها خمسة وعشرون جملا فرويت الإبل وأهلها. قال: أو للإبل حفرتها؟ إنما حفرتها للناس! إن الإبل ضمر خسف، ما جشمت تجشمت.
بعث عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف واليا على العراق وأمره أن يحشر الناس إلى المهلب في حرب الأزارقة. فلما أتى الكوفة صعد المنبر متلثما متنكبا قوسه، فجلس واضعا إبهامه على فيه. فنظر محمد بن عمير بن عطارد التميمي، فقال: لعن الله هذا ولعن من أرسله إلينا! أرسل غلاما لا يستطيع أن ينطق عيا! وأخذ حصاة بيده ليحصبه بها. فقال له جليسه: لا تعجل حتى ننظر ما يصنع فقام الحجاج فكشف لثامه عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
صليب العود من سلفي نزار ... كنصل السيف وضاح الجبين
أخو خمسين مجتمع أشدي ... ونجذني مداورة الشؤون
أما والله إني لأحمل الشر بثقله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله؟ أما والله إني لأرى رؤسا قد أينعت وحان قطافها، وكأني أرى الدماء تبق العمائم واللحى لترقرق
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وصم

(2/204)

ألا إن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان كب كنانته فعجم عيدانها، فوجدني أصلبهاعودا، . فوجهني إليكم، فإنكم طالما سعيتم في الضلالة، وسننتم سنن البغي. أما والله لألحونكم لحو العصا، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأقرعنكم، قرع المروة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. والله ما أخلق إلا فريت، ولا أعد إلا وفيت. إني والله لا أغمز تغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان. إياي وهذه الزرافات والجماعات، وقيل وقال وما يقول، وفيم أنتم ونحو هذا. من وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب ضربت عنقه. ثم قال: يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان إلى من بالكوفة من المسلمين. سلام عليكم. فلم يقل أحد شيئا. فقال الحجاج: اسكت يا غلام، هذا أدب ابن نهية، والله لأؤدبنهم غير هذا الأدب أو ليستقيمن. اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين. فلما بلغ قوله: سلام عليكم لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام. ثم نزل، فأتاه عمير بن ضابيء فقال: أيها الأمير، إني شيخ كبير عليل، وهذا ابني أقوى على الغزو مني. قال: أجيزوا ابنه عنه، فإن الحدث أحب إلينا من الشيخ. فلما ولى الرجل، قال له عنبسة بن سعيد. أيها الأمير، هذا الذي ركض عثمان برجله وهو مقتول. فقال: ردوا الشيخ، فردوه، فقال: أضربوا عنقه. فقال فيه الشاعر.
تجهز فإما أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
ثم قال: دلوني على رجل أوليه الشرطة. فقيل له: أي الرجال تريد؟ قال: أريده دائم العبوس، طويل الجلوس؟ سمين الأمانة، أعجف الخيانة، لا يحنق في الحق على حر أو حرة، يهون عليه سؤال الأشراف في الشفاعة. فقيل له: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي. فأرسل إليه فاستعمله: فقال له: لست أقبلها إلا أن تكفيني عمالك وولدك وحاشيتك. فقال الحجاج: يا غلام، ناد: من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت الذمة منه. قال الشعبي: فوالله ما رأيت قط صاحب شرطة مثله، كان لا يحبس إلا في دين، وكان إذا أتي برجل نقب على قوم وضع منقبته في بطنه حتى تخرج من ظهره، وكان إذا أتي برجل نباش حفر له قبرا ودفنه فيه حيا، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شهر سلاحا قطع يده، فربما أقام أربعين يوما لا يؤتى إليه بأحد. فضم الحجاج إليه شرطة البصرة مع شرطة الكوفة.
ولما قدم عبد الملك بن مروان المدينة نزل دار مروان، فمر الحجاج بخالد ابن يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجاج سيف محلى، وهو يخطر متبخترا. في المسجد. فقال رجل من قريش لخالد: من هذا التختارة؟ فقال بخ بخ! هذا عمرو بن العاص! فسمعه الحجاج فمال إليه، فقال: قلت: هذا عمرو بن العاص! والله ما سرني أن العاص ولدني ولا ولدته، ولكن إن شئت أخبرتك من أنا: أنا ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل من قريش، والذي ضرب مائة بسيفه هذا كلهم يشهدون على أبيك بالكفر وشرب الخمر حتى أقروا أنه خليفة. ثم ولى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص!

(2/205)

الأصمعي قال: بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول إن الحسن بن على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتأتيني بالمخرج أو لأضربن عنقك. فقالت له: فإن أتيت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال له: اقرأ: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء " إلى قوله " ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى " فمن أقرب: عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابنه بنته، أو الحسن إلى محمد؟ قال الحجاج: فوالله لكأني ما قرأت هذه الآية قط، وولاه قضاء بلد. فلم يزل بها قاضيا حتى مات. قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كان عبد الملك بن مروان سنان قريش وسيفها رأيا وحزما، وعابدها قبل أن يستخلف ورعا وزهدا، فجلس يوما في خاصته فقبض على لحيته فشمها مليا، ثم اجتر نفسه ونفخ نفخة أطالها، ثم نظر وجوه القوم فقال: ما أطول يوم المسألة عن ابن أم الحجاج وأدحض المحتج على العليم بما طوته الحجب. أما إن تمليكي له قرن بي لوعة يحشها التذكار. كيف وقد علمت فتعاميت، وسمعت فتصاممت، وحمله الكرام الكاتبون. والله لكأني إلف ذي الضغن على نفسي، وقد نعت الأيام بتصرفها أنفسا حق لها الوعيد بتصرم الدول. وما أبقت الشبهة للباقي متعلقا، وما هو إلا الغل الكامن من النفس بحوبائها، والغيظ المندمل. اللهم أنت لي أوسع، غير منتصر ولا معتذر. يا كاتب، هات الدواة والقرطاس. فقعد كاتبه بين يديه وأملى عليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أما بعد. فقد أصبحت بأمرك برما، يقعدني الإشفاق، ويقيمني الرجاء وإذا عجزت في دار السعة وتوسط الملك وحين المهل واجتماع الفكر، أن ألتمسالعذر في أمرك، فأنا لعمر الله، في دار الجزاء، وعدم السلطان، واشتغال الحامة، والركون إلى الذلة من نفسي، والتوقع لما طويت علية الصحف، أعجز. وقد كنت أشركتك فيما طوقني الله عز وجل حمله، ولاث بحقوي من أمانته في هذا الخلق المرعي، فدللت منك على الحزم والجد في إماتة بدعة وإنعاش سنة، فقعدت عن تلك ونهضت بما عاندها، حتى صرت حجة الغائب والشاهد القائم، وعذر اللاعن. فلعن الله أبا عقيل وما نجل، فالأم والد وأخبث نسل. فلعمري ما ظلمكم الزمان ولا قعدت بكم المراتب. لقد ألبستكم ملبسكم، وأقعدتكم على روابي خططكم، وأحلتكم أعلى منعتكم، فمن حافر وناقل وماتح للقلب المقعدة في الفيافي المتفيهقة، ما تقدم فيكم الإسلام ولقد تأخرتم، وما الطائف منا ببعيد يجهل أهله. ثم قمت بنفسك وطمحت بهمتك. وسرك انتضاء سيفك، فاستخرجك أمير المؤمنين من أعوان روح ابن زنباع وشرطته، وأنت على معاونته يومئذ محسود، فهفا أمير المؤمنين، والله يصبح بالتوبة والغفران زلته وكأني بك وكأن ما لو لم يكن لكان خيرا مما كان. كل ذلك من تجاسرك وتحاملك على المخالفة لرأي أمير المؤمنين. فصدعت صفاتنا، وهتكت حجبنا، وبسطت يديك تحقن بهما من كرائم ذوي الحقوق اللازمة، والأرحام الواشجة، في أوعية ثقيف. فاستغفر الله لذنب ما له عذر. فلئن استقال أمير المؤمنين فيك الرأي فقلد جالت البصيرة في ثقيف بصالح النبي صلى الله عليه و سلم، إذ ائتمنه على الصدقات، وكان عبده فهرب بها عنه، وما هو إلا اختبار الثقة والتلطف لمواضع الكفاية، فقعد به الرجاء كما قعد بأمير المؤمنين فيما نصبك له. فكأن هذا ألبس أمير المؤمنين ثوب العزاء، ونهض بعذره إلى استنشاق نسيم الروح. فاعتزل عمل أمير المؤمنين، واظعن عنه باللعنة اللازمة، والعقوبة الناهكة إن شاء الله، إذ استحكم لأمير المؤمنين ما يحاول من رأيه والسلام.

(2/206)

ودعا عبد الملك مولى يقال له نباتة، له لسان وفضل رأي، فناوله الكتاب، ثم قال له: يا نباتة، العجل ثم العجل حتى تأتي العراق، فضع هذا الكتاب في يد الحجاج وترقب ما يكون منه، فإن اجبل عند قراءته واستيعاب ما فيه، فاقلعه عن عمله وانقلع معه حتى تأتي به، وهدن الناس حتى يأتيهم أمري، بما تصفني به في حين انقلاعك، من حبي لهم السلامة. وإن هش للجواب ولم تكتنفه أربة الحيرة، فخذ منه ما يجيب به وأفرزه على عمله، ثم اعجل علي بجوابه. قال نباتة: فخرجت قاصدا إلى العراق، فضمتني الصحارى والفيافي، واحتواني القر، وأخذ مني السفر حتى وصلت. فلما وردته أدخلت عليه في يوم ما يحضره فيه الملأ، وعلي شحوب مضنى، وقد توسط خدمه من نواحي، وتدثر بمطرف خز أدكن، ولاث به الناس من بني قائم وقاعد. فلما نظر إلي، وكان لي عارفا، قعد، ثم تبسم تبسم الوجل، ثم قال: أهلا بك يا نباتة، أهلا بمولى أمير المؤمنين، لقد أثر فيك سفرك، وأعرف أمير المؤمنين بك ضنينا، فليت شعري، ما دهمك أو دهمني عنده. قال: فسلمت وقعدت. فسأل: ما حال أمير المؤمنين وخوله؟ فلما هدأ أخرجت له الكتاب فناولته إياه. فأخذه مني مسرعا ويده ترعد، ثم نظر في وجوه الناس فما شعرت إلا وأنا معه ليس معنا ثالث، وصار كل من يطيف به من خدمه تلقاه جانبا لا يسمعون منا الصوت. ففك الكتاب فقرأه، وجعل يتثاءب ويردد تثاؤبه ويسير العرق على جبينه وصدغيه على شدة البرد من تحت قلنسوته، من شدة الفرق، وعلى رأسه عمامة خز خضراء، وجعل يشخص إلي ببصر ساعة كالمتوهم، ثم يعود إلى قراءة الكتاب، ويلاحظني النظر كالمتفهم، إلا أنه واجم، ثم يعاود الكتاب، وإني لأقول: ما أراه يثبت حروفه من شدة اضطراب يده، حتى استقصى قراءته. ثم مالت يده حتى وقع الكتاب على الفراش، ورجع إليه ذهنه، فمسح العرق عن جبينه، ثم قال متمثلا:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
ثم قال: قبح والله منا الحسن يا نباتة، وتواكلتنا عند أمير المؤمنين الألسن.
وما هذا إلا سانح فكرة نمقها مرصد يكلب بقصتنا، مع حسن رأي أمير المؤمنين فينا. يا غلام. فتبادر الغلمان الصيحة، فملئ علينا منهم المجلس حتى دفأتني منهم الأنفاس. قال: الدواة والقرطاس، . فأتي بالدواة والقرطاس، فكتب بيده: وما رفع القلم إلا مستمدا حتى سطر مثل خد الفرس. فلما فرغ قال لي: يا نباتة، هل علمت ما جئت به فنسمعك ما كتبنا؟ فقلت: لا. قال: إذا حسبك منا مثله. ثم ناولني الجواب وأمر لي بجائزة فأجزل، وجرد لي كساء، ودعا لي بطعام فأكلت، ثم قال نكلك إلى ما أمرت به من عجلة أو توان، وإني لأحب مقارنتك والأنس برؤيتك. فقلت: كان معي قفل مفتاحه عندك، وفمتاح قفلك عندي، فأحدثت لك العافية بأمرين: فأقفلت المكروه وفتحت العافية، وما ساءني ذلك، وما أحب أن أزيدك بيانا، وحسبك من استعجالي القيام. ثم نهضت، وقام مودعا لي فالتزمني، وقال: بأبي أنت وأمي، رب لفظة مسموعة، ومحتقر نافع، فكن كما أظن. فخرجت مستقبلا وجهي حتى وردت أمير المؤمنين، فوجدته منصرفا من صلاة العصر، فلما رآني قال: ما احتواك المضجع يا نباتة! قفلت: من خاف من وجه الصباح أدلج، فسلمت وانتبذت عنه. فتركني حتى سكن جأشي ثم قال: مهيم؟ فدفعت إليه الكتاب، فقرأه متبسما، فلما مضى فيه ضحك حتى بدت له سن سوداء، ثم استقصاه فانصرف إلي، فقال: كيف رأيت إشفاقه؟ قال: فقصصت عليه ما رأيت منه فقال: صلوات الله على الصادق الأمين " إن من البيان لسحرا " ثم قذف الكتاب إلي، فقال: اقرأ، فقرأته فإذا فيه:

(2/207)

بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين؟ المؤيد بالولاية، المعصوم من خطل القول، وزلل الفعل، بكفالة الله الواجبة لذوي أمره، من عبد اكتنفته الذلة، ومد به الصغار إلى وخيم المرتع، ووبيل المكرع، من جليل فادح، ومعتد قادح. والسلام عليك ورحمة الله، التي اتسعت فوسعت، وكان بها إلى أهل التقوى عائدا فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، راجيا لعطفك بعطفه، أما بعد. كان الله لك بالدعة في دار الزوال، والأمن في دار الزلزال. فإنه من عنيت به فكرتك يا أمير المؤمنين مخصوصا فما هو إلا سعيد يوثر أو شقي يوتر، وقد حجبني عن نواظر السعد لسان مرصد، ونافس حقد، انتهز به الشيطان حين الفكرة، فافتتح به أبواب الوساوس بما تحنق به الصدور. فواغوثاه استعاذة بأمير المؤمنين من رجيم إنما سلطانه على الذين يتولونه، واعتصاما بالتوكل على من خصه بما أجزل له من قسم الإيمان وصادق السنة. فقد أراد اللعين أن يفتق لأوليائه فتقا نبا عنه كيده، وكثر عليه تحسره، بلية قرع بها فكر أمير المؤمنين ملبسا، وكادحا ومؤرشا، ليفل من عزمه الذي نصبني له، ويصيب ثأرا لم يزل به موتورا.
وذكر قديم ما مني به الأوائل وكيف لحقت بمثله منهم، وما كنت أبلوه من خسة أقدار ومزاولة أعمال، إلى أن وصلت ذلك بالتشرط لروح بن زنباع.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:00 pm

وقد علم أمير المؤمنين، بفضل ما اختار الله له تبارك وتعالى من العلم المأثور الماضي، بأن الذي عير به القوم من مصانعهم من أشد ما كان يزاوله أهل القدمة الذين اجتبى الله منهم، وقد اعتصموا وامتعضوا من ذكر ما كان، وارتفعوا بما يكون، وما جهل أمير المؤمنين - وللبيان موقعه غير محتج ولا متعد - أن متابعة روح بن زنباع طريق الوسيلة لمن أراد من فوقه، وأن روحا لم يلبسني العزم الذي به رفعني أمير المؤمنين عن خوله، وقد ألصقتني بروح بن زنباع همة لم تزل نواظرها ترمي بي البعيد، وتطالع الأعلام. وقد أخذت من أمير المؤمنين نصيبا اقتسمه الإشفاق من سخطته، والمواظبة على موافقته، فما بقي لنا في مثله بعده إلا صبابة إرث، به تجول النفس، وتطرف النواظر. ولقد سرت بعين أمير المؤمنين سير المثبط لمن يتلوه المتطاول لمن تقدمه، غير مبت موجف، ولا متثاقل مجحف، ففت الطالب، ولحقت الهارب، حتى سادت السنة، وبادت البدعة، وخسئ الشيطان، وحملت الأديان إلى الجادة العظمى. والطريقة المثلى. فهأنذ يا أمير المؤمنين: نصب المسألة لمن رامني، وقد عقدت الحبوة، وقرنت الوظيفين لقائل محتج، أو لائم ملتج. وأمير المؤمنين ولي المظلوم، ومعقل الخائف. وستظهر له المحنة نبأ امرى، ولكل نبأ مستقر. وما حفنت يا أمير المؤمنين في أوعية ثقيف حتى روي الظمآن، وبطن الغرثان، وغصت الأوعية، وانقدت الأوكية في آل مروان فأخذت فضلا صار لها، لولاهم للقطته السابلة. ولقد كان ما أنكره أمير المؤمنين من تحاملي، وكان ما لو لم يكن لعظم الخطب فوق ما كان، وإن أمير المؤمنين لرابع أربعة، أحدهم ابنة شعيب النبي صلى الله عليه وسلم إذ رمت بالظن غرض اليقين تفرسا في النجي المصطفى بالرسالة، فحق لها في الرجاء، وزالت شبهة الشك بالاختبار، وقبلها العزيز في يوسف، ثم الصديق في الفاروق، رحمة الله عليهما، وأمير المؤمنين في الحجاج. وما حسد الشيطان يا أمير المؤمنين خاملا، ولا شرق بغير شجى. فكم غيظة يا أمير المؤمنين. للرجيم أدبر منها وله عواء وقد قلت حيلته. ووهن كيده يوم كيت وكيت، ولا أظن اذكر لها من أمير المؤمنين. ولقد سمعت لأمير المؤمنين في صالح، صلوات الله عليه، وفي ثقيف مقالا، هجم بي الرجاء لعدله، عليه بالحجة في رده بمحكم التنزيل على لسان ابن عمه خاتم النبيين وسيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عن الله عز وجل، وحكاية عن الملأ من قريش عند الاختيار والافتخار، وقد نفخ الشيطان في مناخرهم، فلم يدعوا خلف ما قصدوا إليه مرمى. فقالوا: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " . فوقع اختيارهم، عند المباهاة بنفخة الكفر وكثر الجاهلية، على الوليد بن المغيرة المخزومي وأبي مسعود الثقفي، فصارا فيا الإفتخار بهما صنوين، ما أنكر اجتماعهما من الأمة منكر في خبر القرآن، ومبلغ الوحي. وإن كان ليقال للوليد في الأمة يومئذ ريحانة قريش، وما رد ذلك العزيز تعالى إلا بالرحمة الشاملة في القسم السابق، فقال عز وجل: " أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " . وما قدمتني يا أمير المؤمنين ثقيف في الاحتجاج لها، وإن لها مقالا رحبا، ومعاندة قديمة، إلا أن هذا من أيسر ما يحتج به العبد المشفق على سيده المغضب، والأمر إلى أمير المؤمنين، عزل أم أقر، وكلاهما عدل متبع. وصواب معتفد. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.
قال نباتة: فأتيت على الكتاب بمحضر أمير المؤمنين عبد الملك، فلما استوعبته سارقته النظر على الهيبة منه، فصادف لحظي لحظه، فقال: اقطعه، ولا تعلمن بما كان أحدا فلما مات. عبد الملك فشا عني الخبر بعد موته.

(2/209)

محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني قال: دفع إلي الحجاج رجلا ذميا وأمرني بالتشديد عليه والإستخراج منه، فلما انطلقت به، قال لي: يا محمد، إن لك لشرفا ودينا، وإن لا أعطي على القسر شيئا فاستأذني وارفق بي. فقال: ففعلت، فأدى إلي في أسبوع خمسمائة ألف. فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه، فانتزعه من يدي ودفعه إلى الذي كان يتولى له العذاب، فدق يديه ورجليه، ولم يعطهم شيئا، قال محمد بن المنتشر: فإني لسائر يوما في السوق، إذا صائح بي يا محمد، فالتفت، فإذا أنا به معرضا على حمار مدقوق اليدين والرجلين. فخفت الحجاج إن أتيته وتذممت منه، فملت إليه، فقال لي: إنك وليت مني ما ولي هؤلاء، فرفقت بي وأحسنت إلي، وإنهم صنعوا ما ترى، ولم أعطهم شيئا ولي خمسمائة ألف عند فلان فخذها مكافأة لما أحسنت إلي. فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجرا، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئا. قال: فأما إذا نبت فاسمع مني حديثا أحدثك به حدثنيه بعض أهل دينك عن نبيك صلى الله عله وسلم أنه قال: " إذا رضي الله عن قوم أنزل عليهم المطر في وقته، وجعل المال في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم وإذا سخط على قوم أنزل عليهم المطر في غير وقته، وجعل المال في بخلائهم، واستعمل عليهم شرارهم " . فانصرفت، فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج. فسرت إليه، فألفيته جالسا على فراشه والسيف مصلت بيده. فقال لي: ادن، فدنوت شيئا. ثم قال لي: ادن، فدنوت شيئا. ثم قال لي الثالثة: ادن، لا أبالك! فقلت: ما بي إلى الدنو من حاجة، وفي يد الأمير ما أرى. فضحك وأغمد سيفه، وقال: اجلس، ما كان من حديث الخبيث؟ فقلت له أيها الأمير، والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذبتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني، ثم حدثته. فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده اعرض عني بوجهه، وأومأ إلي بيده، وقال: لا تسمه، ثم قال: إن للخبيث نفسا وقد سمع الأحاديث.
ويقال: إن الحجاج كان إذا استغرب ضحكا والى بين الاستغفار، وكان إذا صعد المنبر تلفع بمطرفه، ثم تكلم رويدا فلا يكاد يسمع، ثم يتزيد في الكلام، فيخرج يده من مطرفه، ثم يزجر الزجرة فيقرع بها أقصى من في المسجد.
صعد خالد بن عبد الله القسري المنبر في يوم جمعة وهو إذ ذاك على مكة، فذكر الحجاج، فحمد طاعته وأثنى عليه خيرا. فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك، يأمره فيه بشتم الحجاج ونشر عيوبه وإظهار البراءة منه. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إبليس كان ملكا من الملائكة، وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلا، وكان الله قد علم من غشه وخبثه ما خفي على ملائكته، فلما أراد الله فضيحته أمره بالسجود لآدم، فظهر لهم منه ما كان مخفيه، فلعنوه. وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلا، وكأن الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي عنا، فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يد أمير المؤمنين فلعنه، فالعنوه لعنه الله، ثم نزل.
ولما أتي الحجاج بامرأة ابن الأشعث قال للحرسي: قل لها: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلته تحت ذيلك؟ فقال لها الحرسي: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلته تحت استك؟ قال الحجاج: كذبت، ما هكذا قلت. أرسلها. فخلي سبيلها.

(2/210)

أبو عوانة عن عاصم عن أبي وائل قال: أرسل الحجاج إلي، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: ما أرسل الأمير إلي حتى عرف اسمي! قال لي: متى هبطت هذه الأرض؟ قلت: حين ساكنت أهلها. قال: كم تقرأ من القرآن؟ قلت: أقرا منه ما إن اتبعته كفاني قال: إني أريد أن أستعين بك على بعض عملي. قلت: إن تستعن بي بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء، وإن تدعني فهو أحب إلي، وإن تقحمني أتقحم. قال: إن لم أجد غيرك أقحمتك، وإن وجدت غيرك لم أقحمك. قلت: وأخرى أكرم الله الأمير، إني ما علمت الناس هابوا أميرا قط هيبتهم لك، والله إني لأتعار من الليل فأذكرك فما يأتيني النوم حتى أصبح، هذا ولست لك على عمل. فأعجبه ذلك، وقال: هيه، كيف قلت؟ فأعدت عليه الحديث. فقال: إني والله ما أعلم اليوم رجلا على وجه الأرض هو أجرأ على دم مني. قال: فقمت فعدلت عن الطريق عمدا كأني لا أبصر. فقال: اهدوا الشيخ، أرشدوا الشيخ.
أبو بكر بن أبي شيبة قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج، فقال لجلسائه: إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان فانظروا إلى هذا. فقال عبد الرحمن: معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسب عثمان، إنه ليحجزني عن ذلك آيات في كتاب الله تعالى: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون " فكان عثمان منهم. ثم قال: " والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " فكان أبي منهم. ثم قال: " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان " فكنت أنا منهم. قال: صدقت.
أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش قال: رأيت عبد الرحمن ابن أبي ليلى ضربه الحجاج ووقفه على باب المسجد، فجعلوا يقولون له: ألعن الكاذبين: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد. فقال: لعن الله الكاذبين، ثم قال: في علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد، بالرفع. فعرفت حين سكت ثم ابتدأ فرفع أنه ليس يريدهم.
قال الشعبي: أتي بي الحجاج موثقا، فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم كاتبه، فقال: إنا لله يا شعبي لما بين دفتيك من العلم، وليس اليوم بيوم شفاعة. قلت له: فما المخرج؟ قال: بؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك وبالحري أن تنجو. ثم لقيني محمد بن الحجاج فقال لي مثل مقالة يزيد. فلما دخلت على الحجاج قال لي: وأنعت يا شعبي فيمن خرج علينا وأكثر؟ قلت: أصلح الله الأمير، نبا بنا

(2/211)

المنزل، وأجدب بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال: صدق والله ما بروا بخروجهم علينا ولا قووا، أطلقوا عنه. فاحتاج إلي في فريضة بعد ذلك فأرسل إلي، فقال: ما تقول في أم وأخت وجد؟ فقلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، وعلي، وعثمان، وزيد، وابن عباس. قال: فما قال فيها ابن عباس، إن كان لمنقبا؟ قلت: جعل الجد أبا ولم يعط الأخت شيئا، وأعطى الأم الثلث. قال: فما قال فيها ابن مسعود؟ قلت: جعلها من ستة، فأعطى الجد ثلاثة، وأعطى الأم اثنين، وأعطى الأخت سهما. قال: فما قال زيد؟ قلت: جعلها من تسعة، فأعطى الأم ثلاثة، وأعطى الجد أربعة، وأعطى الأخت اثنين، فجعل الجد معها أخا. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين عثمان؟ قلت: جعلها ثلاثا. قال: فما قال فيها أبو تراب؟ قلت: جعلها من ستة، فأعطى الأخت ثلاثة، وأعطى الأم اثنين، وأعطى الجد سهما. قال: مر القاضي فليمضها على ما أمضاها أمير المؤمنين. فبينما أنا عنده إذ جاءه الحاجب فقال له: إن بالباب رسلا. فقال: إيذن لهم. قال: فدخلوا وعمائمهم على أوساطهم، وسيوفهم على عواتقهم، وكتبهم بأيمانهم، وجاء رجل من بني سليم يقال له شبابة بن عاصم، فقال له: من أين؟ قال: من الشام. قال: كيف تركت أمير المؤمنين وكيف تركت حشمه؟ فأخبره. قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم. أصابتني فيما بيني وبين الأمير ثلاث سحائب. قال: فانعت لي كيف كان وقع المطر وتباشيره؟ قال: أصابتني سحابة بحوارين فوقع قطر صغار وقطر كبار، فكانت الصغار لحمة للكبار، ووقع نشيطا ومتداركا، وهو السيح الذي سمعت به، فواد سائل، وواد نازح، وأرض مقبلة، وأرض مدبرة. وأصابتني سحابة بسرا ء فلبدت الدماث، وأسالت العزاز، وأدحضت التلاع، وصدعت عن الكمأة أماكنها. وأصابتني سحابة بالقريتين فقاءت الأرض بعد الري. وامتلأت الأخاديد، وأفعمت الأودية، وجئتك في مثل وجار الضبع. ثم قال: إيذن، فدخل رجل من بن أسد. فقال: هل وراءك من غيث؟ قال: لا، كثر الإعصار، وأغبرت البلاد، وأيقنا أنه عام سنة. قال: بئس المخبر أنت. قال: أخبرتك الذي كان ثم، قال: إيذن. فدخل رجل من أهل اليمامة. قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، سمعت الرواد يدعون إلى الماء وسمعت قائلا يقول: هلم ظعنكم إلى محلة تطفأ فيها النيران، وتشكى فيها النساء، وتنافس فيها المعزى. وقال الشعبي: فلم يدر الحجاج ما قال. فقال له: تبا لك! إنما تحدث أهل الشام فأفهمهم. قال: أصلح الله الأمير، أخصب الناس، فكثر التمر والسمن والزبد واللبن، فلا توقد نار يختبر بها. وأما تشكى النساء، فإن المرأة تظل تربق بهمها، وتمخض لبنها، فتبيت ولها أنين من عضدها. وأما تنافس المعزى، فإنها ترى من أنواع التمر وأنواع الشجر ونور النبات ما يشبع بطونها ولا يشبع عيونها، فتبيت وقد امتلأت أكراشها، ولها من الكظة جرة، فتبقى الجرة حتى تستنزل الدرة. ثم قال: إيذن، فدخل رجل من الموالي كان من أشد الناس في ذلك الزمان. فقال له: هل وراءك من غيث؟ قال. نعم، ولكني لا احسن أن أقول ما يقول هؤلاء. قال: فما تحسن؟ قال: أصابتني سحابة بحلوان، فلم أزل أطأ في آثارها حتى دخلت عليك. فقال: لئن كنت أقصرهم في المطر خطبة، فإنك لأطولهم بالسيف خطوة.

(2/212)

إبراهيم بن مرزوق عن سعيد بن جويرية قال: لما كان عام الجماعة كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: انظر ابن عمر فاقتد به وخذ عنه، يعني في المناسك. قال: فلما كان عشية عرفة، سار الحجاج بين يدي عبد الله بن عمر وسالم ابنه، فقال له سالم: إن أردت أن تصيب السنة اليوم فأوجز الخطبة وعجل الصلاة. قال: فقطب ونظر إلى عبد الله بن عمر. فقال: صدق. فلما كان عند الزوال مر عبد الله بن عمر بسرادقه، وقال الرواح: فما لبث أن خرج ورأسه يقطر كأنه قد اغتسل. فلما أفاض الناس، رأيت الدم يتحدر من النجيبة التي عليها ابن عمر، فقال: أبا عبد الرحمن، عقرت النجيبة؟ قال: أنا عقرت ليس النجيبة، وكان أصابه زج رمح بين إصبعين من قدمه، فلما صرنا بمكة دخل عليه الحجاج عائدا؟ فقال: يا أبا عبد الرحمن، لو علمت من أصابك لفعلت وفعلت. قال له: أنت أصبتني. قال: غفر الله لك. لم تقول هذا؟ قال: حملت السلاح في يوم لا يحمل فيه السلاح؟.
أبو الحسن المدائني قال: أخبرني من دخل المسجد، والحجاج على المنبر، وقد ملأ صوته المسجد بأبيات سويد بن أبي كاهل اليشكري حيث يقول:
رب من أنضجت غيظا صدره ... قد تمنى لي موتا لم يطع
ساء ما ظنوا وقد أبليتهم ... عند غايات المدى كيف أقع
كيف يرجون سقاطي بعدما ... شمل الرأس مشيب وصلع
كتب الوليد إلى الحجاج: أن صف لي سيرتك. فكتب إليه: إني أيقظت رأي، وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته، وصرفت السيف إلى النطف المسيء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قرأ الحجاج: في سورة هود " قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " فلم يدر كيف يقرأ: عمل بالضم والتنوين، أو عمل بالفتح فبعث حرسيا فقال: إيتني بقارئ. فأتي به، وقد ارتفع الحجاج عن مجلسه، فحبسه ونسيه حتى عرض الحجاج حبسه بعد ستة أشهر، فلما انتهى إليه قال له: فيم حبست؟ قال: في ابن نوح، أصلح الله الأمير، فأمر بإطلاقه.

(2/213)

إبراهيم بن مرزوق قال: حدثني سعيد بن جويرية قال: خرجت خارجة على الحجاج بن يوسف، فأرسل إلى أنس بن مالك أن يخرج معه، فأبى. فكتب إليه يشتمه. فكتب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان يشكوه، وأدرج كتاب الحجاج في جوف كتابه. قال إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر: بعث إلي عبد الملك بن مروان في ساعة لم يكن يبعث إلي في مثلها. فدخلت عليه وهو أشد ما كان حنقا وغيظا، فقال: يا إسماعيل، ما أشد علي أن تقول الرعية: ضعف أمير المؤمنين وضاق ذرعه في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل له حسنة، ولا يتجاوز له عن سيئة! فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي يذكر أن لحجاج قد أ ضر به وأساء جواره، وقد كتبت في ذلك كتابين: كتابا إلى أنس بن مالك، والآخر إلى الحجاج، فاقبضهما ثم أخرج على البريد، فإذا وردت العراق فأبدأ بأنس بن مالك فادفع إليه كتابي، وقل له: أشتد على أمير المؤمنين ما كان من الحجاج إليك، ولن يأتي أمر تكرهه إن شاء الله. ثم إيت الحجاج فادفع إليه كتابه، وقل له: قد اغتررت بأمير المؤمنين غرة لا أظنك يخطئك شرها، ثم أفهم ما يتكلم به وما يكون منه، حتى تفهمني إياه إذا قدمت علي إن شاء الله قال إسماعيل: فقبضت الكتابين وخرجت على البريد حتى قدمت العراق، فبدأت بأنس بن مالك في منزله، فدفعت إليه كتاب أمير المؤمنين وأبلغته رسالته، فدعا له وجزاه خيرا. فلما فرغ من قراءة الكتاب قلت له: أبا حمزة، إن الحجاج عامل ولو وضع لك في جامعة لقدر أن يضرك وينفعك، فأنا أريد أن تصالحه. قال: ذلك إليك لا أخرج عن رأيك. ثم أتيت الحجاج، فلما رآني رحب وقال: والله لقد كنت أحب أن أراك في بلدي هذا. قلت: وأنا والله قد كنت أحب أن أراك وأقدم عليك بغير الذي أرسلت به إليك. قال: وما ذاك؟ قلت: فارقت الخليفة وهو أغضب الناس عليك. قال: ولم؟ قال: فدفعت إليه الكتاب. فجعل يقرؤه وجبينه يعرق. فيمسحه بيمينه، ثم قال: أركب بنا إلى أنس بن مالك. قلت له: لا تفعل، فإني سأتلطف به حتى يكون هو الذي يأتيك؟ وذلك للذي شرت عليه من مصالحته. قال: فألقى إلي، كتاب أمير المؤمنين فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف. أما بعد. فإنك عبد طمت بك الأمور فطغيت وعلوت فيها حتى جزت قدرك، وعدوت طورك، ويم الله يابن المستفرمة بعجم زبيب الطائف، لأغمزنك كبعض غمزات الليوث للثعالب، ولأركضنك ركضة تدخل منها في وجعاء أمك. أذكر مكاسب آبائك بالطائف، إذ كانوا ينقلون الحجارة على أكتافهم، ويحفرون الآبار والمناهل بأيديهم، فقد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدناءة واللؤم والضراعة. وقد بلغ أمير المؤمنين استطالة منك على أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم جرأة منك على أمير المؤمنين وغزة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله، وعمد إلى غير محبته، ونزل عند سخطته. وأظنك أردت أن تروزه بها لتعلم ما عنده من التغيير والتنكير فيها. فإن سوغتها مضيت قدما، وإن بغضتها وليت دبرا، فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين، أصك الرجلين، ممسوح الجاعرتين وايم الله لو أن أمير المؤمنين علم أنك اجترمت منه جرما، وانتهكت له عرضا فيما كتب به إلى أمير المؤمنين، لبعث إليك من يسحبك ظهرا لبطن حتى. ينتهي بك إلى أنس بن مالك، فيحكم فيك ما احب. ولن يخفى على أمير المؤمنين نبؤك، ولكل نبأ مستقر ولسوف تعلمون.
قال إسماعيل: فانطلقت إلى أنس، فلم أزل به حتى انطلق معي إلى الحجاج.

(2/214)

فلما دخلنا عليه قال: يغفر الله لك أبا حمزة، عجلت باللائمة وأغضبت علينا أمير المؤمنين، ثم أخذ بيده فأجلسه معه على السرير. فقال أنس: إنك كنت تزعم أنا الأشرار، والله سمانا الأنصار. وقلت: إنا من أبخل الناس، ونحن الذين قال الله فيهم: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " . وزعمت أنا أهل نفاق والله تعالى يقول فينا: " والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " . فكان المفزع والمشتكى في ذلك إلى الله وإلى أمير المؤمنين، فتولى من ذلك ما ولاه الله، وعرف من حقنا ما جهلت، وحفظ منا ما ضيعت، وسيحكم في ذلك رب هو أرضى للمرضي، وأسخط للمسخط، وأقدر على المغير، في يوم لا يشوب الحق عنده الباطل، ولا النور الظلمة، ولا الهدى الضلالة. والله لو أن اليهود أو النصارى رأت من خدم موسى بن عمران أو عيسى بن مريم يوما واحدا لرأت له ما لم تروا لي في خدمة رسول الله عشر سنين. قال فاعتذر إليه الحجاح وترضاه حتى قبل عذره ورضي عنه، وكتب برضاه عنه وقبوله عذره. ولم يزل الحجاح له معظما هائبا له حتى أنس رضي الله عنه. وكتب الحجاح إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد. أصلح الله أمير المؤمنين وأبقاه، وسهل حظه وحاطه ولا أعدمنا إياه فإن إسماعيل بن أبي المهاجر رسول أمير المؤمنين - أعز الله نصره - قدم علي بكتاب أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءه - يذكر شتيمتي وتوبيخي بآبائي، وتغييري بما كان قبل نزول النعمة بي من عند أمير المؤمنين، أتم الله نعمته عليه وإحسانه إليه. ويذكر أمير المؤمنين، جعلني الله فداه، استطالة مني على أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم، جراءة مني على أمير المؤمنين وغرة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله، وعمد إلى غير محبته، ونزل عند سخطته. وأمير المؤمنين، أصلحه الله، في قرابته من محمد رسول الله - إمام الهدى وخاتم الأنبياء أحق من أقال عثرتي وعفا عن ذنبي، فأمهلني ولم يعجلني عند هفوتي، للذي جبل عليه من كريم طبائعه، وما قلده الله من أمور عباده، فرأي أمير المؤمنين، أصلحه الله في تسكين روعتي، وإفراج كربتي، فقد ملئت رعبا وفرقا من سطوته وفجاءة نقمته وأمير المؤمنين - أقاله الله العثرات، وتجاوز له عن السيآت، وضاعفت له الحسنات، وأعلى له الدرجات. أحق من صفح وعفا، وتغمد وأبقى، ولم يشمت بي عدوا مكبا، ولا حسودا مضبا، ولم يجرعني غصصا. والذي وصف أمير المؤمنين من صنيعه إلي وتنويهه بي بما أسند إلي من عمله وأوطأني من رقاب رعيته، فصادق فيه مجزي بالشكر عليه والتوسل مني إليه بالولاية، والتقرب له بالكفاية. وقد عاين إسماعيل بن أبي المهاجر، رسول أمير المؤمنين وحامل كتابه، نزولي عند مسرة أنس بن مالك، وخضوعي لكتاب أمير المؤمنين، وإقلاقه إياي، ودخوله علي بالمصيبة، على ما سيعلمه أمير المؤمنين وينهيه إليه. فإن رأى أمير المؤمنين - طوقني الله شكره وأعانني على تأدية حقه وبلغني إلى ما فيه موافقة مرضاته ومد لي في أجله - أمر لي بكتاب من رضاه وسلامة صدره، يؤمنني به من سفك دمي ويرد ما شرد من نومي ويطمئن به قلبي، فقد ورد علي أمر جليل خطبه، عظيم أمره، شديد علي كربه. أسأل الله أن لا يسخط أمير المؤمنين علي، وأن يبتليه في حزمه وعزمه، وسياسته وفراسته ومواليه وحشمه، وعماله وصنائعه، بما يحمد به حسن رأيه، وبعد همته؟ إنه ولي أمير المؤمنين، والذاب عن سلطانه، والصانع له في أمره، والسلام.
فحدث إسماعيل أنه لما قرأ أمير المؤمنين الكتاب قال: يا كاتب، أفرخ روع أبي محمد. فكتب إليه بالرضا عنه.

(2/215)

كان سليمان بن عبد الملك يكتب إلى الحجاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كتبا فلا ينظر له فيها. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من سليمان بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف: سلام على أهل الطاعة من عباد الله. . أما بعد. فإنك امرؤ مهتوك عنه حجاب الحق، مولع بما عليك لا لك، منصرف عن منافعك، تارك لحظك، مستخف بحق الله وحق أوليائه. لا ما سلف إليك من خير يعطفك، ولا ما عليك لا لك يصرفك. في مبهمة من أمرك مغمور منكوس معصوصر عن الحق اعصيصارا، ولا تتنكب عن قبيح، ولا ترعوي عن إساءة، ولا ترجو الله وقارا، حتى دعيت فاحشا سبابا. فقس شبرك بفترك، واحذ زمام نعلك بحذو مثله. فايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنك دوسة تلين منها فرائصك، ولأجعلنك شر يدا في الجبال، تلوذ بأطراف الشمال، ولأعلقن الرومية الحمراء بثدييها. علم الله ذلك مني وقضى لي به علي، فقدما غرتك العافية، وانتحيت أعراض الرجال، فإنك قدرت فبذخت، وظفرت فتعديت. فرويدك حتى تنظر كيف يكون مصيرك إن كانت بي وبك مدة أتعلق بها، وإن تكن الأخرى فأرجو أن تؤول إلى مذلة ذليل، وخزية طويلة، ويجعل مصيرك في الآخرة شر مصير. والسلام.

(2/216)

فكتب إليه الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحجاج بن يوسف إلى سليمان بن عبد الملك. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد. فإنك كتبت إلي تذكر أني امرؤ مهتوك عني حجاب الحق، مولع بما علي لا لي، منصرف عن منافعي، تارك لحظي، مستخف بحق الله وحق ولي الحق. وتذكر أنك ذو مصاولة ولعمري إنك لصبي حديث السن تعذر بقلة عقلك وحداثة سنك ويرقب فيك غيرك، فأما كتابك إلي فلعمري لقد ضعف فيك عقلك، واستخف به حلمك، فلله أبوك. أفلا انتصرت بقضاء الله دون قضاءك، ورجاء الله دون رجائك، وأمت غيظك، وأمنت عدوك، وسترت عنه تدبيرك، ولم تنبهه فيلتمس من مكايدتك ما تلتمس من مكايدته، ولكنك لم تستشف الأمور علما، ولم ترزق من أمرك حزما. جمعت أمورا دلاك فيها الشيطان على أسوأ أمرك، فكان الجفاء من خليقتك، والحمق من طبيعتك، وأقبل الشيطان بك وأدبر، وحدثك أنك لن تكون كاملا حتى تتعاطى ما يعيبك. فتحذلقت حنجرتك لقوله، واتسعت جوانبها لكذبه. وأما قولك لو ملكك الله لعلقت زينب بنت يوسف بثدييها، فأرجو أن يكرمها الله بهوانك، وأن لا يوفق ذلك لك إن كان ذلك من رأيك، مع أني أعرف أنك كتبت إلي والشيطان بين كتفيك، فشر ممل على شر كاتب راض بالخسف، بالحمق أن لا يدلك على هدى، ولا يردك إلا إلى ردى. وتحلب فوك للخلافة، فأنت شامخ البصر، طامح النظر، تظن أنك حين تملكها لا تنقطع عنك مدتها. إنها للقطة الله التي أسأل أن يلهمك فيها الشكر، مع أني أرجو أن ترغب فيما رغب فيه أبوك وأخوك فأكون لك مثلي لهما. وإن نفخ الشيطان في منخريك فهو أمر أراد الله نزعه عنك وإخراجه إلى من هو أكمل به منك. ولعمري إنها لنصيحة، فإن تقبلها فمثلها قبل، وإن تردها علي اقتطعتها دونك؟ وأنا الحجاج. قدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك فدخل عليه، وعليه درع وعمامة سوداء، وقوس عربية وكنانة، فبعثت إليه أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان: من هذا الأعرابي المستلئم في السلاح عندك وأنت في غلالة. فبعث إليها: هذا الحجاج بن يوسف. فأعادت الرسول إليه تقول: والله لأن يخلو بك ملك الموت أحب إلي من أن يخلو بك الحجاج. فأخبره الوليد بذلك وهو يمازحه. فقال: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة، ولست بقهرمانة، فلا تطلعها على سرك، ومكايدة عدوك. فلما دخل الوليد عليها أخبرها بمقالة الحجاج. فقالت: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غدا يأتيني مستلئما، ففعل ذلك. وأتى الحجاج فحجبته، فلم يزل قائما، ثم قالت له: إيه يا حجاج، أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك عبد الله بن الزبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله علم أنك من شرار خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة، وقتل ابن ذات النطاقين، وأول مولود ولد في الإسلام. وأما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ أوطاره منهن، فإن كن ينفرجن عن مثلك، فما أحقه بالأخذ عنك، وإن كن ينفرجن عن مثله فغير قابل لقولك. أما والله لقد نقص. نساء أمير المؤمنين الطيب عن غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من القرن قد أظلتك رماحهم، وأثخنك كفاحهم، وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، فما نجاك الله من عد أمير المؤمنين إلا بحبهم إياه. ولله در القائل إذ نظر إليك، وسنان غزالة بين كتفيك:
أسد علي وفي الحروب نعامة ... ربداء تجفل من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في مخالب طائر
صدعت غزالة جمعه بعساكر ... تركت كتائبه كأمس الدابر
ثم قالت: اخرج. فخرج مذموما مدحورا.

(2/217)

كان عروة بن الزبير عاملا على اليمن لعبد الملك بن مروان، فاتصل به أن الحجاج مجمع على مطالبته بالأموال التي بيده وعزله عن عمله، ففر إلى عبد الملك وعاد به تخوفا من الحجاج، واستدفاعا لضرره وشره. فلما بلغ ذلك الحجاح كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد. فإن لواذ المعترضين بك، وحلول الجانحين إلى المكث بساحتك، واستلانتهم دمث أخلاقك، وسعة عفوك، كالعارض المبرق لا يعدم له شائما، رجاء أن يناله مطره وإذا أدنى الناس بالصفح عن الجرائم كان ذلك تمرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل وال. والناس عبيد العصا، هم على الشدة أشد استباقا منهم على اللين. ولنا قبل عروة بن الزبير مال من مال الله، وفي استخراجه منه قطع لطمع غيره، فليبعث به أمير المؤمنين، إن رأى ذلك. والسلام.
فلما قرأ الكتاب بعث إلى عروة، ثم قال له: إن كتاب الحجاج قد ورد فيك، وقد أبى إلا إشخاصك إليه. ثم قال لرسول الحجاج: شأنك به. فالتفت إليه عروة مقبلا عليه، وقال: أما والله ما ذل وخزي من ملكتموه، والله لئن كان الملك بجواز الأمر، ونفاذ النهي، إن الحجاج لسلطان عليك ينفذ أموره دون أمورك، إنك لتريد الأمر يزينك عاجله، ويبقى لك أكرومة آجله، فيجذبك عنه ويلقاه دونك، ليتولى من ذلك الحكم فيه، فيحظى بشرف عفو إن كان، أو بجرم عقوبة إن كانت. وما حاربك من حاربك إلا على أمر هذا بعضه.
قال: فنظر في كتاب الحجاج مرة، ورفع بصره إلى عروة تارة، ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب إليه: أما بعد. فإن أمير المؤمنين، رآك مع ثقته بنصيحتك خابطا في السياسة خبط عشواء الليل. فإن رأيك الذي يسول لك أن الناس عبيد العصا هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوثوب عليك، وإذ أخرجت العامة بعنف السياسة كانوا أوشك وثوبا عليك عند الفرصة، ثم لا يلتفتون إلى ضلال الداعي ولا هداه، إذا رجوا بذلك إدراك الثأر منك. وقد ولي العراق قبلك ساسة، وهم يومئذ أحمى أنوفا وأقرب من عمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلح منك عليهم، وللشدة واللين أهلون، والإفراط في العفو أفضل من الإفراط في العقوبة. والسلام.
زكريا بن عيسى عن ابن شهاب قال: خرجنا مع الحجاج حجاجا، فلما انتهينا إلى البيداء وافينا ليلة الهلال، هلال ذي الحجة، فقال لنا الحجاج: تبصروا الهلال، فأما أنا ففي بصري عاهة. فقال له نوفل بن مساحق: وتدري لم ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: لا أدري. قال: لكثرة نظرك في الدفاتر.
الأصمعي قال: عرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب، ووجد فيهم أعرابي أخذ يبول في أصل مدينة واسط، فكان فيمن أطلق. فأنشأ الأعرابي يقول:
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وبلنا لا نخاف عقابا
أبو داود المصحفي، عن النضر بن شميل، قال: سمعت هشاما يقول: احصوا من قتل الحجاج صبرا. فوجدوهم مائة ألف وعشرين ألفا.
وخطب الحجاج أهل العراق، فقال: يأهل العراق. بلغني أنكم تروون عن نبيكم أنه قال: من ملك عشرة رقاب من المسلمين جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور. وايم الله، إني لأحب إلي أن احشر مع أبي بكر وعمر مغلولا من أن احشر معكم مطلقا.
ومرض الحجاج ففرح أهل العراق، وقالوا: مات الحجاج! مات الحجاج! فلما أفاق صعد المنبر وخطب الناس، فقال يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، مرضت فقلتم: مات الحجاج. أما والله إني لأحب إلي أن أموت من ألا أموت، وهل أرجو الخير كله إلا بعد الموت، وما رأيت الله رضي بالخلود في الدنيا إلا لأبغض خلقه إليه وأهونهم عليه: إبليس. ولقد رأيت العبد الصالح سأل ربه، فقال: " رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " . ففعل، ثم اضمحل ذلك فكأنه لم يكن.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:01 pm

وأراد الحجاج أن يحج. فاستخلف محمدا ولده على أهل العراق، ثم خطب فقال: يأهل العراق، إني أرد ت الحج وقد استخلفت عليكم محمدا ولدي، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى فيهم أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وإني أوصيته ألا يقبل من محسنكم، وألا يتجاوز عن مسيئكم. ألا وإنكم قائلون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي: لا أحسن الله له الصحابة. وأنا أعجل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة. ثم نزل.
فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج، فلما كان بالعشي أتاه بريد من اليمن بوفاه محمد أخيه. ففرح أهل العراق، وقالوا: انقطع ظهر الحجاج وهيض جناحه فخرج فصعد المنبر ثم خطب الناس، فقال: أيها الناس، محمدان في يوم واحد! أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة. وايم الله، ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى، والجديد أن يبلى، والحي مني ومنكم أن يموت، وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها، فتأكل من لحومنا وتشرب من دمائنا، كما قال الله تعالى: " ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون " . ثم تمثل بهذين البيتين:
عزائي نبي الله من كل ميت ... وحسبي ثواب الله من كل هالك
إذا ما لقيت الله عني راضيا ... فإن سرور النفس فيما هنالك
ثم نزل وأذن للناس فدخلوا عليه يعزونه، ودخل فيهم الفرزدق فلما نظر إليه قال: يا فرزدق، أما رثيت محمدا ومحمدا؟ قال: نعم أيها الأمير وأنشد:
لئن جزع الحجاج ما من مصيبة ... تكون لمحزون أمض وأوجعا
من المصطفى والمنتقى من ثقاته ... جناحاه لما فارقاه وودعا
جناحا عتيق فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا
ولو أن يومي جمعتيه تتابعا ... على شامخ صعب الذري لتصدعا
سميا رسول الله سماهما به ... أب لم يكن عند الحوادث أخضعا
قال: أحسنت. وأمر له بصلة. فخرج وهو يقول: والله لو كلفني الحجاج بيتا سادسا لضرب عنقي قبل أن آتيه به، وذلك أنه دخل ولم يهيئ شيئا.
قولهم في الحجاج
الرياشي عن العتبي عن أبيه، قال: ما رأيت مثل الحجاج، كان زيه زي شاطرا. وكلامه كلام خارجي، وصولته صولة جبار. فسألته عن زيه فقال: كان يرجل شعره ويخضب أطرافه. كثير بن هشام عن جعفر بن برقان: قال: سألت ميمون بن مهران فقلت: كيف ترى في الصلاة خلف رجل يذكر أنه خارجي؟ فقال: إنك لا تصلي له إنما تصلي لله، قد كنا نصلي خلف الحجاج وهو حروري أزرقي. قال: فنظرت إليه، فقال: أتدري ما الحروي الأزرقي؟ هو الذي إن خالفت رأيه سماك كافرا واستحل دمك، وكان الحجاج كذلك.
أبو أمية عن أبي مسهر قال: حدثنا هشام بن يحيى عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بمنافقيها وجئنا بالحجاج لفضلناهم.
وحلف رجل بطلاق امرأته إن الحجاج في النار. فأتى امرأته، فمنعته نفسها.
فسأل الحسن بن أبي الحسن البصري. فقال: لا عليك يابن أخي، فإنه إن لم يكن الحجاج في النار، فما يضرك أن تكون مع امرأتك على زنى.
أبو أمية عن إسحاق بن هشام عن عثمان بن عبد الرحمن الجمحي عن علي بن زيد، قال: لما مات الحجاج أتيت الحسن فأخبرته. فخر ساجدا. علي بن عبد العزيز عن إسحاق عن جرير بن منصور، قال: قلت لإبراهيم: ما ترى في لعن الحجاج؟ قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: " ألا لعنة الله على الظالمين " ، فأشهد أن الحجاج كان منهم.

(2/219)

وكيع عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله، قال: دخلت على الحجاج فما سلمت عليه. وكيع عن سفيان قال: قال يزيد الرقاشي عند الحسن: إني لأرجو للحجاج. قال الحسن: إني لأرجو أن يخلف الله رجاءك، ميمون بن مهران قال: كان أنس وابن سيرين لا يبيعان ولا يشتريان بهذه الدراهم الحجاجية. وقال عبد الملك بن مروان للحجاج: ليس من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه، فصف لي عيوبك. قال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال: لا بد أن تقول. قال: أنا لجوج حسود حقود. قال: ما في إبليس شر من هذا، أبو بكر بن أبي شيبة، قال: قيل لعبد الله بن عمر: هذا الحجاج قد ولي الحرمين. قال: إن كان خيرا شكرنا، وإن كان شرا صبرنا. ابن أبي شيبة قال: قيل للحسن: ما تقول في قتال الحجاج؟ قال: إن الحجاج عقوبة من الله فلا تستقبلوا عقوبة الله بالسيف. ابن فضيل قال: حدثنا أبو نعيم قال: أمر الحجاج بماهان أن يصلب على بابه. فرأيته حين رفعت خشبته يسبح ويهلل ويدبر ويعقد بيده، حتى بلغ تسعا وتسعين، وطعنه رجل على تلك الحال، فلقد رأيتها بعد شهر في يده. قال: وكنا نرى عند خشبته بالليل شبيها بالسراج. أبو داود المصحفي عن النضر بن شميل، قال: سمعت هشاما يقول: احصوا من قتل الحجاج صبرا. فوجدوهم مائة وعشرين ألفا.
من زعم أن الحجاج كان كافرا
ميمون بن مهران عن الأجلح، قال: قلت للشعبي: يزعم الناس أن الحجاج مؤمن. قال: مؤمن بالجبت والطاغوت كافر بالله. علي بن عبد العزيز عن إسحاق بن يحيى عن الأعمش، قال: اختلفوا في الحجاج فقالوا: بمن ترضون؟ قالوا: بمجاهد. فأتوه، فقالوا: إنا قد اختلفنا في الحجاج. فقال: أجئتم تسألوني عن الشيخ الكافر؟ محمد بن كثير عن الأوزاعي، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان الحجاج بن يوسف ينقض عرى الإسلام عروة عروة. عطاء بن السائب، قال: كنت جالسا مع أبي البختري والحجاج يخطب، فقال: في خطبته: إن مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم، قال الله فيه: " إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين أتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " . فقال أبو البختري: كفر ورب الكعبة.

(2/220)

ومما كفرت به العلماء الحجاج قوله، ورأى الناس يطوفون بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره: إنما يطوفون بأعواد ورمة. الشيباني عن الهيثم عن ابن عياش قال: كنا عند عبد الملك بن مروان، إذ أتاه كتاب من الحجاج يعظم فيه أمر الخلافة ويزعم أن السموات والأرض ما قامتا إلا بها، وأن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين. وذلك أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته، ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رسلا إليه. فأعجب عبد الملك بذلك، وقال: لوددت أن عندي بعض الخوارج فأخاصمه بهذا الكتاب، فانصرف عبد الله بن يزيد إلى منزله، فجلس مع ضيفانه وحدثهم الحديث، فقال له حوار بن زيد الضبي، وكان هاربا من الحجاج: توثق لي منه، ثم أعلمني به. فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان. فقال: هو آمن على كل ما يخاف. فانصرف عبد الله إلى حوار فاخبره بذلك. فقال: بالغداة إن شاء الله. فلما أصبح اغتسل ولبس ثوبين ثم تحنط وحضر باب عبد الملك فدخل عبد الله فقال: هذا الرجل بالباب: فقال: أدخله يا غلام. فدخل رجل عليه ثياب بيض يوجد عليه ريح الحنوط، فقال: السلام عليكم، ثم جلس. فقال عبد الملك: إيت بكتاب أبي محمد يا غلام. فأتاه به: فقال اقرأ، فقرأ حتى أتى على آخره. فقال حوار: أراه قد جعلك في موضع ملكا وفي موضع نبيا وفي موضع خليفة، فإن كنت ملكا فمن أنزلك؟ وإن كنت نبيا فمن بعثك؟ وإن كنت خليفة فمن استخلفك؟ أعن مشورة من المسلمين أم ابتززت الناس أمورهم بالسيف؟ فقال عبد الملك قد أمناك ولا سبيل إليك، والله لا تجاورني في بلد أبدا. فارحل حيث شئت. قال: فإني قد اخترت مصر، فلم يزل بها حتى مات عبد الملك. علي بن عبد العزيز عن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن الربيع قال: قال الحجاج في كلام له: ويحكم! أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله إليهم؟ قال: ففهمت ما أراد، فقلت له: لله علي ألا أصلي خلفك صلاة أبدا، ولئن وجدت قوما يقاتلونك لقاتلتك معهم. فقاتل في الجماجم حتى قتل.
قيل للحجاج: كيف وجدت منزلك بالعراق؟ قال خير منزل لو أدركت بها أربعة فتقربت إلى الله بدمائهم. قيل: ومن هم؟ قال: مقاتل بن مسمع، ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قدم البصرة بسط الناس له أرديتهم، فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون. وعبيد الله بن ظبيان، قام فخطب خطبة أوجز فيها، فنادى الناس من أعراض المسجد: أكثر الله فينا من أمثالك. قال: لقد سألتم الله شططا. ومعبد بن زرارة، كان ذات يوم جالسا على الطريق فمرت به امرأة، فقالت: يا عبد الله، أين الطريق إلى مكان كذا؟ فغضب، وقال: ألمثلي يقال يا عبد الله! وأبو سماك الحنفي أضل ناقته، فقال: لئن لم يردها الله علي لا صليت أبدا، فلما وجدها، قال: علم الله أن يميني كانت برة. قال ناقل الحديث. ونسي الحجاج نفسه وهو خامس الأربعة، بل هو أفسقهم وأطغاهم وأعظمهم إلحادا وأكفرهم في كتابه إلى عبد الملك بن مروان: " إن خليفة الله في أرضه أكرم عليه من رسوله إليهم وكتابه إليه " ، وبلغه أنه عطس يوما فحمد الله وشمته أصحابه فرد عليهم ودعا لهم، فكتب إليه: " بلغني ما كان من عطاس أمير المؤمنين، ومن تشميت أصحابه له ورده عليهم، فياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما " .

(2/221)

وكان عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف، فمن أقر منهم بالكفر بخروجه علينا فخل سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه. ففعل. فلما عرضهم أتى بشيخ وشاب، فقال للشاب: أمؤمن أنت أم كافر قال: بل كافر. فقال الحجاج: لكن الشيخ لا يرضى بالكفر. فقال له الشيخ: أعن نفسي تخادعني يا حجاج، والله لو كان شيء أعظم من الكفر لرضيت به. فضحك الحجاج وخلى سبيلهما. ثم قدم إليه رجل، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دين إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. فقال: اضربوا عنقه. ثم قدم آخر، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دين أبيك الشيخ يوسف. فقال: أما والله لقد كان صواما قواما. خل عنه يا غلام. فلما خلى عنه انصر ف إليه، فقال له: يا حجاج، سألت صاحبي: على دين من أنت؟ فقال: على دين إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، فأمرت به فقتل؟ وسألتني: على دين من أنت؟ فقلت: على دين أبيك الشيخ يوسف، فقلت: أما والله لقد كان صواما قواما، فأمرت بتخلية سبيلي، والله لو لم يكن لأبيك من السيئات إلا أنه ولد مثلك لكفاه: فأمر به فقتل: ثم أتى بعمران بن عصام العنزي، فقال: عمران؟ قال: نعم. قال: ألم أوفدك على أمير المؤمنين ولا يوفد مثلك؟ قال: بلى. قال: ألم أزوجك مارية بنت مسمع سيدة قومها ولم تكن أهلا لها؟ قال: بلى. قال: فما حملك على الخروج علينا؟ قال: أخرجني باذان. قال: فأين كنت من حجة أهلك؟ قال: أخرجني باذان. فأمر رجلا فكشف العمامة عن رأسه، فإذا هو محلوق. قال: ومحلوق أيضا! لا أقالني الله إن لم أقتلك. فأمر به فضرب عنقه. قال: فسأل عبد الملك بعد ذلك عن عمران بن عصام فقيل له: قتله الحجاج. فقال: ولم؟ قال: بخروجه مع ابن الأشعث. قال: ما كان ينبغي له أن يقتله بعد قوله:
وبعثت من ولد الأغر معتب ... صقرا يلوذ حمامه بالعوسج
فإذا طبخت بناره أنضجتها ... وإذا طبخت بغيرها لم تنضج
وهو الهزبر إذا أراد فريسة ... لم ينجها منه صريخ الهجهج
ثم أتى بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله بن الشخير وسعيد بن جبير. وكان الشعبي ومطرف يريان التورية، وكان سعيد بن جبير لا يرى ذلك فما قدم له الشعبي. قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال الحجاج: صدق والله، ما بروا بخروجهم علينا ولا قووا، خليا عنه. ثم قدم إليه مطرف ابن عبد الله، فقال له: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين، لجدير بالكفر. فقال: صدق، خليا عنه. ثم أتى بسعيد بن جبير، فقال له: أنت سعيد بن جبير؟ قال: نعم. قال: لا، بل شقي بن كسير. قال: أمي كانت أعلم باسمي منك. قال: شقيت وشقيت أمك قال: الشقاء لأهل النار. قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: ما كفرت بالله منذ آمنت به. قال: اضربوا عنقه.
موت الحجاج
مات الحجاج بن يوسف في آخر أيام الوليد بن عبد الملك، فتفجع عليه الوليد وولى مكانه يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج، فكفى وجاوز. فقال الوليد: مات الحجاج ووليت مكانه يزيد بن أبي مسلم، فكنت كمن سقط منه درهم وأصاب دينارا. وكان الوليد يقول: كان عبد الملك يقول: الحجاج جلدة ما بين عيني وأنفي. وأنا أقول: إنه جلدة وجهي كله.
قال: ولما بلغ عمر بن عبد العزيز موت الحجاج خرج ساجدا. وكان يدعو الله أن يكون موته على فراشه ليكون أشد لعذابه في الآخرة.
أبو بكر بن عياش قال: سمع صياح الحجاج في قبره، فأتوا إلى يزيد بن أبي مسلم فأخبروه، فركب في أهل الشام فوقف على قبره فتسمع، فقال: يرحمك الله يا أبا محمد، فما تدع القراءة حتى ميتا.

(2/222)

الرياشي عن الأصمعي، قال: أقبل رجل إلى يزيد بن أبي مسلم، فقال له: إ ني كنت أرى الحجاج في المنام فكنت أقول له: أخبرني ما فعل الله بك؟ قال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة، وأنا منتظر ما ينتظره الموحدون. ثم قال: رأيته بعد الحول فقلت له: ما صنع الله بك؟ فقال: يا عاض بظر أمه، سألتني عن هذا عام أول فأخبرتك؟ فقال يزيد بن أبي مسلم: أشهد أنك رأيت أبا محمد حقا. وقال الفرزدق يرثي الحجاج ليرضي بذلك الوليد بن عبد الملك:
ليبك على الحجاج من كان باكيا ... على الدين من مستوحش الليل خائف
وأرملة لما أتاها نعيه ... فجادت له بالواكفات الذوارف
وقالت لعبديها أنيخا فعجل ... فقد مات راعي ذودنا بالتنائف
فليت الأكف الدافنات ابن يوسف ... يقطعن إذ يحثين فوق السفائف
فما ذرفت عينان بعد محمد ... على مثله إلا نفوس الخلائف
قال ابن عياش: فلقيت الفرزدق في الكوفة، فقلت له: أخبرني عن قولك: " فليت الأكف الدافنات ابن يوسف يقطعن " ما معناك في ذلك؟ فقال: وددت والله أن أرجلهم تقطع مع أيديهم.
قال ابن عياش: فلما هلك الوليد واستخلف سليمان استعمل يزيد بن المهلب على العراق وأمره بقتل آل أبي عقيل، فقتلهم فأنشأ الفرزدق يقول:
لئن نفر الحجاج آل معتب ... لقوا دولة كان العدو يدالها
لقد أصبح الأحياء منهم أذلة ... وموتاهم في النار كلحا سبالها
وكانوا يرون الدائرات بغيرهم ... فصار عليهم بالغداة انتقالها
وكنا إذا قلنا اتق الله شمرت ... به عزة لا يستطاع جذالها
ألكني من كان بالصين أورمت ... به الهند ألواح عليها جلالها
هلم إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقد مات عن أرض العراق خبالها
ألا تشكرون الله إذ فك عنكم ... أداهم بالمهدي صما قفالها
وشيمت به عنكم سيوف عليكم ... صباح مساء بالعذاب استلالها
وإذ أنتم من لم يقل أنا كافر ... تردى نهارا عثرة لا يقالها
قال ابن عياش: فقلت للفرزدق. ما أدري بأي قوليك نأخذ، أبمدحك في الحجاج حياته، أم هجوك له بعد موته؟ قال: إنما نكون مع أحدهم ما كان الله معه، فإذا تخلى عنه تخلينا عنه.
ولما مات الحجاج دخل الناس على الوليد يعزونه ويثنون على الحجاج خيرا، وعنده عمر بن عبد العزيز، فالتفت إليه ليقول فيه ما يقول الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، وهل كان الحجاج إلا رجلا منا؟ فرضيها منه.
أخبار البرامكة
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: حدثني سهل بن هارون، قال: والله إن كانوا سجعوا الطب، وقرضوا القريض لعيال على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى. ولو كان كلام يتصور درا، أو يحيله المنطق السري جوهرا، لكان كلامهما والمنتقى من لفظهما. ولقد كان مع هذا عند كلام الرشيد في بديهته وتوقيعاته في كتبه فدمين عييين، وجاهليين أميين، ولقد عمرت معهم، وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهم، وهم يرون أن البلاغة لم تستكمل إلا فيهم، ولم تكن مقصورة إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم، وأنهم محض الأنام، ولباب الكرام، وملح الأيام، عتق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة نفس، وأكتمال خصال، حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خصالهم، كثير أيام سواهم، من لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصور، وانبعاث أهل القبور، حاشى أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المرسلين، لما باهت إلا بهم، ولا عولت إلا عليهم. ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورونق سياقهم، ومعسول مذاقهم، وبهاء إشراقهم، ونقاوة أعراضهم، وتهذيب أغراضهم، واكتمال الخير فيهم، في جنب محاسن الرشيد كالنقطة في البحر، والخردلة في المهمة القفر.

(2/223)

قال سهل بن هارون: إني لأحصل أرزاق العامة بين يدي يحيى بن خالد في في بناء خلابه داخل سرادقه، وهو مع الرشيد بالرقة، وهو يعقدها جملا بكفه، إذ غشيته سآمة، وأخذته سنة فغلبته عيناه، فقال: ويحك يا سهل! طرق النوم شفري، وحلت السنة جفني، فما ذاك؟ قلت ضيف كريم، إن قربته روحك، وإن منعته عنتك. وإن طردته طلبك، وإن أقصيته أدركك، وإن غالبته غلبك. قال: فنام أقل من فواق بكيه أو نزع من ركية، ثم انتبه مذعورا فقال: يا سهل، لأمر ما كان والله قد ذهب ملكنا، وولى عزنا، وانقضت أيام دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: كأن منشدا أنشدني:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فأجبته من غير روية ولا إجالة فكرة:
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
قال: فوالله ما زلت أعرفها منه وأراها ظاهرة فيه إلى الثالث من يومه ذلك فإني لفي مقعدي بين يديه أكتب توقيعات في أسافل كتبه لطلاب الحاجات إليه، قد كلفني إكمال معانيها وإقامة الوزن فيها، إذ وجدت رجلا سعى إليه حتى ارتمى مكبا عليه، فرفع رأسه، فقال: مهلا، ويحك! ما اكتتم خير ولا استتر شر. قال: قتل أمير المؤمنين جعفرا الساعة. قال: أوقد فعل !قال فما زاد على أن رمى بالقلم من يده، وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة.
قال سهل بن هارون: فلو انكفأت السماء على الأرض ما زاد. فتبرأ منهم الحميم، واستبعد عن نسبهم القريب، وجحد ولاءهم المولى. ولقد اعتبرت لفقدهم الدنيا، فلا لسان يخطر بذكرهم، ولا طرف ناظر يشير إليهم.
وضم يحيى بن خالد وقته ذلك الفضل ومحمدا وخالدا، بنيه، وعبد الملك ويحيى وخالدا، أبناء جعفر بن يحيى، والعاصي ومزيدا وخالدا ومعمرا، بني الفضل ابن يحيى؟ ويحيى وجعفرا وزيدا، بني محمد بن يحيى، وإبراهيم ومالكا وجعفرا وعمر ومعمرا، بني خالد بن يحيى، ومن لف لفهم أوهجس بصدره أمل فيهم.
وبعث إلي الرشيد. فوالله لقد أعجلت عن النظر، فلبست ثياب أحزاني وأعظم رغبتي إلى الله الإراحة بالسيف و ألا يعبث بي عبث جعفر. فلما دخلت عليه، ومثلت بين يديه، عرف الذعر في تجرض ريقي وشخوصي إلى السيف المشهور ببصري. فقال: إيه يا سهل، من غمط نعمتي، وتعدى وصيتي، وأنب موافقتي، أعجلته عقوبتي. قال: فوالله ما وجدت جوابها حتى قال لي: ليفرخ روعك، ويسكن جأشك، وتطب نفسك، وتطمئن حواسك، فإن الحاجة إليك قربت منك، وأبقت عليك، بما يبسط منقبضك، ويطلق معقولك، فما اقتصر على الإشارة دون اللسان، فإنه الحاكم الفاصل، والحسام الباتر. وأشار إلى مصرع جعفر، فقال: " من لم يؤدبه الجميل ففي عقوبته صلاحه "

(2/224)

قال سهل: فوالله ما أعلمني أني عييت بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ، فما عولت في الشكر إلا على تقبيل باطن يديه ورجليه. ثم قال: اذهب، فقد أحللتك محل يحيى، ووهبتك، ما ضمنته أفنيته وما حواه سرادقه، فأقبض الدواوين واحص حباءه وحباء جعفر لنأمرك بقبضه إن شاء الله. قال سهل: فكنت كمن نشر عن كفن واخرج من حبس. وأحصيت حباءهما فوجدته عشرين ألف دينار، ثم قفل راجعا إلى بغداد، وفرق البرد إلى الأمصار. بقبض أموالهم وغلاتهم. وأمر بجيفة جعفر وجئته، ففصلت على ثلاثة جذوع، رأسه في جذع على رأس الجسر مستقبل الصراة، وبعض جسده على جذع بالجزيرة، وسائره في جذع على آخر الجسر الثاني ما يلي باب بغداد. فلما دنونا من بغداد، طلع الجسر الذي فيه وجه جعفر، واستقبلنا وجهه واستقبلته الشمس، فوالله لخلتها تطلع من بين حاجبيه. فأنا عن يمينه وعبد الملك بن الفضل الحاجب عن يساره، فلما نظر إليه الرشيد، وكأنما قنى شعره، وطل بنورة بشره، اربد وجهه وأغضى بصره. فقال عبد الملك بن الفضل: لقد عظم ذنب لم يسعه عفو أمير المؤمنين. وقال الرشيد: من برد غير مائه يصدر بمثل دائه، ومن أراد فهم ذنبه يوشك أن يقوم على مثل راحلته. علي بالنضاحات، فنضح عليه حتى احترق عن آخره وهو يقول: لئن ذهب أثرك، لقد بقي خبرك، ولئن حط قدرك، لقد علا ذكرك.
قال سهل بن هارون: وأمر بضم أموالهم، فوجد من العشرين ألف ألف التي كانت مبلغ جبايتهم اثنا عشر ألف ألف مكتوب على بدرها صكوك مختومة بتفسيرها وفيما حبوا بها، فما كان منها حباء على غريبة أو استطراف ملحة تصدق بها يحيى أثبت ذلك في ديوانها على تواريخ أيامها. فكان ديوان إنفاق واكتساب فائدة. وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وستمائة ألف وستة وسبعين ألفا، إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورياشهم، والدقيق والجليل من مواعينهم، فإنه لا يصف أقله، ولا يعرف أيسره، إلا من أحصى الأعمال وعرف منتهى الآجال. وأبرزت حرمه إلى دار الباتوقة بنت المهدي، فوالله ما علمته عاش ولا عشن إلا من صدقات من لم يزل متصدقا عليه، وما رأوا مثل موجدة الرشيد فيما يعلم من ملك قبله على أحد ملكه.

(2/225)

وكانت أم جعفر بن يحيى، وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قحطبة، أرضعت الرشيد مع جعفر، لأنه كان ربي في حجرها، وغذي برسلها، لأن أمه ماتت عن مهده. فكان الرشيد يشاورها مظهرا لإكرامها والتبرك برأيها، وكان آلى وهي في كفالتها ألا يحجبها ولا استشفعته لأحد إلا شفعها، وآلت عليه أم جعفر ألا دخلت عليه إلا مأذونا لها، ولا شفعت لأحد لغرض دنيا. قال سهل: فكم أسير فكت، ومبهم عنده فتحت، ومستغلق منه فرجت. واحتجب الرشيد بعد قدومه. فطلبت الإذن عليه من دار الباتوقة ومتت بوسائلها إليه، فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها. فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها محتفية في مشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد. فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب، فقال: ظئر أمير المؤمنين بالباب في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى شفقة أم الواحد. فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك أو ساعية؟ قال: يا أمير المؤمنين حافية. قال: أدخلها يا عبد الملك، فرب كبد غذتها، وكربة فرجتها، وعورة سترتها. قال سهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلبتها وإسعافها بحاجتها. فدخلت، فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية قام محتفيا حتى تلقاها بين عمد المجلس، وأكب على تقبيل رأسها ومواضع ثدييها، . ثم أجلسها معه. فقالت: يا أمير المؤمنين، أيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوفا لك الأعوان، ويحردك عنا البهتان؟ وقد ربيتك في حجري، وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل: فآيسنى من رأفته بتركة كنيتها أخر ما كان أطمعني من بره بها أولا. قالت: ظئرك يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرضه للحتف في شأن موسى أخيه. قال لها: يا أم الرشيد، أمر سبق، وقضاء حم، وغضب من الله نفذ. قالت: يا أمير المؤمنين، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. قال: صدقت، فهذا مما لم يمحه الله. فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ قال سهل ابن هارون: فأطرق الرشيد مليا، ثم قال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
فقالت بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قال الأول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول عز وجل: " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " فأطرق هارون مليا، ثم قال: يا أم الرشيد، أقول:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
فقالت: يا أمير المؤمنين وأقول:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك، فانظر أي كف تبدل؟

(2/226)

قال هارون: رضيت. قالت: فهبه لي يا أمير المؤمنين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. من ترك شيئا لله لم يوجده الله فقده. فأكب هارون مليا، ثم رفع رأسه يقول: لله الأمر من قبل ومن بعد. قالت: يا أمير المؤمنين، " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم " . وأذكر يا أمير المؤمنين، أليتك: ما استشفعت إلا شفعتني. قال: واذكري يا أم الرشيد أليتك أن لا شفعت لمقترف ذنبا. قال سهل بن هارون: فلما رأته صرح بمنعها ولاذ عن مطلبها أخرجت حقا من زبرجدة خضراء فوضعته بين يديه فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قفلا من ذهب فأخرجت منه قميصه وذؤابته وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك، فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك وأستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك. فأخذ هارون ذلك فلثمه، ثم أستعبر وبكى بكاء شديدا وبكى أهل المجلس. ومر البشير إلى يحيى وهو لا يظن إلا أ ن البكاء رحمة له ورجوع عنه، فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحق. وقال لها: لحسنا ما حفظت الوديعة. فقالت: وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين. فسكت وقفل الحق ودفعه إليها وقال: " إ ن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " . قالت: والله يقول: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " . ويقول: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " . قال: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قالت: ما أقسمت لي به أن لا تحجبني ولا تجبهني. قال: أ حب يا أم الرشيد أن تشتريه محكمة فيه. قالت: أنصفت يا أمير المؤمنين. وقد فعلت غير مستقيلة لك ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمن لم يسخطك. قال: يا أم الرشيد، أما لي عليك من الحق مثل الذي لهم؟ قالت: بلى يا أمير المؤمنين، أعز علي وهم أحب إلي. قال: فتحكمي في ثمنه بغيرهم؟ قالت: بلى، قد وهبتكه، وجعلتك في حل منه، وقامت عنه. وبقي مبهوتا ما يحير لفظة. قال سهل: وخرجت فلم تعد، ولا والله ما رأيت ها عبرة ولا سمعت لها أنه.
قال سهل: وكان الأمين محمد بن زبيدة رضيع يحيى بن جعفر، فمت إليه يحيى بن خالد بذلك، فوعد استيهاب أمه إياهم وتكلمها لهم، ثم شغله اللهو عنهم. فكتب إليه يحيى، ويقال إنها لسليمان الأعمى أخي مسلم بن الوليد، وكان منقطعا إلى البرامكة، يقول:
يا ملاذي وعصمتي وعمادي ... ومجيري من الخطوب الشداد
بك قام الرجاء في كل قلب ... زاه فيه البلاء كل مزاد
إنما أنت نعمة أعقبتها ... نعم نفعها لكل العباد
وعد مولاك أتممنه فأبهى ال ... در ما زين حسنه بانعقاد
ما أظلت سحائب اليأس إلا ... كان في كشفها عليك اعتمادي
إن تراخت يداك عني فواقا ... أكلتني الأيام أكل الجراد
وبعث بها إلى الأمين محمد، فبعث بها الأمين إلى أمه زبيدة، فأعطتها هارون وهو في موضع لذته، وعند إقبال أريحيته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وعبأت جواريها ومغنياتها وأمرتهن بالقيام معها إذا قامت. فلما فرغ الرشيد من قراءتها لم ينقض حبوته حتى وقع في أسفلها: عظم ذنبك أمات خواطر العفو عنك، ورمى بها إلى زبيدة. فلما رأت توقيعه علمت أنه لا يرجع عنه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:03 pm

وقال بعض الهاشميين: أخبرني إسحاق بن علي بن عبد الله بن العباس، قال: كنت أساير الرشيد يوما والأمين عن يمينه والمأمون عن شماله، فأستداني وقدمهما أمامه، فسايرته، فجعل يحدثني، ثم بدأ يشاورني في أمر البرامكة، وأخبرني بما أضمر عليه لهم، وأنهم استوحشوه من أنفسهم، وأنني عنده بالوضع الذي لا يكتمني شيئا من أمرهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تنقلني من السعة إلى الضيق. فقال الرشيد: إلا أن تقول، فإني لا أتهمك في نصيحة ولا أخافك على رأي ولا مشورة. فقلت: يا أمير المؤمنين، إني أرى نفاستك عليهم بما صاروا إليه من النعمة والسعة، ولك أن تأمر وتنهى، وهم عبيد لك بإنباتك إياهم، فهل يصنعون ذلك كله إلا بك؟ قال - وكنت أحطب في حبال البرامكة - فقال لي: فضياعهم ليس لولدي مثلها وتطيب نفسي بذلك لهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الملك لا يحسد ولا يحقد، ولا ينعم نعمة ثم يفسد نعمته. قال: فرأيته قد كره قولي وزوى وجهه عني قال إسحاق فعلمت أنه سيوقع بهم ثم انصرفت فكتمت الخبر، فلم يسمع به أحد. وتجنبت لقاء يحيى والبرامكة خوفا أن يظن أني أفضي إليهم بسره، حتى قتلهم، وكان أشد ما كان إكراما لهم. وكان قتلهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم.
وكان يحيى بن خالد بن برمك قد اعتل قبل النازلة التي نزلت بهم، فبعث إلى منكة الهندي. فقال له؟ ماذا ترى في هذه العلة؟ فقال منكة: داء كبير، دواؤه يسير، والصبر أيسر. وكان متفننا. فقال له يحيى: ربما ثقل على السمع خطرة الحق به. وإذا كان ذلك كذلك كان الهجر له ألزم من المفاوضة فيه. قال منكة: لكنني أرى في الطالع أثرا والأمر فيه قريب، وأنت قسيم في المعرفة، وربما كانت صورة النجم عقيمة لا نتاج لها، ولكن الأخذ بالحزم أوفى لحظ الطالبين. قال يحيى: الأمور منصرفة إلى العواقب، وما حتم فلا بد أن يقع، والمنعة بمسالمة الأيام نهزة، فاقصد لما دعوتك له من هذا الأمر الموجود بالمزاج. قال منكة: هي الصفواء مازجتها مائية البلغم، فحدث لذلك ما يحدث من اللهب عند مماسة رطوبة الماء من الأشتغال. فخذ ماء الرمان فدف فيه إهليلجة سوداء تنهضك مجلسا أو مجلسين، ويسكن ذلك التوقد إن شاء الله.
فلما كان من أمرهم ما كان تلطف منكة حتى دخل الحبس فوجد يحيى قاعدا على لبد، والفضل بين يديه يخدمه، فاستعبر منكة باكيا، وقال: كنت ناديت لو أسرعت الإجابة. قال له يحيى: تراك كنت قد علمت من ذلك شيئا جهلته؟ قال: كلا، ولكن كان الرجاء للسلامة بالبراءة من الذنب أغلب من الشفق، وكان مزايلة القدر الخطير عنا أقل ما تنقض به التهمة، فقد كانت نقمة أرجو أن يكون أولها صبرا وأخرها أجرا. قال: فما تقول في هذا الداء؟ قال منكة: ما أرى له دواء أنفع من الصبر، ولو كان يفدى بملك أو بمفارقة عضو كان ذلك مما يجب لك. قال يحيى: قد شكرت لك ما ذكرت فإن أمكنك تعاهدنا فافعل. قال منكة: لو أمكنني تخليف الروح عندك ما بخلت به، إذ كانت الأيام تحسن بسلامتك.

(2/228)

وكتب يحيى بن خالد في الحبس إلى هارون الرشيد: لأمير المؤمنين، وخليفة المهديين، وإمام المسلمين، وخليفة رب العالمين. من عبد أسلمته ذنوبه، وأوبقته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، وما به الزمان، ونزل به الحدثان، فعالج البؤس بعد الدعة، وأفترش السخط بعد الرضا، وأكتحل بالسهاد بعد الهجود؟ ساعته شهر، وليلته دهر؟ قد عاين الموت، وشارف الفوت، جزعا لموجدتك يا أمير المؤمنين، وأسفا على ما فات من قربك لا على شيء من المواهب، لأن الأهل والمال إنما كانا لك وبك، وكان في يدي عارية، والعارية مردودة. وأما ما أصبت به من ولدي فبذنبه، ولا أخشى عليك الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجازت به فوق خده. تفكر في أمري جعلني الله فداك وليمل هواك بالعفو عن ذنب إن كان فمن مثلي الزلل، ومن مثلك الإقالة، وإنما اعتذر إليك بإقراري بما يجب به الإقرار حتى ترضى، فإذا رضيت رجوت إن شاء الله أن يتبين لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعده ذنب أن تفغره. مد الله في عمرك، وجعل يومي قبل يومك. وكتب إليه بهذه الأبيات:
قل للخليفة ذي الصني ... عة والعطايا الفاشية
وابن الخلائف من قري ... ش والملوك العالية
إن البرامكة الذي ... ن رموا لديك بداهية
صفر الوجوه عليهم ... خلع المذلة بادية
فكأنهم مما بهم ... أعجاز نخل خاوية
عمتهم لك سخطة ... لم تبق منهم باقية
بعد الإمارة والوزا ... رة والأمور الساميه
ومنازل كانت لهم ... فوق المنازل عاليه
أضحوا وجل مناهم ... منك الرضا والعافيه
يا من يود لي الردى ... يكفيك مني ما بيه
يكفيك ما أبصرت من ... ذلي وذل مكانيه
وبكاء فاطمة الكئي ... بة والمدامع جاريه
ومقالها بتوجع ... يا سوأتي وشقائيه
من لي وقد غضب الزما ... ن على جميع رجاليه
يا لهف نفسي لهفها ... ما للزمان وماليه؟
يا عطفة الملك الرضا ... عودي علينا ثانيه
فلم يكن له جواب من الرشيد.
واعتل يحيى في الحبس، فلما أشفى دعا برقعة فكتب في عنوانها: ينفذ أمير المؤمنين عهد مولاه يحيى بن خالد. وفيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. قد تقدم الخضم إلى موقف الفصل، وأنت على الأثر، والله حكم عدل، وستقدم فتعلم. فلما ثقل قال للسجان: هذا عهدي توصله إلى أمير المؤمنين، فإنه ولي نعمتي، وأحق من نفذ وصيتي. فلما مات يحيى، أوصل السجان عهده إلى الرشيد. قال سهل بن هارون: وأنا عند الرشيد إذ وصلت الرقعة إليه. فلما قرأها جعل يكتب في أسفلها ولا أدري لمن الرقعة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أكفيك؟ قال: كلا، إني أخاف عادة الراحة أن تقوي سلطان العجز، فيحكم بالغفلة، ويقضي بالبلادة، ووقع فيها: الحكم الذي رضيت به في الآخرة لك هو أعدى الخصوم عليك، وهو من لا ينقض حكمه، ولا يرد قضاؤه. قال: ثم رمى بالصك إلي، فلما رأيته علمت أنه ليحي، وأن الرشيد أراد أن يؤثر الجواب عنه.
وقال دعبل يرثي بني برمك:
ولما رأيت السيف جلل جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت ... أنما قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا
وقال سليمان الأعمى يرثي بني برمك:
هدا الخالون عن شجوي وناموا ... وعيني لا يلائمها المنام
وما سهري بأني مستهام ... إذا سهر المحب المستهام
ولكن الحوادث أرقتني ... فبي أرق إذا هجع النيام
أصبت بسادة كانوا عيونا ... بهم نسقى إذا انقطع الغمام
فقلت وفي الفؤاد ضرام نار ... وللعبرات من عيني انسجام

(2/229)

على المعروف والدنيا جميعا ... ودولة آل برمك السلام
جزعت عليك يا فضل بن يحيى ... ومن يجزع عليك فلا يلام
هوت بك أنجم المعروف فينا ... وعز بفقدك القوم اللئام
وما ظلم الإله أخاك لكن ... قضاء كان سببه اجترام
عقاب خليفة الرحمن فخر ... لمن بالسيف صبحه الحمام
عجبت لما دها فضل بن يحيى ... وما عجبي وقد غضب الإمام
جرى في الليل طائرهم بنحس ... وصبح جعفرا منه اصطلام
ولم أر قبل قتلك يابن يحيى ... حساما قده السيف الحسام
برين الحادثات له سهاما ... فغالته الحوادث والسهام
ليهن الحاسدين بأن يحيى ... أسير لا يضيم ويستضام
وأن الفضل بعد رداء عز ... غدا ورداؤه ذال ولام
فقل للشامتين بهم جميعا ... لكم أمثالها عام فعام
أمين الله في الفضل بن يحيى ... رضيعك والرضيع له ذمام
أبا العباس إن لكل هم ... وإن طال انقراض وانصرام
أرى سبب الرضا وله قبول ... على الله الزيادة والتمام
وقد آليت فيه بصوم شهر ... فإن تم الرضا وجب الصيام
وقد آليت معتزما بنذر ... ولى فيما نذرت به اعتزام
بأن لا ذقت بعدكم مداما ... وموتي أن يفارقني المدام
أألهو بعدكم واقر عينا ... علي اللهو بعدكم حرام
وكيف يطيب لي عيش وفضل ... أسير دونه البلد الشآم
وجعفر ثاويا بالجسر أبلت ... محاسنه السمائم والقتام
أمر به فيغلبني بكائي ... ولكن البكاء له اكتتام
أقول وقمت منتصبا لديه ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لثمنا ركن جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
وقال بعض الشعراء يغري هارون ببني برمك.
قل للخليفة في اكتفائه ... دون الأنام بحسن رائه
إما بدأت بجعفر ... فاسق البرامك من إنائه
ما برمكي بعده ... تقف الظنون على وفائه
أنى وقصر البرمك ... ي إلى انتكاث من شقائه
فلقد رفعت لجعفر ... ذكرين قلا في جزائه
فارفع ليحيى مثله ... ما العود إلا من لحائه
وأخضب بصدر مهند ... عثنون يحيى من دمائه

(2/230)

إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر بن يحي يوما إنني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة وأردت أن أخلو بنفسي وأفر من أشغال الناس وأتوحد، فهل أنت مساعدي؟ قلت: جعلني الله فداك، أنا أسعد بمساعدتك وأنس بمخالاتك: فقال: بكر إلى بكور الغراب. قال: فأتيت عند الفجر الثاني: فوجد ت الشمعة بين يديه وهو قاعد ينتظرني للميعاد. قال: فصلينا ثم أفضنا في الحديث، حتى أتى وقت الحجامة، فأتى الحجام، فحجمنا في ساعة واحدة. ثم قدم إلينا الطعام، فطعمنا. فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب المنادمة وضمخنا بالخلوق، وظللنا بأسر يوم مر بنا. ثم إنه تذكر حاجة فدعا الحاجب. فقال له: إذا جاء عبد الملك القهرمان فأذن له، فنسي الحاجب، وجاء عبد الملك ابن صالح الهاشمي على جلالته وسنه وقدره وأدبه، فأذن له الحاجب. فما راعنا إلا طلعة عبد الملك بن صالح، فتغير لذلك وجه جعفر بن يحيى، وتنغص عليه ما كان فيه. فلما نظر إليه عبد الملك على تلك الحالة دعا غلامه، فدفع إليه سيفه وسواده وعمامته، ثم جاء فوقف على باب المجلس، فقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم. قال: فجاء الغلام فطرح عليه ثياب المنادمة، ودعا بطعام فطعم، ثم دعا بالشراب فشرب ثلاثا، ثم قال: ليخفف عني فإنه شيء ما شربته قط. فتهلل وجه جعفر فرحا. وقد كان الرشيد حاور عبد الملك على المنادمة فأبى ذلك وتنزه عنه. ثم قال له جعفر بن يحيى: جعلني الله فداك، قد تفضلت وتطولت وأسعدت، فهل من حاجة تبلغها مقدرتي، وتحيط بها نعمتي فأقضيها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إن قلب أمير المؤمنين عاتب علي، فتسأله الرضا عني. قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين. ثم قال: وعلي أربعة آلاف دينار. قال: هي حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين أحب إلي من مالي. قال: وابني إبراهيم أحب أن أ شد ظهره بمصاهرة أمير المؤمنين. قال: قد زوجه أمير المؤمنين ابنته عائشة الغالية. قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه بولاية. قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر. قال: فانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إقدام جعفر على الرشيد من غير استئذان. فلما كان الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودخل جعفر، فلم يلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي ومحمد ابن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد له النكاح وحملت البدر إلى عبد الملك وكتب سجل إبراهيم على مصر. وخرج جعفر فأشار إلينا، فلما صار إلى منزله ونحن خلفه، نزل ونزلنا بنزوله. فالتفت إلينا، فقال: تعلقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم أن تعرفوا آخره، وإني لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه سألني عن أمسي، فابتدأت أحدثه بالقصة من أولها إلى آخرها، فجعل يقول: أحسن والله! أحسن والله ثم قال: فما أجبته، فجعلت أخبره وهو يقول في كل شيء: أحسنت. وخرج إبراهيم واليا على مصر.
من أخبار الطالبيين
حدث عبد العزيز بن عبد الله البصري عن عثمان بن سعيد بن سعد المدني قال: لما ولى الخلافة أبو العباس السفاح قدم عليه بنو الحسن بن علي ابن أبي طالب، فأعطاهم الأموال وقطع لهم القطائع، ثم قال لعبد الله بن الحسن: احتكم علي، قال: يا أمير المؤمنين، بألف ألف درهم، فإني لم أرها قط. فاستقرضها أبو العباس من ابن مقرن الصيرفي وأمر له بها - قال عبد العزيز: لم يكن يومئذ بيت مال - ثم إ ن أبا العباس أتى بجوهر مروان، فجعل يقلبه وعبد الله بن الحسن عنده، فبكى عبد الله. فقال له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: هذا عند بنات مروان وما رأت بنات عمك مثله قط. قال: فحباه به. ثم أمر بن مقرن الصيرفي أن يصل إليه ويبتاعه منه. فاشتراه منه بثمانين ألف دينار. ثم حضر خروج بني حسن فأرسل معهم رجلا من ثقاته، وقال له: قم بإنزالهم ولا تأن في إلطافهم. وكلما خلوت معهم فأظهر الميل إليهم والتحامل علينا وعلى ناحيتنا، وأنهم أحق بالأمر منا، وأحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومقدمهم.

(2/231)

ومما كان خشن قلب أبي العباس حتى أساء بهم الظن، أنه لما بنى مدينة الأنبار دخلها مع أبي جعفر أخيه وعبد الله بن الحسن، وهو يسير بينهما ويريهما بنيانه وما أقام فيها من المصانع والقصور، فظهرت من عبد الله بن الحسن فلتة، فجعل يتمثل بهذه الأبيات:
ألم ترجو شنا قد صار يبني ... قصورا نفعها لبني نفيله
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليله
قال: فتغير وجه أبي العباس. فقال له أبو جعفر: أتراهما ابنيك أبا محمد والأمر إليهما صائر لا محالة؟ قال: لا والله ما ذهبت هذا المذهب ولا أردته، ولا كانت إلا كلمة جرت على لساني، لم ألق لها بالا. فأوحشت تلك الكلمة أبا العباس. فلما قدم المدينة عبد الله بن حسن اجتمع إليه الفاطميون، فجعل يفرق فيهم الأموال التي بعث بها أبو العباس، فعظم بها سرورهم. فقال لهم عبد الله بن الحسن: أفرحتم؟ قالوا: وما لنا لا نفرح بما كان محجوبا عنا بأيدي بني مروان حتى أتى الله بقرابتنا وبني عمنا، فأصاروه إلينا. قال لهم: أفرضيتم أن تنالوا هذا من تحت أيدي قوم آخرين؟ فخرج الرجل الذي كان وكله أبو العباس بأخبارهم، فأخبره بما سمع من قولهم وقوله؟ فأخبر أبو العباس أبا جعفر بذلك، فزادت الأمور شرا.
ثم مات أبو العباس وقام أبو جعفر بالأمر بعده، فبعث بعطاء أهل المدينة، وكتب إلى عامله: أن أعط الناس في أيديهم ولا تبعث إلى أحد بعطائه، وتفقد بني هاشم ومن تخلف منهم ممن حضر، وتحفظ بمحمد وإبراهيم، ابني عبد الله بن الحسن. ففعل وكتب: إنه لم يتخلف أحد عن العطاء إلا محمد وإبراهيم، ابنا عبد الله بن الحسن، فإنهما لم يحضرا. فكتب أبو جعفر إلى عبد الله بن الحسن، وذلك مبتدأ سنة تسع وثلاثين ومائة، يسأله عنهما ويأمره بإظهارهما ويخبره أنه غير عاذره. فكتب إليه عبد الله: إنه لا يدري أين هما ولا أين توجها، وإن غيبتهما غير معروفة. فلم يلبث أبو جعفر، وكان قد أذكى العيون ووضع الأرصاد، حتى جاءه كتاب من بعض ثقاته يخبره أن رسولا لعبد الله ومحمد وإبراهيم خرج بكتب إلى رجال بخراسان يستدعيهم إليهم. فأمر أبو جعفر برسولهم، فأتي به وبكتبه، فردها إلى عبد الله بن الحسن بطوابعها، لم يفتح منها كتابا، ورد إليه رسوله، وكتب إليه: إني أتيت برسولك والكتب التي معه، فرددتها إليك بطوابعها كراهية أن أطلع منها على ما يغير لك قلبي، فلا تدع إلى التقاطع بعد التواصل، ولا إلى الفرقة بعد الاجتماع، وأظهر لي ابنيك فإنهما سيصيران بحيث تحب من الولاية والقرابة وتعظيم الشرف. فكتب إليه عبد الله بن الحسن يعتذر إليه ويتنصل في كتابه، ويعلمه أن ذلك من عدو أراد تشتيت ما بينهم بعد التئامه. ثم جاءه كتاب ثقة من ثقاته يذكر أن الرسول بعينه خرج بالكتب بأعيانها على طريق البصرة، وأنه نازل على فلان المهلبي، فإن أراده أمير المؤمنين فليضع عليه رصده. فوضع عليه أبو جعفر رصده. فأتي به إليه ومعه الكتب، فحبس الرسول وأمضى الكتب إلى خراسان مع رسول من عنده من أهل ثقاته. فقدمت عليه الجوابات بما كره، واستبان له الأمر. فكتب إلى عبد الله بن الحسن يقول:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
أما بعد، فقد قرأت كتبك وكتب ابنيك وأنفذتها إلى خراسان، وجاءتني جواباتها بتصديقها، وقد استقر عندي أنك مغيب لابنيك تعرف مكانهما، فاظهرهما إلي، فإن لك في أن أعظم صلتهما وجوائزهما وأضعهما بحيث وضعتهما قرابتهما، فتدارك الأمور قبل تفاقمها.
فكتب إليه عبد الله بن الحسن:
وكيف أريد ذاك وأنت منى ... وزندك حين تقدح من زنادي
وكيف أريد ذاك وأنت مني ... بمنزلة النياط من الفؤاد

(2/232)

وكتب إليه: إنه لا يدري أين توجها من بلاد الله، ولا يدري أين صارا، وإنه لا يعرف الكتب ولا يشك أنها مفتعلة. فلما اختلفت الأمور على أبي جعفر بعث سلم بن. قتيبة الباهلي وبعث معه بماله، وأمره بأمره، وقال له: إني إنما أدخلك بين جلدي وعظمي، فلا توطئني عشواء ولا تخف عني أمرا تعلمه. فخرج سلم بن قتيبة حتى قدم المدينة، وكان عبد الله يبسط له في رخام المنبر في الروضة، وكان مجلسه فيه. فجلس إليه وأظهر له المحبة والميل إلى ناحيته، ثم قال له حين أنس إليه: إن نفرا من أهل خراسان وهم فلان وفلان - وسمى له رجالا يعرفهم ممن كان يكاتب ممن استقر عند أبي جعفر أمرهم - قد بعثوا إليك معي مالا، وكتبوا إليك كتابا. فقبل الكتاب والمال، وكان المال عشرة آلاف دينار، ثم أقام معه ما شاء الله حتى أزداد به أنسا وإليه استنامة، ثم قال له: إني قد بعثت بكتابين إلى أمير المؤمنين محمد وإلى ولي عهده إبراهيم، وأمرت أن لا أوصل ذلك إلا في أيديهما، فإن أوصلتني إليهما وأدخلتني عليهما أوصلت إليهما الكتابين والمال، ورحلت إلى القوم بما يثلج صدورهم، وتقبله قلوبهم، فأنا عندهم بموضع الصدق والأمانة، وإن كان أمرهما مظلما، ولم تكن تعرف مكانهما، لم نخاطر بدينهم وأموالهم ومهجهم. فلما رأى عبد الله أن الأمور تفسد عليه من حيث يرجو صلاحها إلا بإيصاله إليهما وأظهارهما له أوصله، فدفع الكتابين مع أربعين ألف درهم، ثم قال: هذا محمد وهذا إبراهيم. فقال لهم: إن من ورائي لم يبعثوني ولهم ورائي غاية، وليس مثلي ينصرف إلى قوم إلا بجملة ما يحتاجون إليه، ومحمد إنما صار إلى هذه الخطة ووجبت له هذه الدعوة لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هنا من هو أقرب من رسول الله رحما وأوجب حقا منه. قال: ومن هو؟ قال: أنت إلا أن يكون عندك ابنك محمد أثر ليس عندك في نفسك. قال: فكذلك الأمر عندي. قال له: فإن القوم يقتدون بك في جميع أمورهم ولا يريدون أن يبذلوا دينهم وأموالهم وأنفسهم إلا بحجة يرجون بها لمن قتل منهم الشهادة، فإن أنت خلعت أبا جعفر وبايعت محمدا اقتدوا بك، وإن أبيت اقتدوا بك أيضا في تركك ذلك ثقة بك لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضعك الذي وضعك الله فيه. قال: فإني أفعل. فبايع محمدا وخلع أبا جعفر. وبايعه سلم من بعده، وأخذ كتبه وكتب إبراهيم ومحمد وخرج. فقدم على أبي جعفر وقد حضر الموسم، فأخبره حقيقة الأمر ويقينه. فلما دخل أبو جعفر المدينة أرسل إلى بني الحسن فجمعهم، وقال لسلم: إذا رأيت عبد الله عندي فقم على رأسي وأشر إلي بالسلاح، ففعل. فلما رآه عبد الله سقط في يده وتغير وجهه. فقال له أبو جعفر: مالك أبا محمد، أتعرفه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فاقلني وصلتك رحم. فقال له أبو جعفر: هل علمت أنك تعرف موضع ولديك وأنه لا عذر لك وقد باح السر، فأظهرهما لي، ولك أن أصل رحمك ورحمهما، وأن أعظم ولايتهما وأعطي كل واحد منهما ألف ألف درهم. فتراجع عبد الله حتى انكفأ على ظهره، وبنو حسن اثنا عشر رجلا، فأمر بحبسهم جميعا. وخرج أبو جعفر فعسكر من ليلته على ثلاثة أميال من المدينة، وعبأ على القتال، ولم يشك أن أهل المدينة سيقاتلونه في بني حسن، فعبأ ميمنة وميسرة وقلبا وتهيأ للحرب، وأجلس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عشرين معطيا يعطون العطايا. فلم يتحرك عليه منهم أحد، ثم مضى بهم إلى مكة.

(2/233)

فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، فكتب إليه أبو جعفر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " . ولك علي عهد الله وميثاقه وذمة الله وذمة نبيه، إن أنتما أتيتما وتبتما ورجعتما من قبل أن أقدر عليكما وأن يقع بيني وبينكما سفك الدماء، أن أؤمنكما وجميع ولدكما. ومن شايعكما وتابعكما على دمائكم وأموالكم، وأوسعكم ما أصبتم من دم أو مال، وأعطيكما ألف ألف درهم لكل واحد منكما، وما سألتما من الحوائج، وأبوئكما من البلاد حيث شئتما، وأطلق من الحبس جميع ولد أبيكما، ثم لا أتعقب واحدا منكما بذنب سلف منه أبدا. فلا تشمت بنا وبك عدونا من قريش، فإن أحببت أن تتوثق من نفسك بما - عرضت عليك، فوجه إلي من أحببت ليأخذ لك من الأمان والعهود والمواثيق ما تأمن وتطمئن إليه إن شاء الله والسلام.
فأجابه محمد بن عبد الله: من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد " طسم. تلك آيات الكتاب المبين. نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " إلى قوله " وما كانوا يحذرون " . وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضته، فإن الحق معنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم إليه بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليا رحمه الله كان الإمام فكيف ورثتم ولاية ولده وقد علمتم أنه لم يطلب هذا الأمر أحد بمثل نسبنا ولا شرفنا، وأنا لسنا من أبناء الظئار، ولا من أبناء الطلقاء، وأنه ليس يمت أحد بمثل ما نمت به من القرابة والسابقة والفضل وأنا بنو أم أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو فاطمة ابنته في الإسلام دونكم، وأن الله اختارنا واختار لنا، فولدنا من النبيين أفضلهم، ومن الألف أولهم إسلاما علي بن أبي طالب، ومن النساء أفضلهن خديجة بنت خويلد، وأول من صلى إلى القبلة منهن، ومن البنات فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ولدت الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة صلوات الله عليهما، وأن هاشما ولد عليا مرتين، وأن عبد المطلب ولد حسنا مرتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين، وأني من أوسط بني هاشم نسبا وأشرفهم أبا وأما لم تعرق في العجم ولم تنازع في أمهات الأولاد. فما زال الله بمنه وفضله يختار لي الأمهات في الجاهلية والإسلام، حتى أختار لي في النار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذابا في النار، وأبي خير أهل الجنة، وأبي خير أهل النار، فأنا ابن خير الأخيار، وأبن خير الأشرار، فلك الله، إن دخلت في طاعتي وأوجبت دعوتي، أن أؤمنك على نفسك ومالك ودمك وكل أمر أحدثته، إلا حدا من حدود الله، أو حق امرئ مسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد؟ لأنك لا تعطي من العهد أكثر مما أعطيت رجالا قبلي. فأي الأمانات تعطيني: أمان ابن هبيرة، أو أمان عمك عبد الله بن علي، أو أمان أبي مسلم. والسلام.

(2/234)

فكتب إليه أبو جعفر المنصور: من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حسن، أما بعد. فقد بلغني كتابك، وفهمت كلامك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء، لتضل به الغوغاء. ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة الأولياء؟ لأن الله جعل العم أبا وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى. ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن لكانت آمنة أقربهن رحما، وأعظمهن حقا، وأول من يدخل الجنة غدا، ولكن اختيار الله لخلقه على قدر علمه الماضي لهم. فأما ما ذكرت من فاطمة جدة النبي صلى الله عليه وسلم وولادتها لك، فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها دين الإسلام ولو أن أحدا من ولدها رزق الإسلام بالقرابة لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الدنيا والآخر، ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء. وقد قال جل ثناؤه: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " . وقد بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم وله عمومة أربعة، فأنزل الله عليه: " وأنذر عشيرتك الأقربين " . فدعاهم فأنذرهم، فأجابه اثنان أحدهما أبي، وأبي عليه اثنان أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعل بينهما إلا ولا ذمة ولا ميراثا. وقد زعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا وابن خير الأشرار، وليس في الشر خيار، ولا فخر في النار، وسترد فتعلم " وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون " . وأما ما فخرت به من فاطمة أم علي، وأن هاشما ولد عليا مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ولدك مرتين، فخير الأولين الآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يدله هاشم إلا مرة واحدة، ولا عبد المطلب إلا مرة واحدة. وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسبا وأكرمهم أبا وأما، وأنك لم تلدك العجم، ولم تعرق فيك أمهات الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا، فانظر أين أنت ويحك من الله غدا! فإنك قد تعديت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا وآخرا: فخرت على إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وهل خيار ولد أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد؟ وما ولد منكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي بن الحسين، وهو لأم ولد، وهو خير من جدك حسن بن حسن. وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن علي، وجدته أم ولد، وهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر، وهو خير منك، وجدته أم ولد. وأما قولك: إنا بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يقول: " ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " ولكنكم بنو ابنته وهي امرأة لا تحرز ميراثا، ولا ترث الولاء، ولا يحل لها أن تؤم، فكيف تورت بها إمامة، ولقد ظلمها أبوك بكل وجه، فأخرجها نهارا مرضها سرا، ودفنها ليلا. فأبي الناس إلا تقديم الشيخين وتفضيلهما.
ولقد كانت السنة التي لا اختلاف فيها أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يرثون.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:05 pm

وأما ما فخرت به من علي وسابقته. فقد حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة، فأمر غيره بالصلاة. ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فما أخذه، وكان في الستة من أصحاب الشورى، فتركوه كلهم: رفضه عبد الرحمن بن عوف، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته وأغلق بابه دونه، وبايع معاوية بعده. ثم طلبها بكل وجه فقاتل عليها، ثم حكم الحكمين ورضي بهما وأعطاهما عهد الله وميثاقه، فاجتمعا على خلعه واختلفا في معاوية. ثم قال جدك الحسن فباعها بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز، وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأموال إلى غير أهلها، وأخذ مالا من غير ولائه. فإن كان لكم فيها حق فقد بعتموه وأخذتم ثمنه. ثم خرج عمك الحسين على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه. ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبكم على جذوع النخل وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بن زيد بأرض خراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء وحملوهم كالسبي المجلوب إلى الشام. حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأردنا إشراككم في ملكنا، فأبيتم إلا الخروج علينا. وظننت ما رأيت من ذكرنا أباك وتفصيلنا إياه أنا نقدمه على العباس وحمزة وجعفر، وليس كما ظننت ولكن هؤلاء سالمون مسلم منهم، مجتمع بالفضل عليهم.
وابتلى بالحرب أبوك، فكانت بنو أمية تلعنه على المنابر كما تلعن أهل الكفر في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له وذكرنا فضلة وعنفناهم وظلمناهم فيما نالوا منه.
وقد علمت أن المكرمة في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعباس من بين إخوته، وقد نازعنا فيها أبوك فقضى لنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام. فقد علمت أنه لم يبق أحد من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد المطلب غير العباس وحده، فكان وارثه من بين إخوته. ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايتنا، وميراث النبي صلى الله عليه وسلم ميراثنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبق فضل ولا شرف في الجاهلية والإسلام إلا والعباس وارثه ومورثه، والسلام.
فلما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة بايعه أهل المدينة وأهل مكة.
وخرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة في شهر رمضان، فاجتمع الناس إليه، فنهض إلى دار الإمارة وبها سفيان بن محمد بن المهلب، فسلم إليه البصرة بغير قتال. وأرسل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن إلى الأهواز جيشا، فأخذها بعد قتال شديد، وأرسل جيشا إلى واسط فأخذها. ثم إن أبا جعفر المنصور جهز إليهم عيسى بن موسى، فخرج إلى المدينة، فلقيه محمد بن عبد الله، فانهزم بأصحابه وقتل. ثم مضى عيسى بن موسى إلى البصرة فلقى إبراهيم بن الحسن، فقتله وبعث برأسه إلى أبي جعفر.
وقال رجل من أهل مكة: كنا جلوسا مع عمرو بن عبيد بالمسجد، فأتناه رجل بكتاب المنصور على لسان محمد بن عبد الله بن الحسن يدعوه إلى بيعته، فقرأه ثم وضعه. فقال له الرسول: الجواب. فقال: ليس له جواب، قل لصاحبك يدعنا نجلس في الظل ونشرب من هذا الماء البارد حتى تأتينا آجالنا.
مروان بن شجاع، مولى بني أمية، قال: كنت مع إسماعيل بن علي بفارس أؤدب ولده، فلما لقيته المبيضة وظفر بهم أتى منهم بأربعمائة أسير، فقال له أخوه عبد الصمد، وكان على شرطته: أضرب أعناقهم. فقال ما تقول يا مروان؟ قلت: أصلح الله الأمير، إنه أول من سن قتال أهل القبلة علي بن أبي طالب، فرأى أن لا يقتل أسير، ولا يجهز على جريح، ولا يتبع مولى. قال: خذ بيعتهم وخل سبيلهم.
قيل لمحمد بن علي بن الحسين: ما أقل ولد أبيك؟ قال: إني لأعجب كيف ولدت له! قيل له وكيف ذلك؟ قال: إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يتفرغ للنساء؟

(2/236)

ولما وجه المنصور عيسى بن موسى في محاربة بني عبد الله بن الحسن، قال: يا أبا موسى إذا صرت إلى المدينة فادع محمد بن عبد الله بن الحسن إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أجابك فاقبل منه، وإن هرب منك فلا تتبعه، وإن أبي إلا الحرب فناجزه واستعن بالله عليه، فإذا ظفرت به فلا تخيفن أهل المدينة وعمهم بالعفو، فإنهم الأصل والعشيرة وذرية المهاجرين والأنصار، وجيران قبر النبي صلى الله عليه وسلم فهذه وصيتي إياك، لا كما أوصى به يزيد بن فعاوية مسلم بن أبي عقبة حين وجه إلى المدينة وأمره أن يقتل من ظهر له إلى ثنية الوداع، وأن يبيحها ثلاثة أيام، ففعل. فلما بلغ يزيد ما فعله تمثل بقول ابن الزبعري في يوم أحد حيث قال:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
ثم اكتب إلى أهل مكة بالعفو عنهم والصفح، فإنهم آل الله وجيرانه، وسكان حرمه وأمنه، ومنبت القوم والعشيرة، وعظم البيت والحرم، لا تلحد فيه بظلم، فإنه حرم الله الذي بعث منه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وشرف به آباءنا لتشريف الله إيانا. فهذه وصيتي لا كما أوصى به الذي وجه الحجاج إلى مكة فأمره أن يضع المجانيق على الكعبة وأن يلحد في الحرم بظلم، ففعل ذلك. فلما بلغه الخبر تمثل بقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهلا لجاهلينا
لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا
الرياشي قال: قال عيسى بن موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة حرب بني عبد الله بن الحسن، جعل يوصيني ويكثر. فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى كم توصيني؟
إني أنا السيف الحسام الهندي ... أكلت جفني وفريت غمدي
فكل ما تطلب منيعندي
وقال معاوية يوما لجلسائه: من أكرم الناس أبا وأما وجدا وجدة وعما وعمة وخالا وخالة؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم. فأخذ بيد الحسن بن علي وقال: هذا، أبوه علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة بنت محمد، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، و جدته خديجة، وعمه جعفر، وعمته هالة بنت أبي طالب، وخاله القاسم بن محمد، وخالته زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم الرياشي عن الأصمعي قال: لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، فبايعه أهل المدينة وأهل مكة، وخرج إبراهيم أخوه بالبصرة فتغلب على البصرة والأهواز وواسط، قال سديف بن ميمون في ذلك:
إن الحمامة يوم الشعب من حضن ... هاجت فؤاد محب دائم الحزن
إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا ... بعد التباعد والشحناء والإحن
وتنقضي دولة أحكام قادتها ... فيها كأحكام قوم عابدي وثن
فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا ... إن الخلافة فيكم يا بنى حسن
لا عزركن نزار عند نائبة ... إن أسلموك ولا ركن لذي يمن
ألست أكرمهم يوما إذا انتسبوا ... عودا وأنقاهم ثوبا من الدرن
وأعظم الناس عند الله منزلة ... وأبعد الناس من عجز ومن أفن
فلما سمع أبو جعفر هذه الأبيات استطير بها. فكتب إلى عبد الصمد بن علي أن يأخذ سديفا فيدفنه حيا، ففعل.
قال الرياشي: فذكر هذه الأبيات لأبي جعفر، شيخ من أهل بغداد. قال: هذا باطل، الأبيات لعبد الله بن مصعب، وإنما كان سبب قتل سديف أنه قال أبياتا مبهمة، وكتب بها إلى أبي جعفر، وهي هذه:
أسرفت في قتل الرعية ظالما ... فاكفف يديك أضلها مهديها
فلتأتين راية حسنيه ... جرارة يقتادها حسنيها

(2/237)

فالتفت أبو جعفر، فقال لخازم بن خزيمة: تهيأ بهيئة السفر متنكرا، حتى إذا لم يبق إلا أن تضع رجلك في الغرز اثتني، ففعل. فقال له: إذا أتيت المدينة فادخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فدع سارية وثانية، فإنك تنظر عند الثالثة إلى شيخ آدم يكثر التلفت، طويل كبير، فاجلس معه فتوجع لآل أبي طالب، واذكر شدة الزمان عليهم ثلاثة أيام، ثم قل له في الرابع: من يقول هذه الأبيات:
أسرفت في قتل الرعية ظالما
قال: ففعل. فقال له الشيخ: إن شئت نبأتك من أنت؟ أنت خازم ابن خزيمة، بعثك إلي أمير المؤمنين لتعرف من قائل هذا الشعر، فقل له: جعلت فداك، والله ما قلته ولا قاله إلا سديف بن ميمون، فإني أنا القائل وقد دعوني إلى الخروج مع محمد بن عبد الله:
دعوني وقد شالت لإبليس راية ... وأوقد للغاوين نار الحباحب
أبا لليث تغترون يحمي عرينه ... وتلقون جهلا أسده بالثعالب
فلا نفعتني السن إن لم يؤزكم ... ولا أحكمتني صادقات التجارب
قال: وإذا الشيج إبراهيم بن هرمة. قال: فقدمت على المنصور فأخبرته الخبر. فكتب إلى عبد الصمد بن علي، وكان سديف في حبسه، فأخذه فدفنه حيا.
قال الرياشي سمعت محمد بن عبد الحميد يقول: قلت لابن أبي حفصة: ما أغراك ببني علي؟ قال: ما أحد أحب إلي منهم، ولكني لم أجد شيئا أنفع عند القوم منه. ولما دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك قال له: بلغني أنك تحدث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها، لأنك ابن أمة. قال له: أما قولك إني أحدث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله، وأما قولك إني ابن أمة. فهذا إسماعيل ابن أمة، أخرج الله من صلبه محمدا صلى الله عليه وسلم، وإسحاق ابن حرة، أخرج الله من صلبه القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، وخرج من عنده، فقال: ما أحب أحد الحياة إلا ذل، فقال له الحاجب: لا يسمع هذا الكلام منك أحد. وقال زيد بن علي عند خروجه من عند هشام بن عبد الملك:
شرده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
محتفى الرجلين يشكو الوجى ... تقرعه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
ثم خرج بخراسان، فقتل وصلب. فيه يقول سديف لأبي العباس يغريه ببني أمية حيث يقول:
واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس
يريد إبراهيم الإمام، أخا أبي العباس.
باب من فضائل
علي بن أبي طالب رضي الله عنه
عوانة بن الحكم قال: حج محمد بن هشام، ونزلت رفقة، فإذا فيها شيخ كبير قد احتوشه الناس، وهو يأمر وينهى، فقال محمد بن هشام لمن حوله: تجدون الشيخ عراقيا فاسقا. فقال له بعض أصحابه: نعم، وكوفيا منافقا. فقال محمد: علي به، فأتي بالشيخ. فقال له: أعراقي أنت؟ فقال له: نعم، عراقي. قال: وكوفي؟ قال: وكوفي. قال، وترابي؟ قال: وترابي، من التراب خلقت وإليه أصير. قال: أنت ممن يهوي أبا تراب؟ قال: ومن أبو تراب؟ قال: علي بن أبي طالب. قال: أتعني ابن عم رسوله الله صلى الله عليه وسلم و زوج فاطمة ابنته، وأبا الحسن والحسين؟ قال: نعم. قال: فما قولك فيه؟ قال: قد رأيت من يقول خيرا ويحمد، ورأيت من يقول شرا ويذم. قال: فأيهما أفضل عندك، أهو أم عثمان؟ قال: وما أنا وذاك؟ والله لو أن عليا جاء بوزن الجبال حسنات ما نفعني، ولو أنه جاء بوزنها سيئات ما ضرني، وعثمان مثل ذلك. قال: فاشتم أبا تراب. قال: أو ما ترضى مني بما رضي به من هو خير منك ممن هو خير مني هو شر من علي؟ قال: وما ذاك؟ قال رضي الله، وهو خير منك، من عيسى، وهو خير منى، في النصارى، وهم شر من علي إذ قال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " .

(2/238)

الرياشي قال: أنتقص ابن لحمزة بن عبد الله بن الزبير عليا فقال له أبوه: يا بني: إنه والله ما بنت الدنيا شيئا إلا هدمه الدين، وما بنى الدين شيئا فهدمته الدنيا. أما ترى عليا وما يظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر، فكأنما والله يأخذون بناصيته رفعا إلى السماء. وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس، فكأنما يكشفون عن الجيف.
قدم الوليد مكة، فجعل يطوف البيت، والفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب يستقي من زمزم وهو يقول:
يأيها السائل عن علي ... تسأل عن بدر لنا بدري
مردد في المجد أبطحي ... سائلة غرته مضي
فلم ينكر عليه أحد.
العتبي قال: قيل يوما لمسلمة بن هلال العبدي: خطب جعفر بن سليمان الهاشمي خطبة لم يسمع مثلها قط، وما درينا أوجهه كان أحسن أن كلامه! قال: أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون، وبلسان النبوة ينطقون.
وكتب عوام، صاحب أبي نواس، إلى بعض عمال ديار ربيعة:
بحق النبي بحق الوصي ... بحق الحسين بحق الحسن
بحق التي ظلمت حقها ... ووالدها خير ميت دفن
ترفق بأرزاقنا في الخراج ... بترفيهها وبحط المؤن
قال: فاسقط عنه الخراج طول ولايته.
احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي

(2/239)

إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل عن حماد بن زيد قال: بعث إلي يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي، وهو يومئذ قاضي القضاة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن احضر معي غدا مع الفجر أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه ما ياقل له ويحسن الجواب، فسموا من تظنونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين. فسمينا له عدة، وذكر هو عدة، حتى تم العدد الذي أراد، وكتب تسمية القوم، وأمر بالبكور في السحر، وبعث إلى من لم يحضر فأمره بذلك. فغدونا عليه قبل طلوع الفجر، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا، فركب وركبنا معه، حتى صرنا إلى الباب، فإذا بخادم واقف. فلما نظر إلينا قال: يا أبا محمد، أمير المؤمنين ينتظرك، فأدخلنا. فأمرنا بالصلاة، فأخذنا فيها، فلم نستتمها حتى خرج الرسول فقال: ادخلوا، فدخلنا. فإذا أمير المؤمنين جالس على فراشه وعليه سواده وطيلسانه والطويلة وعمامته. فوقفنا وسلمنا، فرد السلام، وأمرنا بالجلوس. فلما استقر بنا المجلس تحدر عن فراشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته، ثم أقبل علينا فقال: إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك، وأما الخف فما من خلعه علة، من قد عرفها منكم فقد عرفها، ومن لم يعرفها فسأعرفه بها، ومد رجله. ثم قال انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالسكم. قال: فأمسكنا. فقال لنا يحيى: انتهوا إلى ما أمركم به أمير المؤمنين. فتعجبنا فنزعنا أخفافنا وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا. فلما استقر بنا المجلس قال: إنما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة، فمن كان به شيء من الأخبثين لم ينتفع بنفسه، لم يفقه ما يقول: فمن أراد منكم الخلاء فهناك، وأشار بيده، فدعونا له. ثم ألقى مسألة من الفقه، فقال: يا أبا محمد، قل وليقل القوم من بعدك. فأجابه يحيى، ثم الذي يلي يحيى، ثم الذي يليه، حتى أجاب آخرنا في العلة وعلة العلة، وهو مطرق لا يتكلم. حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة. ثم لم يزل يرد على كل واحد منا مقالته ويخطئ بعضنا ويصوب بعضنا حتى أتى على آخرنا. ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا، ولكنني أحببت أن أنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه، ودينه الذي يدين الله به. قلنا: فليفعل أمير المؤمنين وفقه الله. فقال: إن أمير المؤمنين يدين الله على أن علي بن أبي طالب خير خلق الله بعد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس بالخلافة. قال إسحاق: قلت: يا أمير المؤمنين إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في علي، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة. فقال: يا إسحاق، اختر إن شئت أن أسألك وإن شئت أن تسأل. قال إسحاق: فاغتنمتها منه، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين. قال: سل. قلت: من أين قال أمير المؤمنين إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقهم بالخلافة بعده؟ قال: يا إسحاق، خبرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يقال فلان أفضل من فلان؟ قلت: بالأعمال الصالحة. قال: صدقت. قال: فأخبرني عمن فضل صاحبه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله، أيلحق به؟ قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق، لا تقل نعم، فإنك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة. قلت: أجل يا أمير المؤمنين، لا يلحق المفضول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاضل أبدا. قال: يا إسحاق: فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل علي ابن أبي طالب. فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر، فإن رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل علي فقل إنه أفضل منه، لا والله، ولكن فقس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده فقل إنهما أفضل منه. لا والله، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، فإن وجدتها مثل فضائل علي فقل إنهم أفضل منه، لا والله، ولكن قس إلى فضائله فضائل العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم أفضل منه. ثم قال: يا إسحاق، أي

(2/240)

الأعمال كانت أفضل يوم بعث الله رسوله؟ قلت: الإخلاص بالشهادة. كانت أفضل يوم بعث الله رسوله؟ قلت: الإخلاص بالشهادة.
قال: أليس السبق إلى الإسلام؟ قلت: نعم. قال: أقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول: " والسابقون السابقون أولئك المقربون " إنما عنى من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحدا سبق عليا إلى الإسلام؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم. قال: أخبرني أيهما أسلم قبل؟ ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال. قلت: علي أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة. فقال: نعم، فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام أو يكون إلهاما من الله؟ قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق، لا تقل إلهاما فتقدمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى. قلت: أجل، بل دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام. قال: يا إسحاق، فهل يخلو رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلف ذلك من نفسه؟ قال: فأطرقت: فقال: يا إسحاق، لا تنسب رسول الله إلى التكلف، فإن الله يقول: " وما أنا من المتكلفين " . قلت: أجل يا أمير المؤمنين، بل دعاه بأمر الله. قال: فهل من صفة الجبار جل ذكره أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟ قلت أعوذ بالله! فقال: أفتراه في قياس قولك يا إسحاق إن عليا أسلم صبيا لا يجوز عليه الحكم، وقد كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء الصبيان إلى ما لا يطيقونه، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة، فلا يجب عليهم في أرتدادهم شيء، ولا يجوز عليهم حكم الرسول صلى الله عليه وسلم أترى هذا جائزا عندك أن تنسبه إلى الله عز وجل؟ قلت أعوذ بالله. قال: يا إسحاق، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا على هذا الخلق أبانه بها منهم ليعرف مكانه وفضله ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا؟ قلت: بلى. قال: فهل بلغك أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أحدا من الصبيان من أهله وقرابته، لئلا تقول إن عليا ابن عمه؟ قلت: لا أعلم، ولا أدري فعل أو لم يفعل. قال يا إسحاق، رأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسأل عنه؟ قلت: لا. قال: فدع ما قد وضعه الله عنا وعنك. ثم قال: أي الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام؟ قلت: الجهاد في سبيل الله. قالت صدقت، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجد لعلي في الجهاد؟ قلت: في أي وقت؟ قال؟ في أي الأوقات شئت؟ قلت: بدر. قال: لا أريد غيرها، فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعلي يوم بدر، أخبرني كم قتلى بدر؟ قلت: نيف وستون رجلا من المشركين. قال: فكم قتل علي وحده؟ قلت: لا أدري. قال: ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين، والأربعون لسائر الناس. قلت: يا أمير المؤمنين، كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عريشه، قال: يصنع ماذا؟ قلت: يدبر. قال: ويحك! يدبر دون رسول الله أو معه شريكا أم افتقارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب إليك؟ قلت: أعوذ بالله أن يدبر أبو بكر دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون معه شريكا، أو أن يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم افتقار إلى رأيه. قال: فما الفضيلة بالعريش إذ كان الأمر كذلك؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضل ممن هو جالس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كل الجيش كان مجاهدا. قال صدقت، كل مجاهد، ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الجالس أفضل من الجالس، أما قرأت في كتاب الله: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وبأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى. وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " .

(2/241)

قلت: وكان أبو بكر وعمر مجاهدين. قال: فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟ قلت: نعم. قال: فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر. قلت: أجل. قال: يا إسحاق، هل تقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: أقرأ علي: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " . فقرأت منها حتى بلغت: " يشربون من كأس كان مزاجها كافورا " إلى قوله: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " . قال: على رسلك، فيمن أنزلت هذه الآيات؟ قلت: في علي. قال: فهل بلغك أن عليا حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال: إنما نطعمك لوجه الله؟ قلت: أجل. قال: وهل سمعت الله وصف في كتابه أحدا بمثل ما وصف به عليا؟ قلت: لا. قال: صدقت؟ لأن الله جل ثناؤه عرف سيرته. يا إسحاق، ألست تشهد أن العشرة في الجنة؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين. قال: أرأيت لو أن رجلا قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا؟ ولا أدري إن كان رسول الله قاله أم لم يقله، أكان عندك كافرا؟ قلت: أعوذ بالله. قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا، أكان كافرا؟ قلت: نعم. قال: يا إسحاق، أرى بينهما فرقا. يا إسحاق، أتروي الحديث؟ قلت: نعم. قال؟ فهل تعرف حديث الطير؟ قلت: نعم. قال: فحدثني به. قال: حدثته الحديث. فقال: يا إسحاق، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق، فأما الآن فقد بان لي عنادك، إنك توفق أن هذا الحديث صحيح؟ قلت: نعم، رواه من لا يمكنني رده. قال: أفرأيت أن من أيقن أن هذا الحديث صحيح، ثم زعم أن أحدا أفضل من علي، لا يخلو من إحدى ثلاثة: من أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده مردودة عليه؟ أو أن يقول: إن الله عز وجل عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه، أو أن يقول: إن الله عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول. فأي الثلاثة أحب إليك أن تقول؟ فأطرقت. ثم قال: يا إسحاق، لا تقل منها شيئا، فإنك إن قلت منها شيئا استتبتك، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله. قلت لا أعلم، وإن لأبي بكر فضلا. قال: أجل، لولا إن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه، فما فضله الذي قصدت إليه الساعة؟ قلت: قول الله عز وجل: " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " ، فنسبه إلى صحبته. قال: يا إسحاق، أما إني لا أحملك على الوعر من طريقك، إني وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة من رضيه ورضي عنه كافرا، وهو قوله: " فقال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا. لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا " . قلت: إن ذلك صاحب كان كافرا، وأبو بكر مؤمن. قال: فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة نبيه مؤمنا، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث، قلت: يا أمير المؤمنين، إن قدر الآية عظيم، إن الله يقول: " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن، إن الله معنا " . قال: يا إسحاق، تأبى الآن إلا أن أخرجك إلى الاستقصاء عليك، أخبرني عن حزن أبي بكر، أكان رضى أم سخطا؟ قلت: إن أبا بكر إنما حزن من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا عليه، وغما أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه. قال: ليس هذا جوابي، إنما كان جوابي أن تقول: رضى أم سخط؟ قلت: بل رضى لله. قال: فكأن الله جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهى عن رضى الله عز وجل وعن طاعته. قلت: أعوذ بالله. قال: أوليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضى لله؟ قلت: بلى. قال أولم تجد أن القرآن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " لا تحزن " نهيا له عن الحزن. قلت: أعوذ بالله. قال: يا إسحاق، إن مذهبي الرفق بك لعل الله يردك إلى الحق ويعدل بك عن الباطل لكثرة ما تستعيذ به. وحدثني عن قول الله: " فأنزل الله سكينته عليه " ومن عنى بذلك: رسول الله أم أبا بكر؟ قلت: بل رسول الله. قال: صدقت. قال: فحدثني عن قول الله عز وجل: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم " إلى قوله: " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين "

(2/242)

أتعلم من المؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعا انهزموا يوم حنين، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعة نفر من بني هاشم: علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله، والعباس أخذ بلجام بغلة رسول الله، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله لمن جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظفر، فالمؤمنون في هذا الموضع علي خاصة، ثم من حضره من بني هاشم.علم من المؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعا انهزموا يوم حنين، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعة نفر من بني هاشم: علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله، والعباس أخذ بلجام بغلة رسول الله، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله لمن جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظفر، فالمؤمنون في هذا الموضع علي خاصة، ثم من حضره من بني هاشم.
قال: فمن أفضل: من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، أم من انهزم عنه ولم يره الله موضعا لينزلها عليه؟ قلت: بل من أنزلت عليه السكينة؟ قال: يا إسحاق، من أفضل: من كان معه في الغار أو من نام على فراشه ووقاه بنفسه، حتى تم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر عليا بالنوم على فراشه وأن يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فأمره رسول لله بذلك. فبكى علي رضي الله عنه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا علي أجزعا من الموت؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفا عليك، أفتسلم يا رسول الله قال: نعم. قال: سمعا وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله. ثم أتى مضجعه واضطجع، وتسجى بثوبه. وجاء المشركون من قريش فخفوا به، لا يشكون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه، وعلي يسمع ما القوم فيه من تلف نفسه، ولم يدعه ذلك إلى الجزع، كما جزع صاحبه في الغار، ولم يزل علي صابرا محتسبا. فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح فلما أصبح قام، فنظر القوم إليه فقالوا: أين محمد؟ قال: وما علمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا كنت مغررا بنفسك منذ ليلتنا فلم يزل علي أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص حتى قبضه الله إليه. يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: اروه. ففعلت. قال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث، هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه؟ قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين علي، وأنكر ولاء علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من ولاه، وعاد من عاداه. وفي أي موضع قال هذا؟ أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟ قلت: أجل. قال: فإن قتل زيد بن حارثة قبل الغدير كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني لو رأيت ابنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي أيها الناس، فاعلموا ذلك أكنت منكرا عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟

(2/243)

فقلت: اللهم نعم. قال: يا إسحاق، أفتنزه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكم؟ لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم إن الله جل ذكره قال في كتابه: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " ولم يصلوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم. يا إسحاق، أتروي حديث: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قد سمعته وسمعت من صححه وجحده. قال: فمن أوثق عندك: من سمعت منه فصححه، أو من جحده؟ قلت: من صححه. قال: فهل يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مزح بهذا القول؟ قلت: أعوذ بالله. قال: فقال قولا لا معنى له، فلا يوقف عليه؟ قلت: أعوذ بالله. قال: أفما تعلم أن هارون كان أخا موسى لأبيه وأمه؟ قلت: بلى. قال: فعلي أخو رسول الله لأبيه وأمه؟ قلت: لا. قال: أوليس هارون كان نبيا وعلي غير نبي؟ قلت: بلى. قال: فهذان الحالان معدومان في علي وقد كانا في هارون، فما معنى قوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " ؟ قلت له: إنما أراد أن يطيب بذلك نفس علي لما قال المنافقون إنه خلفه استثقالا له. قال: فأراد أن يطيب نفسه بقول لا معنى له؟ قال: فأطرقت. قال: يا إسحاق، له معنى في كتاب الله بين. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حكاية عن موسى إنه قال لأخيه هارون: " اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " . قلت: يا أمير المؤمنين، إن موسى خلف هارون في قومه وهو حي، ومضى إلى ربه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عليا كذلك حين خرج إلى غزاته. قال: كلا ليس كما قلت. اخبرني عن موسى حين خلف هارون، هل كان معه حين ذهب إلى ربه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت: لا. قال: أو ليس استخلفه على جماعتهم؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى غزاته، هل خلف إلا الضعفاء والنساء والصبيان؟ فأنى يكون مثل ذلك؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه لا يقدر أحد أن يحتج فيه، ولا أعلم أحدا أحتج به، وأرجو أن يكون توفيقا من الله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حين حكى عن موسى قوله: " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا " : فأنت مني يا علي بمنزلة هارون من موسى، وزيري من أهلي، وأخي أشد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبح الله كثيرا، ونذكره كثيرا، فهل يقدر أحد أن يدخل في هذا شيئا غير هذا؟ ولم يكن ليبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لا معنى له. قال: فطال المجلس وارتفع النهار. فقال يحيى ابن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين، قد أوضحت الحق لمن أراد الله به بالخير، وأثبت ما لا يقدر أحد أن يدفعه. قال إسحاق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزه الله. فقال: و الله لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقبلوا القول من الناس " ما كنت لأقبل منكم القول. اللهم قد نصحت لهم القول، اللهم إني قد أخرجت الأمر من عنقي، اللهم إني أدينك بالتقرب إليك بحب علي وولايته.
وكتب المأمون إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي عامله على المدينة: أن أخطب الناس وأدعهم إلى بيعة الرضا علي بن موسى. فقام خطيبا فقال: يأيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
ستة آباء هم ما هم ... من خير من يشرب صوب الغمام

(2/244)

وقال المأمون لعلي بن موسى: علام تدعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له المأمون: إن لم تكن إلا القرابة فقد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته من هو أقرب إليه من علي، أو من هو في قعدده؟ وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأمر بعدها للحسن والحسين، وقد ابتزهما علي حقهما وهما حيان صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه. فلم يجد علي بن موسى له جوابا.
باب من أخبار الدولة العباسية
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظهر، فقال لأصحابه: ما بال أبي العباس لم يحضر؟ قالوا: ولد له مولود. فلما صلى علي الظهر، قال: انقلبوا بنا إليه. فأتاه فهنأه، فقال له: شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب، فما سميته؟ قال: لا يجوز لي أن أسميه حتى تسميه أنت. فأمر به فأخرج إليه فأخذه، فحنكه ودعا له ورده، وقال: خذه إليك أبا الأملاك، وقد سميته عليا وكنيته أبا الحسن. قال: فلما قدم معاوية قال لابن عباس: لك اسمه وقد كنيته أبا محمد. فجرت عليه.
وكان علي سيدا شريفا عابدا زاهدا، وكان يصلي في كل يوم ألف ركعة، وضرب مرتين، كلتاهما، ضربه الوليد، فإحداهما، في تزوجيه لبابة بنت عبد الله بن جعفر، وكانت عند عبد الملك بن مروان فعض تفاحة ورمى بها إليها، وكان أبخر، فدعت بسكين. فقال: ما تصنعين به؟ قالت: أميط عنها الأذى، فطلقها، فتزوجها علي بن عبد الله بن عباس، فضربه الوليد، وقال: إنما تتزوج أمهات أولاد الخلفاء لتضع منهم. لأن مروان بن الحكم إنما تزوج أم خالد بن يزيد ليضع منه. فقال علي بن عبد الله بن عباس: إنما أرادت الخروج من هذه البلدة وأنا ابن عمها، فتزوجتها لأكون لها محرما. وأما ضربه إياه في المرة الثانية، فإن محمد بن يزيد قال: حدثني من رآه مضروبا يطاف به على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله الكذاب. قال: فأتيته فقلت: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب؟ قال: بلغهم أني أقول إن هذا الأمر سيكون في ولدي، والله ليكونن فيهم حتى تملكهم عبيدهم الصغار العيون، العراض الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة. وفي حديث آخر: إن علي بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه: أبو العباس وأبو جعفر، فشكا إليه دينا لزمه، فقال له: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفا، فأمر له بقضائه، فشكره عليه، وقال: وصلت رحما، وأنا أريد أن تستوصي بابني هذين خيرا. قال: نعم. فلما تولى، قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخ قد أهتر وأسن وخولط، فصار يقول: إن هذا الأمر سينقل إلى ولده. فسمعه علي بن عبد الله بن العباس، فقال: والله ليكونن ذلك وليملكن ابناي هذان ما تملكه.
قال محمد بن يزيد: وحدثني جعفر بن عيسى بن جعفر الهاشمي قال: حضر علي بن عبد الله مجلس عبد الملك بن مروان، وكان مكرما له، وقد أهديت له من خراسان جارية وفص خاتم وسيف. فقال: يا أبا محمد، إن حاضر الهدية شريك فيها، فاختر من الثلاثة واحدا. فاختار الجارية، وكانت تسمى سعدى. وهي من سبي الصغد من رهط عجيف بن عنبسة، فأولدها سليمان بن علي، وصالح بن علي. وذكر جعفر بن عيسى أنه لما أولدها سليمان، أجتنبت فراشه، فمرض سليمان من جدري خرج عليه. فانصرف علي من مصلاه فإذا بها على فراشه، فقال: مرحبا بك يا أم سليمان. فوقع عليها فأولدها صالحا. فاجتنبت فراشه، فسألها عن ذلك. فقالت: خفت أن يموت سليمان في مرضه، فينقطع النسب بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن إذ ولد ت صالحا فالبحري إن ذهب أحدهما بقي الآخر، وليس مثلي وطيئة الرجال.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:07 pm

وزعم جعفر أنه كانت في سليمان رتة وفي صالح مثلها، وأنها موجودة في آل سليمان وصالح. وكان علي يقول: أكره أن أوصي إلى محمد ولدي، وكان سيد ولده وكبيرهم، فأشينه بالوصية، فأوصى إلى سليمان. فلما دفن علي جاء محمد إلى سعدى ليلا، ولكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما اصبح غدا عليه سليمان بالوصية، فقال: فقال: أخرجي لي وصية أبي. قالت: إن أباك أجل من أن تخرج وصيته ليلا، ولكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما أصبح غدا عليه سليمان بالوصية، فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصية أبيك. فقال: جزاك الله من ابن وأخ خيرا، ما كنت لأثرب على أبي بعد موته كما لم أثرب عليه في حياته.

(2/246)

العتبي عن أبيه عن جده قال: لما اشتكى معاوية شكاته التي هلك فيها أرسل إلى ناس من جلة بني أمية، ولم يحضرها سفياني غيري وغير عثمان بن محمد، فقال: يا معشر بني أمية، إني لما خفت أن يسبقكم الموت إلي سبقته بالموعظة إليكم، لا لأرد قدرا، ولكن لأبلغ عذرا. إن الذي اخلف لكم من دنياي أمر ستشاركون فيه وتغلبون عليه، والذي أخلف لكم من رأى أمر مقصور لكم نفعه إن فعلتموه، مخوف عليكم ضرره إن ضيعتموه. إن قريشا شاركتكم في أنسابكم، وانفردتم دونها بأفعالكم، فقدمكم ما تقدمتم له، إذ أخر غيركم ما تأخروا عنه، ولقد جهل بي فحلمت، ونقر لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم. إن دولتكم ستطول، وكل طويل مملول، وكل مملول مخذول. فإذا كان ذلك كذلك، كان سببه اختلافكم فيما بينكم، واجتماع المختلفين عليكم، فيدبر الأمر بضد ما اقبل به. فلست أذكر جسيما يركب منكم، ولا قبيحا ينتهك فيكم، إلا والذي أمسك عن ذكره أكثر وأعظم، ولا معول عليه عند ذلك أفضل من الصبر واحتساب الأجر. سيمادكم القوم دولتهم امتداد العنانين في عنق الجواد، حتى إذا بلغ الله بالإمر مداه، وجاء الوقت المبلول بريق النبي صلى الله عليه وسلم، مع الحلقة المطبوعة على ملالة الشيء المحبوب، كانت الدولة كالإناء المكفأ. فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتقه غيركم فيكم، فجعل العاقبة لكم، والعاقبة للمتقين. قال عمرو بن عتبة: فدخلت عليه يوما آخر فقال: يا عمرو، أوعيت كلامي؟ قلت: وعيت. قال: أعد علي كلامي فقد كلمتكم وما أراني أمسي من يومكم ذلك. قال شبيب بن شيبة الأهتمي: حججت عام هلك هشام وولي الوليد بن يزيد، وذلك سنة خمس وعشرين ومائة، فبينما أنا مريح ناحية من المسجد، إذ طلع من بعض أبواب المسجد فتى أسمر رقيق السمرة، موفر اللمة. خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى بين القنى، أعين كأن عينيه لسانان ينطقان، يخلط أبهة الأملاك بزي النساك، تقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في تواضعه، والعتق في صورته، واللب في مشيته. فما ملكت نفسي أن نهضت في أثره سائلا عن خبره، وسبقني فتحرم بالطواف، فلما سبع قصد المقام فركع، وأنا أرعاه ببصري. ثم نهض منصرفا، فكأن عينا أصابته، فكبا كبوة دميت لها إصبعه، فقعد لها القرفصاء، فدنوت منه متوجعا لما ناله متصلا به، أمسح رجله من عفر التراب، فلا يمتنع علي، ثم شققت حاشية ثوبي فعصبت بها إصبعه، وما ينكر ذلك ولا يدفعه، ثم نهض متوكئا علي. وانقدت له أماشيه، حتى إذا أتى دارا بأعلى مكة، ابتدره رجلان تكاد صدورهما تنفرج من هيبته، ففتحا له الباب. فدخل، واجتذبني فدخلت بدخوله، ثم خلى يدي وأقبل على القبلة، فصلى ركعتين أوجز فيهما في تمام، ثم استوى في صدر مجلسه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها، ثم قال: لم يخف علي مكانك منذ اليوم ولا فعلك بي، فمن تكون يرحمك الله؟ قلت: شبيب بن شيبة التميمي. قال: الأهتمي؟ قلت: نعم. قال: فرحب وقرب، ووصف قومي بابين بيان، وأفصح لسان. فقلت له: أنا أجلك، أصلحك الله، عن المسألة، وأحب المعرفة. فتبسم وقال: لطف أهل العراق، أنا عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فقلت: بأبي أنت وأمي، ما أشبهك بنسبك، وأدلك على منصبك، ولقد سبق إلى قلبي من محبتك ما لا أبلغه بوصفي لك. قال: فأحمد الله يا أخا بني تميم، فإنا قوم يسعد الله بحبنا من احبه، ويشقي ببغضنا من أبغضه، ولن يصل الإيمان إلى قلب أحدكم حتى يحب الله ويحب رسوله، ومهما ضعفنا عن جزائه قوي الله على أدائه. فقلت له: أنت توصف بالقلم وأنا من حملته، وأيام الموسم ضيقة، وشغل أهل مكة كثير، وفي نفسي أشياء احب أن أسأل عنها، أفتأذن لي فيها جعلت فداك؟ قال: نحن من أكثر الناس مستوحشون، وأرجو أن تكون للسر موضعا، وللأمانة واعيا، فإن كنت كما رجوت فافعل. قال: فقدمت من وثائق القول والإيمان ما سكن إليه، فتلا قول الله: " قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم " ثم قال: سل عما بدا لك. قلت:

(2/247)

ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي، خال الوليد. فتنفس الصعداء، وقال: عن الصلاة خلفه تسألني أم كرهت أن يتأمر على آل الله من ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرض لله تعبد به خلقه، فأد ما فرض الله تعالى عليك في كل وقت مع كل أحد وعلى كل حال، فإن الذي ندبك لحج بيته وحضور جماعته وأعياده لم يخبرك في كتابه بأنه لا يقبل منك نسكا إلا مع أكمل المؤمنين إيمانا، رحمة منه لك، ولو فعل ذلك بك ضاق الأمر عليك، فاسمح يسمح لك. قال: ثم كررت في السؤال عليه فما احتجت أن أسأل عن أمر دين أحدا بعده. ثم قلت: يزعم أهل العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شك فيها، تطلع طلوع الشمس وتظهر ظهورها، فنسأل الله خيرها، ونعوذ بالله من شرها، فخذ بحظ لسانك ويدك منها إن أدركتها. قلت: أو يتخلف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم، ونأبى إلا طلبا بحقنا، فننصر ويخذلون، كما نصر بأولنا أولهم، ويخذل بمخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعت. فقال: سهل عليك الأمر، " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " . وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صلة أرحامهم، وحفظ أعقابهم، وتجديد الصنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبكم وقد قاتلوكم مع عدوكم؟ قال نحن قوم حبب إلينا الوفاء وإن كان علينا، وبغض إلينا الغدر وإن كان لنا، وإنما يشد علينا منهم الأقل، فأما أنصار دولتنا، ونقباء شيعتنا وأمراء جيوشينا، فهم مواليهم، وموالي القوم من أنفسهم. فإذا وضعت الحرب أوزارها صفحنا بالمحسن عن المسيء، ووهبنا للرجل قومه ومن اتصل بأسبابه، فتذهب النائرة، وتخبو الفتنة، وتطمئن القلوب. قلت: ويقال: إنه يبتلى بكم من أخلص لكم المحبة. قال: قد روي أن البلاء أسرع إلى محبينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أرد هذا. قال فمه؟ قلت: تعقون الولي وتحظون العدو؟ قال من يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يسلم منا من الأعداء أقل وأيسر، وإنما نحن بشر وأكثرنا أذن، ولا يعلم الغيب إلا الله، وربما استترت عنا الأمور فنقع بما لا نريد، وإن لنا لإحسانا يأسو الله به ما نكلم، ويرم به ما نثلم، ونستغفر الله مما لا نعلم، وما أنكرت من أن يكون الأمر على ما بلغك، ومع الولي التعزز والإدلال والثقة والاسترسال؟ ومع العدو التحرز والإحتيال، والتذلل والإغتيال؟ وربما أمل المدل، وأخل المسترسل، وتجانب المتقرب، ومع المقة تكون الثقة؟ على أن العاقبة لنا على عدونا، وهي لولينا؟ وإنك لسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم. قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قريب إن شاء الله تعالى. قلت: عجل الله ذلك. قال: آمين. قلت: ووهب لي السلامة منكم فإني من محبيكم. قال آمين، وتبسم. وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدح في الدين، أو هتك للملك، أو تهمة في حرمة. ثم قال: احفظ عني ما أقول لك: أصدق وإن ضرك الصدق؟ وأنصح وإن باعدك النصح، ولا تجالس عدونا وإن أحظيناه، فإنه محذول، ولا تخذل ولينا وإن أبعدناه، فإنه منصور، وأصحبنا بترك المماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصل إذا قطعوك، ولا تستخف فيمقتوك، ولا تنقبض فيتحشموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرض للأموال. وأنا رائح من عشيتي هذه، فهل من حاجة؟ فنهضت لوداعه فودعته، ثم قلت: أترقت لظهور الأمر وقتا؟ قال: الله المقدر الموقت، فإذا قامت النوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العام وموت محمد بن علي مستهل ذي القعدة، وعليه أخلفت، وما بلغتكم حتى أنضيت. قلت: فهل أوصى؟ قال، نعم، إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت فإذا مولى له يتبعني، حتى عرف منزلي، ثم أتاني بكسوة من كسوته، فقال: يأمرك أبو جعفر أن تصلي في هذه، قال: وافترقنا.ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي، خال الوليد. فتنفس الصعداء، وقال: عن الصلاة خلفه تسألني أم كرهت أن يتأمر على آل الله من ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرض لله تعبد به خلقه، فأد ما فرض الله تعالى عليك في كل وقت مع كل أحد وعلى كل حال، فإن الذي ندبك لحج بيته وحضور جماعته وأعياده لم يخبرك في كتابه بأنه لا يقبل منك نسكا إلا مع أكمل المؤمنين إيمانا، رحمة منه لك، ولو فعل ذلك بك ضاق الأمر عليك، فاسمح يسمح لك. قال: ثم كررت في السؤال عليه فما احتجت أن أسأل عن أمر دين أحدا بعده. ثم قلت: يزعم أهل العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شك فيها، تطلع طلوع الشمس وتظهر ظهورها، فنسأل الله خيرها، ونعوذ بالله من شرها، فخذ بحظ لسانك ويدك منها إن أدركتها. قلت: أو يتخلف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم، ونأبى إلا طلبا بحقنا، فننصر ويخذلون، كما نصر بأولنا أولهم، ويخذل بمخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعت. فقال: سهل عليك الأمر، " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " . وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صلة أرحامهم، وحفظ أعقابهم، وتجديد الصنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبكم وقد قاتلوكم مع عدوكم؟ قال نحن قوم حبب إلينا الوفاء وإن كان علينا، وبغض إلينا الغدر وإن كان لنا، وإنما يشد علينا منهم الأقل، فأما أنصار دولتنا، ونقباء شيعتنا وأمراء جيوشينا، فهم مواليهم، وموالي القوم من أنفسهم. فإذا وضعت الحرب أوزارها صفحنا بالمحسن عن المسيء، ووهبنا للرجل قومه ومن اتصل بأسبابه، فتذهب النائرة، وتخبو الفتنة، وتطمئن القلوب. قلت: ويقال: إنه يبتلى بكم من أخلص لكم المحبة. قال: قد روي أن البلاء أسرع إلى محبينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أرد هذا. قال فمه؟ قلت: تعقون الولي وتحظون العدو؟ قال من يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يسلم منا من الأعداء أقل وأيسر، وإنما نحن بشر وأكثرنا أذن، ولا يعلم الغيب إلا الله، وربما استترت عنا الأمور فنقع بما لا نريد، وإن لنا لإحسانا يأسو الله به ما نكلم، ويرم به ما نثلم، ونستغفر الله مما لا نعلم، وما أنكرت من أن يكون الأمر على ما بلغك، ومع الولي التعزز والإدلال والثقة والاسترسال؟ ومع العدو التحرز والإحتيال، والتذلل والإغتيال؟ وربما أمل المدل، وأخل المسترسل، وتجانب المتقرب، ومع المقة تكون الثقة؟ على أن العاقبة لنا على عدونا، وهي لولينا؟ وإنك لسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم. قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قريب إن شاء الله تعالى. قلت: عجل الله ذلك. قال: آمين. قلت: ووهب لي السلامة منكم فإني من محبيكم. قال آمين، وتبسم. وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدح في الدين، أو هتك للملك، أو تهمة في حرمة. ثم قال: احفظ عني ما أقول لك: أصدق وإن ضرك الصدق؟ وأنصح وإن باعدك النصح، ولا تجالس عدونا وإن أحظيناه، فإنه محذول، ولا تخذل ولينا وإن أبعدناه، فإنه منصور، وأصحبنا بترك المماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصل إذا قطعوك، ولا تستخف فيمقتوك، ولا تنقبض فيتحشموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرض للأموال. وأنا رائح من عشيتي هذه، فهل من حاجة؟ فنهضت لوداعه فودعته، ثم قلت: أترقت لظهور الأمر وقتا؟ قال: الله المقدر الموقت، فإذا قامت النوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العام وموت محمد بن علي مستهل ذي القعدة، وعليه أخلفت، وما بلغتكم حتى أنضيت. قلت: فهل أوصى؟ قال، نعم، إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت فإذا مولى له يتبعني، حتى عرف منزلي، ثم أتاني بكسوة من كسوته، فقال: يأمرك أبو جعفر أن تصلي في هذه، قال: وافترقنا.

(2/248)

قال: فوالله ما رأيته إلا وحرسيان قابضان علي يدنياني منه في جماعة من قومي لأبايعه. فلما نظر إلي أثبتني، فقال: خليا عمن صحت مودته، وتقدمت حرمته، وأخدت قبل اليوم بيعته. قال: فأكبر الناس ذلك من قوله، ووجدته، على أول عهده لي، ثم قال لي: أين كنت عني في أيام أخي أبي العباس. فذهبت أعتذر. قال: أمسك، فإن لكل شيء وقتا لا يعدوه، ولن يفوتك إن شاء الله حظ مودتك وحق مسابقتك، فاختر بين رزق يسعك أو عمل يرفعك. قلت: أنا حافظ لوصيتك. قال: وأنا لها أحفظ، إنما نهيتك أن تخطب الأعمال، ولم أنهك عن قبولها. قلت: الرزق مع قرب أمير المؤمنين أحب إلي. قال: ذلك لك، وهو أجم لقلبك، وأودع لك، وأعفى إن شاء الله ثم قال: هل زدت في عيالك بعدي شيئا، وكان قد سألني عنهم، فذكرتهم له، فعجبت من حفظه، قلت: الفرس والخادم. قال: قد ألحقنا عيالك بعيالنا وخادمك بخادمنا وفرسك بخيلنا، ولو وسعني لحملت إليك بيت المال، وقد ضممتك إلى المهدي، وأنا أوصيه بك، فإنه أفرغ لك مني.
قال لأحوص بن محمد الشاعر الأنصاري، من بني عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الذي حمت لحمه الدبر، يشبب بامرأة يقال لها أم جعفر، فقال فيها:
أدور ولولا أن أرى أم جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث إدور
وكان لأم جعفر أخ يقال له أيمن، فأستعدى عليه ابن حزم الأنصاري، وهو والي المدينة للوليد بن عبد الملك، وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فبعث ابن حزم إلى الأحوص، فأتاه. وكان ابن حزم يبغضه، فقال: ما تقول فيما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يزعم أنك تشبب بأخته ولد فضحته وشهرت أخته بالشعر. فأنكر ذلك. فقال لهما: قد اشتبه علي أمركما، ولكنني أدفع إلى كل واحد منكما سوطا، ثم اجتلدا، وكان الأحوص قصيرا نحيفا، وكان أيمن طويلا ضخما جلدا. فغلب أيمن الأحوص، فضربه حتى صرعه وأثخنه. فقال أيمن:
لقد منع المعروف من أم جعفر ... أشم طويل الساعدين غيور
علاك بمتن السوط حتى أتقيته ... بأصفر من ماء الصفاق يفور
قال: فلما رأى الأحوص تحامل ابن حزم عليه امتدح الوليد، ثم شخص إليه إلى الشام، فدخل عليه فأنشده:
لا ترثين لحزمي رأيت به ... ضرا ولو ألقي الحزمي في النار
الناخسين لمروان بذي خشب ... المدخلين على عثمان في الدار
قال له صدقت والله، لقد كنا غفلنا عن حزم وآل حزم ثم دعا كاتبه فقال: اكتب عهد عثمان بن حيان المري على المدينة، وأعزل ابن حزم، واكتب بقبض أموال حزم وآل حزم وإسقاطهم أجمعين من الديوان، ولا يأخذون لأموي عطاء أبدا ففعل ذلك. فلم يزالوا في الحرمان للعطاء مع ذهاب الأموال والضياع حتى انقضت دولة بنى أمية وجاءت دولة بني العباس. فلما قام أبو جعفر المنصور بأمر الدولة قدم عليه أهل المدينة، فجلس لهم فأمر حاجبه أن يتقدم إلى كل رل منهم أن ينتسب له إذا قام بين يديه، فلم يزالوا على ذلك يفعلون، حتى دخل عليه رجل قصير قبيح الوجه، فلما مثل بين يديه قال له: يا أمير المؤمنين، أنا ابن حزم الأنصاري الذي يقول فينا الأحوص:
لا ترثين لحزمي رأيت به ... ضرا ولو ألقي الحزمي في النار
الناخسين لمروان بذي خشب ... والمدخلين على عثمان في الدار

(2/249)

ثم قال: يا أمير المؤمنين، حرمنا العطاء منذ سنين، وقبضت أموا لنا وضياعنا. فقال له المنصور: أعد علي البيتين. فأعادهما عليه. فقال: أما والله لئن كان ذلك ضركم في ذلك الحين لينفعنكم اليوم، ثم قال: علي بسليمان الكاتب. فأتاه أبو أيوب الخوزي. فقال: اكتب إلى عامل المدينة أن يرد جميع ما اقتطعه بنو أمية من ضياع بني حزم وأموالهم، ويحسب لهم ما فاتهم من عطائهم، وما استغل من غلاتهم من يومئذ إلى اليوم، فيخلف لهم جميع ذلك من ضياع بني مروان، ويفرض لكل واحد منهم في شرف العطاء - وكان شرف العطاء يومئذ مائتي ألف دينار في السنة - ثم قال: علي الساعة بعشرة آلاف درهم تدفع إلى هذا الفتى لنفقته. فخرج الفتى من عنده بما لم يخرج به أحد ممن دخل عليه.
ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم
أبو العباس السفاح
ولد أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب مستهل رجب سنة أربع ومائة. وبويع له بالكوفة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وتوفي بالأنبار لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة. فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر. وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله ابن عبد المدان.
وكان أبيض طويلا أقنى الأنف حسن الوجه حسن اللحية جعدها. نقش خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤمن " . وصلى عليه عمه عيسى بن علي. ورزق من الولد اثنين: محمد، من أم ولد، ومات صغيرا، وابنة سماها ريطة، من أم ولد، تزوجها المهدي وأولدها عليا وعبيد الله.
ووزر له أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، وهو أول من لقب بالوزارة.
فقتله أبو العباس وأستوزر بعده خالد بن برمك إلى آخر أيامه، وكان حاجبه أبو غسان صالح بن الهيثم، وقاضيه يحيى بن سعيد الأنصاري.
المنصور
وبويع أبو جعفر المنصور. واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس في اليوم الذي توفي فيه أخوه لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة. وكان مولده بالشراة لسبع خلون من ذي الحجة سنة خمس وتسعين. وتوفي بمكة قبل التروية بيوم، لسبع خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة وهو محرم. ودفن بالحجون. وصلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثمانية أيام. وكانت سنه ثلاثا وستين سنة. وأمه أمة اسمها سلامة. وجنسها بربرية.
وكان أسمر طوالا نحيف الجسم خفيف العارضين يخضب بالسواد. ونقش خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤمن " . وتزوج بنت منصور الحميرية، وولدت له: محمدا، وهو المهدي، وجعفرا. وكانت شرطت عليه ألا يتزوج ولا يتسرى إلا عن أمرها. وكان قد ابتاع جاريته أم علي وجعلها قيما في داره على أم موسى وأولاده. فحظيت عند أم موسى وسألته التسري بها لما رأت من فضلها. فواقعها فأولدها عليا، وتوفي قبل استكمال سنة؟ ثم فاطمة بنت محمد، من ولد طلحة بن عبيد الله، فولدت له سليمان، وعيسى، ويعقوب. ورزق من أمهات الأولاد: صالحا والعالية وجعفرا والقاسم والعباس وعبد العزيز.
ووزر له ابن عطية الباهلي، ثم أبو أيوب المورياني، ثم الربيع، مولاه. وكان حاجبه عيسى بن روضة، مولاه، ثم أبو الخصيب، مولاه. وكان قاضيه عبد الله بن محمد بن صفوان، ثم شريك بن عبد الله، والحسن بن عمار، والحجاج بن أرطاة.
المهدي
ثم بويع ابنه أبو عبد الله محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس صبيحة اليوم الذي توفي فيه أبوه لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة. وكان مولده بالحميمة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة. وتوفي بما سبذان في المحرم سنة تسع وستين ومائة. وصلى عليه ابنه الرشيد - فكانت خلافته عشر سنين وخمسة وأربعين يوما. وكانت سنه إحدى وأربعين سنة وثمانية أشهر ويومين.

(2/250)

وكان أسمر طويلا معتدل الخلف، جعد الشعر، بعينه اليمنى نكتة بياض، نقش خاتمه " الله ثقة محمد وبه يؤمن " وتزوج ريطة بنت السفاح، وأولدها عليا وعبيد الله. وأول جارية ابتاعها محياة، فرزق منها ولدا مات قبل استكمال سنة. وكان يبتاع الجواري باسمها وتقربهن إليه. وأول من حظي منهن عنده رحيم، ولدت له العباسة، ثم الخيزران، فولدت له موسى وهارون والبانوقة؟ ثم حللة وحسنة، وكانتا مغنيتين محسنتين. وتزوج سنة تسع وخمسين ومائة أم عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد الله، وأعتق الخيزران في السنة وتزوجها. ووزر له أبو عبد الله معاوية بن عبد الله الأشعري، ثم يعقوب بن داود السلمي، ثم الفيض بن أبي صالح. واستحجب سلامان الأبرش. واستخلف علي القضاء محمد بن عبد الله بن علاثة، وعافية بن يزيد، كانا يقضيان معا في مسجد الرصافة.
الهادي
ثم بويع ابنه أبو محمد موسى الهادي بن المهدي مستهل صفر سنة تسع وستين ومائة. وتوفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة بعيساباد. وصلى عليه أخوه الرشيد. وكانت خلافته سنة وشهرين إلا أياما. وكانت سنه ستا وعشرين سنة.
وكان أبيض طويلا جسيما بشفته العليا تقلص. نقش خاتمه " الله ربي " . وتزوج أمة العزيز، فأولدها عيسى؟ ثم رحيم، فأولدها جعفرا؛ ثم سعوف، فأولدها العباس؟ واشترى جاريته حسنة بألف درهم، وكانت شاعرة، فرزق منها عدة بنات، منهن أم عيسى، تزوجها المأمون. وكان له من أمهات الأولاد عبد الله وإسحاق وموسى، وكان أعمى.
ووزر له الربيع بن يونس، ثم عمر بن بزيع. واستحجب الفضل بن الربيع. وولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم، في الجانب الغربي، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، بالجانب الشرقي.
هارون الرشيد
ثم بويع أخوه أبو محمد هارون الرشيد في اليوم الذي توفي فيه أخوه يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وفي هذه الليلة ولد عبد الله المأمون. ولم يكن في سائر الزمان ليلة ولد فيها خليفة وتوفي فيها خليفة وقام فيها خليفة غيرها. وكان مولد الرشيد في المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة. وتوفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة ودفن بطوس. وصلى عليه ابنه صالح. فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وستة عشر يوما. وكانت سنه ستا وأربعين سنة وخمسة أشهر. ولما أفضت إليه الخلافة سلم عليه عمه سليمان المنصور، والعباس بن محمد عم أبيه، وعبد الصمد ابن علي عم جده، فعبد الصمد عم العباس، والعباس عم سليمان وسليمان عم هارون.
وكان الرشيد أبيض جسيما طويلا جميلا. قد وخطه الشيب. نقش خاتمه " لا إله إلا الله " ، وخاتم آخر " كن من الله على حذر " وتزوج زبيدة، واسمها أمة العزيز، وتكنى أم الواحد، وزبيدة لقب لها. وهي ابنة جعفر بن المنصور، أولدها محمدا الأمين؟ ثم مراجل، فأولدها عبد الله المأمون؟ وماردة، أولدها محمدا المعتصم؟ ونادر، ولدت له صالحا؟ وشجا، ولدت له خديجة ولبابة؟ وسريرة، ولدت محمدا، وبربرية، ولدت له أبا عيسى ثم القاسم، وهو المؤتمن؟ وسكينة، وحث، فولدت له إسحاق وأبا العباس.
ووزر له جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وقتله، ثم الفضل بن الربيع. واستحجب بشر بن ميمون، مولاه؟ ثم محمد بن خالد بن برمك. واستخلف على قضاء الجانب الغربي نوح بن دراج، وحفص بن غياث.
الأمين
ثم بويع أبو عبد الله محمد الأمين في جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقتل يوم الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة. وكان مولده بالرصافة سنة إحدى وسبعين ومائة في شوال. فكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وأياما. صفا له الأمر في جملتها سنتين وشهرا. وكانت الفتنة بينه وبين أخيه سنتين.
وكان طويلا جسيما جميلا حسن الوجه بعيد ما بين المنكبين، أشقر سبطا، صغير العينين، به أثر جدري. نقش خاتمه " محمد واثق بالله " . ورزق من الولد موسى، من أم ولد تدعى نظم، ولقبه الناطق بالحق، وضرب اسمه على الدراهم.
وذكر الصولي قال: حدثني من قرأ على درهم:

(2/251)

كل عز ومفخر ... فلموسى المظفر
ملك خط ذكره ... في الكتاب المسطر
وماتت نظم فاشتد جزعه عليها، فدخلت زبيدة معزية له، فقالت:
نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف ... ففي بقائك ممن قد مضى خلف
عوضت موسى فماتت كال مرزية ... ما بعد موسى على مفقودة أسف
وبايع لابنه مولى في حياته، ولأخيه عبد الله، وأمه أم ولد، ونقش اسمه أيضا على الدراهم.
وكان لجعفر بن موسى الهادي جارية اسمها بذل، فطلبها الأمين منه، فأبى عليه، وكان شديد الوجد بها. فزاره الأمين يوما فسر به وزاد عليه في الشرب حتى ثمل، فانصرف وأخذ الجارية. فلما أصبح جعفر ندم على ما جرى ولم يدر ما يصنع. فدخل على الأمين. فلما مثل بين يديه قال له: أحسنت والله يا جعفر بدفعك بذل إلينا وما أحسنا. ووقر زورقه بعشرين ألف ألف درهم.
ووزر للأمين الفضل بن الربيع إلى آخر أيامه. وكان حاجبه العباس بن الفضل بن الربيع، ثم علي بن صالح صاحب المصلى، ثم السندي بن شاهك.
المأمون
ثم بويع أبو العباس عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بعد قتل أخيه، يوم الخميس لخمس خلون من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة. وكان مولده بالياسرية في ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وتوفي بالبذندون سنة ثماني عشرة ومائتين لثمان خلون من رجب. ودفن بطرسوس فكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما وكانت سنه ثمانيا وأربعين سنة وأربعة أشهر إلا أياما.
وكان أبيض تعلوه شقرة، أجنأ أعين طويل اللحية رقيقها ضيق الجبين، بخده خال أسود، وكان قد وخطه الشيب. نقش خاتمه " سل الله يعطك " .
وكان الرشيد حد المؤمون. وذلك أنه دخل على الرشيد وعنده مغنية تغنيه فلحنت، فكسر المأمون عينه عند استماعه اللحن، فتغير لون الجارية وفطن الرشيد لذلك، فقال: اعلمتها بما صنعت؟ قال: لا والله يا مولاي. قال: ولا أومأت إليها؟ قال: قد كان ذلك. فقال: كن مني بمرأى ومسمع فإذا خرج إليك أمرى فانته إليه، ثم أخذ دواة وقرطاسا وكتب إليه:
يا آخذ اللحن على ال ... قينة عند الطرب
تريد أن تفهمها ... حد لغات العرب
أقسم بالله وما ... سطر أهل الكتب
للكلب خير أدبا ... من بعض أهل الأدب
إذا قرأت ما كتبت به إليك، فأمر من يضربك عشرين مقرعة جيادا. فدعا المأمون البوابين ثم أمرهم ببطحه وضربه، فامتنعوا. فأقسم عليهم، فامتثلوا أمره. ورزق من الولد محمدا الأصغر، وعبيد الله، من أم عيسى بنت موسى الهادي. وتزوج بوران بنت الحسن بن سهل، بنى بها سنة عشر ومائتين، ووهب لأبيها عشرة آلاف ألف درهم، ولولده ألف ألف درهم. وكان له عدة أولاد من بنين وبنات.
ووزر له الفضل بن سهل ذو الرياستين، ثم الحسن بن سهل، ثم أحمد بن أبي خالد ثم أحمد بن الأحول، يوسف، ثم ثابت بن يحيى، ثم محمد بن يزداد. واستحجب عبد الحميد بن شبيب، ثم محمدا وعليا، ابني صالح مولى المنصور.
المعتصم بالله
ثم بويع أخوه أبو إسحاق المعتصم بن الرشيد يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. وكان مولده في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائة. وتوفي بسر من رأى يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين. وصلى عليه ابنه هارون الواثق. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. وأمه أم ولد يقال لها ماردة.
وكان أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعا مشرب اللون حمرة. نقش خاتمه " الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن " وكان شديد البأس، حمل بابا من حديد فيه سبعمائة وخمسون رطلا وفوقه عكام فيه مائتان وخمسون رطلا، وخطا خطا كثيرة وكان يسمى ما بين إصبعي المعتصم المقطرة، لشدته. وإنه أعتمد يوما على غلام فدقه. وذكر الصولي أنه كان يسمى المثمن، وذلك أنه الثامن من خلفائهم.

(2/252)

ومولده سنة ثمان وسبعين ومائة. وولي الأمر في سنة ثماني عشرة ومائتين، وله ثماني وأربعون سنة. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. ورزق من الولد الذكور ثمانية، ومن الإناث ثمانيا. وغزا ثماني غزوات. خلف في بيت ماله ثمانية آلاف دينار، ومن الورق ثمانية آلاف ألف درهم.
ووزر له الفضل بن مروان، ثم أحمد بن عمار، ثم محمد بن عبد الملك الزيات. واستحجب وصيفا مولاه، ثم محمد بن حماد بن دنفش.
الواثق
ثم بويع ابنه أبو جعفر هارون صبيحة اليوم الذي توفي فيه أبوه يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين. وكان مولده يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان سنة ست وتسعين ومائة. وتوفي بسر من رأى يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وصلى عليه أخوه المتوكل. فكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما. وكانت سنه ستا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياما.
وكان أبيض إلى الصفرة، حسن الوجه جسيما في عينه اليمنى نكتة بياض نقش خاتمه " محمد رسول الله " وخاتم آخر " الواثق بالله " . ورزق من الولد محمدا المهتدي، وأبا وأمه أم ولد يقال لها قرب؟ وعبد الله، وأبا العباس أحمد، وأبا إسحاق محمدا، وأبا إسحق إبراهيم.
ووزر له محمد بن عبد الملك الزيات. وحاجبه إيتاخ، ثم وصيف مولاه، ثم ابن دنفش. وقاضيه ابن أبي دواد.
المتوكل
ثم بويع أخوه أبو الفضل جعفر المتوكل يوم الأربعاء لست بقين من ذي لحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكان مولده يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ست ومائتين. وقتل ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، ودفن في القصر الجعفري. وصلى عليه ابنه المنتصر ولمن عهده. فكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام. وكانت سنه أربعين إلا ثمانية أيام.
وكان أسمر كبير العينين نحيف الجسم خفيف العارضين. نقش خاتمه " على إلهي اتكالي " . وكان كثير الولد.
وزر له محمد بن عبد الملك الزيات، ثم محمد بن الفضل الجرجاني، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. واستحجب وصيفا التركي، ثم محمد بن عاصم، ثم إبراهيم بن سهل. وكان خليفته على القضاء يحيى بن أكثم.
المنتصر
ثم بويع ابنه أبو جعفر محمد المنتصر لأربع خلوان من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين. وكان مولده يوم الخميس لست خلون من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين ومائتين. ومات ليلة السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. فكانت خلافته ستة أشهر؟ وسنه ستا وعشرين سنة إلا ثلاثة أيام.
وكان قصيرا أسمر ضخم الهامة عظيم البطن جسيما، على عينه اليمنى أثر. نقش خاتمه " يؤتى الحذر من مأمنه " ، وعلى خاتم آخر " أنا من آل محمد. الله ولي ومحمد " .
ورزق من الولد عليا وعبد الوهاب وعبد الله وأحمد.
ووزر له أحمد بن الخصيب. وحاجبه وصيف، ثم بغا، ثم ابن المرزبان، ثم أوتامش.
المستعين
ثم بويع المستعين أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. وخلع نفسه بموافقة المعتز بوساطة أبي جعفر المعروف بابن الكردية، يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر. وكان مولده يوم الثلاثاء لأربع خلون من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين. وقتل بالقادسية مع خلعه نفسه بتسعة أشهر. وأمه أم ولد يقال لها مخارق.
وكان مربوعا أحمر الوجه أشقر مسمنا عريض المنكبين، ضخم الكراديس، خفيف العارضين، بوجهه أثر جدري، ألثغ بالسين. نقش خاتمه " في الاعتبار غنى عن الاختبار " .
وزر له أحمد بن الخصيب، فنكبه، وقلد مكانه ابن يزداد؟ ثم شجاع بن القاسم، كاتب أوتامش، وأوتامش هذا حاجبه. وكانت سنه إحدى وثلاثين سنة إلا ثمانية أيام.
المعتز

(2/253)

ثم ولى أبو عبد الله محمد المعتز بن المتوكل يوم الجمعة. لأربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكانت الفتنة قبل ذلك بينه وبين المستعين سنة. وقتل عشية يوم الجمعة لليلة خلت من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان مولده يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكانت خلافته منذ بويع له واجتمعت الكلمة عليه ثلاث سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، ومنذ بايعه أهل سر من رأى إلى أن قتل أربع سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوما. وقتله صالح بن وصيف.
وكان أبيض شديد البياض، ربعة حسن الجسم، على خده الأيسر خال أسود الشعر. نقش خاتمه " الحمد لله رب كل شيء وخالق كل شيء " .
وزر له جعفر بن محمود الإسكافي، ثم عيسى بن فرخان شاه، ثم أحمد ابن إسرائيل الأنباري. وحاجبه سماء بن صالح بن وصيف. وكانت سنه أربعا وعشرين سنة وشهرين وأياما.
المهتدي
ثم بويع المهتدى أبو عبد الله محمد بن الواثق بسر من رأى يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. وكان مولده يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة ومائتين: وقتل بسر من رأى بسهم لحقه يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين. فكانت خلافته أحد عشر شهرا وأربعة عشر يوما. وكانت سنة سبعا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأحد عشر يوما وكان أبيض مشربا حمرة، صغير العينين، أقنى الأنف، في عارضيه شيب، و خضب لما ولي الخلافة: نقش خاتمه " من تعدى الحق ضاق مذهبه !.
وزر له أيوب سليمان بن وهب. وحاجبه باك باك.
المعتمد
ثم بويع أبو العباس أحمد المعتمد بن المتوكل يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين. وكان مولده يوم الثلاثاء لثمان بقين من المحرم سنة تسع وعشرين ومائتين. فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة. وكانت سنه خمسين سنة وخمسة أشهر واثنين وعشرين يوما. ومات أخوه وولى عهده طلحة الموفق في أيامه في صفر سنة ثمان سبعين ومائتين، وكان قد غلب على الأمر لميل الناس إليه. وكان المعتمد قد عقد لولده جعفر ولقبه المفوض، وبعده لأبي أحمد طلحة الموفق، فاشتد أمر الموفق وقتل صاحب الزنج في سنة سبعين ومائتين ومال الناس إليه، واسمه الناصر لدين لله، وكان يدعى له على المنبر، في أيام المعتمد، وكان الموفق حبس ابنه أبا العباس المعتضد، فلما حضرته الوفاة أطلقه للقيام بالأمر، وأجرى المعتمد أمره على ما كان يجري عليه أمر أبيه الموفق، وافرده بولاية العهد، وأمر بكتب الكتب بخلع ابنه المفوض وأفرد المعتضد بالعهد وجعله الخليفة بعده.
وكان المعتمد أسمر مربوعا نحيف الجسم حسن العينين مدور الوجه، على وجه أثر جدري. نقش خاتمة " السعيد من كفي بغيره " . ووزر له عبيد الله يحيى ابن خاقان، ثم سليمان بن وهب، ثم الحسن بن مخلد، ثم صاعد بن مخلد، ثم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل. حاجبه موسى بن بغا، ثم جعفر بن بغا، ثم بكتمر.
المعتضد
وبويع المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفق في رجب سنة سبع وسبعين ومائتين.
- وكان مولده في جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وتوفى ببغداد ليلة الثلاثاء لسبع بقين من شهر - ربيع الأخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وصلى عليه أبو عمر القاضي. فكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وأربعة أيام. وكانت سنه خمسا وأربعين سنة وتسعة أشهر وأياما: وأمه ضرار.
وكان نحيف الجسم معتدل القامة طويل اللحية أسمر. نقش خاتمة الاضطرار يزيل الاختيار ووزر له عبيد الله بن سليمان بن وهب، ثم ابنه القاسم بن عبيد الله. وحاجبه صالح الأمين.
المكتفي

(2/254)

ثم بويع ابنه أبو محمد على بن المعتضد يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وكان مولده في رجب سنة أربع وستين ومائتين، وتوفى ببغداد فدفن عند قبر أبيه ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وعشرين يوما. وكانت سنه إحدى وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياما. وأمه جيجق، وقيل خاضع. وكان ربعة حسن الوجه أسود الشعر وافر اللحية عريضها، ولم يشب إلى أن مات. نقش خاتمه " بالله على بن أحمد يثق. وخلف في بيت ماله ستة عشر ألف ألف دينار، ومن الورق ثلاثين ألف ألف درهم.
ووزر له القاسم بن عبيد الله، ثم العباس بن الحسن ثم الحسن بن أيوب. وحاجبه خفيف السمرقندى، ثم سوسن مولاه.
المقتدر
ثم بويع المقتدر، وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد في اليوم الذي توفى فيه أخوه يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وخلع في خلافته دفعتين، الأولى بعد جلوسه بأربعة أشهر وأيام بابن المعتز وبطل الأمر من يومه. والدفعة الثانية بعد إحدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته، خلع نفسه وأشهد عليه وأجلس القاهر يومين وبعض اليوم الثالث. ووقع الخلف بين العسكرين، وعاد المقتدر إلى حاله. وكان مولده لثمان بقين من شهر رمضان سنة لاثنتين وثمانين ومائتين. وقتل بالشماسية يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال سنة عشرين وثلثمائة. فكانت خلافته خمسا وعشرين سنة إلا خمسة عشرا يوما. وكانت سنه ثمانيا وثلاثين سنة وشهرا وعشرين يوما.
وكان أبيض مشربا حمرة حسن الخلق ضخم الجسم، بعيد ما بين المنكبين، جعد الشعر، مدور الوجه، قد كثر الشيب في وجه. نقش خاتمه " الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير " .
ووزر له العباس بن الحسن، ثم على بن محمد بن موسى بن الفرات، ثم عبيد الله بن خاقان، ثم أبو الحسن على بن عيسى بن داود بن الجراح ثم حامد بن العباس، ثم أحمد بن عبيد الله الخصيبي، ثم محمد بن على بن مقلة، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد بن الجراح ثم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، ثم الفضل بن جعفر ابن موسى بن الفرات. واستحجب سوسنا، مولى المكتفي، ونصرا القشوري، وياقوتا المعتضدي، وإبراهيم ومحمدا، ابني رائق.
القاهر
ثم بويع أخوه أبو منصور محمد القاهر بن المعتضد يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلثمائة. وخلع وسمل يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده لخمس خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين ومائتين، وكانت خلافته سنة وستة أشهر وستة أيام. وعاش إلى أيام المطيع، وكانت سنه وكان ربعة أسمر اللون، معتدل القامة، أصهب الشعر. ووزر له أبو على محمد بن مقلة، ثم محمد بن القاسم بن عبيد الله، ثم أحمد بن عبيد الله الخصيبى. واستحجب على بن بليق، مولى يونس، ثم سلامة الطولوني.
الراضي
ثم بويع الراضي أبو العباس أحمد بن المقتدر يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده في رجب سنة سبع وتسعين ومائتين. ومات ببغداد ليلة السبت لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين وثلثمائة. ودفن بالرصافة. وكانت خلافته ست سنين وعشرة أيام. وكانت سنه إحدى وثلاثين سنة وثمانية أشهر وأياما. وأمه أم ولد يقال لها ظلوم. كان قصير، نحيف الجسم، أسود الشعر، رقيق السمرة، في وجهه طول.
نقش خاتمه " رسول الله " . ووزر له أبو علي محمد بن مقله، ثم ابنه أبو الحسين علي بن محمد ثم عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجراح ثم محمد بن القاسم الكرخي، ثم سليمان بن الحسن بن محمد بن الجراح ثم الفضل بن جعفر بن الفرات ثم أبو عبد الله أحمد بن محمد اليزيدي. واستحجب محمد بن ياقوت، ثم ذكيا، مولاه.
المتقي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:10 pm

ثم بويع أخوه المتقي أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلثمائة. وخلع وسمل يوم السبت لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة. وكان مولده في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا إلا أياما.
وكان أبيض تعلوه حمرة، أصهب شعر اللحية، كث اللحية، بفكه الأدنى عوج. نقش خاتمه " محمد رسول الله " وزر له أحمد بن محمد بن ميمون، ثم اليزيدى، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد ثم أبو إسحاق محمد بن أحمد القراريطي. ثم محمد بن القاسم الكرخي، ثم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ثم علي بن محمد بن مقلة. واستحجب سلامة، مولى خمارويه بن أحمد، ثم بدر الخرشني، ثم عبد الرحمن بن أحمد بن خاقان المفلحي.
المستكفي
ثم بويع أبو القاسم عبد الله بن علي المستكفي في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة بالسندية عقيب كسوف القمر. وخلع في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. فكانت خلافته سنة واحدة وستة أشهر وأياما. وكان مولده مستهل سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وتوفى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة. وكانت سنه سبعا وأربعين سنة. وأمه أم ولد يقال لها غصن.
وكان أبيض تعلوه حمرة، ضخم الجسم، تام الطول؟ خفيف العارضين، كبير العينين، أشهل، جهوري الصوت. نقش خاتمه " محمد رسول الله " . وزر له محمد بن علي السر من رائي. واستكتب بعده أبا أحمد الفضل بن عبد الله الشيرازي، واستحجب أحمد بن خاقان.
المطيع
ثم بويع المطيع أبو القاسم الفضل بن المقتدر لسبع بقين من شعبان سنه أربع وثلاثين وثلثمائة وخلع نفسه ببغداد لسبع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وثلثمائة. وكان مولده في النصف من ذي القعدة سنة إحدى وثلثمائة. وتوفي في. فكانت خلافته تسعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوما. وأمه أم ولد تدعى مشعلة. وكانت سنة وكان شديد البياض أسود شعر الرأس واللحية. وزر له علي بن محمد ابن مقلة. والناظر في الأمور أبو جعفر الصيمري. كاتب أحمد بن بويه. ثم استولى على اسم الوزارة. وكتب للمطيع الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي، ومات وقام مقامه أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي، وحاجبه عز الدولة بحتيار ابن معز الدولة.
تم كتاب اليتيمة الثانية
كتاب الدرة الثانية في أيام العرب
ووقائعهم
فرش الكتاب
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رضي الله عنه: قد مضى قولنا في أخبار زياد والحجاج والطالبين والبرامكة، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في أيام العرب ووقائعهم فإنها مآثر الجاهلية، ومكارم الأخلاق السنية. قيل لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا. وقال بعضهم: وددت أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية، ألا ترى أن عنترة الفوارس جاهلي لا دين له، والحسن بن هانئ إسلامي له دين، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع الحسن بن هانئ دينه؟ فقال عنترة في ذلك:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
وقال الحسن بن هانئ مع إسلامه:
كان الشباب مطية الجهل ... ومحسن الضحكات والهزل
والباعثي والناس قد رقدوا ... حتى أتيت حليلة البعل
حروب قيس في الجاهلية
يوم منعج
لغني على عبس

(2/256)

قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يوم منعج، يقال له يوم الردهة، وفيه قتل شأس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي بمنعج على الردهة. وذلك أن شأس بن زهير أقبل من عند النعمان بن المنذر، وكان قد حباه بحباء جزيل، وكان فيما حباه قطيفة حمراء ذات هدب وطيلسان، وطيب. فورد منعج، وهو ماء لغني، فأناخ راحلته إلى جانب الردهة عليها خباء لرياح ابن الاسل الغنوي، وجعل يغتسل، وامرأة رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الأبيض. فانتزع له رياح لسهما فقتله ونحر ناقته فأكلها، وضم متاعه وغيب أثره. وفقد شأس بن زهير، حتى وجدوا القطيفة الحمراء بسوق عكاظ قد سامتهاامرأة رياح بن الأسل، فعلموا أن رياحا صاحب ثأرهم. فغزت بنو عبس غنيا قبل أن يطلبوا قودا أودية، مع الحصين بن زهير بن جذيمة والحصين بن أسيد بن جذيمة. فلما بلغ ذلك غنيا قالوا لرياح: أنج لعلنا نصالح القوم على شيء. فخرج رياح رديفا لرجل من بني كلاب، لا يريان إلا أنهما قد خالفا وجهة القوم. فمر صرد على رءوسهما فصرصر. فقالا: ما هذا؟ فما راعهما إلا خيل بني عبس. فقال الكلابي لرياح: أنحدر من خلفي وألتمس نفقا في الأرض فإني شاغل القوم عنك. فأنحدر رياح عن عجز الجمل حتى أتى صعدة فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب وولج فيه. ومضى صاحبه، فسألوه فحدثهم، وقال: هذه غني جامعة وقد استمكنتم منهم. فصدقوه وخلوا سبيله. فلما ولى رأوا مركب الرجل خلفه، فقالوا: من الذي كان خلفك؟ فقال: لا أكذب، رياح بن الأسل، وهو في تلك الصعدات. فقال الحصينان لمن معهما: قد أمكننا الله من ثأرنا ولا نريد أن يشركنا فيه أحد. فوقفوا عنهما، ومضيا فجعلا يريغان رياح بن الأسل بين الصعدات. فقال لهما رياح: هذا غزالكما الذي تريغانه. فابتدراه، فرمى أحدهما بسهم فأقصده، وطعنه الآخر قبل أن يرميه فأخطأه، ومرت به الفرس، واستدبره رياح بسهم فقتله، ثم نجا حتى أتى قومه، وانصرفوا خائبين موتورين وفي ذلك يقول الكميت بن زيد الأسدي، وكانت له أمان من غني:
أنا ابن غني والداي كلاهما ... لأمين منهم في الفروع وفي الأصل
هم استودعوا زهرا بسيب بن سالم ... وهم عدلوا بين الحصينيين بالنبل
وهم قتلوا شأس الملوك وأرغموا ... أباه زهيرا بالمذلة والثكل
يوم النفراوات
لبني عامر على بني عبس

(2/257)

فيه قتل زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي وكانت هوازن تؤدي إليه إتاوة، وهي الخراج. فأتته يوما عجوز من بني نصر بن معاوية بسمن في نحي واعتذرت إليه وشكت سنين تتابعت على الناس، فذاقه فلم يرض طعمه، فدعسها بقوس في يده عطل في صدرها. فاستلقت على قفاها منكشفة. فتألى خالد بن جعفر، وقال: والله لأجعلن ذراعي في عنقه حتى يقتل أو أقتل. وكان زهير عدوسا مقداما لا يبالي ما أقدم عليه. فاستقل، أي انفرد، من قومه بابنيه وبنى أخويه: أسيد وزنباع، يرعى الغيث في عشراوات له وشول. فأتاه الحارث بن الشريد، وكانت تماضر بنت الشريد تحت زهير فلما عرف الحارث مكانه أنذر بني عامر بن صعصعة، رهط خالد بن جعفر. فركب منهم ستة فوارس، فيهم خالد بن جعفر، وصخر بن الشريد، وحندج ابن البكاء، ومعاوية بن عبادة بن عقيل، فارس الهرار - ويقال لمعاوية: الأخيل: وهو جد ليلى الأخيلية - وثلاثة فوارس من سائر بني عامر. فقال أسيد لزهير: أعلمتني راعية غنمي أنها رأت على رأس الثنية أشباحا ولا أحسبها إلا خيل بني عامر، فالحق بنا بقومنا. فقال زهير: كل أزب نفور. وكان أسيد أشعر القفا، فذهبت مثلا. فتحمل أسيد بمن معه وبقي زهير وابناه: ورقاء والحارث وصحبتهم الفوارس. فتمردت بزهير فرسه القعساء، ولحقه خالد ومعاوية الأخيل، فطعن معاوية القعساء، فقلبت زهيرا، وخر خالد فوقه، ورفع المغفر عن رأس زهير، وقال: يا آل عامر، أقبلوا جميعا. فأقبل معاوية، فضرب زهيرا على مفرق رأسه ضربة بلغت الدماغ، وأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدا وعليه درعان فلم يغن شيئا، وأجهض ابنا زهير القوم عن زهير واحتملاه وقد اثخنته الضربة، فمنعوه الماء. فقال: أميت أنا عطشا؟ اسقوني الماء وإن كانت فيه نفسي. فسقوه فمات بعد ثلاثة أيام. فقال في ذلك ورقاء ابن زهير:
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
إلى بطلين ينهضان كلاهما ... يردان نصل السيف والسيف نادر
فشلت يميني يوم أضرب خالدا ... ويمنعه مني الحديد المظاهر
فيا ليت أني قبل أيام خالد ... ويوم زهير لم تلدني تماضر
لعمري لقد بشرت بي إذ ولدتني ... فماذا الذي ردت عليك البشائر
وقال خالد بن جعفر في قتله زهيرا:
بل كيف تكفرني هوازن بعدما ... أعتقتهم فتوالدوا أحرار
وقتلت ربهم زهيرا بعدما ... جدع الأنوف وأكثر الأوتارا
وجعلت مهر بناتهم ودياتهم ... عقل الملوك هجائنا وبكارا
يوم بطن عاقل
لذبيان على عامر
فيه قتل خالد بن جعفر ببطن عاقل. وذلك أن خالدا قدم على الأسود بن المنذر، أخي النعمان بن المنذر، ومع خالد عروة الرحال بن عتبة بن جعفر. فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان عند الأسود بن المنذر. قال: فدعا لهما الأسود بتمر. فجيء به على نطع فجعل بين أيديهم. فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم: يا حارث، ألا تشكر يدي عندك أن قتلت عنك سيد قومك زهيرا وتركتك سيدهم؟ قال: سأجزيك شكر ذلك. فلما خرج الحارث قال الأسود لخالد ما دعاك إلى أن تتحرش بهذا الكلب وأنت ضيفي فقال له خالد: إنما هو عبد من عبيدي لو وجدني نائما ما أيقظني. وانصرف خالد إلى قبته، فلامه عروة الرحال. ثم ناما وقد أشرجت عليهما القبة، ومع الحارث تبيع له من بني محارب يقال له خراش. فلما هدأت العيون أخرج الحارث ناقته، وقال لخراش: كن لي بمكان كذا، فإن طلع كوكب الصبح ولم آتك فانظر أي البلاد أحب إليك فأعمد لها. ثم انطلق الحارث حتى أتى قبة خالد فهتك شرجها، ثم ولجها، وقال لعروة: أسكت فلا بأس عليك.

(2/258)

وزعم أبو عبيدة أنه لم يشعر به حتى أتى خالدا وهو نائم فقتله، ونادى عروة عند ذلك: واجوار الملك! فأقبل إليه الناس، وسمع الهتاف الأسود بن المنذر، وعنده امرأة من بني عامر، يقال لها المتجردة، فشقت جيبها وصرخت. وفي ذلك يقول - عبد الله بن جعدة:
شقت عليك العامرية جيبها ... أسفا وما تبكي عليك ضلا
يا حار، لو نبهته لوجدته ... لا طائشا رعشا ولا معزالا
واغرورقت عيناي لما أخبرت ... بالجعفري وأسبلت إسبالا
فلنقتلن بخالد سرواتكم ... ولنجعلن للظالمين نكالا
فإذا رأيتم عارضا متهللا ... منا فإنا لا نحاول مالا
يوم رحرحان
لعامر على تميم
قال: وهرب الحارث بن ظالم ونبت به البلاد، فلجأ إلى معبد بن زرارة، وقد هلك زرارة، فأجاره. فقالت بنو تميم لمعبد: مالك آويت هذا المشئوم الأنكد، وأغريت بنا الأسود؟ وخذلوه غير بني دماوية، وبني عبد الله ابن دارم. وفي ذلك يقول لقيط بن زرارة:
فأما نهشل وبنو فقيم ... فلم يصبر لنا منهم صبور
فإن تعمد طهية في أمور ... تجدها ثم ليس لها نصير
ويربوع بأسفل ذي طلوح ... وعمرو لا تحل ولا تسير
أسيد والهجيم لها حصاص ... وأقوام من الجعراء عور
وأسلمنا قبائل من تميم ... لها عدد إذا حسبوا كثير
وأما الآثمان: بنو عدي ... وتيم إذا تدبرت الأمور
فلا تنعم بهم فتيان حرب ... إذا ما الحي صبحهم نذير
إذا ذهبت رماحهم بزيد ... فإن رماح تيم لا تضير
قال: وبلغ الأحوص بن جعفر بن كلاب مكان الحارث بن ظالم عند معبد، فغزى معبدا، فالتقوا برحرحان. فانهزمت بنو تميم وأسر معبد ابن زرارة، أسره عامر والطفيل، ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لقيط ابن زرارة عليهم في فدائه، فقال لهما: لكما عندي مائتا بعير. فقال: لا يا أبا نهشل، أنت سيد الناس وأخوك معبد سيد مضر، فلا نقبل فيه إلا دية ملك. فأبى أن يزيدهم، وقال لهم: إن أبانا أوصانا أن لا نزيد أحدا في ديته على مائتي بعير. فقال معبد للقيط: لا تدعني يا لقيط، فوالله لئن تركتني لا تراني بعدها أبدا. قال: صبرا أبا القعقاع، فأين وصاة أبينا ألا تؤكلوا العرب أنفسكم، ولا تزيدوا بفدائكم على فداء رجل منكم، فتذؤب بكم ذؤبان العرب. ورحل لقيط عن القوم. قال: فمنعوا معبدا الماء وضاروه حتى مات هزالا.
وقيل: أبى معبد أن يطعم شيئا أو يشرب حتى مات هزالا. ففي ذلك يقول عامر ابن الطفيل:
قضينا الجون من عبس وكانت ... منية معبد فينا هزالا
وقال جرير:
وليلة وادي رحرحان فررتم ... فرارا ولم تلووا زفيف النعائم
تركتم أبا القعقاع في الغل مصفدا ... وأي أخ لم تسلموا
وقال:
وبرحرحان غداة كبل معبد ... نكحوا بناتكم بغير مهور
يوم شعب جبلة
لعامر وعبس على ذبيان وتميم

(2/259)

قال أبو عبيدة: يوم شعب جبلة أعظم أيام العرب، وذلك أنه لما انقضت وقعة رحرحان جمع لقيط بن زرارة لبني عامر وألب عليهم. وبين يوم رحرحان ويوم جبلة سنة كاملة. وكان يوم شعب جبلة قبل الإسلام بأربعين سنة، وهو عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت بنو عبس يومئذ في بني عامر حلفاء لهم، فاستعدى لقيط بني ذبيان، لعداوتهم لبني عبس من أجل حرب داحس، فأجابته غطفان كلها غير بني بدر. وتجمعت لهم تميم كلها غير بني سعد، وخرجت معه بنو أسد لحلف كان بينهم وبين غطفان، حتى أتى لقيط الجون الكلبي، وهو ملك هجر، وكان يجبى من بها من العرب، فقال له: هل لك في قوم غارين قد ملئوا الأرض نعما وشاء فترسل معي ابنيك، فما أصبنا من مال وسبى فلهما، وما أصبنا من دم فلي؟ فأجابه الجون إلى ذلك، وجعل له موعدا رأس الحول. ثم أتى لقيط النعمان بن المنذر فاسنتجده وأطعمه في الغنائم، فأجابه. وكان لقيط وجيها عند الملوك. فلما كان على قرن الحول من يوم رحرحان انهلت الجيوش إلى لقيط، وأقبل سنان بن أبي حارثة المري في غطفان، وهو والد هرم بن سنان الجواد، وجاءت بنو أسد، وأرسل الجون ابنيه معاوية وعمرا، وأرسل النعمان أخاه لأمه حسان ابن وبرة الكلبي. فلما توا فوا خرجوا إلى بني عامر، وقد أنذروا بهم وتأهبوا لهم. فقال الأحوص بن جعفر، وهو يومئذ رحا هوازن، لقيس بن زهير: ما ترى؟ فإنك تزعم أنه لم يعرض لك أمران إلا وجد ت في أحدهما الفرج. فقال قيس ابن زهير: الرأي أن نرتحل بالعيال والأموال حتى ندخل شعب جبلة فنقاتل القوم دونها من وجه واحد، فإنهم داخلون عليك الشعب، وإن لقيطا رجل فيه طيش فسيقتحم عليك الجبل، فأرى لك أن تأمر الإبل فلا ترعى ولا تسقى وتعقل، ثم تجعل الذراري وراء ظهورنا، وتأمر الرجال فتأخذ بأذناب الإبل، فإذا دخلوا علينا الشعب حلت الرجالة عقل الإبل، ثم لزمت أذنابها، فإنها تنحدر عليهم وتحن إلى مرعاها ووردها، ولا يرد وجوهها شيء، وتخرج الفرسان في إثر الرجالة الذين خلف الإبل فإنها تحطم ما لقيت وتقبل عليهم الخيل، وقد حطموا من عل. قال الأحوص: نعم ما رأيت، فأخذ برأيه. ومع بني عامر يومئذ بنو عبس، وغنى في بني كلاب، وباهلة في بني كعب، والأبناء أبناء صعصعة. وكان رهط المعقر البارقي يومئذ في بني نمير بن عامر، وكانت قبائل بجيلة كلها فيهم غير قسر. قال أبو عبيدة: وأقبل لقيط والملوك ومن معهم، فوجدوا بني عامر قد دخلوا شعب جبلة، فنزلوا على فم الشعب. فقال لهم رجل من بني أسد: خذوا عليهم فم الشعب حتى يعطشوا ويخرجوا، فوالله ليتساقطن عليكم تساقط البعر من أست البعير. فأتوا حتى دخلوا الشعب عليهم، وقد عقلوا الإبل وعطشوها ثلاثة أخماس، وذلك اثنتا عشرة ليلة، ولم تطعم شيئا. فلما دخلوا حلوا عقلها، فأقبلت تهوي. فسمع القوم دويها في الشعب، فظنوا أن الشعب قد هدم عليهم، والرجالة في إثرها آخذين بأذنابها، فدقت كل ما لقيت، وفيها بعير أعور يتلوه غلام أعسر أخذ بذنبه وهو يرتجز ويقول: " أنا الغلام الأعسر الخير في والشر والشر في أكثر " فانهزموا لا يلوون على أحد. وقتل لقيط بن زرارة، وأسر حاجب بن زرارة، أسره ذو الرقيبة. وأسر سنان بن حارثة المري، أسره عروة الرحال، فجز ناصيته وأطلقه، فلم تشنه. وأسر عمرو بن أبي عمرو بن عدس، أسره قيس بن المنتفق، فجز ناصيته ناصيته وخلاه طمعا في المكافأة، فلم يفعل. وقتل معاوية بن الجون، ومنقذ بن طريف الأسدي، ومالك بن ربعي بن جندل ابن نهشل. فقال جرير:
كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا ... وعمرو بن عمرو إذ دعا يا لدارم
ويوم الصفا كنتم عبيدا لعامر ... وبالحزن أصبحتم عبيد اللهازم
يعنى بالحزن يوم الوقيط. وقال جرير أيضا في بني دارم:
ويوم الشعب قد تركوا لقيطا ... كأن عليه حلة أرجوان
وكبل حاجب بشمام حولا ... فحكم ذا الرقيبة وهو عانى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:12 pm

وقالت دختنوس بنت لقيط ترثي لقيطا:
فرت بنو أسد فرا ... ر الطير عن أربابها
عن خير خندف كلها ... من كهلها وشبابها
وأتمها حسبا إذا ... نصت إلى أحسابها
وقال المعقر البارقي:
أمن آل شعثاء الحمول البواكر ... مع الصبح أم زالت قبيل الأباعر
وحلت سليمى في هضاب وأيكة ... فليس عليها يوم ذلك قادر
وألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
وصبحها أملاكها بكتيبة ... عليها إذا أمست من الله ناظر
معاوية بن الجون ذبيان حوله ... وحسان في جمع الرباب مكاثر
وقد زحفت دودان تبغي لثأرها ... وجاشت تميم كالفحول تخاطر
وقد جمعوا جمعا كأن زهاءه ... جراد هفا في هبوة متطاير
فمروا بأطناب البيوت فردهم ... رجال بأطناب البيوت مساعر
فباتوا لنا ضيفا وبتنا بنعمة ... لنا مسمعات بالدفوف وزامر
فلم نقرهم شيئا ولكن قراهم ... صبوح لدينا مطلع الشمس حازر
وصبحهم عد الشروق كتائب ... كأركان سلمى سيرها متواتر
كأن نعام الدو باض عليهم ... وأعينهم تحت الحبيك خوازر
من الضاربين الهام يمشون مقدما ... إذا غص بالريق القليل الحناجر
أضن سراة القوم أن لن يقاتلوا ... إذا دعيت بالسفح عبس وعامر
ضربنا حبيك البيض يا غمر لجة ... فلم ينج في الناجين منهم مفاخر
هوى زهدم تحت العجاج لحاجب ... كما انقض باز أقتم الريش كاسر
يفرج عنا كل ثغر نخافه ... مسح كسرحان القصيمة ضامر
وكل طموح في العنان كأنها ... إذا اغتمست في الماء فتخاء كاسر
لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر
تخاف نساء يبتززن حليلها ... محربة قد أحردتها الضرائر
استعار هذا البيت فألقت عصاها من المعقر البارقي، إذ كان مثلا في الناس، راشد بن عبد ربه السلمى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل أبا سفيان بن حرب على نجران فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد ابن عبد ربه السلمى أميرا على المظالم والقضاء، فقال راشد بن عبد ربه:
صحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه ... وردت عليه تبتغيه تماضر
وحلمه شيب القذال عن الصبا ... وللشبيب عن بعض الغواية زاجر
فأقصر جهلي اليوم وارتد باطلي ... عن اللهو لما أبيض مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعد صحوه ... بمعرض ذي الآجام عيس بواكر
ولما دنت من جانب الغوط أخصبت ... وحلت فلاقاها سليم وعامر
وخبرها الركبان أن ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر
فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
فاستعار هذا البيت الأخير من المعقر البارقي، ولا أحسبه استجاز ذلك إلا لاستعمال العامة له وتمثلهم به.
يوم مقتل الحارث بن ظالم
بالخربة

(2/261)

قال أبو عبيدة: لما قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر الكلابي أتى صديقا له من كندة، فالتف عليه، فطلبه الملك، فخفى ذكره. ثم شخص من عند الكندي، وأضمرته البلاد حتى استجار بزياد، أحد بني عجل بن لجيم، فقام بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لعجل: أخرجوا هذا الرجل من بين أظهركم فإنه لا طاقة لنا بالشهباء ودوسر - وهما كتيبتان للأسود بن المنذر - ولا بمحاربة الملك. فأبت ذلك عليهم عجل. فلما رأى ذلك الحارث ابن ظالم كره أن يقع منهم فتنة بسببه، فأرتحل من بني عجل إلى جبلي طيىء، فأجاروه، فقال في ذلك:
لعمري لقد حل بي اليوم ناقتي ... على ناصر من طيىء غير خاذل
فأصبحت جارا للمجرة فيهم ... على باذخ يعلو يد المتطاول
إذا أجأ لفت علي شعابها ... وسلمى فأني أنتم من تناولي
فمكث عندهم حينا ثم إن الأسود بن المنذر لما أعجزه أمره أرسل إلى جارات كن للحارث بن ظالم، فاستاقهن وأموالهن. فبلغ ذلك الحارث ابن ظالم، فخرج من الجبلين، فاندس في الناس حتى علم مكان جاراته ومرعى إبلهن، فأتاهن فاستنقذهن، واستاق إبلهن فألحقهن بقومهن، واندس في بلاد غطفان، حتى أتى سنان بن أبي حارثة المري، وهو أبو هرم الذي كان يمدحه زهير. وكان الأسود بن المنذر قد استرضع ابنه شرحبيل عند سلمى امرأة سنان، وهي من بني غنم بن دودان بن أسد، فكانت لا تأمن على ابن الملك أحدا، فاستعار الحارث بن ظالم سرج سنان، وهو في ناحية الشربة لا يعلم سنان ما يريد، وأتى بالسرج امرأة سنان وقال لها: يقول بعلك: ابعثي بابن الملك مع الحارث، فإني أريد أن أستأمن له الملك، وهذا سرجه آية ذلك. قال: فزينته سلمى ودفعته إليه. فأتى به ناحية من الشربة فقتله، وقال في ذلك:
أخصيي حمار بات يكدم نجمة ... أتؤكل جاراتي وجارك سالم
علوت بذي الحيات مفرق رأسه ... ولا يركب المكروه إلا الأكارم
فتكت به كما فتكت بخالد ... وكان سلاحي تجتويه الجماجم
بدأت بذاك وانثنيت بهذه ... وثالثة تبيض منها المقادم
قال: وهرب الحارث من فوره ذلك، وهرب سنان بن أبي حارثة. فلما بلغ الأسود قتل ابنه شرحبيل، غزا بني ذبيان، فقتل وسبى وأخذ الأموال، وأغار على بني دودان، رهط سلمى التي كان شرحبيل في حجرها، فقتلهم وسباهم، بسط أريك. قال: فوجد بعد ذلك نعلي شرحبيل في ناحية الشربة عند بني محارب بن خصفة، فغزاهم الملك، ثم أسرهم، ثم أحمى الصفا، وقال: إني أحذيتكم نعالا، فأمشاهم على ذلك الصفا، فتساقطت أقدامهم. ثم إن سيار بن عمرو بن جابر الفزاري احتمل للأسود دية ابنه ألف بعير، وهي دية الملوك، ورهنه بها قوسه فوفاه بها، فقال في ذلك:
ونحن رهنا القوس ثمت فوديت ... بألف على ظهر الفزاري أقرعا
بعشر مئين للملوك وفى بها ... ليحمد سيار بن عمرو فأسرعا
وكان هذا قبل قوس حاجب. وقال في ذلك أيضا:
وهل وجد تم حاملا كحاملي ... إذ رهن القوس بألف كامل
بدية ابن الملك الحلاحل ... فافتكها من قبل عام قابل
سيار الموفى بها ذو النائل وهرب الحارث فلحق بمعبد بن زرارة، فاستجار به فأجاره، وكان من سببه وقعة رحرحان التي تقدم ذكرها. ثم هرب الحارث حتى لحق بمكة وقريش، لأنه يقال إن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، إنما هو مرة بن عوف بن لؤي ابن غالب، فتوسل إليهم بهذه القرابة، وقال في ذلك:
إذا فارقت ثعلبة بن سعد ... وإخوتهم نسبت إلى لؤي
إلى نسب كريم غير دغل ... وحي من أكارم كل حي
فإم يك منهم أصلي فمنهم ... قرابين الإله بني قصي
فقالوا: هذه رحم كرشاء، إذ استغنيتم عنها لن يتركم. قال: فشخص الحارث عنهم غضبان، وقال في ذلك:
ألا لستم منا ولا نحن منكم ... برئنا إليكم من لؤي بن غالب

(2/262)

غدونا على نشز الحجاز وأنتم ... بمنشعب البطحاء بين الأخاشب
وتوجه الحارث بن ظالم إلى الشام فلحق بيزيد بن عمرو الغساني، فأجاره وأكرمه. وكان ليزيد ناقة محماة، في عنقها مدية وزناد وصرة ملح، وإنما كان يمتحن بها رعيته لينظر من يجترئ عليه. فوحمت امرأة الحارث فاشتهت شحما في وحمها، فانطلق الحارث إلى ناقة الملك فانتحرها، وأتاها بشحمها، وفقدت الناقة، فأرسل الملك إلى الخمس التغلبي، وكان كاهنا، فسأله عن الناقة، فأخبره أن الحارث صاحبها. فهم الملك به، ثم تذمم من ذلك. وأوجس الحارث في نفسه شرا، فأتى الخمس التغلبي فقتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقتله. قال: أيها الملك، إنك قد أجرتني فلا تغدرن بي. فقال الملك: لا ضير إن غدرت بك مرة لقد غدرت بي مرارا. وأمر ابن الخمس. فقتله وأخذ ابن الخمس سيف الحارث فأتى به عكاظ في الأشهر الحرم، فأراه قيس بن زهير العبسي، فضربه به قيس فقتله، وقال يرثي الحارث بن ظالم:
وما قصرت من حاضن ستر بيتها ... أبر وأوفى منك حار بن ظالم
أعز وأحمى عند جار وذمة ... وأضرب في كاب من النقع قاتم
حرب داحس والغبراء
وهي من حروب قيس قال أبو عبيدة: حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، ابني بغيض بن ريث بن غطفان. وكان السبب الذي هاجها أن قيس بن زهير وحمل بن بدر تراهنا على داحس والغبراء، أيهما يكون له السبق، وكان داحس فحلا لقيس ابن زهير، والغبراء حجرا، لحمل بن بدر، وتواضعا الرهان على مائة بعير، وجعلا منتهى الغاية مائة غلوة، والإضمار أربعين ليلة، ثم قادوهما إلى رأس الميدان بعد أن أضمروهما أربعين ليلة، وفي طرف الغاية شعاث كثيرة. فأكمن حمل بن بدر في تلك الشعاب فتيانا على طريق الفرسين، وأمرهم إن جاء داحس سابقا أن يردوا وجهه عن الغاية. قال: فأرسلوهما فأحضرا، فلما احضرا خرجت الأنثى من الفحل. فقال حمل بن بدر: سبقتك يا قيس. قال قيس: رويدا يعدوان الجدد إلى الوعث ترشح أعطاف الفحل. قال: فلما أوغلا في الجدد وخرجا إلى الوعث برز داحس عن الغبراء فقال قيس: جري المذكيات غلاء، فذهبت مثلا. فلما شارف داحس الغاية ودنا من الفتية، وثبوا في وجه داحس فردوه عن الغاية. ففي ذلك يقول قيس بن زهير:
وما لاقيت من حمل بن بدر ... وإخوته على ذات الإصاد
هم فخروا علي بغير فخر ... وردوا دون غايته جوادي
ثارت الحرب بين عبس وذبيان، ابني بغيض، فبقيت أربعين سنة لم تنتج لهم ناقه ولا فرس، لاشتغالهم بالحرب. فبعث حذيفة بن بدر ابنه مالكا إلى قيس بن زهير يطلب منه حق السبتى. فقال قيس: كلا، لأمطلنك به، ثم أخذ الرمح فطعنه به فدق صلبه، ورجعت فرسه عارية فاجتمع الناس فاحتملوا دية مالك مائة عشراء. وزعموا أن الربيع بن زياد العبسي حملها وحده، فقبضها حذيفة وسكن الناس. ثم إن مالك بن زهير نزل اللقاطة من أرض الشربة، فأخبر حذيفة بمكانه، فعدا عليه فقتله. ففي ذلك يقول عنترة الفوارس:
فلله عينا من رأى مثل مالك ... عقيرة قوم أن جرى فرسان
فليتهما لم يجريا قيد غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان
فقالت بنو عبس: مالك بن زهير بمالك بن حذيفة، وردوا علينا مالنا. فأبى حذيفة أن يرد شيئا. وكان الربيع بن زياد مجاورا لبني فزارة، ولم يكن في العرب مثله ومثل إخوته، وكان يقال لهم الكملة، وكان مشاحنا لقيس بن زهير من سبب درع لقيس غلبه عليها الربيع بن زياد، فاطرد قيس لبونا لبني زياد فأتى بها مكة، فعاوض بها عبد الله بن جدعان بسلاح، وفي ذلك يقول قيس ابن زهير:
ألم يبلغك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
ومحبسها على القرشي تشرى ... بأدراع وأسياف حداد
وكنت إذا بليت بخصم سوء ... دلفت له بداهية نآد

(2/263)

ولما قتل مالك بن زهير قامت بنو فزارة يسألون ويقولون: ما فعل حماركم؟ قالوا: صدناه. فقال الربيع: ما هذا الوحي؟ قالوا: قتلنا مالك بن زهير. قال بئسما فعلتم بقومكم، قبلتم الدية، ثم رضيتم بها وغدرتم. قالوا: لولا أنك جارنا لقتلناك، وكانت خفرة الجار ثلاثا. فقالوا له: بعد ثلاث ليال: اخرج عنا. فخرج وأتبعوه فلم يلحقوه، حتى لحق بقومه. وأتاه قيس بن زهير فعاقده. وفي ذلك يقول الربيع:
فإن تك حربكم أمست عوانا ... فإني لم أكن ممن جناها
ولكن ولد سودة أرثوها ... وحشوا نارها لمن اصطلاها
فإني غير خاذلكم ولكن ... سأسعى الآن إذ بلغت مداها
ثم نهضت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان إلى بني فزارة وذبيان، ورئيسهم الربيع بن زياد، ورئيس بني فزارة حذيفة بن بدر.
يوم المريقب
لبني عبس على فزارة
فالتقوا بذي المريقب: من أرض الشربة؟ فاقتتلوا، فكانت الشوكة في بني فزارة، قتل منهم عوف بن زيد بن عمرو بن أبي الحصين، أحد بني عدي بن فزارة، وضمضم أبو الحصين المري، قتله عنترة الفوارس، ونفر كثير ممن لا يعرف أسماؤهم. فبلغ عنترة أن حصينا وهرما، ابني ضمضم، يشتمانه ويواعدانه فقال في قصيدته التي أولها:
يا دار علبة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابنى ضمضم
الشاتمي عرضى ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم ألقهما دمي
إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السباع وكل نسر قشعم
لما رآني قد نزلت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسم
وفي هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس:
فلتعلمن إذا التقت فرساننا ... يوم المريقب أن ظنك أحمق
يوم ذي حسى
لذبيان على عبس
ثم إن ذبيان تجمعت لما أصابت بنو عبس منهم يوم المريقب: فزارة، ابن ذبيان، ومرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وأحلافهم، فنزلوا فتوافوا بذي حسا، وهو وادي الصفا من أرض الشربة، وبينها وبين قطن ثلاث ليال، وبينها وبين اليعمرية ليلة. فهربت بنو عبر، وخافت أن لا تقوم بجماعة بني ذبيان، واتبعوهم حتى لحقوهم، فقالوا: التفاني أو تقيدونا. فأشار قيس ابن زهير على الربيع بن زياد ألا يناجزوهم وأن يعطوهم رهائن من أبنائهم حتى ينظروا في أمرهم. فتراضوا أن تكون رهنهم عند سبيع بن عمرو، أحد بني ثعلبة ابن سعد بن ذبيان. فدفعوا إليه ثمانية من الصبيان وانصرفوا، وتكاف الناس. وكان رأي الربيع مناجزتهم. فصرفه قيس عن ذلك. فقال الربيع:
أقول ولم أملك لقيس نصيحة ... أرى ما يرى والله بالغيب أعلم
أتبقي على ذبيان في قتل مالك ... فقد حش جاني الحرب نارا تضرم
فمكثت رهنهم عند سبيع بن عمرو حتى حضرته الوفاة، فقال لابنه مالك ابن سبيع: إن عندك مكرمة لا تبيد، لا ضير إن أنت حفظت هؤلاء الأغيلمة، فكأني بك لو مت أتاك خالك حذيفة بن بدر فعصر لك عينيه وقال: هلك سيدنا، ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه فيقتلهم، فلا تشرف بعدها أبدا، فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما هلك شبيع أطاف حذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه. فأتى بهم اليعمرية، فجعل يبرز كل يوم غلاما فينصبه غرضا، ويقول: ناد أباك. فينادي أباه حتى يقتله.
يوم اليعمرية
لعبس على ذبيان
فلما بلغ ذلك من فعل حذيفة بني عبس أتوهم باليعمرية فلقوهم - بالحرة، حرة اليعمرية - فقتلوا منهم اثني عشر رجلا، منهم: مالك بن سبيع الذي رمى بالغلمة إلى حذيفة، وأخوه يزيد بن سبيع، وعامر بن لوذان، والحارث بن زيد، وهرم بن ضمضم، أخو حصين. ويقال ليوم اليعمرية يوم نفر، لأن بينهما أقل من نصف يوم.
يوم الهباءة
لعبس على ذبيان

(2/264)

ثم اجتمعوا فالتقوا في يوم قائظ إلى جنب جفر الهباءة، واقتتلوا من بكرة حتى أنتصف النهار، وحجز الحر بينهم، وكان حذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركض فقال قيس بن زهير: يا بني عبس، إن حذيفة غدا إذا احتدمت الوديقة مستنقع في جفر الهباءة، فعليكم بها. فخرجوا حتى وقعوا على أثر صارف، فرس حذيفة، والحنفاء، فرس حمل بن بذر. فقال قيس بن زهير: هذا أثر الحنفاء وصارف، فقفوا أثرهما حتى توافوا مع الظهيرة على الهباءة. فبصر بهم حمل بن بدر، فقال لهم: من أبغض الناس إليكم أن يقف على رؤوسكم؟ قالوا: قيس ابن زهير والربيع بن زياد، فقال: هذا قيس بن زهير قد أتاكم. فلم ينقض كلامه حتى وقف قيس وأصحابه على جفر الهباءة، وقيس يقول: لبيكم لبيكم - يعني إجابة الصبية الذين كانوا ينادونهم إذ يقتلون - وفي الجفر حذيفة وحمل، ابنا بدر، ومالك بن بدر، وورقاء بن هلال، من بني ثعلبة بن سعد، وحنش بن وهب. فوقف عليهم شداد بن معاوية العبسي؛ وهو فارس جروة، وجروة فرسه، ولها يقول:
ومن يك سائلا عني فإني ... وجروة كالشجا تحت الوريد
أقوتها بقوتي إن شتونا ... وألحقها ردائي في الجليد
فحال بينهم وبين خيلهم. ثم توافت فرسان بني عبس، فقال حمل: ناشدتك الله والرحم يا قيس. فقال: لبيكم لبيكم. فعرف حذيفة أنه لن يدعهم، فأنتهر حملا وقال: إياك والمأثور من الكلام. فذهبت مثلا. وقال لقيس: لئن قتلتني لا تصلح غطفان أبعدها. فقال قيس: أبعدها الله ولا أصلحها. وجاءه قرواش بمعبلة، فقصم صلبه. وأبتدره الحارث بن زهير وعمرو بن الأصلع، فضرباه بسيفيهما حتى ذففا عليه. وقتل الربيع بن زياد حمل بن بدر. فقال قيس ابن زهير يرثيه:
تعلم أن خير الناس ميت ... على جفر الهباءة ما يريم
ولولا ظلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النجوم
ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم
أضن الحلم دل علي قومي ... وقد يستضعف الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني ... فمعوج علي ومستقيم
ومثلوا بحذيفة بن بدر كما مثل هو بالغلمة، فقطعوا مذاكيره وجعلوها في فيه، وجعلوا لسانه في استه. وفيه يقول قائلهم:
فإن قتيلا بالهباءة في استه ... صحيفته إن عاد للظلم ظالم
متى تقرأوها تهدكم عن ضلالكم ... وتعرف إذ ما فض عنها الخواتم
وقال في ذلك عقيل بن علفة المري:
ويوقد عوف للعشيرة ناره ... فهلا على جفر الهباءة أوقدا
فإن على جفر الهباءة هامة ... تنادي بني بدر وعارا مخلدا
وإن أبا ورد حذيفة مثفر ... بأير على جفر الهباءة أسودا
وقال الربيع بن قعنب:
خلق المخازي غير أن بذي حسا ... لبني فزارة خزية لا تخلق
تبيان ذلك أن في است أبيهم ... شنعاء من صحف المخازي تبرق
وقال عمرو بن الأسلع:
إن السماء وإن الأرض شاهدة ... والله يشهد والإنسان والبلد
أني جزيت بني بدر بسعيهم ... على الهباءة قتلا ماله قود
لما التقينا على أرجاء جمتها ... والمشرفية في أيماننا تقد
علوته بحسام ثم قلت له ... خذها إليك فأنت السيد الصمد
فلما أصيب أهل الهباءة واستعظمت غطفان قتل حذيفة تجمعوا، وعرفت بنو عبس أن ليس لهم مقام بأرض غطفان، فخرجوا إلى اليمامة فنزلوا بأخوالهم بني حنيفة، ثم رحلوا عنهم فنزلوا ببني سعد بن زيد مناة.
يوم الفروق

(2/265)

ثم إن بني سعد غدروا لجوارهم، فأتوا معاوية بن الجون فاستجاشوه عليهم وأرادوا أكلهم. فبلغ ذلك بني عبس، ففروا ليلا وقدموا ظعنهم، ووقف فرسانهم بموضع يقال له الفروق. وأغارت بنو سعد ومن معهم من جنود الملك على محلتهم، فلم يجدوا إلا مواقد النيران، فاتبعوهم حتى أتوا الفروق، فإذا بالخيل والفرسان، وقد توارت الظعن، فانصرفوا عنهم. ومضى بنو عبس فنزلوا ببني ضبة فأقاموا فيهم وكان بنو جذيمة من بني عبس يسمون بني رواحة، وبنو بدر من فزارة يسمون بني سودة. ثم رجعوا إلى قومهم فصالحوهم، وكان أول من سعى في الحمالة حرملة بن الأشعر بن صرمة بن مرة، فمات، فسعى فيها هاشم ابن حرملة ابنه، وله يقول الشاعر:
أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يوم الهباتين ويوم اليعمله
ترى الملوك حوله مرعبله ... يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له
يوم قطن
فلما توافوا للصلح وقفت بنو عبس بقطن، وأقبل حصين بن ضمضم، فلقي تيحان. أحد بني مخزوم بن مالك. فقتله بأبيه ضمضم، وكان عنترة بن شداد قتله بذي المريقب. فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان وقالوا: لا نصالحكم ما بل البحر صوفة، وقد غدرتم بنا غير مرة، وتناهض القوم عبس وذبيان، فالتقوا بقطن، فقتل يومئذ عمرو بن الأسلع عيينة، ثم سفرت السفراء بينهم، وأتى خارجة بن سنان أبا تيحان بابنه فدفعه إليه، فقال: في هذا وفاء من ابنك. فأخذه فكان عنده أياما. ثم حمل خارجة لأبي تيحان مائة بعير قادها إليه واصطلحوا وتعاقدوا.
يوم غدير قلهى
قال أبو عبيدة: فاصطلح الحيان إلا بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فإنهم أبوا ذلك، وقالوا: لا نرضى حتى يودوا قتلانا أو يهدر دم من قتلها. فخرجوا من قطن حتى وردوا غدير قلهى فسبقهم بنو عبس إلى الماء فمنعوهم حتى كادوا يموتون عطشا ودوابهم، فاصلح بينهم عوف ومعقل، ابنا سبيع، من بني ثعلبة، وإياهما يعني زهير بقوله:
تداركتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فوردوا حربا واخرجوا عنه سلما.
تم حرب داحس والغبراء.
يوم الرقم
لغطفان على بني عامر
غزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غطفان بالرقم - وهو ماء لبني مرة - وعلى بني عامر عامر بن الطفيل - ويقال يزيد بن الصعق - فركب عيينة بن حصن في بني فزارة، ويزيد بن سنان في بني مرة، ويقال الحارث بن عوف، فانهزمت بنو عامر، وجعل يقاتل عامر بن الطفيل ويقول: " يا نفس إلا تقتلي تموتي " فزعمت بنو غطفان أنهم أصابوا من بني عامر يومئذ أربعة وثمانين رجلا، فدفعوهم إلى أهل بيت من أشجع، كانت بنو عامر قد أصابوا فيهم، فقتلوهم أجمعين. وانهزم الحكم بن الطفيل في نفر من أصحابه، فيهم جراب بن كعب، حتى انتهوا إلى ماء يقال له المروراة، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق نفسه الحكم بن الطفيل تحت شجرة مخافة المثلة. وقال في ذلك عروة بن الورد:
عجبت لهم لم يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغى كان أجدرا
يوم النتأة
لعبس علي بني عامر
خرجت بنو عامر تريد أن تدرك بثأرها يوم الرقم، فجمعوا على بني عبس بالنتأة وقد أنذروا بهم، فالتقوا، وعلى بني عامر عامر بن الطفيل، وعلى بني عبس الربيع بن زياد، فاقتتلوا قتالا شديدا. فانهزمت بنو عامر وقتل منهم صفوان بن مرة، قتله الأحنف بن مالك، ونهشل بن عبيدة بن جعفر، قتله أبو زعبة بن حارث: وعبد الله بن أنس بن خالد. وطعن ضبيعة بن الحارث عامر بن الطفيل فلم يضره، ونجا عامر، وهزمت بنو عامر هزيمة قبيحة. فقال خراشة بن عمرو العبسي:
وسارو على أظمائهم وتواعدوا ... مياها تحامتها تميم وعامر
كأن لم يكن بين الذناب وواسط ... إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر
ألا أبلغا عني خليلي عامرا ... أتنسى سعاد اليوم أم أنت ذاكر

(2/266)

وصدتك أطرا ف الرماح عن الهوى ... ورمت أمورا ليس فيها مصادر
وغادرت هزان الرئيس ونهشلا ... فلله عينا عامر من تغادر
وأسلمت عبد الله لما عرفتهم ... ونجاك وثاب الجراميز ضامر
قذفتهم في الموت ثم خذلتهم ... فلا والت نفس عليك تحاذر
وقال أبو عبيدة: إن عامر بن الطفيل هو الذي طعن ضبيعة بن الحارث، ثم نجا من طعنته، وقال في ذلك:
فإن تنج منها يا ضبيع فإنني ... وجدك لم أعقد عليك التمائما
يوم شواحط
لبني محارب على بني عامر
غزت سرية من بني عامر بن صعصعة بلاد غطفان، فأغارت على إبل لبني محارب بن خصفة، فأدركهم الطلب، فقتلوا من بني كلاب سبعة وارتدوا وإبلهم. فلما رجعوا من عندهم وثب بنو كلاب على جسر، وهم من بني محارب، كانوا حاربوا إخوتهم فخرجوا عنهم وحالفوا بني عامر بن صعصعة، فقالوا: نقتلهم بقتل بني محارب من قتلوا منا. فقام خداش بن زهير دونهم حتى منعهم من ذلك، وقال:
أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... عقيلا وابلغ إن لقيت أبا بكر
فيا أخوينا من أبينا وأمنا ... إليكم إليكم لا سبيل إلى جسر
دعوا جانبي إني سأترك جانبا ... لكم واسعا بين اليمامة والقهر
أبى فارس الضحياء عمرو بن عمرو ... أبي الذم واختار الوفاء على الغدر
يوم حوزة الأول
لسليم على غطفان
قال أبو عبيدة: كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حرملة، أحد بني مرة بن غطفان، كلام بعكاظ، فقال معاوية: لوددت والله أني قد سمعت بظعائن يندبنك. فقال هاشم: والله لوددت أني قد تربت الرطبة - وهي جمة معاوية، وكان الدهر تنطف ماء ودهنا وإن لم تدهن - فلما كان بعد تهيأ معاوية ليغزو هاشما، فنهاه أخوه صخر. فقال، كأني بك إن غزوتهم علق بجمتك حسك العرفط. قال: فأبى معاوية وغزاهم يوم حوزة، فرآهم هاشم بن حرملة قبل أن يراه معاوية، وكان هاشما ناقها من مرض أصابه، فقال لأخيه دريد ابن حرملة: إن هذا إن رآني لم آمن أن يشد علي وأنا حديث عهد بشكية، فاستطرد له دوني حتى تجعله بيني وبينك، ففعل. فحمل عليه معاوية وأردفه هاشم، فاختلفا طعنتين، فأردى معاوية هاشما عن فرسه الشماء، وأنفذ هاشم سنانة من عانة معاوية. قال: وكر عليه دريد فظنه قد أردى هاشما، فضرب معاوية بالسيف فقتله، وشد خفاف بن عمير على مالك ابن حارث الفزاري: قال: وعادت الشماء، فرس هاشم، حتى دخلت في جيش بني سليم، فأخذوها وظنوها فرس الفزاري الذي قتله خفاف، ورجع الجيش حتى دنوا من صخر، أخي معاوية، فقالوا: أنعم صباحا أبا حسان. فقال: حييتم بذلك، ما صنع معاوية؟ قالوا: قتل. قال: فما هذه الفرس؟ قالوا: قتلنا صاحبها. قال: إذا قد أدركتم ثأركم، هذه فرس هاشم بن حرملة.
قال: فلما دخل رجب ركب صخر بن عمرو الشماء صبيحة يوم حرام فأتى بني مرة. فلما رأوه، قال لهم هاشم: هذا صخر فحيوه وقولوا له خيرا، وهاشم مريض من الطعنة التي طعنه معاوية، فقال: من قتل أخي؟ فسكتوا. فقال: لمن هذه الفرس التي تحتي؟ فسكتوا. فقال هاشم: هلم أبا حسان إلى من يخبرك. قال: من قتل أخي؟ فقال هاشم: إذا أصبتني أو دريدا فقد أصبت ثأرك. قال: فهل كفنتموه؟ قال: نعم، في بردين، أحدهما بخمس وعشرين بكرة. قال: فأروني قبره. فأروه إياه. فلما رأى القبر جزع عنده، ثم قال: كأنكم قد أنكرتم ما رأيتم من جزعي، فوالله ما بت منذ عقلت إلا واترا أو موتورا، أو طالبا أو مطلوبا، حتى قتل معاوية فما ذقت طعم نوم بعده.
يوم حوزة الثاني

(2/267)

قال: قم غزاهم صخر، فلما دنا منهم مضى على الشماء، وكانت غراء محجلة، فسود غرتها وتحجيلها، فرأته بنت لهاشم، فقالت لعمها دريد: أين الشماء؟ قال: هي في بني سليم، قالت: ما أشبهها بهذه الفرس. فاستوى جالسا، فقال: هذه فرس بهيم والشماء غراء محجلة، وعاد فاضطجع. فلم يشعر حتى طعنه صخر. قال: فثاروا وتناذروا، وولى صخر، وطلبته غطفان عامة يومها، وعارض دونه أبو شجرة بن عبد العزى، وكانت أمه خنساء أخت صخر وصخر خاله، فرد الخيل عنه حتى أراح فرسه ونجا إلى قومه. فقال خفاف بن ندبه لما قتل معاوية: قتلني الله إن برحت من مكاني حتى أثار به، فشد على مالك، سيد بني جمح، فقتله، فقال في ذلك:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين على عين تيممت مالكا
نصبت له علوى وقد خام صحبتي ... لأبني مجدا أو لأثأر هالكا
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
وقال صخر يرثي معاوية، وكان قال له قومه، أهج بني مرة. فقال: ما بيننا أجل من القذع. وأنشأ يقول:
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفى اللوم مابيا
تقول ألا تهجو فوارس هاشم ... ومالي أن أهجوهم ثم ماليا
أبى الذم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
إذا ما أمرؤ أهدى لميت تحية ... فحياك رب الناس عني معاويا
وهون وجدي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل عليه بماليا
وذي إخوة قطعت أقران بينهم ... كما تركوني واحدا لا أخاليا
وقال في قتل دريد:
ولقد دفعت إلى دريد طعنة ... نجلاء توغر مثل غط المنخر
ولقد قتلتكم ثناء وموحدا ... وتركت مرة مثل أمس الدابر
قال أبو عبيدة: وأما هاشم بن حرملة فإنه خرج منتجعا، فلقيه عمرو بن قيس الجشمي فتبعه، وقال هذا قاتل معاوية، لا وألت نفسي إن وأل فلما نزل هاشم كمن له عمرو بن قيس بين الشجر، حتى إذا دنا منه أرسل عليه معبلة ففلق قحفه فقتله، وقال في ذلك:
لقد قتلت هاشم بن حرمله ... إذ الملوك حوله مغربله
يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له
يوم ذات الأثل
قال أبو عبيدة: ثم غزا صخر بن عمرو بن الشريد بني أسد بن خزيمة واكتسح إبلهم فأتى الصريخ بني أسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فطعن ربيعة بن ثور الأسدي صخرا في جنبه، وفات القوم بالغنيمة. وجرى صخر من الطعنة، فكان مريضا قريبا من الحول حتى مله أهله، فسمع امرأة من جاراته تسأل سلمى امرأته: كيف بعلك؟ قالت: لا حي فيرجى، ولا ميت فينسى، لقد لقينا منه الأمرين. وكانت تسأل أمه: كيف صخر؟ فتقول: أرجو له العافية إن شاء الله. فقلل في ذلك:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
فأي امرئ ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقى وهوان
وما كنت أخشى أن أكون جنازة عليك ... ومن يغتر بالحدثان
لعمري لقد نبهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
فلما طال عليه البلاء وقد نتأت قطعة من جنبه مثل اليد في موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعتها لرجونا أن تبرأ. فقال: شأنكم. فقطعوها فمات. فقالت الخنساء أخته ترثيه
فما بال عيني ما بالها ... لقد اخضل الدمع سربالها
أمن فقد صخر من آل الشري ... د حلت به الأرض أثقالها
فآليت أبكي على هالك ... وأسأل نائحة ما لها
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:14 pm

هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة ... فإما عليها وإما لها
وقالت ترثيه:
وقائلة والنعش قد فات خطوها ... لتدركه يا لهف نفسي على صخر
ألا ثكلت أم الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
يوم عدنية
وهو يوم ملحان
قال أبو عبيدة: هذا اليوم قبل يوم ذات الأثل، وذلك أن صخرا غزا بقومه وترك الحي خلوا، فأغارت عليهم غطفان، فثارت إليهم غلمانهم ومن كان تخلف منهم، فقتل من غطفان نفر وأنهزم الباقون، فقال في ذلك صخر:
جزى الله خيرا قومنا إذ دعاهم ... بعدنية الحي الخلوف المصبح
وغلماننا كانوا أسود خفية ... وحق علينا أن يثابوا ويمدحوا
هم نفروا أقرانها بمضرس ... وسعر وذوا الجيش حتى تزحزحوا
كأنهم إذ يطردون عشية ... بقنة ملحان نعام مروح
يوم اللوى
لغطفان على هوازن
قال أبو عبيدة: غزا عبد الله بن الصمة - واسم الصمة معاوية الأصغر، من بني عزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، وكان لعبد الله ثلاثة أسماء وثلاث كنى، فاسمه عبد الله وخالد ومعبد، وكنيته أبو فرغان وأبو ذفافة وأبو وفاء، وهو أخو دريد بن الصمة لأبيه وأمه - فأغار على عطفان فأصاب منهم إبلا عظيمة فأطردها. فقال له أخوه دريد: النجاة، فقد ظفرت. فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى انتقع نقيعتي - والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الابل فيصنع منها طعاما لأصحابه ويقسم ما أصاب على أصحابه - فأقام وعصى أخاه، فتتبعته فزازة فقاتلوه، وهو بمكان يقال له اللوى، فقتل عبد الله، وارتث دريد فبقي في القتلى. فلما كان في بعض الليل أتاه فارسان، فقال أحدهما لصاحبه: إني أرى عينيه تبص، فأنزل فانظر إلى سبته. فنزل فكشف ثوبه فإذا هي ترمز، فطعنه، فخرج دم كان قد أحتقن. قال دريد: فأفقت عندها، فلما جاوزوني نهضت. قال: فما شعرت إلا وأنا عند عرقوبي جمل امرأة من هوازن. فقالت: من أنت؟ أعوذ بالله من شرك. قلت: لا، بل من أنت؟ ويلك! قالت: امرأة من هوازن سيارة. قلت: وأنا من هوازن، وأنا دريد ابن الصمة. قال: وكانت في قوم مجتازين لا يشعرون بالوقعة، فضمته وعالجته حتى أفاق. فقال دريد يرثي عبد الله أخاه ويذكر عصيانه له وعصيان قومه بقوله:
أعاذل إن الرزء في مثل خالد ... ولا رزء فيما أهلك المرء عن يد
وقلت لعارض وأصحاب عارض ... ورهط بني السوداء والقوم شهدى
علانية ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
أمرتهم أمري بمنقطع اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتدي
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فإن تعقب الأيام والدهر تعلموا ... بني غالب أنا غضاب لمعبد
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي
فإن يك عبد الله خلى مكانه ... فما كان وقافا ولا طائش اليد
ولا برما إذ ما الرياح تناوحت ... برطب العضاه والضريع المعضد
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الضراء طلاع أنجد
قليل التشكي للمصائب حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وهون وجدي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي

(2/269)

أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: خرج دريد بن الصمة في فوارس من بني جشم، حتى إذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الأخرم، وهم يريدون الغارة على بني كنانة، إذ رفع له رجل في ناحية الوادي معه ظعينة، فلما نظر إليه قال لفارس من أصحابه: صح به: خل عن الظعينة وأنج بنفسك. فانتهى إليه الفارس وصاح به وألح عليه. فألقى زمام الناقة وقال للظعينة:
سيرى على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكن
إن أنثنائي دون قرني شائني ... أبلى بلائي وأخبري وعايني
ثم حمل عليه فصرعه وأخذ فرسه فأعطاه للظعينة. فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه. فلما انتهى إليه ورأى ما صنع صاح به. فتصامم عنه كأن لم يسمع. فظن أنه لم يسمع، فغشيه. فألقى زمام الراحلة إلى الظعينة، ثم خرج وهو يقول:
خل سبيل الحرة المنيعة ... إنك لاق دونها ربيعه
في كفه خطية مطيعه ... أولا فخدها طعنة سريعه
والطعن مني في الوغى شريعه
ثم حمل عليه فصرعه. فلما أبطأ على دريد بعث فارسا لينظر ما صنعا. فلما انتهى إليهما وجدهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه. فقال له الفارس: خل عن الظعينة. فقال للظعينة: أقصدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال:
ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس
ثم حمل عليه فصرعه وانكسر رمحه. وارتاب دريد فظن أنهم قد أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل. فلحق دريد ربيعة، وقد دنا من الحي، ووجد أصحابه قد قتلوا، فقال: أيها الفارس، إن مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحك والخيل ثائرة بأصحابها، فدونك هذا الرمح فإني منصرف إلى أصحابي ومثبطهم عنك. فانصرف إلى أصحابه، فقال: إن فارس الظعينة قد حماها وقتل أصحابكم وأنتزع رمحي، ولا مطمع لكم فيه. فانصرف القوم. فقال دريد في ذلك:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظعينة فارسا لم يقتل
أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمر كأنه لم يفعل
متهللا تبدو أسرة وجهه ... مثل الحسام جلته كف الصيقل
يزجي ظعينته ويسحب رمحه ... متوجها يمناه نحو المنزل
وترى الفوارس من مهابة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدل
يا ليت شعري من أبوه وأمه ... يا صاح من يك مثله لا يجهل
وقال ابن مكدم:
إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... عني الظعينة يوم وادي الأخرم
إذ هي لأول من أتاها نهبة ... لولا طعان ربيعة بن مكدم
إذ قال لي أدنى الفوارس منهم ... خل الظعينة طائعا لا تندم
فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم
وهتكت بالرمح الطويل إهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفم
ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء فاغرة كشدق الأضجم
ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار عن العداة تكرمي
ثم لم يلبث بنو كنانة أن أغاروا على بني جشم، فقتلوا، وأسروا دريد بن الصمة، فأخفى نسبه. فبينما هو عندهم محبوس إذ جاءت نسوة يتهادين إليه

(2/270)

فصاحت إحداهن فقالت: هلكتم وأهلكتم! ماذا جر علينا قومنا؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة، ثم ألقت عليه ثوبها، وقالت: يا آل فراس، أنا جارة له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه: من هو؟ فقال: أنا دريد ابن الصمة، فمن صاحبي؟ قالوا: ربيعة بن مكدم. قال: فما فعل؟ قالوا: قتلته بنو سليم. قال: فما فعلت الظعينة؟ قالت المرأة: أنا هي، وأنا امرأته. فحبسه القوم وأتمروا أنفسهم، فقال بعضهم: لا ينبغي لدريد أن تكفر نعمته على صاحبنا، وقال الآخرون: لا والله لا يخرج من أيدينا إلا برضا المخارق الذي أسره. فانبعثت المرأة في الليل. وهي ربطة بنت جذل الطعان، فقالت:
سنجزى دريدا عن ربيعة نعمة ... وكل امرئ يجزى بما كان قدما
فإن كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... وإن كان شرا كان شرا مذمما
سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإهدائه الرمح الطويل المقوما
فلا تكفروه حق نعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك التي تملأ الفما
فإن كان حيا لم يضق بثوابه ... ذراعا غنيا كان أو كان معدما
ففكوا دريدا من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشر سلما
فلما أصبحوا أطلقوه. فكسته وجهزته ولحق بقومه. فلم يزل كافا عن حرب بني فراس حتى هلك.
يوم الصلعاء
لهوازن على غطفان
فلما كان في العام المقبل غزاهم دريد بن الصمة بالصلعاء، فخرجت إليه. غطفان. فقال دريد لصاحبه: ما ترى؟ قال: أرى خيلا عليها رجال كأنهم الصبيان، أسنتها عند آذان خيلها. قال: هذه فزارة. ثم قالت: انظر ما ترى؟ قال: أرى قوما كأن عليهم ثيابا غمست في الجادي. قال: هذه أشجع. ثم قال: انظر ما ترى؟ قال: أرى قوما يهزون رماحهم سودا يخدون الأرض بأقدامهم. قال: هذه عبس، أتاكم الموت الزؤام، فاثبتوا. فالتقوا بالصلعاء، فكان الظفر لهوازن على غطفان، وقتل دريد ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب.
حرب قيس وكنانة
يوم الكديد
لسليم على كنانة
فيه قتل ربيعة بن مكدم فارس كنانة. وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، وهم أنجد العرب، كان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم، وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة: وددت والله أن لي بجميعكم، وأنتم مائة ألف، ثلثمائة من بني فراس بن غنم. وكان ربيعة بن مكدم يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد غيره، ومر به حسان بن ثابت. وقتلته بنو سليم يوم الكديد. ولم يحضر يوم الكديد أحد من بني الشريد.
يوم برزة
لكنانة على سليم
قال أبو عبيدة: لما قتلت بنو سليم ربيعة بن مكدم فارس كنانة ورجعوا، أقاموا ما شاء الله. ثم إن ذا التاج مالك بن خالد بن صخر بن الشريد - واسم الشريد عمرو، وكانت بنو سليم قد توجوا مالكا وأمروه عليهم - غزا بني كنانة، فأغار على بني فراس ببرزة، ورئيس بني فراس عبد الله بن جذل. فدعا عبد الله إلى البراز، فبرز إليه هند بن خالد بن صخر بن الشريد، فقال له عبد الله: من أنت؟ قال: أنا هند بن خالد بن صخر. فقال عبد الله: أخوك أسن منك، يريد مالك بن خالد. فرجع فأحضر أخاه، فبرز له، فجعل عبد الله ابن جذل يرتحز ويقول:
ادن بني قرف القمع ... إني إذا الموت كنع
لا أستغيث بالجزع
ثم شد على مالك بن خالد فقتله فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر، فشد عليه عبد الله بن جذل فقتله أيضا. فشد عليه أخوهما عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد، فتخالفا طعنتين، فجرح كل واحد منهما صاحبه وتحاجزا. وكان عمرو قد نهى أخاه مالكا عن غزو بني فراس، فعصاه وانصرف للغزو عنهم. فقال عبد الله بن جذل:
تجنبت هندا رغبة عن قتاله ... إلى مالك أعشو إلى ضوء مالك
فأيقنت أني ثائر ابن مكدم ... غداتئذ أو هالك في الهوالك
فأنفذته بالرمح حين طعنته ... معانقة ليست بطعنة باتك

(2/271)

وأثنى لكرز في الغبار بطعنة ... علت جلده منها بأحمر عاتك
قتلنا سليما غثها وسمينها ... فصبرا سليما قد صبرنا لذلك
فإن تك نسواني بكين فقد بكت ... كما قد بكت أم لكرز ومالك
وقال عبد الله بن جذل أيضا:
قتلنا مالكا فبكوا عليه ... وهل يغني من الجزع البكاء؟
وكرزا قد تركناه صريعا ... تسيل على ترائبه الدماء
فإن تجزع لذاك بنو سليمفقدوأبيهم غلب العزاء
فصبرا يا سليم كما صبرنا ... وما فيكم لواحدنا كفاء
فلا تبعد ربيعة من نديم ... أخو الهلاك إن ذم الشتاء
وكم من غارة ورعيل خيل ... تداركها وقد حمس اللقاء
يوم الفيفاء
لسليم على كنانة
قال أبو عبيدة: ثم إن بني الشريد حرموا على أنفسهم النساء والدهن، حتى يدركوا بثأرهم من بني كنانة. فغزا عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد بقومه حتى أغار على بني فراس، فقتل منهم نفرا: منهم عاصم بن المعلى، ونضلة والمعارك، وعمرو بن مالك، وحصن، وشريح، وسبى سبيا فيهم ابنة مكدم، أخت ربيعة بن مكدم. فقال عباس بن مرداس في ذلك يرد على ابن جذل في كلمته التي قالها يوم برزة:
ألا أبلغا عني ابن جذل ورهطه ... فكيف طلبناكم بكرز ومالك
غداة فجعناكم بحصن وبابنه ... وبابن المعلى عاصم والمعارك
ثمانية منهم ثأرناهم به ... جميعا وما كانوا بواء بمالك
نذيقكم، والموت يبني سرادقا ... عليكم، شبا حد السيوف البواتك
تلوح بأيدينا كما لاح بارق ... تلألأ في داج من الليل حالك
صبحناكم العوج العناجيج بالضحى ... تمر بنا مر الرياح السواهك
إذا خرجت من هبوة بعد هبوة ... سمت نحو ملتف من الموت شائك
وقال هند بن خالد بن صخر بن الشريد:
قتلت بمالك عمرا وحصنا ... وخليت القتام على الخدود
وكرزا قد أبأت به شريحا ... على أثر الفوارس بالكديد
جريناهم بما انتكهوا وزدنا ... عليه ما وجدنا من مزيد
جلبنا من جنوب الفرد جردا ... كطير الماء غلس للورود
قال: فلما ذكر هند بن خالد يوم الكديد، وافتخر به ولم يشهده أحد من بني الشريد، غضب من ذلك نبيشة بن حبيب، فأنشأ يقول:
تبخل صنعنا في كل يوم ... كمخضوب البنان ولا تصيد
وتأكل ما يعاف الكلب منه ... وتزعم أن والدك الشريد
أبى لي أن أقر الضيم قيس ... وصاحبه المزور به الكديد
حرب قيس وتميم
يوم السوبان
لبني عامر على بني تميم
قال أبو عبيدة: أغارت بنو عامر علي بني تميم وضبة فاقتتلوا. ورئيس ضبة حسان بن وبرة، وهو أخو النعمان لأمه، فأسره يزيد الصعق، وانهزمت تميم. فلما رأى ذلك عامر بن مالك بن جعفر حسده، فشذ على ضرار بن عمرو الضبي، وهو الرديم. فقال لابنه أدهم: أغنه عني. فشد عليه فطعنه. فتحول عن سرجه إلى جنب أبدائه. ثم لحقه، فقال لأحد بنيه أغنه عني، ففعل مثل ذلك. ثم لحقه، فقال لابن له آخر: أغنه عني، ففعل مثل ذلك، فقال: ما هذا إلا ملاعب الأسنة، فسمى عامر من يومئذ ملاعب الأسنة. فلما دنا منه قال له ضرار: إني لأعلم ما تريد، أتريد اللبن؟ قال: نعم. إنك لن تصل إلي ومن هؤلاء عين تطرف، كلهم بني. قال له عامر: فأحلني على غيرك. فدله على حبيش بن الدلف وقال: عليك بذلك الفارس. فشد عليه فأسره. فلما رأى سواده وقصره جعل يتفكر. وخاف ابن الدلف أن يقتله، فقال: ألست تريد اللبن؟ قال: بلى. قال: فأنا لك به. وفادى حسان بن وبرة نفسه من يزيد بن الصعق على عصافيرالنعمان بذي ليان، وذو ليان، عن يمين القريتين.

(2/272)

يوم أقرن
لبني عبس على بني دارم
غزا عمرو بن عدس من دارم، وهو فارس بن مالك بن حنظلة، فأغار على بني عبس وأخذ إبلا وشاء، ثم أقبل، حتى إذا كان أسفل من ثنية أقرن نزل فابتنى بجارية من السبي. ولحقه الطلب، فاقتتلوا. فقتل أنس الفوارس بن زياد العبسي عمرا، وانهزمت بنو مالك بن حنظلة. وقتلت بنو عبس أيضا حنظلة بن عمرو - وقال بعضهم: قتل في غير هذا اليوم - وارتدوا ما كان في أيدي بني مالك. فنعى ذلك جرير على بني دارم فقال:
هل تذكرون لدى ثنية أقرن ... أنس الفوارس حين يهوي الأسلع
وكان عمرو أسلع، أي أبرص، وكان لسماعة بن عمرو خال من بني عبس، فزاره يوما فقتله بأبيه عمرو.
يوم المروت
لبني الغير على بني قشير
أغار بحير بن سلمة بن قشير على بني العنبر بن عمرو بن تميم، فأتى الصريخ بني عمرو بن تميم، فاتبعوه حتى لحقوه، وقد نزل المروت، وهو يقسم المرباع ويعطى من معه. فتلاحق القوم واقتتلوا. فطعن قعنب بن عتاب الهيثم بن عامر القشيري فصرعه فأسره، وحمل الكدام، وهو يزيد بن أزهر المازني على بحير بن سلمة فطعنه فأرداه عن فرسه، ثم نزل إليه فأسره. فأبصره قعنب بن عتاب، فحمل عليه بالسيف فضربه فقتله. فانهزم بنو عامر وقتل رجالهم. فقال يزيد بن الصعق يرثي بحيرا:
أواردة علي بني رياح ... بفخرهم وقد قتلوا بحيرا
فأجابته العوراء، من بني سليط بن يربوع:
قعيدك يا يزيد أبا قبيس ... أتنذر كي تلاقينا النذورا
وتوضع تخبرالركبان أنا ... وجدنا في مراس الحرب خورا
ألم تعلم قعيدك يا يزيد ... بأنا نقمع الشيخ الفخورا
ونفقأ ناظريه ولا نبالي ... ونجعل فوق هامته الذرورا
فأبلغ إن عرضت بني كلاب ... بأنا نحن أقعصنا بحيرا
وضرجنا عبيدة بالعوالي ... فأصبح موثقا فينا أسيرا
أفخرا في الخلاء بغير فخر ... وعند الحرب خوارا ضجورا
يوم دارة مأسل
لتميم على قيس
غزا عتبة بن شتير بن خالد الكلابي بني ضبة فاستاق نعمهم، وقتل حصين ابن ضرار الضبي، أبا زيد الفوارس، فجمع أبوه ضرار قومه وخرج ثائرا بابنه حصين، وزيد الفوارس، يومئذ حدث لم يدرك، فأغار على بني عمرو بن كلاب، فأفلت منه عتبة بن شتير بن خالد، وأسر أباه شتير بن خالد، وكان شيخا أعور. فأتى به قومه، فقال: إما أن ترد ابني حصينا. قال: فإني لا أنشر الموتى. قال: وإما أن تدفع إلي ابنك عتبة أقتله به. قال: لا ترضى بذلك بنو عامر أن يدفعوا فارسهم شابا مقتبلا بشيخ أعور هامة اليوم أو غد. قال: وإما أن أقتلك. قال: أما هذه فنعم. قال: فأمر ضرار ابنه أدهم أن يقتله، فلما قدمه ليضرب عنقه نادى شتير: يا آل عامر، صبرا، بصبي. كأنه أنف أن يقتل بصبي. فقال في ذلك شمعلة في كلمة له طويلة:
وخيرنا شتيرا في ثلاث ... وما كان الثلاث له خيارا
جعلت السيف بين الليث منه ... وبين قصاص لمته عذارا
وقال الفرزدق يفخر بأيام ضبة:
ومغبوقة قبل القيان كأنها ... جراد إذا أجلى عن القزع الفجر
عوابس ما تنفك تحت بطونها ... سرابيل أبطال بنائقها حمر
تركن ابن ذي الجدين ينشج مسندا ... وليس له إلا ألاءته قبر
وهن على خذي شتير بن خالد ... أثير عجاج من سنابكها كدر
إذا سومت للبأس يغشى ظهورها ... أسود عليها البيض عادتها الهصر
يهزون أرماحا طوالا متونها ... يهن الغنى يوم الكريهة والفقر
أيام بكر على تميم
يوم الوقيط

(2/273)

قال فراس بن خندف: تجمعت اللهازم لتغير على تميم وهم غارون، فرأى لك ناشب الأعور بن بشامة العنبري، وهو أسير في بني سعد بن مالك ابن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رسولا أرسله إلى بني العنبر أوصيهم بصاحبكم خيرا، ليولوه مثل الذي تولوني من البر به والإحسان إليه. وكان حنظلة بن الطفيل المرثدي أسيرا في بني العنبر. فقالوا له: على أن توصيه ونحن حضور. قال نعم. فأتوه بغلام لهم. فقال: لقد أتيتموني بأحمق وما أراه مبلغا عني. قال الغلام: لا والله ما أنا بأحمق، وقل ما ئشت فإني مبلغه. فملأ الأعور كفه من الرمل، فقال: كم هذا الذي في كفي من الرمل؟ قال الغلام: شيء لا يحصى كثرة، ثم أومأ إلي الشمس، وقال: ما تلك؟ قال: هي الشمس. قال: فاذهب إلى قومي فابلغهم عني التحية وقل لهم يحسنوا إلى أسيرهم ويكرموه، فإني عند قوم محسنين إلي مكرمين لي، وقل لهم يقروا جمل الأحمر، ويركبوا ناقتي العيساء، بآية أكلت معهم حيسا، ويرعوا حاجتي في أبيني مالك. وأخبرهم أن العوسج قد أورق، وأن النساء قد اشتكت. وليعصوا همام بن بشامة، فإنه مشئوم محدود، ويطيعوا هذيل بن الأخنس، فإنه حازم ميمون. قال: فأتاهم الرسول فأبلغهم. فقال بنو عمرو بن تميم: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جن الأعور بعدنا، فوالله ما نعرف له ناقة عيساء، ولا جملا أحمر. فشخص الرسول، ثم ناداهم هذيل: يا بني العنبر، قد بين لكم صاحبكم: أما الرمل الذي قبض عليه، فإنه يخبركم أنه أتاكم عدد لا يحصى؟ وأما الشمس التي أومأ إليها، فإنه يقول: إن ذلك أوضح من الشمس؟ وأما جمله الأحمر، فإنه هو الصمان يأمركم أن تعروه؟ وأما ناقته العيساء، فهي الدهناء يأمركم أن تحترزوا فيها، وأما أبناء مالك، فإنه يأمركم أن تنذروا بني مالك بن حنظلة ابن مالك بن زيد مناة ما حذركم وأن تمسكوا الحلف بينكم وبينهم، وأما العوسج الذي أورق، فيخبركم أن القوم قد لبسوا السلاح؛ وأما تشكي النساء، فيخبركم بأنهن قد عملن شكاء يغزون به. قال: وقوله بآية ما أكلت معكم حيسا، يريد أحلاطا من الناس قد غزوكم. فتحرزت عمرو فركبت الدهناء، وأنذروا بني مالك، فقالوا: لسنا ندري ما يقول بنو عمرو ولسنا متحولين لما قال صاحبكم: قال فصبحت اللهازم بني حنظلة، فوجدوا بني عمرو قد أجلت، وإنما أرادوهم على الوقيط، وعلى الجيش أبجر بن جابر العجلي. وشهدها ناس مع تيم اللات، وشهدها الفزر بن الأسود بن شريد، من بني سنان. فاقتتلوا، فأسر ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وتنازع في أسره بشر بن العوراء، من تيم اللات، والفزر بن الأسود، فجزا ناصيته وخليا سربه من تحت الليل. وأسر عمرو بن قيس، من بني ربيعة، عثجل بن المأموم بن شيبان بن علقمة، من بني زرارة، ومن عليه. وأسرت غمامة بنت طوق بن عبيد بن زرارة، واشترك في أسرها الحطيم بن هلال، وظربان بن زياد، وقيس بن خالد. وردوها إلى أهلها. وعير جرير الخطفي بني دارم بأسر ضرار وعثجل وغمامة، فقال:
أغمام لو شهد الوقيط فوارسي ... ما قيد يقتل عثجل وضرار
وأسر حنظلة بن المأمون بن شيبان بن علقمة، أسره طيسلة بن زياد، أحد بني ربيعة. وأسر جويرية بن بدر، من بني عبد الله بن دارم، فلم يزل في الوثاق حتى قال أبياتا يمدح فيها بني عجل، وأنشأ يتغنى بها رافعا عقيرته:
وقائلة ما غاله أن يزورها ... وقد كنت عن تلك الزيارة في شغل
وقد أدركتني والحوادث جمة ... مخالب قوم لا ضعاف ولا عزل
سراع إلى الداعي بطاء عن الخنا ... رزان لدى النادي من غير ما جهل
لعلهم أن يمطروني بنعمية ... كما طاب ماء المزن في البلد المحل
فقد ينعش الله الفتى بعد عسرة ... وقد يبتدي الحسنى سراة بني عجل

(2/274)

فلما سمعوه أطلقوه. وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وعمرو ابن ناشب، وأسر سنان بن عمرو، أخو بني سلامة بن كندة، من بني دارم، وأسر حاضر بن ضمرة، وأسر الهيثم بن صعصعة، وهرب عوف بن القعقاع عن إخوته، وقتل حكيم النهشلي، وذلك أنه لم يزل يقاتل وهو يرتجز ويقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وفيه يقول عنترة الفوارس:
وغادرنا حكيما في مجال ... صريعا قد سلبناه الإزارا
يوم النباج وثيتل
لتميم على بكر
الخشني قال: أخبرنا أبو غسان العبدي - واسمه رفيع - عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: غدا قيس بن عاصم في مقاعس، وهو رئيس عليها - ومقاعس هم: صريم، وربيع، وعبيد، بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة ابن تميم - ومعه سلامة بن ظرب بن نمر الحماني في الأجارب، وهم حمان، وربيعة. ومالك، والأعرج، بنو كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. فغزوا بكر بن وائل. فوجدوا بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة واللهازم - وهم قيس وتيم اللت، ابنا ثعلبة، وعجل بن لجيم، وعنزة بن أسد بن ربيعة - بالنباج وثيتل، وبينهما روحة. فتنازع قيس بن عاصم وسلامة بن ظرب في الإغارة ثم اتفقا على أن يغير قيس على أهل النباج، ويعير سلامة على أهل الثيتل. قال: فبعث قيس بن عاصم سنان بن سمي، الأهتم شيفة له - والشيفة: الطليعة - فأتاه الخبر. فلما أصبح قيس سقى خيله، ثم أطلق أفواه الروايا، وقال لقومه: قاتلوا فإن الموت بين أيديكم، والفلاة من ورائكم. فلما دنوا من القوم صبحا سمعوا ساقيا من بكر يقول لصاحبه: يا قيس، أورد. فتفاءلوا به. فأغاروا على النباج قبل الصبح، فقاتلوهم قتالا شديدا. ثم إن بكر انهزمت وأسر الأهتم حمران بن بشر بن عمرو بن مرثد، وأصابوا غنائم كثيرة. فقال قيس لأصحابه لا مقام دون الثيتل، فالنجاء النجاء. فأبوا. ولم يغر سلامة ولا أصحابه بعد على من بثيتل فأغار عليهم قيس بن عاصم، فقاتلوه ثم انهزموا. فأصاب إبلا كثيرة. فقال سلامة: إنكم أعرتم على ما كان أمره إلي. فتلاحوا في ذلك. ثم اتفقوا على أن سلموا إليه غنائم ثيتل. ففي ذلك يقول ربيعة بن ظريف:
فلا يبعدنك الله قيس بن عاصم ... فأنت لنا عز عزيز وموئل
وأنت الذي حربت بكر بن وائل ... وقد عضلت منها النباج وثيتل
غداة دعت يا آل شيبان إذ رأت ... كراديس يهديهن ورد محجل
وظلت عقاب الموت تهفو عليهم ... وشعث النواصي لجمهن تصلصل
فما منكم أبناء بكر بن وائل ... لغارتنا إلا ركوب مذلل
وقال جرير يصف ما كان من إطلاق قيس بن عاصم أفواه المزاد بقوله:
وفي يوم الكلاب ويوم قيس ... هرق على مسلحة المزاد
وقال قرة بن قيس بن عاصم:
أنا ابن الذي شق المزاد وقد رأى ... بثيتل أحياء اللهازم حضرا
وصبحهم بالجيش قيس بن عاصم ... فلم يجدوا إلا الأسنة مصدرا
على الجرد يعلكن الشكيم عوابسا ... إذا الماء من أعطافهن تحذرا
فلم يرها الراءون إلا فجاءة ... يثرن عجاجا بالسنابك أكدرا
سقاهم بها الذيفان قيس بن عاصم ... وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا
وحمران أدته إلينا رماحنا ... فنازع غلا من ذراعيه أسمرا
وجشامة الذهلي قدناه عنوة ... إلى الحي مصفود اليدين مفكرا
يوم زرود
لبني يربوع على بني تغلب

(2/275)

أغار خزيمة بن طارق التغلبي على بني يربوع، وهم يزرود، فنذروا به فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت بنو تغلب. وأسر خزيمة بن طارق، أسره أنيف بن جبلة الضبي، وهو فارس الشيط، وكان يومئذ معتلا في بني يربوع، وأسيد بن حناءة السليطي، فتنازعا فيه، فحكما بينهما الحارث بن قراد، وأم الحارث امرأة من بني سعد بن ضبة، فحكم بناصية خزيمة لأنيف بن جبله، على أن لأسيد على أنيف مائة من الإبل. قال: ففدا خزيمة نفسه بمائتي بعير وفرس. وقال أنيف:
أخذتك قسرا يا خزيم بن طارق ... ولاقيت مني الموت يوم زرود
وعانقته والخيل تدمى نحورها ... فأنزلته بالقاع غير حميد
أيام يربوع على بكر
وهذه أيام كلها لبني يربوع على بني بكر، من ذلك: يوم ذي طلوح، وهو يوم أود، ويوم الحائر، ويوم ملهم، ويوم القحقح، وهو يوم مالة، ويوم رأس عين، ويوم طخفة. ويوم الغبيط، ويوم مخطط، ويوم جدود، ويوم الجبايات ويوم زرود الثاني.
يوم ذي طلوح
لبني يربوع على بكر
كان عميرة بن طارق بن خصينة بن أريم بن عبيد بن ثعلبة تزوج مرية بنت جابر، أخت أبجر بن جابر العجلي، فخرج حتى ابتنى بها في بني عجل. فأتى أبجر أخته مرية، امرأة عميرة يزورها، فقال لها: إني لا أرجو أن آتيك ببنت النطف امرأة عميرة التي في قومها. فقال له عميرة: أترضى أن تحاربني وتسبيني؟ فندم أبجر، وقال لعميرة: ما كنت لأغزو قومك. ثم غزا أبجر والحوفزان متساندين. هذا فيمن تبعه من بني شيبان، وهذا فيمن تبعه من بني اللهازم، وساروا بعميرة. معهم، قد وكل به أبجر أخاه حرفصة بن جابر. فقال له عميرة: لو رجعت إلى أهلي فاحتملتهم؟ فقال حرفصة: افعل. فكر عميرة على ناقته، ثم نكل عن الجيش، فسار يومين وليلة حتى أتى بني يربوع فأنذرهم الجيش. فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذي طلوح. فأول ما كان فارس طلع عليهم عميرة، فنادى: يا أبجر، هلم. فقال: من أنت؟ قال: أنا عميرة. فكذبه، فسفر عن وجهه، فعرفه فأقبل إليه. والتقت الخيل بالخيل. فأسر الجيش إلا أقلهم، وأسر حنظلة بن بشر بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله ابن دارم. وكان في بني يربوع الحوفزان بن شريك، وأخذه معه مكبلا. واخذ ابن طارق سوادة بن يزيد بن بجير بن غنم، عم أبجر وأخذ ابن عنمة الضبي الشاعر، وكان مع بني شيبان، فافتكه متمم بن نوبرة. فقال ابن عنمة يمدح متمم بن نوبرة:
جزى الله رب الناس عني متمما ... بخير جزاء ما أعف وأمجدا
أجيرت به آباؤنا وبناتنا ... وشارك في إطلاقنا وتفردا
أبا نهشل إني لكم غير كافر ... ولا جاعل من دونك المال مؤصدا
وأسر سويد بن الحوفزان، وأسر أسود وفلحس، وهما من بني سعد بن همام. فقال جرير في ذلك يذكر يوم ذي طلوح:
ولما لقيتا خيل أبجر يدعي ... بدعوى لجيم غير ميل العواتق
صبرنا وكان الصبر منا سجية ... بأسيافنا تحت الظلال الخوافق
فلما رأوا أن لا هوادة عندنا ... دعوا بعد كرب يا عمير بن طارق
يوم الحائر
وهو يوم ملهم. لبني يربوع على بكر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:16 pm

وذلك أن أبا مليل عبد الله بن الحارث بن عاصم بن حميد وعلقمة أخاه، انطلقا يطلبان إبلا لهما حتى وردا ملهم، من أرض اليمامة. فخرج عليهما نفر من بني يشكر، فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل. فكان عندهم ما شاء الله، ثم خلوا سبيله وأخذوا عليه عهدا وميثاقا أن لا يخبر بأمر أخيه أحدا. فأتى قومه فسألوه عن أمر أخيه فلم يخبرهم. فقال وبرة بن حمزة: هذا رجل قد أخذ عليه عهد وميثاق. فخرجوا يقصون أثره، ورئيسهم شهاب بن عبد القيس، حتى وردوا ملهم. فلما رآهم أهل ملهم تحصنوا. فحرقت بنو يربوع بعض زرعهم وعقروا بعض نخلهم. فلما رأى ذلك القوم نزلوا إليهم فقاتلوهم، فهزمت بنو يشكر، وقتل عمرو بن صابر صبرا، ضربوا عنقه، وقتل عتيبة بن الحارث بن شهاب مثلم بن عبيد بن عمرو، رجلا آخر منهم، وقتل مالك بن نويرة حمران بن عبد الله، وقال:
طلبنا بيوم مثل يومك علقما ... لعمري لمن يسعى بها كان أكرما
قتلنا بجنب العرض عمرو بن صابر ... وحمران أقصدناهما والمثلما
فلله عينا من رأى مثل خيلنا ... وما أدركت من خيلهم يوم ملهما
يوم القحقح
وهو يوم مالة. لبني يربوع على بني بكر
أغارت بنو أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان على بني يربوع، ورئيسهم المجبة ابن أبي ربيعة بن ذهل، فأخذوا إبلا لعاصم بن قرط، أحد بن عبيد، وانطلقوا. فطلبهم بنو يربوع فناوشوهم، فكانت الدائرة على بني أبي ربيعة. وقتل المنهال بن عصمة المجبة بن أبن ربيعة. فقال في ذلك ابن نمران الرياحي:
وإذا لقيت القوم فاطعن فيهم ... يوم اللقاء كطعنة المنهال
ترك المجبة للضباع منكسا ... والقوم بين سوافل وعوالي
يوم رأس العين
لبني يربوع على بكر
أغارت طوائف من بني يربوع على بني أبي ربيعة برأس العين، فاطردوا النعم. فاتبعهم معاوية بن فراس في بني أبي ربيعة فأدركوهم، فقتل معاوية ابن فراس وفاتوا بالإبل. وقال سحيم في ذلك:
أليس الأكرمون بنو رياح ... نموني منهم عمي وخالي
هم قتلوا المجبة وابن تيم ... تنوح عليهما سود الليالي
وهم قتلوا عميد بني فراس ... برأس العين في الحجج الخوالي
وذاد يوم طخفة عن حماهم ... ذياد غرائب الإبل النهال
يوم العظالي
لبني يربوع على بكر
قال أبو عبيدة: وهو يوم أعشاش، ويوم الأفاقة، ويوم الإياد، ويوم مليحة.

(2/277)

قال: وكانت بكر بن وائل تحت يد كسرى وفارس، وكانوا يجيرونهم ويجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عين التمر في ثلاثمائة فارس متساندين يتوقعون انحدار بني يربوع في الحزن، وكانوا يشتون خفافا، فإذا انقطع الشتاء انحدروا إلى الحزن. قال: فاحتمل بنو عتيبة وبنو عبيد وبنو زبيد، من بني سليط، من أول الحي حتى أسهلوا ببطن مليحة، فطلعت بنو زبيد في الحزن حتى حلوا الحديقة والأفاقة، وحلت بنو عتيبة وبنو عبيد بعين بروضة الثمد. قال: وأقبل الجيش حتى نزلوا هضبة الخصي، ثم بعثوا رئيسهم. فصادفوا غلاما شابا من بني عبيد، يقال له: قرط بن أضبط، فعرفه بسطام، وقد كان عرف عامة غلمان بني ثعلبة حين أسره عتيبة - قال: وقال سليط: بل هو المطوح بن قرواش - فقال له بسطام: أخبرني ما ذاك السواد الذي أرى بالحديقة؟ قال: هم بنو زبيد. قال: أفيهم أسيد بن حناءة؟ قال: نعم، كم هم؟ قال: خمسون بيتا، قال: فأين بنو عتيبة وأين بنو أزنم؟ قال: نزلوا روضة الثمد. قال: فأين سائر الناس؟ قال: هم محتجزون بخفاف. قال: فمن هناك من بني عاصم؟ قال: الأحيمر، وقعنب: ومعدان، ابنا عصمة. قال: فمن فيهم من بني الحارث بن عاصم؟ قال: حصين ابن عبد الله. فقال بسطام لقومه: أطيعوني تقبضوا على هذا الحي من بني زبيد وتصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يغني عنا زبيد، لا يردون رحلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغنيمتين. فقال له مفروق: انتفخ سحرك يا أبا الصهباء. وقال له هانئ: أجبنا! فقال لهم: ويلكم، إن أسيدا لم يظله بيت قط شاتيا ولا قائظا، إنما بيته القفر، فإذا أحس بكم أحال على الشقراء فركض حتى يشرف على مليحة، فينادي: يا ليربوع، فتركب؟ فيلقاكم طعن ينسيكم الغنيمة، ولا يبصر أحدكم مصرع صاحبه، وقد جبنتموني، وأنا أتابعكم، وقد أخبرتكم ما أنتم لاقون غدا. فقالوا: نلتقط بني زبيد ثم نلتقط بني عبيد وبني عتيبة، كما تلتقط الكمأة، ونبعث فارسين فيكونان بطريق أسيد فيحولان بينه وبين يربوع، ففعلوا. فلما أحس بهم أسيد ركب الشقراء، ثم خرج نحو بني يربوع. فابتدره الفارسان، فطعن أحدهما، فألقى نفسه في شق فأخطاه، ثم كر راجعا حتى أشرف على مليحة، فنادى: يا صباحاه، ياليربوع، غشيتم. فتلاحقت الخيل حتى توافوا بالعظالي، فاقتتلوا، فكانت الدائرة على بنى بكر، قتل منهم: مفروق بن عمرو، فدفن بثنية يقال لها ثنية مفروق، والمقاعس الشيباني، وزهير بن الحزور الشيباني، وعمور بن الحزور الشيباني، والهيش بن المقعاس، وعمير بن الوداك؟ والضريس. وأما بسطام، فألح عليه فارسان من بني يربوع، وكان دارعا على ذات النسوع، وكانتا إذا أجدت لم يتعلق بها شيء من خيلهم، وإذا أوعثت كادوا يلحقونها، فلما رأى ثقل درعة وضعها بين يديه على القربوس وكره أن يرمي بها، وخاف أن يلحق في الوعث، فلم يزل ديدنه وديدن طالبيه حتى حميت الشمس وخاف اللحاق، فمر بو جار ضبع، فرمى الدرع فيه، فمد بعضها بعضا حتى غابت في الوجار. فلما خفف عن الفرس نشطت ففاتت الطلب، وكان أخر من أتى قومه، وكان قد رجع إلى درعه لما رجع عنه القوم فأخذها. فقال العوام بن شوذب الشيباني في بسطام وأصحابه:
إن يك في يوم الغبيط ملامة ... فيوم العظالي كان أخزى وألوما
أناخوا يريدون الصباح فصبحوا ... وكانوا على الغازين دعوة أشأما
فررتم ولم تلووا على مجحريكم ... لو الحارث الحراب يدعى لأقدما
ولو أن بسطاما أطيع لأمره ... لأدى إلى الأحياء بالحنو مغنما
ففر أبو الصهباء إذ حمى الوغى ... وألقى بأبدان السلاح وسلما
وأيقن أن الخيل إن تلتبس به ... يعد غانما أو يملأ البيت مأتما
ولو أنها عصفورة لحسبها ... مسومة تدعو عبيدا وأزنما

(2/278)

أبى لك قيد بالغبيط لقاءهم ... ويوم العظالي إن فخرت مكلما
فأفلت بسطام جريضا بنفسه ... وغادر في كرشاء لدنا مقوما
وفاظ أسيرا هانئ وكأنما ... مفارق مفروق تغشين عندما
قال: ثم إن هانئا فدى نفسه وأسرى قومه، فقال العوام في ذلك:
إن الفتى هانئا لاقى يشكته ... ولم يخم عن قتال القوم إذ نزلا
ثمت سارع في الأسرى ففكهم ... حامى الذمار حقيق بالذي فعلا
يوم الغبيط
لبني يربوع على بني بكر
قال أبو عبيدة: يقال لهذا اليوم: يوم الغبيط ويوم الثعالب. والثعالب: أسماء قبائل اجتمعت فيه، ويقال له يوم صحراء فلج، وقال أبو عبيدة: حدثني سليط بن سعد وزبان الصبيري وجهم بن حسان السليطي، قالوا: غزا بسطام بن قيس، ومفروق بن عمرو، والحارث بن شريك، وهو الحوفزان، بلاد بني تميم - وهذا اليوم قبل يوم العظالي - فأغاروا على بني ثعلبة بن يربوع، وثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن عدي بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان. فلذلك قيل له يوم الثعالب، وكان هؤلاء جميعا متجاورين بصحراء فلج، فاقتتلوا، فانهزمت الثعالب فأصابوا فيهم واستاقوا إبلا من نعمهم. ولم يشهد عتيبة بن الحارث بن شهاب هذه الوقعة، لأنه كان نازلا يومئذ في بني مالك بن حنظلة، ثم امتروا على بني مالك، وهم بين صحراء فلج وبين الغبيط، فاكتسحوا إبلهم. فركبت عليهم بنو مالك، فيهم عتيبة بن الحارث بن شهاب ومعه فرسان من بني يربوع تأثفهم - أي صاروا لهم مثل الأثافي للرماد - وتألف إليهم الأحيمر بن عبد الله، والأسيد بن حناءة، وأبو مرحب، وجزء ابن سعد الرياحي، وهو رئيس بني يربوع، وربيع والحليس وعمارة، بنو عتيبة ابن الحارث، ومعدان وعصمة، ابنا قعنب، ومالك بن نويرة، والمنهال بن عصمة، أحد بني رياح بن يربوع، وهو الذي يقول فيه متمم بن نويرة في شعره الذي يرثي فيه مالكا أخاه:
لقد غيب المنهال تحت لوائه ... فتى غير مبطان العشية أروعا
فأدركوهم بغبيط المدرة، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم. وألح عتيبة وأسيد والأحيمر على بسطام. فلحقه عتيبة، فقال: أستأسر لي يا أبا الصهباء. فقال: ومن، أنت؟ قال: أنا عتيبة، وأنا خير لك من الفلاة والعطش. فأسره عتيبة، ونادى القوم بجادا، أخا بسطام: كر على أخيك، وهم يرجون أن يأسروه. فناداه بسطام: إن كررت فأنا حنيف وكان بسطام نصرانيا، فلحق بجاد بقومه. فلم يزل بسطام عند عتيبة حتى فادى نفسه.
قال أبو عبيدة: فزعم أبو عمرو بن العلاء أنه فدى نفسه بأربعمائة بعير وثلاثين فرسا - ولم يكن عربي عكاظي أعلى. فداء منه - على أن جز ناصيته وعاهده أن لا يغزو بني شهاب أبدا. فقال عتيبة بن الحارث بني شهاب:
أبلغ سراة بني شيبان مالكة ... أني أبأت بعبد الله بسطاما
قاظ الشربة في قيد وسلسلة ... صوت الحديد يغنيه إذا قاما
يوم مخطط
لبني يربوع على بكر
قال أبو عبيدة غزا بسطام بن قيس والحوفزان، وهو الحارث، متساندين يقودان بكر بن وائل حتى وردوا على بني يربوع بالفردوس، وهو بطن لإياد، وبينه وبين مخطط ليلة، وقد نذرت بهم ينو يربوع، فالتقوا بالمخطط فاقتتلوا. فانهزمت بكر بن وائل وهرب الحوفزان وبسطام ففاتا ركضا. وقتل شريك ابن الحوفزان، قتله شهاب بن الحارث أخو عتيبة، وأسر الأحيمر بن عبد الله ابن الضريس الشيباني. فقال في ذلك مالك بن نويرة، ولم يشهد هذا اليوم:
إلا أكن لاقيت يوم مخطط ... فقد خبر الركبان ما أتودد
بأفناء حي من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
فقال الرئيس الحوفزان تبينوا ... بني الحصن قد شارفتم ثم حردوا

(2/279)

فما فتئوا حتى رأونا كأننا ... مع الصبح آذي من البحر مزيد
بملمومة شهباء يبرق جالها ... ترى الشمس فيها حين دارت توقد
فما برحوا حتى علتهم كتائب ... إذا طعنت فرسانها لا تعرد
فأقررت عيني يوم ظلوا كأنهم ... ببطن الغبيط خشب أثل مسند
صريع عليه الطير يحجل فوقه ... وآخر مكبول اليدين مقيد
وكان لهم في أهلهم ونسائهم ... مبيت ولم يدروا بما يحدث الغد
وقد كان لابن الحوفزان لو انتهى ... شريك وبسطام عن الشر مقعد
يوم جدود
غزا الحوفزان، وهو الحارث بن شريك، فأغار على من بالقاعة من بني سعد بن زيد مناة، فأخذ نعما كثيرا وسبى فيهن الزرقاء، من بني ربيع بن الحارث، فأعجب بها وأعجبت به، وكانت خرقاء، فلم يتمالك أن وقع بها. فلما انتهى إلى جدود منعتهم بنو يربوع بن حنظلة أن يردوا الماء، ورئيسهم عتيبة ابن الحارث بن شهاب، فقاتلوهم. فلم يكن لبني بكر بهم يد، فصالحوهم على أن يعطوا بني يربوع بعض غنائمهم، على أن يخلوهم يردوا الماء، فقبلوا ذلك وأجازوهم. فبلغ ذلك بني سعد، فقال قيس بن عاصم في ذلك:
جزى الله يربوعا بأسوأ سعيها ... إذا ذكرت في النائبات أمورها
ويوم حدود قد فضحتم أباكم ... وسالمتم والخيل تدمى نحورها
فأجابه مالك:
سأسأل من لاقى فوارس منقذ ... رقاب إماء كيف كان نكيرها
ولما أتى الصريخ بني سعد ركب قيس بن عاصم في إثر القوم حتى أدركهم بالأشيمين، فألح قيس على الحوفزان، وقد حمل الزرقاء. وكان الحوفزان قد خرج في طليعة، فلقيه قيس بن عاصم فسأله: من هو؟ فقال: لا تكاتم اليوم، أنا الحوفزان، فمن أنت؟ قال: أنا أبو علي، ومضى. ورجع الحوفزان إلى أصحابه، فقال: لقيت رجلا أزرق كأن لحيته ضريبة صوف، فقال: أنا أبو علي. فقالت عجوز من السبي: بأبي أبو علي، ومن لنا بأبي علي؟ فقال لها: ومن أبو علي؟ قالت: قيس بن عاصم. فقال لأصحابه: النجاء، وأردف الزرقاء خلفه وهو على فرسه الزبد، وعقد شعرها إلى صدره ونجا بها. وكانت فرس قيس إذا أوعثت قصرت وتمطر عليها الزبد. فلما أجدت لحقت بحيث تكلم الحوفزان. فقال قيس له: يا أبا حمار، أنا خير لك من الفلاة والعطش. قالت له الحوفزان: ما شاءت الزبد. فلما رأى قيس أن فرسه لا تلحقه نادي الزرقاء، فقال: ميلي به يا جعار. فلما سمعه الحوفزان دفعها بمرفقه وجز قرونها بسيفه. فلما ألقاها عن عجز فرسه. وخاف قيس ألا يلحقه، فنجله بالرمح في خرابة وركه، فلم يقصده وعرج عنها. ورد قيس الزرقاء إلى بني الربيع. فقال سوار بن حيان المنقري:
ونحن حفرنا الحوفزان بطعنة ... تمج نجيعا من دم الجوف أشكلا
يوم سفوان
قال أبو عبيدة: التقت بنو مازن وبنو شيبان على ماء يقال له سفوان، فزعمت بنو شيبان أنه لهم، وأرادوا أن يجلوا تميما عنه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فظهرت عليهم بنو تميم وذادوهم حتى وردوا المحدث، وكانوا يتواعدون بني مازن قبل ذلك، فقال في ذلك وداك المازني:
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا تحيد عن الوغى ... إذا الخيل جالت في القنا المتداني
عليها الكماة الغر من آل مازن ... ليوث طعان كل يوم طعان
تلاقوهم فتعرفوا كيف صيرهم ... على ما جنت فيهم يد الحدثان
مقاديم وصالون في الروع خطوهم ... بكل رقيق الشفرتين يماني
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم لأي مكان
يوم السلي

(2/280)

قال أبو عبيدة: كان من حديث يوم السلي أن بني مازن أغارت على بني يشكر فأصابوا منهم، وشد زاهر بن عبد الله بن مالك على تيم بن ثعلبة اليشكري فقتله، فقال في ذلك:
لله تيم أي رمح طراد ... لاقى الحمام وأي نصل جلاد
ومحش حرب مقدم متعرض ... للموت غير معرد حياد
وقال حاجب بن ذبيان المازني:
سلي يشكرا عني وأبناء وائل ... لهازمها طرأ وجمع الأراقم
ألم تعلمي أنا إذا الحرب شمرت ... سمام على أعدائنا في الحلاقم
عتاة قراة في الشتاء مساعر ... حماة كماة كالليوث الضراغم
بأيديهم سمر من الخط لدنة ... وبيض تجلى عن فراخ الجماجم
أولئك قوم إن فخرت بعزهم ... فخرت بعز في اللهى والغلاصم
هم أنزلوا يوم السلي عزيزها ... بسمر العوالي والسيوف الصوارم
يوم نقا الحسن
وهو يوم السقيفة - لبني ضبة علي بني شيبان
قال أبو عبيدة: غزا بسطام بن مسعود بن قيس بن خالد، وقيس بن مسعود، وهو ذو الجدين، وأخوه السليل بن قيس بن ضبة بن أد ابن طابخة، فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتفق فيها فحلها قد فقأ عينه، وفي الإبل مالك بن المنتفق. فركب فرسا له ونجا ركضا، حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه. فركبت بنو ضبة، وتداعت بنو تميم، فتلاحقوا بالنقا. فقال عاصم بن خليفة لرجل من فرسان قومه: أيهم رئيس القوم؟ قال: حاميتهم صاحب الفرس الأدهم - يعني بسطاما - فعلا عاصم عليه بالرمح، فعارضه، حتى إذا كان بحذائه رمى بالقوس وجمع يديه في رمحه فطعنه، فلم تخطئ صماخ أذنه، حتى خرج الرمح من الناحية الأخرى، وخر على الألاءة - والألاءة: شجرة - فلما رأى ذلك بنو شيبان خلوا سبيل بن مسعود، أخا بسطام، في سبعين من بني شيبان. فقال ابن عنمة الضبي: وهو مجاور يومئذ في بني شيبان، يرثي بسطاما، وخاف أن يقتلوه، فقال:
لأم الأرض ويل ما أجنت ... بحيث أضر بالحسن السبيل
يقسم ماله فينا ويدعو ... أبا الصهباء إذ جنح الأصيل
كأنك لم تريه ولن نراه ... تخب به عذافرة ذمول
حقيبة رحلها بدن وسرج ... تعارضها مرببة دءول
إلى ميعاد أرعن مكفهر ... تضمر في جوانبه الخيول
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
لقد ضمنت بنو زيد بن عمرو ... ولا يوفي ببسطام قتيل
فخر على الآلاءة لم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل
فإن تجزع عليه بنو أبيه ... فقد فجعوا وحل بهم جليل
بمطعام إذا الأشوال راحت ... إلى الحجرات ليس لها فصيل
وقال شمعلة بن الأخضر بن هبيرة:
ويم شقائق الحسنين لاقت ... بنو شيبان آجالا قصارا
شككنا بالرماح وهن زور ... صماخي كبشهم حتى استدارا
وأوجزناه أسمر ذا كعوب ... يشبه طوله مسدا مغارا
وقال محرز بن المكعبر الضبي:
أطلقت من شيبان سبعين راكبا ... فآبوا جميعا كلهم ليس يشكر
إذا كنت في أفناء شيبان منعما ... فجز اللحى إن النواصي تكفر
فلا شكرهم أبغي إذا كنت منعما ... ولا ودهم في آخر الدهر أضمر
أيام بكر على تميم
يوم الزويرين

(2/281)

قال أبو عبيدة: كانت بكر بن وائل تنتجع أرض تميم في الجاهلية ترعى بها إذا أجدبوا. فإذا أرادوا الرجوع لم يدعوا عورة يصيبونها ولا شيئا يظفرون به إلا اكتسحوه. فقالت بنو تميم: امنعوا هؤلاء القوم من رعي أرضكم وما يأتون إليكم. فحشدت تميم وحشدت بكر واجتمعت، فلم يتخلف منهم إلا الحوافزان ابن شريك في أناس من بني ذهل بن شيبان، وكان غازيا. فقدمت بكر عليهم عمرا الأصم أبا مفروق - قال: وهو عمرو بن قيس بن مسعود، أبو عمرو ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان - فحسد سائر ربيعة الأصم على الرياسة، فأتوه فقالوا: يا أبا مفروق، إنا قد زحفنا لتميم وزحفوا لنا أكثر ما كنا وكانوا قط. قالت: فما تريدون؟ قالوا: نريد أن نجعل كل حي على حياله ونجعل عليهم رجلا منهم فنعرف غناء كل قبيلة، فإنه أشد لاجتهاد الناس. قال: والله إني لأبغض الخلاف عليكم، ولكن يأتي مفروق فينظر فيما قلتم. فلما جاء مفروق شاوره أبوه - وذلك أول يوم ذكر فيه مفروق بن عمرو - فقال له مفروق: ليس هذا أرادوا، وإنما أرادوا أن يخدعوك عن رأيك وحسدوك على رياستك، والله لئن لقيت القوم فظفرت لا يزال الفضل لنا بذلك أبدا، ولئن ظفر بك لا تزال لنا رياسة نعرف بها. فقال الأصم: يا قوم، قد استشرت مفروقا فرأيته مخالفا لكم، ولست مخالفا رأيه وما أشار به. فأقبلت تميم بجملين مجللين مقرونين مقيدين وقالوا: لا نولي حتى يولي هذان الجملان، وهما الرويران. فأخبرت بكر بقولهم الأصم. وأنا زويركم، إن حشوهما فحشوني، وإن عقروهما فاعقروني. قال: والتقى القوم فاقتتلوا قتالا شديدا. قال: وأسرت بنو تميم حراث بن مالك، أخا مرة بن همام، فركض به رجل منهم وقد أردفه، وأتبعه ابنه قتادة بن حراث حتى لحق الفارس الذي أسر أباه، فطعنه فأراده عن فرسه واستنقذ أباه. ثم استحر بين الفريقين القتال، فانهزمت بنو تميم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، فممن قتل قتل منهم: أبو الرئيس النهشلي. وأخذت بكر الزويرين، أخذتهما بنو سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة؟ فنحروا أحدهما فأكلوه واقتحلوا الآخر، وكان نجيبا، فقال رجل من بني سدوس:
يا سلم إن تسألي عنا فلا كشف ... عنا اللقاء ولسنا بالمقاريف
نحن الذين هزمنا يوم صبحنا ... جيش الزويرين في جمع الأحاليف
ظلوا وظلنا نكر الخيل وسطهم ... بالشيب منا وبالمرد الغطاريف
وقال الأغلب بن جشم العجلي:
جاءوا بزويرهم وجئنا بالأصم ... شيخ لنا قد كان من عهد إرم
فكر بالسيف الرمح انحطم ... كهمة الليث إذا ما الليث هم
كانت تميم معشرا ذوي كرم ... مخلصة من الغلاصم العظم
قد نفخوا لو ينفخون في فحم ... وصبروا لو صبروا على أمم
إذ ركبت ضبة أعجاز النعم ... فلم تدع ساقا لها ولا قدم
يوم الشيطين
لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: لما ظهر الإسلام، قبل أن يسلم أهل نجد والعراق، سارت بكر بن وائل إلى السواد، وقالت: نغير على تميم بالشيطين، فإن في دين ابن عبد المطلب إنه من قتل نفسا قتل بها. فنغير هذا العام، ثم نسلم عليها. فارتحلوا من لعلع بالذراري والأموال، فأتوا الشيطين في أربع، وبينهما مسيرة ثمان أميال، فسبقوا كل خبر حتى صبحوهم وهم ولا يشعرون، ورئيسهم يومئذ بشر بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين، فقتلوا بني تميم قتلا ذريعا وأخذوا أموالهم. واستحر القتل في بني العنبر وبني ضبة وبني يربوع، دون بني مالك بن حنظلة.
قال أبو عبيدة: حدثنا أو الحمناء العنبري، قال: قتل من بني تميم يوم الشيطين ولعلع ستمائة رجل. قال: فوفد وفد بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ادع الله على بكر بن وائل. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رشيد بن رميض العنبري:
وما كان بين الشيطين ولعلع لنسوتنا ... إلا مراجع أربع

(2/282)

فجئنا بجمع لم ير الناس مثله ... يكاد له ظهر الوريعة يظلع
بأرعن دهم تنشد البلق وسطه ... له عارض فيه الأسنة تلمع
صبحنا به سعدا وعمرا ومالكا ... فكان لهم يوم من الشر أشنع
فخلوا لنا صحن العراق فإنه ... حمى منهم لا يستطاع ممنع
يوم صعفوق
لبكر على تميم
أغارت بنو أبي ربيعة على بني سليط بن يربوع يوم صعفوق فأصابوا منهم أسرى. فأتى طريف بن تميم العنبري فروة بن مسعود، وهو يومئذ سيد بني أبي ربيعة، ففدى منهم أسرى بني سليط ورهنهم ابنه. فأبطأ عليهم، فقتلوا ابنه، فقال:
لا تأمنن سليمى أن أفارقها ... صرمى الظعائن بعد اليوم صعفوق
أعطيت أعداءه طوعا برمته ... ثم انصرفت وظني غير موثوق
يوم مبايض
لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: كانت الفرسان إذا كانت أيام عكاظ في الشهر الحرام وأمن بعضهم بعضا تقنعوا كيلا يعرفوا، وكان طريف بن تميم العنبري لا يتقنع كما يتقنعون، فوافى عكاظ وقد كشفت بكر بن وائل، وكان طريف قد قتل شراحيل الشيباني، أحد بني عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان. فقال حصيصه: أروني طريفا. فأروه إياه. فجعل كلما مر به تأمله ونظر إليه ففطن طريف، فقال: مالك تنظر إلي؟ فقال: أتوسمك لأعرفك. فلله علي إن لقيتك أن أقتلك أو تقتلني. فقال طريف في ذلك:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إلي عريفهم يتوسم
فتوسموني إنني أنا ذلكم ... شاكي سلاحي في الحوادث معلم
تحتي الأغر وفوق جلدي نثرة ... زغف ترد السيف وهو مثلم
حولي أسيد والهجيم ومازن ... وإذا حللت فحول بيتي خضم
قال: فمضى لذلك ما شاء الله. ثم إن بني عائذة، حلفاء بني أبي ربيعة بن ذهل بن أبي شيبان. وهم يزعمون أنهم من قريش، وأن عائذة ابن لؤي بن غالب - خرج منهم رجلان يصيدان فعرض لهما رجل من بني شيبان فذعر عليهما صيدهما، فوثبا عليه فقتلاه. فثارت بنو مرة بن ذهل بن شيبان يريدون قتلهما. فأبت بنو أبي ربيعة عليهم ذلك. فقال هانئ بن مسعود: يا بني أبي ربيعة، إن إخوتكم قد أرادوا ظلمكم، فانمازوا عنهم. قال: ففارقوهم وساروا حتى نزلوا بمبايض ماء، - ومبايض: علم من وراء الدهناء - فأبق عبد لرجل من بني أبي، ربيعة فسار إلى بلاد تميم، فأخبرهم أن حيا جديدا من بني بكر بن وائل نزول على مبايض، وهم بنو أبي ربيعة، أو الحي الجديد المنتقى من قومه. فقال طريف العنبري: هؤلاء ثأرى يا آل تميم، إنما هم أكلة رأس. وأقبل في بني عمرو بن تميم، وأقبل معه أبو الجدعاء، أحد بني طهية، وجاءه فدكي بن أعبد المنقري في جمع من بني سعد بن زيد مناة، فنذرت بهم بنو أبي ربيعة، فانحاز بهم هانئ بن مسعود، وهو رئيسهم، إلى علم مبايض، فأقاموا عليه. وشرقوا بالأموال والسرح، وصبحتهم بنو تميم. فقال لهم طريف: أطيعوني وافرغوا من هؤلاء الأكلب يصف لكم ما وراءهم. فقال له أبو الجدعاء رئيس بني حنظلة، وفدكي رئيس سعد بن زيد مناة: أنقاتل أكلبا أحرزوا نفوسهم ونترك أموالهم ما هذا برأي، وأبوا عليه. فقال هانئ لأصحابه: لا يقاتل رجل منكم. ولحقت تميم بالنعم والبغال، فأغاروا عليها. فلما ملئوا أيديهم من الغنيمة، قال هانئ بن مسعود لأصحابه: احملوا عليهم. فهزموهم وقتلوهم طريفا العنبري، قتله حمصيصة الشيباني، وقال:
ولقد دعوت طريف دعوة جاهل ... سفها وأنت بعلم قد تعلم
وأتيت حيا في الحروب محلهم ... والجيش باسم أبيهم يستقدم
فوجدت قوما يمنعون ذمارهم ... بسلا إذا هاب الفوارس أقدموا
وإذا دعوا أبني ربيعة شمروا ... بكتائب دون السماء تلملم

(2/283)

حشدوا عليك وعجلوا بقراهم ... وحموا ذمار أبيهم أن يشتموا
سلبوك درعك والأغر كليهما ... وبنو أسيد أسلموك وخضم
يوم فيحان
لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: لما فدى نفسه بسطام بن قيس من عتيبة بن الحارث، إذ أسر يوم الغبيط، بأربعمائة بعير، قال: قال: لأدركن عقل إبلي. فأغار بفيحان فأخذ الربيع بن عتيبة وأستاق ماله. فلما سار يومين شغل عن الربيع بالشراب، وقد مال الربيع على قده حتى لان، ثم خلعه وانحل منه، ثم جال في متن ذات النسوع - فرس بسطام - وهرب. فركبوا في إثره، فلما يئسوا منه ناداه بسطام يا ربيع، هلم طليقا، فأبى. قال: وأبوه في نادي قومه يحدثهم، فجعل يقول في أثناء. حديثه: إيها يا ربيع، أنج يا ربيع، وكان معه رئي. قال: وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بني يربوع، فإذا هو براع، فاستسقاه، وضربت الفرس برأسها فماتت، فسمى ذلك المكان إلى اليوم: هبير الفرس. فقال له أبوه عتيبة: أما إذ نجوت بنفسك فإني مخلف لك مالك.
يوم ذي قار الأول
لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: فخرج عتيبة في نحو خمسة عشر فارسا من بني يربوع، فكمن في حمى ذي قار حتى مرت إبل بني الحصين بالفداوية، اسم ماء لهم، فصاحوا بمن فيها من الحامية والرعاء، ثم استاقوها. فأخلف للربيع ما ذهب له، وقال:
ألم ترني أفأت على ربيع ... جلادا في مباركها وخورا
وأني قد تركت بني حصين ... بذي قار يرمون الأمورا
يوم الحاجر
بكر على تميم
قال أبو عبيدة: خرج وائل بن صريم اليشكري من اليمامة، فلقيه بنو أسيد ابن عمرو بن تميم فأخذوه أسيرا، فجعلوا يغمسونه في الركية ويقولون:
يأيها الماتح دلوى دونكما
حتى قتلوه. فغزاهم أخوه باعث بن صريم يوم حاجر، فأخذ ثمامة بن باعث ابن صريم رجلا من بني أسيد، كان وجيها فيهم، فقتله وقتل على بطنه مائة منهم. فقال باعث بن صريم:
سائل أسيد هل ثأرت بوائل ... أم هل شفيت النفس من بلبالها
إذ أرسلوني ماتحا لدلائهم ... فملأتها علقا إلى أسبالها
إن الذي سمك السماء مكانها ... والبدر ليلة نصفها وهلالها
آليت أنقف منهم ذا لحية ... أبدا فتنظر عينه في مالها
وقال:
سائل أسيد هل ثأرت بوائل ... أم هل أتيتهم بأمر مبرم
إذ أرسلوني ماتحا لدلائهم ... فملأتهن إلى العراقي بالدم
يوم الشقيق
لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: أغار أبجر بن جابر العجلي على بني مالك بن حنظلة، فسبى سليمى بنت محصن، فولدت له أبجر. ففي ذلك يقول أبو النجم:
ولقد كررت على طهية كرة ... حتى طرقت نساءها بمساء
حرب البسوس
وهي حرب بكر وتغلب، ابني وائل
أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب قال: لم تجتمع معد كلها إلا على ثلاثة رهط من رؤساء العرب، وهم: عامر وربيعة وكليب.
فالأول: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، وهو الناس بن مضر. وعامر بن الظرب هو قائد معد يوم البيداء، حين تمذحجت مذحج، وسارت إلى تهامه، وهي أول وقعة كانت بين تهامة واليمن.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:17 pm

والثاني: ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب ابن كعب، وهو قائد معد يوم السلان، وهو يوم كان بين أهل تهامة واليمن. والثالث: كليب بن ربيعة، وهو الذي يقال فيه: أعز من كليب وائل. وقاد معدا كلها يوم خزار، ففص جموع اليمن، وهزمهم. فاجتمعت عليه معد كلها، وجعلوا له قسم الملك، وتاجه وتحيته وطاعته. فغبر بذلك حينا من دهره، ثم دخله زهو شديد، وبغى على قومه لما هو فيه من عزة وانقياد معد له، حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب، فلا يرعى حماه، ويجير على الدهر فلا تحفر ذمته، ويقول: وحش أرض كذا في جواري فلا يهاج، ولا تورد إبل أحد مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، حتى قالت العرب: أعز من كليب وائل. وكانت بنو جشم وبنو شيبان في دار واحدة بتهامة، وكان كليب بن وائل قد تزوج جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وأخوها جساس ابن مرة. وكانت البسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة، وكانت نازلة في بني شيبان مجاورة لجساس، وكانت لها ناقة يقال لها سراب، ولها تقول العرب: أشأم من سراب، وأشأم من البسوس فمرت إبل لكليب بسراب، ناقة البسوس، وهي معقولة بفناء بيتها في جوار جساس بن مرة. فلما رأت سراب الإبل نازعت عقالها حتى قطعته، وتبعت الإبل واختلطت بها حتى انتهت إلى كليب، وهو على الحوض معه قوس وكنانة. فلما رآها أنكرها، فانتزع لها سهما، فخرم ضرعها، فنفرت الناقة وهي ترغو. فلما رأتها البسوس قذفت خمارها عن رأسها وصاحت: واذلاه! واجاراه! وخرجت.
فأحمست جساسا. فركب فرسا له معرورية، فأخذ آلته، وتبعه عمرو ابن الحارث بن ذهل بن شيبان على فرسه ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحمى، فقال له: أيا أبا الماجدة، عمدت إلى ناقة جارتي فعقرتها. فقال له: أتراك ما نعي إن أذب عن حماي؟ فأحمسه الغضب، فطعنه جساس فقصم صلبه، وطعنه عمرو بن الحارث من خلفه فقطع بطنه، فوقع كليب وهو يفحص برجله، وقال لجساس: أغثنى بشربة من ماء. فقال: هيهات، تجاوزت شبيثا والأحص. ففي ذلك يقول عمرو بن الأهتم:
وإن كليبا كان يظلم قومه ... فأدركه مثل الذي تريان
فلما حشاه الرمحكف ابن عمه ... تذكر ظلم الأهل أي أوان
وقال لجساس أغثني بشربة ... وإلا فخبر من رأيت مكاني
فقال تجاوزت الأحص وماءه ... وبطن شبيث وهو غير دفان
وقال نابغة بني جعدة:
أبلغ عقالا أن خطة داحس ... بكفيك فاستأخر لها أو تقدم
كليب لعمري كان أكثر ناصرأ ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
وقال لجساس أغثني بشربة ... تدارك بها منا علي وأنعم
فقال تجاوزت الأحص وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو مترسم

(2/285)

فلما قتل كليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النهى. وتشمر المهلهل أخو كليب، واسمه عدي بن ربيعة، وإنما قيل له المهلهل لأنه أول من هلهل الشعر، أي أرقة، واستعد لحرب بكر، وترك النساء والغزل، وحرم القمار والشراب، وجمع إليه قومه، فأرسل رجالا منهم إلى بني شيبان يعذر إليهم فيما وقع من الأمر. فأتوا مرة بن ذهل بن شيبان، وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناب من الإبل، فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الإعذار إليكم. ونحن نعرض عليكم خلالا أربع لكم فيها مخرج، ولنا مقنع. فقال مرة: وما هي؟ قال له: تحي لنا كليبا، أو تدفع إلينا جساسا قاتله فنقتله به، أو هماما فإنه كفء له، أو تمكننا من نفسك فإن فيك وفاء من دمه؟ فقال: أما إحيائي كليبا فهذا ما لا يكون؟ وأما جساس فإنه غلام طعن طعنة على عجل ثم ركب فرسه فلا أدري أي البلاد أحتوى عليه؛ وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم، فلن يسلموه لي فأدفعه إليكم يقتل بجريرة غيره، وأما أنا فهل هو إلا أن تجول الخيل جولة غدا فأكون أول قتيل بينها، فما أتعجل من الموت؟ ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداهما، فهؤلاء بني الباقون فعلقوا في عنق أيهم شئتم نسعة فانطلقوا به إلى رحالكم فأذبحوه ذبح الجزور، وإلا فألف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلا من بني وائل. فغضب القوم وقالوا: لقد أسأت، ترذل لنا ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب. ووقعت الحرب بينهم.
ولحقت جليلة زوجة بأبيها وقومها. ودعت تغلب النمر بن قاسط فانضمت إلى بني كليب وصاروا يدا معهم على بكر، ولحقت بهم غفيلة ابن قاسط، واعتزلت قبائل بكر بن وائل وكرهوا مجامعة بني شيبان ومساعدتهم على قتال إخوتهم، وأعظموا قتل جساس كليبا رئيسهم بناب من الإبل. فظعنت لجيم عنهم، وكفت يشكر عن نصرتهم، وأنقبض الحارث بن عباد في أهل بيته. وهو أبو بجير وفارس النعامة. وقال المهلهل يرثي كليبا:
بت ليلي بالأنعمين طويلا ... أرقب النجم سهرا أن يزولا
كيف أهدأ ولا يزال قتيل ... من بني وائل ينسي قتيلا
غنيت دارنا تهامة في الده ... ر وفيها بنو معد حلولا
فتساقوا كأسا أمرت عليهم ... بينهم بقتل العزيز الذليلا
فصبحنا بني لجيم بضرب ... يترك الهم وقعه مفلولا
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
انتضوا معجس القسي وأبرق ... نا كما توعد الفحولا
قتلوا ربهم كلبا سفاها ... ثم قالوا ما نخاف عويلا
كذبوا والحرام والحل حتى ... نسلب الخدر بيضة المحجولا
ويموت الجنين في عاطف الرح ... م ونروي رماحنا والخيولا
وقال أيضا يرثيه:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ... إذ أنت خليتها فيمن يخلبها
كليب أي فتى عز ومكرمة ... تحت السقائف إذ يعلوك سافيها
نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردى في أعنتها ... زهوا إذا الخيل لجت في تعاديها
من خيل تغلب ما تلقي أسنتها ... إلا وقد خضبوها من أعاديها
يهزهزون من الخطي مدمجة ... كمتا أنابيبها زرقا عواليها
ترى الرماح بأيدينا فنوردها ... بيضا ونصدرها حمرا أعاليها
ليت السماء على من تحتها وقعت ... وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها
لا أصلح الله منا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
يوم النهي

(2/286)

قال أبو المنذر: أخبرني خراش أن أول وقعة كانت بينهم بالنهي يوم النهى.
فالتقوا بماء يقال له النهي كانت بنو شيبان نازله عليه. ورئيس تغلب المهلهل، ورئيس شيبان الحارث بن مرة. فكانت الدائرة لبني تغلب، وكان الشوكة في شيبان، واستحر القتل فيهم، إلا أنه لم يقتل في ذلك اليوم أحد من بني مرة.
يوم الذنائب
ثم التقوا بالذنائاب، وهي أعظم وقعة كانت لهم، فظفرت بنو تغلب وقتلت بكر مقتلة عظيمة. وفيها قتل شراحيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان وهو جد الحوفزان، وهو جد معن بن زائدة. والحوفزان هو الحارث ابن شريك بن عمرو بن قيس بن شراحيل، قتله عتاب بن سعد بن زهير بن جشم. وقتل الحارث بن مرة بن ذهل بن شيبان، قتله كعب بن ذهل بن ثعلبة. وقتل من بني ذهل ثعلبة: عمرو بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة. وقتل من بني تيم الله. جميل بن مالك بن تيم الله، وعبد الله بن مالك بن تيم الله. وقتل من بني قيس ابن ثعلبة: سعد بن ضبيعة بن قيس، وتميم بن قيس بن ثعلبة، وهو أحد الخرفين. وكان شيخا كبيرا فحمل في هودج، فلحقه عمرو بن مالك بن الفدوكس بن جشم، وهو جد الأخطل، فقتله. هؤلاء من أصيب من رؤساء بكر يوم الذنائب.
يوم واردات
ثم التقوا بواردات، وعلى الناس رؤساؤهم الذين سمينا. فظفرت بنو تغلب وأستحر القتل في بني بكر، فيومئذ قتل الشعثمان، شعثم وعبد شمس، ابنا معاوية بن عامر بن ذهل بن ثعلبة؟ وسيار بن الحارث بن سيار. وفيه قتل همام ابن مرة بن ذهل بن شيبان، أخو جساس لأمه وأبيه، فمر به مهلهل مقتولا، فقال: والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز علي فقدا منك، وقتله ناشرة. وكان همام رباه وكفله، كما كان ربى حذيفة بن بدر قرواشا، فقتله يوم الهباءة.
يوم عنيزة
ثم التقوا بعنيزة، فظفرت بنو تغلب. ثم كانت بينهم معاودة ووقائع كثيرة، كل ذلك كانت الدائرة فيه لبني تغلب على بني بكر. فمنها: يوم الحنو، ويوم عويرضات، ويوم أنيق، ويوم ضرية، ويوم القصيبات. هذه الأيام لتغلب على بكر. أصيبت فيها بكر حتى ظنوا أن ليس يستقبلون أمرهم. وقال مهلهل يصف هذه الأيام وينعاها على بكر في قصيدة طويلة أولها:
أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن يك بالذنائب طال ليلي ... فقد أبكي من الليل القصير
وفيها يقول:
فلا نبش المقابر عن كليب ... لأخبر بالذنائب أي زير
كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مدير
وإني قد تركت بواردات ... بجيرا في دم مثل العبير
هتكت به بيوت بني عباد ... وبعض القتل أشفى للصدور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا برزت مخبأة الخدور
ولولا الريح اسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
وقال مهلهل لما أسرف في الدماء:
أكثرت قتل بني بكر بربهم ... حتى بكيت وما يبكي لهم أحد
آليت بالله لا أرضى بقتلهم ... حتى أبهرج بكرا أينما وجدوا
قال أبو حاتم: أبهرج: أدعهم بهرجا لا يقتل بهم قتيل ولا تؤخذ لهم دية.
قال: والبهرج من الدراهم، من هذا. وقال المهلهل:
يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين الفرار؟
تلك شيبان تقول لبكر ... صرح الشر وبان السرار
وبنو عجل تقول لقيس ... ولتيم اللات سيروا فساروا
وقال:
قتلوا كليبا ثم قالوا اربعوا ... كذبوا ورب الحل والإحرام
حتى تبيد قبائل وقبيلة ... ويعض كل مثقف بالهام
وتقوم ربات الخدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام
حتى يعض الشيخ بعد حميمه ... مما يرى ندما على الإيهام
يوم قضة

(2/287)

ثم إن مهلهلا، أسرف في القتل ولم يبال بأي قبيلة من قبائل بكر أوقع، وكان أكثر بكر قعدت عن نصرة بني شيبان لقتلهم كليب بن وائل، فكان الحارث بن عباد قد اعتزل تلك الحروب. حتى قتل ابنه بجير بن الحارث. ويقال إنه كان ابن أخيه، فلما بلغ الحارث قتله، قال: نعم القتيل قتيل اصلح بين ابني وائل، وظن أن المهلهل قد أدرك به ثأر كليب وجعله كفئا له. فقيل له: إنما قتله بشسع نعل كليب. وذلك أن المهلهل لما قتل بجيرا قال: بؤ بشسع كليب. فغضب الحارث بن عباد، وكان له فرس يقال لها النعامة، فركبها وتولى أمر بكر، فقتل تغلب حتى هرب المهلهل وتفرقت قبائل تغلب، فقال في ذلك الحارث بن عباد:
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيالي
لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحرها اليوم صالي
وكان أول يوم شهده الحارث بن عباد يوم قضة، وهو يوم تحلاق اللمم، وفيه يقول طرفة بن العبد:
سائلوا عنا الذي يعرفنا ... ما لقوا في يوم تحلاق اللمم
يوم تبدي البيض عن أسؤقها ... وتلف الخيل أفواج النعم
وفيه أسر الحارث بن عباد المهلهل وهو لا يعرفه، واسمه عدي بن ربيعة، فقال له: دلني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك. فقال له عدي: عليك العهود بذلك إن دللتك عليه؟ قال: فأنا عدي. فجز ناصيته وتركه، وقال فيه:
لهف نفسي على عدي ولم أعرف عديا إذا أمكنتني اليدان.
وفيه قتل عمرو وعامر التغلبيان. قتلهما جحدر بن ضبيعة. طعن أحدهما بسنان رمحه والآخر بزجه. ثم إن المهلهل فارق قومه ونزل في بني جنب، وجنب في مذحج، فخطبوا إليه ابنته فمنعهم. فأخبروه على تزويجها وساقوا إليه في صداقها جلودا من أدم، فقال في ذلك:
أعزز على تغلب بما لقيت ... أخت بني الأكرمين من جشم
أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم
لو بأبانين جاء يخطبها ... زمل ما أنف خاطب بدم
الكلاب الأول
قال أبو عبيدة: لما تسافهت بكر بن وائل وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها، ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا فأكل القوي الضعيف، ولا نستطيع تغيير ذلك، فنرى أن نملك علينا ملكا نعطيه الشاة والبعير، فيأخذ للضعيف من القوي، ويرد على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون، فتفسد ذات بيننا، ولكنا نأتي تبعا فنملكه علينا. فأتوه فذكروا له أمرهم، فملك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي، فقدم فنزل عاقل، ثم غزا ببكر بن وائل حتى أنتزع عامة ما في أيدي ملوك الحيرة اللخميين، وملوك الشام الغسانيين، وردهم إلى أقاصي أعمالهم. ثم طعن في نيطه، أي مات، فدفن ببطن عاقل. واختلف أبناه شرحبيل وسلمة، في المهلك، فتواعد الكلاب. فأقبل شرحبيل في ضبة والرباب كلها، وبني يربوع وبكر بن وائل. وأقبل سلمة في تغلب والنمر وبهراء، ومن تبعه من بني مالك بن حنظلة، وعليهم سفيان بن مجاشع، وعلى تغلب السفاح - إنما قيل له السفاح، لأنه سفح أوعية قومه - وقال لهم: أبدروا إلى ماء الكلاب، فسبقوا ونزلوا عليه. وإنما خرجت بكر بن وائل مع شرحبيل لعداوتها لبني تغلب. فالتقوا على الكلاب، واستحر القتل في بني يربوع، وشد أبو حنش على شرحبيل فقتله، وكان شرحبيل قتل ابنه حنشا، فأراد أبو حنش أن يأتي برأسه إلى سلمة فخافه، فبعثه مع عسيف له. فلما رآه سلمة دمعت عيناه، وقال له: أنت قتلته؟ قال: لا، ولكنه قتله أبو حنش. فقال: إنما أدفع الثواب إلى قاتله. وهرب أبو حنش عنه. فقال سلمة:
ألا أبلغ حنش رسولا ... فما لك لا تجيء إلى الثواب
تعلم أن خير الناس ميتا ... قتيل بين أحجار الكلاب
تداعت حوله جشم بن بكر ... وأسلمه جعاسيس الرباب
ومما يدل على أن بكرا كانت مع شرحبيل قول الأخطل:

(2/288)

أبا غسان إنك لم تهني ... ولكن قد أهنت بني شهاب
ترقوا في النخيل وأنسئونا ... دماء سراتكم يوم الكلاب
يوم الصفقة ويوم الكلاب الثاني
قال أبو عبيدة: أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال: كان يوم الكلاب متصلا بيوم الصفقة، وكان من حديث الصفقة أن كسرى الملك، كان قد أوقع ببني تميم، فأخذ الأموال وسبى الذراري بمدينة هجر، وذلك أنهم أغاروا على لطيمة له فيها مسك وعنبر وجوهر كثير، فسميت تلك الوقعة يوم الصفقة، ثم إن بني تميم أداروا أمرهم، وقال ذو الحجا منهم: إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وهنتم، وتسامعت بما لقيتم القبائل فلا تأمنون دوران العرب. فجمعوا سبعة رؤساء منهم وشاوروهم في أمرهم، وهم: أكثم بن صيفي الأسيدي، والأعيمر بن يزيد بن مرة المازني، وقيس بن عاصم المنقري، وأبير بن عصمة التيمي، والنعمان ابن الحسحاس التيمي، وأبير بن عمرو السعدي، والزبرقان بن بدر السعدي. فقالوا لهم: ماذا ترون؟ فقال أكثم بن صيفي، وكان يكنى أبا حنش: إن الناس قد بلغهم ما قد لقينا، ونحن نخاف أن يطمعوا فينا، ثم مسح بيده على قلبه، وقال: إني قد نيفت على التسعين، وإنما قلبي بضعة من جسمي، وقد نحل كما نحل جسمي، وإني أخاف أن لا يدرك ذهني الرأي لكم، وأنتم قوم قد شاع في الناس أمركم، وإنما كان قوامكم أسيفا وعسيفا - يريد العبد والأجير - وصرتم اليوم إنما ترعى لكم بناتكم، فليعرض علي كل رجل منكم رأيه وما يحضره، فإني متى أسمع الحزم أعرفه. فقال كل رجل منهم ما رأى، وأكثم ساكت لا يتكلم حتى قام النعمان بن الحسحاس، فقال: يا قوم، انظروا ماء يجمعكم، ولا يعلم الناس بأي ماء أنتم حتى تنفرج الحلقة عنكم وقد جممتم، وصلحت أحوالكم، وانجبر كسيركم، وقوي ضعيفكم. ولا أعلم ماء يجمعكم إلا قدة، فارتحلوا ونزلوا قدة. وهو موضع يقال له الكلاب. فلما سمع أكثم ابن صيفي كلام النعمان، قال: هذا هو الرأي. فارتحلوا حتى نزلوا الكلاب. وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلي اليمن، وأسفله مما يلي العراق. فنزلت سعد والرباب بأعلى الوادي، ونزلت حنظلة بأسفله.

(2/289)

قال أبو عبيدة: وكانوا لا يخافون أن يغزوا يفي القيظ، ولا يسافر فيه أحد، ولا يستطيع أحد أن يقطع تلك الصحاري لبعد مسافتها، وليس بها ماء، ولشدة حرها. فأقاموا بقية القيظ لا يعلم أحد بمكانهم، حتى إذا تهور القيظ - أي ذ هب - بعث الله ذا العينين، وهو من أهل مدينة هجر، فمر بقدة وصحرائها، فرأى ما بها من النعم، فانطلق حتى أتى أهل هجر، فقال لهم: هل لكم في جارية عذراء، ومهرة شوهاء، وبكرة حمراء، ليس دونها نكبة؟ فقالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: تلكم تميم ألقاء مطروحون بقدة. قالوا: إي والله. فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: أغتنموها من بني تميم. فأخرجوا منهم أربعة أملاك، يقال لهم اليزيديون: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأمور، ويزيد بن المخرم، وكلهم حارثيون؟ ومعهم عبد يغوث الحارثي. فكان كل واحد منهم على ألفين، والجماعة ثمانية آلاف. فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبر منه، ومن جيش كسرى يوم ذي قار ويوم شعب جبلة. فمضوا حتى إذا كانوا ببلاد باهلة، قال جزء بن جزء الباهلي لابنه: يا بني، كل لك في أكرومة لا يصاب أبدا مثلها؟ قال: وما ذاك؟ قال: هذا الحي من تميم قد ولجوا هناك مخافة، وقد قصصت أثر الجيش يريدونهم، فأركب جملي الأرحبي وسر سيرا رويدا، عقبة من الليل - يعني ساعة - ثم حل عنه حبليه وأنخه وتوسد ذراعه، فإذا سمعته قد أفاض بجرته وبال فاستنقعت ثفناته في بوله فشد عليه حبله، ثم ضع السوط عليه فإنك لا تسأل جملك شيئا من السير إلا أعطاك، حتى تصبح القوم ففعل ما أمره به. قال الباهلي: فحللت بالكلاب قبل الجيش وأنا أنظر إلى ابن ذكاء - يعني الصبح - فناديت: يا صباحاه! فإنهم ليثبون إلي ليسألوني من أنت، إذ أقبل رجل منهم من بني شقيق على مهر قد كان في النعم، فنادى؛ يا صباحاه! قد أتي على النعم. ثم كر راجعا نحو الجيش. فلقيه عبد يغوث الحارثي، وهو أول الرعيل، فطعنه في رأس معدته، فسبق اللبن الدم، وكان قد أصطبح. فقال عبد يغوث: أطيعوني وامضوا بالنعم وخلوا العجائز من تميم ساقطة أفواهها. قالوا: أما دون أن ننكح بناتهم فلا. وقال ضمرة بن لبيد الحماسي ثم المذحجي الكاهن: انظروا إذا سقتم النعم، فإن أتتكم الخيل عصبا، العصبة تنتظر الأخرى حتى تلحق بها، فإن أمر القوم هين وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضا حتى يردوا وجوه النعم، فإن أمرهم شديد. وتقدمت سعد والرباب في أوائل الخيل، فالتقوا بالقوم فلم يلتفتوا إليهم. واستقبلوا النعم ولم ينتظر بعضهم بعضا. ورئيس الرباب النعمان بن الحسحاس، ورئيس بني سعد قيس بن عاصم. وأجمع العلماء أن قيس بن عاصم كان رئيس بني تميم. فالتقى القوم، فكان أول صريع النعمان بن الحسحاس. واقتتل القوم بقية يومهم وثبت بعضهم لبعض حتى حجز الليل بينهم. ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيس بن عاصم: يالسعد، ونادى عبد يغوث: يالسعد. قيس يدعو سعد بن زيد مناة، وعبد يغوث يدعو سعد العشيرة. فلما سمع ذلك قيس نادى: يالكعب فنادى عبد يغوث يالكعب. قيس يدعو كعب بن سعد، وعبد يغوث يدعو كعب بن مالك. فلما رأى ذلك قيس نادى: يالكعب مقاعس. فلما سمعه وعلة بن عبد الله الجرمي، وكان صاحب لواء أهل اليمن، نادى: يالمقاعس، تفاءل به، فطرح اللواء، وكان أول من أنهزم. فحملت عليهم بنو سعد والرباب فهزموهم. ونادى قيس بني عاصم: يالتميم، لا تقتلوا إلا فارسا، فإن الرجالة لكم. ثم جعل يرتجز ويقول:
لما تولوا عصبا هواربا ... أقسمت أطعن إلا راكبا
إني وجدت الطعن فيهم صائبا
وقال أبو عبيدة: أمر قيس بن عاصم أن يتبعوا المنهزمة ويقطعوا عرقوب من لحقوا، ولا يشتغلوا بقتلهم عن اتباعهم. فجزوا دوابرهم. فذلك قول وعلة:
فدى لكم أهلي وأمي ووالدي ... غداة كلاب إذ تجز الدوابر

(2/290)

- وسنكتب هذه القصيدة على وجهها - . وحمى عبد يغوث أصحابه فلم يوصل إلى الجانب الذي هو فيه، فألظ به مصاد بن ربيعة بن الحارث. فلما لحقه مصاد طعنه فألقاه عن الفرس فأسره. وكان مصاد قد أصابته طعنة في مأبضه، وكان عرقه يهمي - أي يسيل - فعصبه، وكتفه - يعني عبد يغوث - ثم أردفه خلفه فنزفه الدم، فمال عن فرسه مقلوبا. فلما رأى ذلك عبد يغوث قطع كتافه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أول النهار. ثم ظفر به بعد في آخره، ونادى مناد: قتل اليزيديون. وشد قبيصة بن ضرار الضبي على ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن، فطعنه فخر صريعا. فقال له قبيصة: ألا أخبرك تابعك بمصرعك اليوم؟ وأسر عبد يغوث، أسره عصمة ابن أبير التيمي.
قال أبو عبيدة: انتهى عصمة بن أبير إلى مصاد، وقد أمعنوا في الطلب، فوجده صريعا، وقد كان قبل ذلك رأى عبد يغوث أسيرا في يديه فعرف أنه هو الذي أجهز عليه، فاقتص أثره، فلما لحقه قال له: ويحك! إني رجل أحب اللبن وأنا خير لك من الفلاة والعطش. قال عبد يغوث: ومن أنت؟ قال: عصمة بن أبير. قال عبد يغوث: أو عندك منعة؟ قال: نعم. فألقى يده لا يده. فانطلق به عصمة حتى خبأه عند الأهتم على أن جعل له من فدائه جعلا. فوضعه الأهتم عند امرأته العبشمية. فأعجبها جماله وكمانا خلقه. وكان عصمة الذي أسره غلاما نحيفا. فقالت لعبد يغوث: من أنت؟ قال: أنا سيد القوم. فضحكت وقالت: قبحك الله سيد قوم حين أسرك مثل هذا! ولذلك يقول عبد يغوث:
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا
فاجتمعت الرباب إلى الأهتم، فقالت: ثأرنا عندك، وقد قتل مصاد والنعمان، فأخرجه إلينا. فأبى الأهتم أن يخرجه إليهم، فكاد أن يكون بين الحيين؟ الرباب وسعد، فتنة. حتى أقبل قيس بن عاصم المنقري، فقال: أيؤتى قطع حلف الرباب - من قبلنا؟ وضرب فمه بقوس فهتمه، فسمي الأهتم. فقال الأهتم: إنما دفعه إلي عصمة بن أبير ولا أدفعه إلا إلى من دفعه إلي، فليجئ فليأخذه، فأتوا عصمة فقالوا: يا عصمة، قتل سيدنا النعمان وفارسنا مصاد، وثأرنا أسيرك وفي يدك، فما ينبغي لك أن تستحييه. فقال: إني ممحل وقد أصبت الغنى في نفسي، ولا تطيب نفسي عن أسيري. فاشتراه بنو الحسحاس بمائة بعير - وقال رؤبة بن العجاج: بل أرضوه بثلاثين من حواشي النعم - فدفعه إليهم، فخشوا أن يهجوهم، فشدوا على لسانه نسعة. فقال: إنكم قاتلي ولابد، فدعوني أذم أصحابي وأنوح على نفسي. فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تهجونا. فعقد لهم ألا يفعل. فأطلقوا لسانه وأمهلوه حتى قال قصيدته التي أولها:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم خير ولا ليا
ألم تعلما أن الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا
فيا راكبا إما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا
أبا كرب والأيهمين كليهما ... وقيس بأعلى حضرموت اليمانيا
جزى الله قومي بالكلاب ملامة ... صريحهم والآخرين المواليا
ولو شئت بحتنى من القوم نهدة ... ترى خلفها الجرد الجياد تواليا
ولكنني أحمي ذمار أبيكم ... وكاد الرماح يختطفن المحاميا
أحقا عباد الله أن لست سامعا ... نشيد الرعاء المعزبين المتاليا
أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا
أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا ... فإن أخاكم لم يكن من بوائيا
وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أنا الليث معدوا عليه وعاديا
وقد كنت نحار الجزور ومعمل المط ... ي وأمضي حيث لا حي ماضيا

(2/291)

وأعقر للشرب الكرام مطيتي ... وأصدع بين القينتين ردائيا
وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا ... لبيقا بتصريف القناة بنانيا
وعادية سوم الجراد وزعتها ... برمحي وقد أنحوا إلي العواليا
كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري قاتليعن رجاليا
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا
قال أبو عبيدة: فلما ضربت عنقه قالت ابنة مصاد: بؤ بمصاد. فقال بنو النعمان: يا لكاع، نحن نشتريه بأموالنا ويبوء بمصاد! فوقع بينهم في ذلك الشر، ثم اصطلحوا، وكان الغناء كله يوم الكلاب من الرباب لتميم، ومن بني سعد لمقاعس. وقال وعلة الجرمي، وكان أول منهزم انهزم يوم الكلاب، وكان بيده لواء القوم:
ومن علي الله منا شكرته ... غداة الكلاب إذ تجز الدوابر
ولما رأيت الخيل تترى أثابجا ... علمت بأن اليوم أحمس فاجر
نجوت نجاء ليس فيه وتيرة ... كأني عقاب عند تيمن كاسر
خدارية صقعاء لبد ريشها ... بطخفة يوم ذو أهاضيب ماطر
لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر
كأنا وقد حالت حذنة دوننا ... نعام تلاه فارس متواتر
فمن يك يرجو في تميم هوادة ... فليس لجرم في تميم أواصر
ولما سمعت الخيل تدعو مقاعسا ... تنازعني من ثغرة النحر ناحر
فإن أستطع لا تبتئس بي مقاعس ... ولا ترني بيداؤهم والمحاضر
ولا أك يا جرارة مضرية ... إذا ما غدت قوت العيال تبادر
وقد قلت للنهدي هل أنت مردفي ... وكيف رداف الفل أمك عاثر
يذكرني بالآل بيني وبينه ... وقد كان في جرم ونهد تدابر
وقال محرز بن المكعبر الضبي، ولم يشهدها، وكان مجاورا في بني بكر بن وائل لما بلغه الخبر:
فدى لقومي ما جمعت من نشب ... إذ ساقت الحرب أقواما لأقوام
إذ حدثت مدحج عنا وقد كذبت ... أن لا يذببعن أحسابنا حامي
دارت رحانا قليلا ثم واجههم ... ضرب تصدع منه جلدة الهام
ظلت ضباع مجيرات تجررهم ... وألحموهن منهم أي إلحام
حتى حذنة لم نترك بها ضبعا ... إلا لها جزر من شلو مقدام
ظلت تدوس بني كعب بكلكلها ... وهم يوم بني فهد بإظلام
قال أبو عبيدة: حدثني المنتجع بن نبهان قال: وقف رؤبة بن العجاج على التيم بمسجد الحرورية فقال: يا معشر تيم، إني سمرت عند الأمير تلك الليلة فتذاكرنا يوم الكلاب فقال: يا معشر تيم، إن الكلاب ليس كما ذكرتم، فأعفونا من قصيدتي صاحبينا - يعني عبد يغوث ووعلة الجرمي - ومن قصيدة ابن المكعبر صاحبكم وهاتوا غير ذلك، فأنتم أكثر الناس كلاما وهجاء. قال رؤبة: فأنشدناه في ذلك اليوم شعرا كثيرا. فجعل يقول: هذه إسلامية كلها،
يوم طخفة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:18 pm

كانت الردافة، ردافة الملك، لعتاب بن هرمي بن رياح، ثم كانت لقيس بن عتاب، فسأل حاجب بن زرارة النعمان أن يجعلها للحارث بن قرط بن سفيان بن مجاشع، فسألها النعمان بن يربوع، وقال: أعقبوا إخوتكم في الردافة. قالوا: إنهم لا حاجة لهم فيها، وإنما سألها حاجب حسدا لنا، وأبوا عليه، فقال الحارث بن شهاب، وهو عند النعمان: إن بني يربوع لا يسلمون ردافتهم إلى غيرهم. وقال حاجب: إن بعث إليهم الملك جيشا لم يمنعوه ولم يمتنعوا، فبعث إليهم النعمان قابوس ابنه، وحسان بن المنذر. فكان قابوس على الناس وكان حسان على المقدمة، وبعث معهم الصنائع والوضائع - فالصنائع: من كان يأتيه من العرب، والوضائع: المقيمون بالحيرة - فالتقوا بطخفة، فانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق بن عميرة فرس قابوس فعقره، وأخذه ليجز ناصيته. فقال قابوس: إن الملوك لا تجز نواصيها، فجهزه وأرسله إلى أبيه وأما حسان بن المنذر، فأسره بشر بن عمرو الرياحي، ثم من عليه وأرسله. فقال مالك بن نويرة:
ونحن عقرنا مهر قابوس بعدما ... رأي القوم منه الموت والخيل تلحب
عليه دلاص ذات نسج وسيفه ... جراز من الهندي أبيض مقضب
طلبنا بها إنا مداريك قبلها ... إذا طلب الشأو البعيد المغرب
يوم فيف الريح
قال أبو عبيدة: تجمعت قبائل مذحج، وأكثرها بنو الحارث بن كعب شعب، وقبائل من مراد وجعفي وزبيد وخثعم، وعليهم أنس بن مدركة، وعلى بني الحارث الحصين. فأغاروا على بني عامر بن صعصعة بفيف الريح، وعلى بني عامر عامر بن مالك ملاعب الأسنة. قال: فاقتتل القوم، فكثروهم. وارفضت قبائل من بني عامر. وصبرت بنو نمير، فما شبهوا إلا بالكلاب المتعاظلة حول اللواء. وأقبل عامر بن الطفيل، وخلفه دعي بن جعفر. فقال: يا معشر الفتيان، من ضرب ضربة أو طعن طعنة فليشهدني. فكان الفارس إذا ضرب ضربة أو طعن طعنة قال عند ذلك: أبا علي. فبينما هو كذلك إذ أتاه مسهر بن يزيد الحارثي، فقال له من ورائه: عندك يا عامر، والرمح عند أذنه. فوهصه - أي طعنه - فأصاب عينه. فوثب عامر عن فرسه ونجا على رجليه، وأخذ مسهر رمح عامر. ففي ذلك يقول عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر:
لعمري وما عمري على بهين ... لقد شان حر الوجه طعنة مسهر
أعاذل لو كان البداد لقوتلوا ... ولكن نزونا للعديد المجمهر
ولو كان جمع مثلنا لم يبزنا ... ولكنن أتتنا أسرة ذات مفخر
أتونا ببهراء ومذحج كلها ... وأكلب طرا في جنان السنور
وقال مسهر، وقد زعم أنهم أخذوا امرأة عامر بن الطفيل:
رهصت بخرص الرمح مقلة عامر ... فأضحى بخيصا في الفوارس أعورا
وغادر فينا رمحه وسلاحه ... وأدبر يدعو في الهوالك جعفرا
وكنا إذا قيسية دهيت بنا ... جرى دمعها من عينها فتحدرا
مخافة ما لاقت حليلة عامر ... من الشر إذ سربالها قد تعفرا
وقال: وامتنت بنو نمير على بني كلاب بصبرهم يوم فيف الريح، فقال عامر:
تمنون بالنعمى ولولا مكرنا ... بمنعرج الفيفا لكنتم مواليا
ونحن تداركنا فوارس وحوح ... عشية لاقين الحصين اليمانيا
وحوح، من بني نمير، وكان عامر أستنقذهم وأسر حنظلة بن الطفيل يومئذ.
قال أبو عبيدة: كانت وقعة فيف الريح وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلمه بمكة، وأدرك مسهر بن يزيد الإسلام فأسلم.
يوم تياس
كانت أفناء قبائل من بني سعد بن زيد مناة وأفناء قبائل من بني عمرو بن تميم التقت بتياس، فقطع غيلان بن مالك بن عمرو بن تميم رجل الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة، فطلبوا القصاص، فأقسم غيلان أن لا يعقلها ولا يقص بها حتى تحشى عيناه ترابا، وقال:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:20 pm

لا نعقل الرجل ولا نديها ... حتى تروا داهية تنسيها
فالتقوا فاقتتلوا، فجرحوا غيلان حتى ظنوا أنهم قد قتلوه. ورئيس عمرو كعب بن عمرو، ولواؤه مع ابنه ذؤيب، وهو القائل لأبيه:
يا كعب إن أخاك منحمق ... إن لم يكن بك مرة كعب
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصحاح مبارك الجرب
والحرب قد تضطر صاحبها ... نحو المضيق ودونه الرحب
يوم زرود الأول
غزا الحوفزان حتى انتهى إلى زرود خلف جبل من جبالها، فأغاروا على نعم كثير صادر عن الماء لبني عبس فاحتازوه. وأتى الصريخ بني عبس فركبوا. ولحق عمارة بن زياد العبسي الحوفزان فعرفه، وكانت أم عمارة قد أرضعت مضر بن شريك، وهو أخو الحوفزان. وقال عمارة: يا بني شريك، قد علمتم ما بيننا وبينكم. قال الحوفزان، وهو الحارث بن شريك: صدقت يا عمارة، فانظر كل شيء هو لك فخذه. فقال عمارة: لقد علمت نساء بني بكر بن وائل أني لم أملأ أيدي أزواجهن وأبنائهن شفقة عليهن من الموت. فحمل عمارة ليعارض النعم ليرده، وحال الحوفزان بينه وبين النعم، فعثرت بعمارة فرسه، فطعنه الحوفزان. ولحق به نعامة بن عبد الله بن شريك فطعنه أيضا. وقال نعامة: ما كرهت الرمح في كفل رجل قط أشد من كفل عمارة. وأسر ابنا عمارة: سنان وشداد. وكان في بني عبس رجلان من طيء ابنان لأوس بن حارثة مجاورين لهم، وكان لهما أخ أسير في بني يشكر، فأصابا رجلا من بني مرة يقال له: معدان بن محرب، فذهبا به فدفناه تحت شجرة، فلما فقدته بنو شيبان نادوا: يا ثارات معدان فعند ذلك قتلوا ابني عمارة. وهرب الطائيان بأسيرهما. فلما برأ عمارة من جراحه أتى طيئا فقال: ادفعوا إلي هذا الكلب الذي قتلنا به. فقال الطائي لأوس: أدفع إلى بني عبس صاحبهم. فقال لهم أوس: أتأمرونني أن أعطي بني عبس قطرة من دمي، وإن ابني أسير في بني يشكر؟ فوالله ما أرجو فكاكه إلا بهذا. فلما قفل الحوفزان من غزوه بعث إلى بني يشكر في ابن أوس. فبعثوا به إليه، فافتك به معدان. وقال نعامة بن شريك:
استنزلت رماحنا سنانا ... وشيخه بطخفة عيانا
ثم أخوه قد رأى هوانا ... لما فقدنا بيننا معدانا
يوم غول الثاني
هو يوم كنهل
قال أبو عبيدة: أقبل ابنا هجيمة، وهما من بنى غسان، في جيش، فنزلا في بني يربوع فجاورا طارق بن عوف بن عاصم بن ثعلبة بن يربوع، فنزلا معه على ماء يقال له كنهل، فأغار عليهما أناس من ثعلبة بن يربوع، فاستاقوا نعمهما وأسروا من كان في النعم، فركب قيس بن هجيمة بخيله حتى أدرك بني ثعلبة، فكر عليه عتيبة بن الحارث. فقال له قيس: هل لك يا عتيبة إلى البراز؟ فقال: ما كنت لأسأله وادعه. فبارزه. قال عتيبة: فما رأيت فارسا أملأ لعيني منه يوم رأيته فرماني بقوسه؟ فما رأيت شيئا كان أكره إلي منه. فطعنني. فأصاب قربوس سرجي، حتى وجدت مس السنان في باطن فخذي، فتجنبت. قال: ثم أرسل الرمح وقبض بيدي، وهو يرى أن قد أثبتني، وانصرف. فأتبعته الفرس. فلما سمع زجلها رجع جانحا على قربوس سرجه، وبدا لي فرج الدرع، ومعي رمح معلب بالقد والعصب كنا نصطاد به الوحش، فرميته بالقوس وطعنته بالرمح، فقتلته وانصرفت، فلحقت النعم. وأقبل الهرماس بن هجيمة فوقف على أخيه قتيلا ثم أتبعني، وقال: هل لك في البراز؟ فقلت لعل الرجعة لك خير. قال: أبعد قيس؟ ثم شد علي فضربني على البيضة، فخلص السيف إلى رأسي. وضربته فقتلته. فقال سحيم بن وثيل يعير طاردا بقتل جاريه:
لقد كنت جار ابني هجيمة قبلها ... فلم تغن شيئا غير قتل المجاور
وقال جرير:
وساق ابني هجيمة يوم غول ... إلى أسيافنا قدر الحمام
يوم الجبات

(2/294)

قال أبو عبيدة: خرج بنو ثعلبة بن يربوع فمروا بناس من طوائف بني بكر بن وائل بالجبات، خرجوا سفارا، فنزلوا وسرحوا إبلهم ترعى، وفيها نفر منهم يرعونها، منهم سوادة بن يزيد بن بجير العجلي، ورجل من بني شيبان، وكان محموما، فمرت بنو ثعلبة بن يربوع بالإبل فأطردوها، وأخذوا الرجلين فسألوهما: من معكما؟ فقالا: معنا شيخ بن يزيد بن بجير العجلي في عصابة من بني بكر بن وائل خرجوا سفارا يريدون البحرين. فقال الربيع ودعموص ابنا عتيبة بن الحارث بن شهاب: لن نذهب بهذين الرجلين وبهذه الإبل ولم يعلموا من أخذها، ارجعوا بنا حتى يعلموا من أخذ إبلهم وصاحبيهم ليعنيهم ذلك. فقال لهما عميرة: ما وراءكما إلا شيخ ابن يزيد قد أخذتما أخاه وأطردتما ماله، دعاه. فأبيا ورجعا، فوقفا عليهم وأخبراهم وتسميا لهم، فركب شيخ بن يزيد فأتبعهما وقد وليا، فلحق دعموصا فأسره. ومضى ربيع حتى أتى عميرة فأخبره أن أخاه قد قتل. فرجع عميرة على فرس يقال له الخنساء، حتى لحق القوم فافتك دعموصا على أن يرد عليهم أخاهم وإبلهم. فردها عليهم. فكفر ابنا عتيبة ولم يشكرا عميرة. فقال:
ألمن تر دعموصا يصد بوجهه ... إذا ما رآني مقبلا لم يسلم
ألم تعلما يا بني عتيبة مقدمي ... على ساقط بين الأسنة مسلم
فعارضت فيه القوم حتى انتزعته ... جهارا ولم أنظر له بالتلوم
يوم إراب
غزا الهذيل بن هبيرة بن حسان التغلبي فأغار على بني يربوع بإراب، فقتل فيهم قتيلا ذريعا وأصاب نعما كثيرة وسبى سبيا كثيرا، فيهم زينب بنت حمير بن الحارث بن همام بن رياح بن يربوع وهي يومئذ عقيلة نساء بني تميم. وكان الهذيل يسمى مجدعا، وكان بنو تميم يفزعون به أولادهم وسبى أيضا طابية بنت جزء بن سعد الرياحي، ففداها أبوها وركب عتيبة بن الحارث في أسراهم ففكهم أجمعين.
يوم الشعب
غزا قيس بن شرقاء التغلبي، فأغار على بني يربوع بالشعب فاقتتلوا، فانهزمت بنو يربوع. فزعم أبو هدبة أنها كانت اختطافا. فأسر سحيم لا ابن وثيل الرياحي، ففي ذلك يقول سحيم:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم
ففدا نفسه، وأسر يومئذ متمم بن نويرة. فوفد مالك بن نوبرة على قيس ابن شرقاء في فدائه، فقال:
هل أنت يا قيس بن شرقاء منعم ... أو الجهد إن أعطيته أنت قابله
فلما رأى وسامته وحسن شارته، قال: بل منعم. فأطلقه له.
يوم غول الأول
فيه قتل طريف بن شراحيل وعمرو بن مرثد المحلي. غزا طريف بن تميم في بني العنبر وطوائف من بني عمرو بن تميم، فأغار على بني بكر بن وائل بغول فاقتتلوا. ثم إن بكرا انهزمت، فقتل طريف بن شراحيل، أحد بني أبي ربيعة، وقتل أيضا عمرو بن مرثد المحلمي وقتل المحسر. فقال في ذلك ربيعة بن طريف:
يا راكبا بلغن عني مغلغلة ... بني الخصيب وشر المنطق الفند
هلا شراحيل إذ مال الحزام به ... وسط العجاج فلم يغضب له أحد
أو المحسر أو عمرو تحيفهم ... منا فوارس هيجا نصرهم حشد
إن يلحظوني بزرق من أسنتنا ... يشفي بهن الشنا والعجب والكمد
وقد قتلناكم صبرا ونأسركم ... وقد طردناكم لو ينفع الطرد
حتى استغاث بنا أدنى شريدكم ... من بعد ما مسه الضراء والنكد
وقال نضلة السلمي في يوم غول، وكان حقيرا دميما، وكان ذا نجدة وبأس:
ألم تسل الفوارس يوم غول ... بنضلة وهو موتور مشيح
رأوه فازدروه وهو حر ... وينفع أهله الرجل القبيح
فشد عليهم بالسيف صلتا ... كما عض الشبا الفرس الجموح

(2/295)

فأطلق غل صاحبه وأردى ... قتيلا منهم ونجا جريح
ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح
يوم الخندمة
كان رجل من مشركي قريش يحد حربة يوم فتح مكة، فقالت له امرأته: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعض نسائهم. وأنشأ يقول:
إن تقبلوا اليوم فما بي علة ... هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السله
فلما لقيهم خالد بن الوليد يوم الخندمة انهزم الرجل لا يلوي على شيء. فلامته امرأته، فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
ولقيتنا بالسيوف المسلمه ... يفلقن كل ساعد وجمجمه
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
يوم اللهيماء
قال أبو عبيدة: كان سبب الحرب التي كانت بين عمرو بن الحارث ابن تميم بن سعد بن هذيل، وبين بني عبد بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة، أن قيس بن عامر بن عريب، أخا بني عبد بن عدي، وأخاه سالما، خرجا يريدان بني عمرو بن الحارث على فرسين، يقال لإحداهما اللعاب والأخرى عفزر. فباتا عند رجل من بني نفاثة. فقال النفاثي لقيس وأخيه: أطيعاني وارجعا، لا أعرفن رماحكما تكسر في قتال نعمان. قالا: إن رماحنا لا تكسر إلا في صدور الرجال. قال: لا يضركما، وستحمدان أمري. فأصبحا غاديين، فلما شارفا متن اللهيماء من نعمان، وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك بموضع يقال له أديمة، أغارا على غنم لجندب بن أبي عميس، وفيها جندب، فتقدم إليه قيس، فرماه جندب في حلمة ثديه، وبعجه قيس بالسيف، فأصابت ظبة السيف وجه جندب، وخر قيس. ونفرت الغنم نحو الدار وأتبعها. وحمل سالم على جندب بفرسه عفزر، فضرب جندب خطم عفزر بالسيف فقطعه، وضربه سالم، فاتقاه بيده، فقطع أحد زنديه، فخر جندب وذفف عليه سالم. وأدرك العشي سالما فخرج وترك سيفه في المعركة وثوبه بحقويه لم ينج إلا بجفن سيفه ومئزره، فقال في ذلك حماد بن عامر:
لعمرك ما ونى ابن أبي عميس ... وما خان القتال وما أضاعا
سما بقرانه حتى إذا ما ... أتاه قرنه بذل المصاعا
فإن أك نائيا عنه فإني ... سررت بأنه غبن البياعا
وأفلت سالم منها جريضا ... وقد كلم الذبابة والذراعا
ولو سلمت له يمنى يديه ... لعمر أبيك أطعمك السباعا
وقال حذيفة بن أنس:
ألا بلغا جل السواري وجابرا ... وبلغ بني ذي السهم عنا ويعمرا
كشفت غطاء الحرب لما رأيتها ... تميل على صغو من الليل أكدرا
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
ويمشي إذا ما الموت كان أمامه ... كذي الشبل يحمي الأنف أن يتأخرا
نجا سالم والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
وطاب عن اللعاب نفسا وربه ... وغادر قيسا في المكر وعفزرا
يوم خزاز

(2/296)

قال أبو عبيدة: فنازع عامر ومسمع ابنا عبد الملك، وخالد بن جبلة، وإبراهيم بن محمد بن نوح العطاردي، وغسان بن عبد الحميد، وعبد الله بن سلم الباهلي، ونفر من وجوه أهل البصرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون في الرياسة يوم خزاز، فقال خالد بن جبلة: كان الأحوص بن جعفر الرئيس. وقال عامر ومسمع: كان الرئيس كليب بن وائل. وقال ابن نوح: كان الرئيس زرارة بن عدس. وهذا في مجلس أبي عمرو بن العلاء. فتحاكموا إلى أبي عمرو، فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة، ولا دارم بن مالك، ولا جشم بن بكر، اليوم أقدم من ذلك، ولقد سألت عنه منذ ستين سنة فما وجدت أحدا من القوم يعلم من رئيسهم ومن الملك، غير أن أهل اليمن كان الرجل منهم يأتي ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعمال صدقاتهم اليوم، وكان أول يوم امتنعت معد عن الملوك ملوك حمير، وكانت نزار لم تكثر بعد، فأوقدوا نارا على خزاز ثلاث ليال، ودخنوا ثلاثة أيام. فقيل له: وما خزز؟ قال: هو جبل قريب من إمر على يسار الطريق، خلفه صحراء منعج، يناوحه كور وكوير إذا قطعت بطن عاقل. ففي ذلك اليوم امتنعت نزار من أهل اليمن أن يأكلوهم، ولولا قول عمرو بن كلثوم ما عرف ذلك اليوم، حيث يقول:
ونحن غداة أوقد في خزار ... رفدنا فوق رفد الرافدينا
فكنا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا
فصالوا صولة فيمن يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا
فأبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
قال أبو عمر بن العلاء: ولو كان جده كليب وائل قائدهم ورئيسهم ما ادعى الرفادة وترك الرياسة، وما رأيت أحدا عرف هذا اليوم ولا ذكره في شعره قبله ولا بعده.
يوم المعا
قال أبو عبيدة: أغار المنبطح الأسدي على بني عباد بن ضبيعة، فأخذ نعما لبني الحارث بن عباد، وهي ألف بعير، فمر ببني سعد بن مالك بن ضبيعة، وبني عجل بن لجيم، فتبعوه حتى انتزعوها منه، ورئيس بني سعد حمران ابن عبد عمرو، فأسر اقتل بن حسان العجلي المنبطح الأسدي، ففداه قومه، ولا أدري كم كان فداؤه، واستنقذوا السبي. فقال حجر بن خالد بن محمود في يوم المعا:
ومنبطح الفواضر قد أذقنا ... بنا عجة المعا حر الجلاد
تنقذنا أخاذيذا فردت ... على سكن وجمع بني عباد
سكن، ابن باعث بن الحارث بن عباد. والأخاذيذ. من أخذ من النساء.
وقال حمران بن عبد عمرو:
إن الفوارس يوم ناعجة المعا ... نعم الفوارس من بني سيار
لم يلهم عقد الأصرة خلفهم ... وحنين منهلة الضروع عشار
لحقوا على قب الأياطل كالقنا ... شعث تعد لكل يوم عوار
حتى حبون أخا الغواضر ظعنة ... وفككن منه القد بعد إسار
سالت عليه من الشعاب خوانف ... ورد الغطاط تبلج الأسحار
يوم النسار
قال أبو عبيدة: تحالفت أسد وطيء وغطفان ولحقت بهم ضبة وعدي، فغزوا بني عامر، فقتلوهم قتلا شديدا، فغضبت بنو تميم لقتل بني عامر، فتجمعوا حتى لحقوا طيئا وغطفان وحلفاءهم من بني ضبة وعدي يوم الجفار، فقتلت تميم أشد مما قتلت عامر يوم النسار. فقال في ذلك بشر بن أبي خازم:
غضبت تميم أن تقتل عامر ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
يوم ذات الشقوق
فحلف ضمرة بن ضمرة النهشلي فقال: الخمر علي حرام حتى يكون له يوم يكافئه. فأغار عليهم ضمرة يوم ذات الشقوق فقتلهم، وقال في ذلك:
الآن ساغ الشراب ولم أكن ... آتي التجارولا أشد تكلمي
حتى صبحت على الشقوق بغارة ... كالتمر ينثر في حرير الحرم

(2/297)

وأبأت يوما بالجفار بمثله ... وأجرت نصفا من حديث الموسم
ومشت نساء كالظباء عواطلا ... من بين عارفة السباء وأيم
ذهب الرماح بزوجها فتركنه ... في صدر معتدل القناة مقوم
يوم خو
قال أبو عبيدة: أغارت بنو أسد على بني يربوع فاكتسحوا إبلهم، فأتى الصريخ الحي، فلم يتلاحقوا إلا مساء بموضع يقال له خو. وكان ذؤاب بن ربيعة الأشتر على فرس أنثى، وحصان عتيبة بن الحارث بن شهاب على حصان، فجعل الحصان يستنشق ريح الأنثى في سواد الليل ويتبعها، فلم يعلم عتيبة إلا وقد أقحم فرسه على ذؤاب بن ربيعة الأشتر، وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه في ظلمة الليل، وكان عتيبة قد لبس درعه وغفل عن جربانها حتى أتى الصريخ فلم يشده، ورآه ذؤاب، فأقبل بالرمح إلى ثغرة نحره. فخر صريعا قتيلا. ولحق الربيع بن عتيبة فشد على ذؤاب فأسره وهو لا يعلم أنه قاتل أبيه، فكان عنده أسيرا حتى فاداه أبوه ربيعة بإيل معلومة قاطعه عليها، وتواعدا سوق عكاظ في الأشهر الحرم أن يأتي هذا بالإبل ويأتي هذا بالأسير. وأقبل أبو ذؤاب بالإبل، وشغل الربيع بن عتيبة فلم يحضر سوق عكاظ. فلما رأى ذلك ربيعة أبو ذؤاب لم يشك أن ذؤابا قد قتلوه بأبيهم عتيبة، فرثاه وقال:
أبلغ قبائل جعفر مخصوصة ... ما إن أحاول جعفر بن كلاب
إن المودة والهوادة بيننا ... خلق كسحق الريطة المنجاب
ولقد علمت على التجلد والأسى ... أن الرزية كان يوم ذؤاب
إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
بأحبهم فقدا إلى أعدائه ... وأشدهم فقدا على الأصحاب
فلما بلغهم الشعر قتلوا ذؤاب بن ربيعة. وقالت آمنة بنت عتيبة ترثي أباها:
على مثل ابن مية فانعياه ... بشق نواعم البشر الجيوبا
وكان أبي عتيبة سمهريا ... فلا تلقاه يدخر النصيبا
ضروبا للكمي إذا اشمعلت ... عوان الحرب لا ورعا هيوبا
أيام الفجار
الفجار الأول
قال أبو عبيدة: أيام الفجار عدة وهذا أولها. وهو بين كنانة وهوازن، وكان الذي هاجه أن بدر بن معشر، أحد بني غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. جعل له مجلس بسوق عكاظ، وكان حدثا منيعا في نفسه، فقام في المجلس وقام على رأسه قائم، وأنشأ يقول:
نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لم يطوف
ومن يكونوا قومه يغطرف ... كأنهم لجة بحر مسدف
قال: ومد رجله وقال: أنا أعز العرب فمن زعم أنه أعز مني فليضربها. فضربها الأحيمر بن مازن، أحد بني دهمان بن نصر بن معاوية، فأندرها من الركبة، وقال:
خذها إليك أيها المخندف
وقال أبو عبيدة: إنما خرصها خريصة يسبرة، وقال في ذلك:
نحن بنو دهمان ذو التغطرف ... بحر لبحر زاخر لم ينزف
نبني على الأحياء بالمعرف
قال أبو عبيدة: فتجاور الحيان عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهما الدماء، ثم تراجعوا، ورأوا أن الخطب يسير.
الفجار الثاني
كان الفجار الثاني بين قريش وهوازن، وكان الذي هاجه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر بن صعصعة، وضيئة حسانة بسوق عكاظ. وقالوا: بل أطاف بها شباب من بني كنانة وعليها برقع وهي في درع فضل، فأعجبهم ما رأوا من هيئتها، فسألوها أن تسفر عن وجهها. فأبت عليهم. فأتي أحدهم من خلفها فشد دبر درعها بشوكة إلى ظهرها، وهي لا تدري، فلما قامت تقلص الدرع عن دبرها. فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهها فقد رأينا دبرها. فنادت المرأة: يا لعامر. فتحاور الناس، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حرب بن أمية وأصلح بينهم.
الفجار الثالث

(2/298)

وهو بين كنانة وهوازن. وكان الذي هاجه أن رجلا من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية، فأعدم الكناني. فوافى النصري بسوق عكاظ بقرد فأوقفه في سوق عكاظ، وقال: من يبيعني مثل هذا بمالي على فلان؟ حتى أكثر في ذلك. وإنما فعل ذلك النصري تعييرا للكناني ولقومه. فمر به رجل من بني كنانة فضرب القرد بسيفه فقتله. فهتف النصري: يا لهوازن، وهتف الكناني: يا لكنانة. فتهايج الناس حتى كاد أن يكون بينهم قتال، ثم رأوا الخطب يسيرا فتراجعوا، ولم يفقم الشر بينهم.
قال أبو عبيدة: فهذه الأيام تسمى فجارا لأنها كانت في الأشهر الحرم، وهي الشهور التي يحرمونها، ففجروا فيها، فلذلك سميت فجارا. وهذه يقال لها: أيام الفجار الأول.
الفجار الآخر
وهو بين قريش وكنانة كلها وبين هوازن، وإنما هاجها البراض بقتله عروة الرجال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، فأبت أن تقتل بعروة البراض، لأن عروة سيد هوازن والبراض خليع من بني كنانة، أرادوا أن يقتلوا به سيدا من قريش. وهذه الحروب كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بست وعشرين سنة، وقد شهدها النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع عشرة سنة مع أعمامه. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار وأنا ابن أربع عشرة سنة - يعني أناولهم النبل - وكان سبب هذه الحرب أن النعمان بن المنذر ملك الحيره كان يبعث بسوق عكاظ في كل عام لطيمة في جوار رجل شريف من أشراف العرب يجيرها له حتى تباع هناك، ويشتري له بثمنها من أدم الطائف ما يحتاج إليه. وكانت سوق عكاظ تقوم في أول يوم من ذي القعدة، فيتسوقون إلى حضور الحج ثم يحجون. وكانت الأشهر الحرم أربعة أشهر: ذا القعدة وذا الحجة والمحرم ورجب. وعكاظ: بين نخلة والطائف، وبينها وبين الطائف نحو من عشرة أميال. وكانت العرب تجتمع فيها للتجارة والتهيء للحج من أول ذي القعدة إلى وقت الحج، ويأمن بعضها بعضا. فجهز النعمان عير اللطيمة، ثم قال: من يجيرها؟ فقال البراض ابن قيس النمري: أنا أجيرها على بني كنانة. فقال النعمان: ما أريد إلا رجلا يجيرها على أهل نجد وتهامة. - فقال عروة الرحال، وهو يومئذ رجل هوازن: أكلب خليع يجيرها لك؟ أبيت اللعن، أنا أجيرها لك على أهل الشيح والقيصوم من أهل نجد وتهامة. فقال البراض: أعلى بني كنانة تجيرها يا عروة؟ قال: وعلى الناس كلهم. فدفعها النعمان إلى عروة. فخرج بها وتبعه البراض، وعروة لا يخشى منه شيئا، لأنه كان بين ظهراني قومه من غطفان إلى جانب فدك إلى أرض يقال لها أوارة. فنزل بها عروة فشرب من الخمر وغنته قينة ثم قام فنام. فجاء البراض فدخل عليه، فناشده عروة، وقال: كانت مني زلة، وكانت الفعلة مني ضلة. فقتله وخرج يرتجز ويقول:
قد كانتا الفعلة مني ضلة
هلا على غيري جعلت الزلة
فسوف أعلو بالحسام القلة.
وقال:
وداهية يهال الناس منها ... شددت لها بني بكر ضلوعي
هتكت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضروع
جمعت له يدي بنصل سيف ... أفل فخر كالجذع الصريع

(2/299)

واستاق اللطيمة إلى خيبر. وأتبعه المساور بن مالك الغطفاني وأسد بن خيثم الغنوى حتى دخل خيبر. فكان البراض أول من لقيهما، فقال لهما، من الرجلان؟ قالا: من غطفان وغني. قال البراض: ما شأن غطفان وغنى بهذه البلدة؟ قال: ومن أنت؟ قال: من أهل خيبر. قالا: ألك علم بالبراض؟ قال: دخل علينا طريدا خليعا فلم يؤوه أحد بخيبر ولا أدخله بيتا. قالا: فأين يكون؟ قال: وهل لكما به طاقة إن دللتكما عليه؟ قالا: نعم. قال: فانزلا. فنزلا وعقلا راحلتيهما. قال: فأيكما أجرأ عليه، وأمضى مقدما، وأحد سيفا؟ قال الغطفاني: أنا. قال البراض: فانطلق أدلك عليه، ويحفظ صاحبك راحلتيكما. ففعل. فانطلق البراض يمشي بين يدي الغطفاني حتى انتهى إلى خربة في جانب خيبر خارجة عن البيوت. فقال البراض: هو في هذه الخربة وإليها يأوي، فأنظرني حتى أنظر أثم هو أم لا. فوقف له ودخل البراض، ثم خرج إليه وقال: هو نائم في البيت الأقصى خلف هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت، فهل عندك سيف فيه صرامة؟ قال: نعم. قال: هات سيفك أنظر إليه أصارم هو؟ فأعطاه إياه. فهزه البراض ثم ضربه بن حتى قتله، ووضع السيف خلف الباب، وأقبل على الغنوي، فقال: ما وراءك؟ قال: لم أر أجبن من صاحبك، تركته قائما في الباب الذي فيه الرجل، والرجل نائم لا يتقدم إليه ولا يتأخر عنه. قال الغنوي: يا لهفاه، لو كان أحد ينظر راحلتينا؟ قال البراض: هما علي إن ذهبت. فانطلق الغنوي والبراض خلفه، حتى إذا جاوز الغنوي باب الخربة أخذ البراض السيف من خلف الباب، ثم ضربه حتى قتله وأخذ سلاحيهما وراحلتيهما ثم انطلق. وبلغ قريشا خبر البراض بسوق العكاظ، فخلصوا نجيا. وأتبعتهم قيس لما بلغهم أن البراص قتل عروة الرحال، وعلى قيس أبو براء عامر بن مالك. فأدركوهم، وقد دخلوا الحرم، ونادوهم: يا معشر قريش، إنا نعاهد الله أن لا نبطل دم عروة الرحال أبدا، ونقتل به عظيما منكم، وميعادنا وإياكم هذه الليالي من العام المقبل. فقال حرب بن أمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم: إن موعدكم قابل في هذا اليوم. فقال خداش بن زهير، في هذا اليوم، وهو يوم نخلة:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا البيت والحرم
لما رأوا خيلنا تزجى أوائلها ... اساد غيل حمى أشبالها الأجم
واستقبلوا بضراب لا كفاء له ... يبدي من العزل الأكفال ما كتموا
ولوا شلالا وعظم الخيل لاحقة ... كما تخب إلى أوطانها النعم
ولت بهم كل محضار ململمة ... كأنها لقوة يحتثها ضرم
وكانت العرب تسمي قريشا سخينة، لأكلها السخن.
يوم شمطة
وهي من الفجار الآخر، ويوم نخلة منه أيضا.
قال: فجمعت كنانة قريشها وعبد منافها والأحابيشومن لحق بهم من بني أسد بن خزيمة. وسلح يومئذ عبد الله بن جدعان مائة كمي بأداة كاملة سوى من سلح من قومه. والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة: قال: وجمعت سليم وهوازن جموعها وأحلافها غير كلاب وبني كعب، فإنهما لم يشهدا يوما الفجار غير يوم نخلة، فاجتمعوا بشمطة من عكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قرن الحول، وعلى كل قبيلة من قريش وكنانة سيدها، وكذلك على قبائل قيس، غير أن أمر كنانة كلها إلى حرب بن أمية، وعلى إحدى مجنبتها عبد الله بن جدعان. وعلى الأخرى كريز بن ربيعة وحرب بن أمية في القلب، وأمر هوازن كلها إلى مسعود بن معتب الثقفي. فتناهض الناس وزحف بعضهم إلى بعض، فكانت الدائرة في أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن، وصابرت وانقشعت كنانة، فاستحر القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، وقيل ثمانون. ولم يقتل من قريش يومئذ أحد يذكر. فكان يوم شمطة لهوازن على كنانة.
يوم العبلاء

(2/300)

ثم جمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا في يوم شمطة، وكذلك على المجنبتين، فكان هذا اليوم أيضا لهوازن على كنانة، وفي ذلك يقول خداش بن زهير:
ألم يبلغك ما لقيت قريش ... وحي بني كنانة إذ أبيروا
دهمناهم بأرعن مكفهر ... فظل لنا بعقوتهم زئير
وفي هذا اليوم قتل العوام بن خويلد، والد الزبير بن العوام، قتله مرة ابن معتب الثقفي، فقال رجل من ثقيف:
منا الذي ترك العوام منجدلا ... تنتابه الطير لحما بين أحجار
يوم شرب
ثم جمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا على قرن الحول في الثالث من أيام عكاظ فالتقوا بشرب، ولم يكن بينهم يوم أعظم منه. والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا، وكذلك على المجنبتين. وحمل ابن جدعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير، ممن لم تكن له حمولة، فالتقوا. وقد كان لهوازن على كنانة يومان متواليان: يوم شمطة ويوم العبلاء. فحميت قريش وكنانة. وصابرت بنو مخزوم وبنو بكر، فانهزمت هوازن وقتلت قتلا ذريعا. وقال عبد الله بن الزبعرى يمدح بنى المغيرة.
ألا لله قوم و ... لدت أخت بني سهم
هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم
وذو الرمحين أشبال ... من القوة والحزم
فهذان يذودان ... وذا من كثب يرمي
وأبو عبد مناف: قصي؛ وهشام: ابن المغيرة؛ وذو الرمحين: أبو ربيعة بن المغيرة، قاتل يوم شرب برمحين؟ وأمهم ريطة بنت سعيد بن لسهم. فقال في ذلك جذل الطعان:
جاءت هوازن أرسالا وإخوتها ... بنو سليم فهابوا الموت وانصرفوا
فاستقبلوا بضراب فض جمعهم ... مثل الحريق فما عاجوا ولا عطفوا
يوم الحريرة
قال: ثم جمع هؤلاء وأولئك، ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة وهي حرة إلى جنب عكاظ. والرؤساء على هؤلاء وأولئك هم الذين كانوا في سائر الأيام، وكذلك على المجنبتين، إلا أن أبا مساحق بلعاء بن قيس اليعمري قد كان مات. فكان من بعده على بكر بن عبد مناة بن كنانة أخوه حثامة بن قيس. فكان يوم الحريرة لهوازن على كنانة، وكان آخر الأيام الخمسة التي تزاحفوا فيها. قال: فقتل يومئذ أبو سفيان بن أمية، أخو حرب بن أمية. وقتل من كنانة ثمانية نفر، قتلهم عثمان بن أسيد بن مالك، صت بني عامر ابن صعصعة. وقتل أبو كنف وابنا إياس وعمرو بن أيوب. فقال خداش بن زهير:
إني من النفر المحمر أعينهم ... أهل السوام وأهل الصخر واللوب
الطاعنين نحور الخيل مقبلة ... بكل سمراء لم تعلب ومعلوب
وقد بلوتم فأبلوكم بلاءهم ... يوم الحريرة ضربا غير مكذوب
لاقتهم منهم اساد ملحمة ... ليسوا بزارعة عوج العراقيب
فالآن إن تقبلوا نأخذ نحوركم ... كان تباهوا فإني غير مغلوب
وقال الحارث بن كلدة الثقفي:
تركت الفارس البذاخ منهم ... تمج عروقه علقا غبيطا
دعست لبانه بالرمح حتى ... سمعت لمتنه فيه أطيطا
لقد أرديت قومك يا بن صخر ... وقد جشمتهم أمرا سليطا
وكم أسلمت منكم من كمي ... جريحا قد سمعت له غطيطا
مضت أيام الفجار الأخر، وهي خمسة أيام في أربعة سنين، أولها يوم نخلة، ولم يكن لواحد منهما على صاحبه؛ ثم يوم شمطة، لهوازن على كنانة، وهو أعظم أيامهم؟ ثم يوم العبلاء؛ ثم يوم شرب، وكان لكنانة على هوازن؛ ثم يوم الحريرة، لهوازن على كنانة.
قال أبو عبيدة: ثم تداعى الناس إلى السلم على أن يذروا الفضل ويتعاهدوا ويتواثقوا.
يوم عين أباغ
وبعده يوم ذي قار
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:22 pm

قال أبو عبيدة: كان ملك العرب المنذر الأكبر بن ماء السماء، ثم مات. فملك ابنه عمرو بن المنذر، وأمه هند وإليه ينسب. ثم هلك فملك أخوه قابوس. وأمه هند أيضا، فكان ملكه أربع سنين. وذلك في مملكة كسرى ابن هرمز. ثم مات فملك بعده أخوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء، وذلك في مملكة كسرى بن هرمز. فغزاه الحارث الغساني، وكان بالشام من تحت يد قيصر، فالتقوا بعين أباغ، فقتل المنذر. فطلب كسرى رجلا يجعله مكانه. فأشار إليه عدي بن زيد - وكان من تراجمة كسرى - بالنعان بن المنذر، وكان صديقا له، فأحب أن ينفعه وهو أصغر بني المنذر بن ماء السماء، فولاه كسرى على ما كان عليه أبوه. وأتاه عدي بن زيد، فمكنه النعمان. ثم سعى بينهما فحبسه حتى أتى على نفسه، وهو القائل:
أبلغ النعمان عني مالكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
لو يغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
وعداتي شمت أعجبهم ... أنني غيبت عنهم في إساري
لامرئ لم يبل مني سقطة ... إن أصابته ملمات العثار
فلئن دهر تولى خيره ... وجرت بالنحس لي منه الجواري
لبما منه قضينا حاجة ... وحياة المرء كالشيء المعار
فلما قتل النعمان عدي بن زيد العبادي، وهو من بني امرئ القيس بن سعد بن زيد مناة بن تميم، سار ابنه زيد بن عدي إلى كسرى، فكان من تراجمته. فكاد النعمان عند كسرى حتى حمله عليه. فهرب النعمان حتى لحق ببني رواحة من عبس، واستعمل كسرى على العرب إياس بن قبيصة الطائي. ثم إن النعمان تجول حينا في أحياء العرب، ثم أشارت عليه امرأته المتجردة أن يأتي كسرى ويعتذر إليه، ففعل. فحبسه بساباط حتى هلك، ويقال: أوطأه الفيلة. وكان النعمان إذا شخص إلى كسرى أودع حلقته، وهي ثمانمائة درع وسلاحا كثيرا، هانئ بن مسعود الشيباني، وجعل عنده ابنته هند التي تسمى حرقة. فلما قتل النعمان قالت فيه الشعراء. فقال فيه زهير بن أبي سلمى المزني:
ألم تر للنعمان كان بنجوة ... من الشر لو أن امرأ كان باقيا
فلم أر مخذولا له مثل ملكه ... أقل صديقا أو خليلا موافيا
خلا أن حيا من رواحة حافظوا ... وكانوا أناسا يتقون المخازيا
فقال لهم خيرا وأثنى عليهم ... وودعهم توديع أن لا تلاقيا
يوم ذي قار
قال أبو عبيدة: يوم ذي قار هو يوم الحنو، ويوم قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذات العجرم، ويوم بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار وقد ذكرتهن الشعراء.

(2/302)

قال أبو عبيدة: لم يكن هانئ بن مسعود المستودع حلقة النعمان، وإنما هو ابن ابنه، واسمه هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، لأن وقعة ذي قار كانت وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وخبر أصحابه بها، فقال: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا. فكتب كسرى إلى إياس بن قبيصة بأمره أن يضم ما كان للنعمان. فأبى هانئ بن قبيصة أن يسلم ذلك إليه، فغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل. وقدم عليه النعمان بن زرعة التغلبي، وقد طمع في هلاك بكر بن وائل، فقال: يا خير الملوك، ألا أدلك على غرة بكر؟ قال: بلى. قال أقرها وأظهر الإضراب عنها حتى يجليها القيظ ويدنيها منك، فإنهم لو قاظوا تساقطوا بماء لهم، يقال له ذو قار، تساقط الفراش في النار، فأقرهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكر بن وائل حتى نزلوا الحنو حنو ذي قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيرهم بين ثلاث خصال: إما أن يسلموا الحلقة، وإما أن يعرو الديار. وإما أن يأذنوا بحرب. فتنازعت بكر بينها. فهم هانئ بن قبيصة بركوب الفلاة، وأشار به على بكر، وقال: لا طاقة لكم بجموع الملك. فلم تر من هانئ سقطة قبلها. وقال حنظلة ابن ثعلبة بن سيار العجلي: لا أرى غير القتال، فإنا إن ركبنا الفلاة متنا عطشا، وإن أعطينا بأيدينا تقتل مقاتلتنا وتسبى ذرارينا. فراسلت بكر بينها وتوافت بذي قار، ولم يشهدها أحد من بني حنيفة. ورؤساء بني بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانئ بن قبيصة، ويزيد بن مسهر الشيباني، وحنظلة بن ثعلبة العجتي - وقال مسمع بن عبد الملك العجلي بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل: لا والله ما كان لهم رئيس وإنما غزوا في ديارهم - فثار الناس إليهم من بيوتهم. وقال حنظلة بن ثعلبة في هانئ بن قبيصمة: يا أبا أمامة، إن ذمتنا عامة، وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرقها في قومك، فإن تظفر فسترد عليك، وإن تهلك فأهون مفقود. فأمر بها فأخرجت وفرفت بينهم، وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أبت إلى قومك سالما.

(2/303)

قال أبو المنذر: فعقد كسرى للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر، وعقد للهامرز التستري، وكان على مسلحة كسرى بالسواد، على ألف من الأساورة. وكتب إلى قيس بن مسعود ابن قيس بن خالد ذي الجدين، وكان عامله على الطف طف سفوان. وأمره أن يوافي إياس بن قبيصة، ففعل. وسار إياس بمن معه من جنده من طيىء، ومعه الهامرز والنعمان بن زرعة وخالد بن يزيد وقيس بن مسعود، كل واحد منهم على قومه. فلما دنا من بكر انسل قيس إلى قومه ليلا، فأتى هانئا فأشار عليهم كيف يصنعون، وأمرهم بالصبر ثم رجع. قلما التقى الزحفان وتقارب القوم قام حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، فقال: يا معشر بكر، إن النشاب التي مع هؤلاء الأعاجم تفرقكم، فعاجلوا اللقاء وابدءوا بالشدة. وقال هانئ بن مسعود: يا قوم، مهلك معذور، خير من منجى مغرور. إن الجزع لا يرد القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر. المنية خير من الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره. فالجد الجد فما من الموت بد. ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقطع وضن النساء فسقطن إلى الأرض، وقال: ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته، فسمي مقطع الوضن. قال: وقطع يومئذ سبعمائة رجل من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضرب السيوف. وعلى ميمنتهم بكر ابن يزيد بن مسهر الشيباني، وعلى ميسرتهم حنظلة بن ثعلبة العجلي وهانئ بن قبيصة. ويقال: ابن مسعود في القلب. فتجالد القوم، وقتل يزيد بن حارثة اليشكري الهامرز مبارزه، ثم قتل يزيد بعد ذلك. ويقال إن الحوفزان بن شريك شد على الهامرز فقتله. وقال بعضهم: لم يدرك الحوفزان يوم ذي قار وإنما قتله يزيد بن حارثة. وضرب الله وجوهي الفرس فانهزموا، فأتبعهم بكر حتى دخلوا السواد في طلبهم يقتلونهم. وأسر النعمان بن زرعة التغلبي، ونجا إياس بن قبيصة على فرسه الحمامة، فكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة، وكان كسرى لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفه. فلما أتاه ابن قبيصة سأله عن الجيش. فقال: هزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم. فأعجب بذلك كسرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس، وقال: إن أخي قيس بن قبيصة مريض بعين التمر، فأردت أن آتيه. فأذن له. ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق، فسأل: هل دخل على الملك أحد ؟ فقالوا: إياس، فظن أنه حدثه الخبر، فدخل عليه وأخبره بهزيمة القوم وقتلهم. فأمر به فنزعت كتفاه.
قال أبو عبيدة: لما كان يوم ذي قار كان في بكر أسرى من تميم قريبا من مائتي أسير، أكثرهم من بني رياح بن يربوع. فقالوا: خلوا عنا نقاتل معكم فإنما نذب عن أنفسنا. قالوا: فإنا نخاف ألا تناصحونا. قالوا: فدعونا نعلم حتى تروا مكاننا وغناءنا فذلك قول جرير:
منا فوارس ذي بهدي وذي نجب ... والمعلمون صباحا يوم ذي قار
قال أبو عبيدة: سئل عمرو بن العلاء، وتنافر إليه عجلي ويشكري، فزعم العجلي أنه لم يشهد يوم ذي قار غير شيباني وعجلي. وقال اليشكري: بل شهدتها قبائل بكر وحلفاؤهم. فقال عمرو: قد فصل بينكما التغلبي حيث يقول:
ولقد أمرت أخاك عمرا أمرة ... فعصى وضيعها بذات العجرم
في غمرة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم
وكأنما أقدامهم وأكفهم ... سرب تساقط في خليج مفعم
لما سمعت دعاء مرة قد علا ... وابني ربيعة في العجاج الأقتم
ومحلم يمشون تحت لوائهم ... والموت تحت لواء آل محلم
لا يصدفون عن الوغى بوجوههم ... في كل سابغة كلون العظلم
ودعت بنو أم الرقاع فأقبلوا ... عند اللقاء بحل شاك معلم
وسمعت يشكر تدعي بخبيب ... تحت العجاجة وهي تقطر بالدم

(2/304)

يمشون في حلق الحديد كما مشت ... أسد العرين بيوم نحس مظلم
والجمع من ذهل كأن زهاءهم ... جرد الجمال يقودها ابنا قشعم
والخيل من تحت العجاج عوابسا ... وعلى سنابكها مناسج من دم
وقال العديل بن الفرخ العجلي:
ما أوقد الناس من نار لمكرمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار
وما يعدون من يوم سمعت به ... للناس أفضل من يوم بذي قار
جئنا بأسلابهم والخيل عابسة ... لما استلبنا لكسرى كل إسوار
قال: وقالت عجل: لنا يوم ذي قار. فقبل لهم: فمن المستودع ومن المطلوب؟ ومن نائب الملك ومن الرئيس؟ فهو إذا كان لهم كانت الرياسة لهانئ، وكان حنظلة يشير بالرأي. وقال شاعرهم:
إن كنت ساقية يوما ذوي كرم ... فاسقي الفوارس من ذهل بن شيبانا
واسقي فوارس حاموا عن ذمارهم ... واعلي مفارقهم منسكا وريحانا
وقال أعشي بكر:
أما تميم فقد ذاقت عداوتنا ... وقيس عيلان مس الخزي والأسف
وجند كسرى غداة الحنو صبحهم ... منا غطاريف تزجي الموت فانصرفوا
لقوا ململمة شهباء يقدمها ... للموت لا عاجز فيها ولا خرف
فرع نمته فروع غير ناقصة ... موفق حازم في أمره أنف
فيها فوارس محمود لقاؤهم ... مثل الأسنة لا ميل ولا كشف
بيض الوجوه غداة الروع تحسبهم ... جنان عبس عليها البيض والزغف
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكر فينصرفوا
قالوا البقية والهندي يحصدهم ... ولا بقية إلا السيف فانكشفوا
لو أن كل معد كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف
لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ... ملنا ببيض فظل الهام يختطف
إذا عطفنا عليهم عطفة صبرت ... حتى تولت وكاد اليوم ينتصف
بطارق وبنو ملك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها النطف
من كل مرجانة في البحر أحرزها ... تيارها ووقاها طينها الصدف
كأنما الآل في حافات جمعهم ... والبيض برق بدا في عارض يكف
ما في الخدود صدود عن سيوفهم ... ولا عن الطعن في اللبات منحرف
وقال الأعشى يلوم قيس بن مسعود:
أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت أمرؤ ترجو شبابك وائل
أطورين في عام: غزاة ورحلة ... ألا ليت قيسا غرفته القوابل
لقد كان في شيبان لو كنت راضيا ... قباب وحي حلة وقنابل
ورجراجة تعشي النواظر فحمة ... وجرد على أكتافهن الرواحل
رحلت و تنظر وأنت عميدهم ... فلا يبلغني عنك ما أنت فاعل
وعريت من أهل ومال جمعته ... كما عريت مما تمر المغازل
شفى النفس قتلى لم توسد خدودها ... وسادا ولم تعضض عليها الأنامل
بعينيك يوم الحنو إذ صبحتهم ... كتائب موت لم تعقها العواذل
ولما بلغ كسرى خبر قيس بن مسعود إذ انسل إلى قومه، حبسه حتى مات في حبسه. وفيه يقول الأعشى:
وعريت من أهل ومال جمعته ... كما عريت مما تمر المغازل
وكتب لقيط الإيادي إلى بني شيبان في يوم ذي قار شعرا يقول في بعضه:
قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم أفزعوا قد ينال الأمن من فزعا

(2/305)

وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته ... لا مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا
وهذه الأبيات نظير قول عبد العزيز بن زرارة:
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق ... شتى فصادفت منه اللين والفظعا
كلا بلوت فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائه جزعا
لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا
كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر
قال الفتيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، رحمه الله: قد مضى قولنا في أيام العرب ووقائعها وأخبارها، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، إذ كان الشعر ديوان العرب خاصة والمنظوم من كلامها، والمقيد لأيامها، والشاهد على أحكامها. حتى لقد بلغ من كلف العرب به وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بين أستار الكعبة. فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير. والمذهبات سبع، وقد يقال لها المعلقات. قال بعض المحدثين يصف قصيدة له ويشبهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت:
برزة تذكر في الحس ... ن من الشعر المعلق
كل حرف نادر من ... ها له وجه معشق
المعلقات
لامرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
ولزهير:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
ولطرفة:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
ولعنترة:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
ولعمرو بن كلثوم
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
وللبيد:
عفت الديار محلها فمقامها
وللحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء
اختلاف الناس في أشعر الشعراء
قال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عنه امرؤ القيس بن حجر: هو قائد الشعراء وصاحب لوائهم. وقال عمر بن الخطاب للوفد الذين قدموا عليه من غطفان: من الذي يقول:
حلفت فلم اترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
قالوا: نابغة بني ذبيان. قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي ... على وجل تطن بي الظنون
فألفيت الأمانة لم نخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
قالوا: هو النابغة. قال: هو أشعر شعرائكم. وما أحسب عمر ذهب إلا إلى أنه أشعر شعراء غطفان: ويدل على ذلك قوله: هو أشعر شعرائكم.
وقد قال عمر لابن عباس: أنشدني لأشعر الناس، الذي لا يعاظل بين القوافي ولا يتتبع حوشي الكلام. قال: من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير بن أبي سلمى. فلم يزل ينشده من شعره حتى أصبح. وكان زهير لا يمدح إلا مستحقا، كمدحه لسنان بن أبي حارثة وهرم بن سنان، وهو القائل:
وان أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وكذلك أحسن القول ما صدقه الفعل قالت بنو تميم لسلامة بن جندل: مجدنا بشعرك قال: افعلوا حتى أقول. وقيل للبيد: من أشعر الشعراء؟ قال: صاحب القروح - يريد امرأ القيس - قيل له: فبعده من؟ قال: ابن العشرين - يعني طرفة - قيل له: فبعده من؟ قال: أنا.
وقيل للحطيئة: من أشعر الناس؟ قال: النابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، وجرير إذا غضب. وقال أبو عمرو بن العلاء: طرفة أشعرهم واحدة، يعني قصيدته:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
وفيها يقول: ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود وانشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيت، فقال: هذا من كلام النبوة. وسمع عبد الله بن عمر رجلا ينشد بيت الحطيئة:

(2/306)

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
فقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إعجابا بالبيت. يعني أن مثل هذا المدح لا يستحقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسئل الأصمعي عن شعر النابغة، فقال: إن قلت ألين من الحرير صدقت، وإن قلت أشد من الحديد صدقت. وسئل عن شعر الجعدي، فقال: مطرف بآلاف. وخمار بواف. وسئل حماد الراوية عن شعر ابن أبي ربيعة، فقال: ذلك الفستق المقشر الذي لا يشبع منه. وقالوا في عمرو بن الأهتم: كان شعره حللا منشرة. وسئل عمرو بن العلاء عن جرير والفرزدق، فقال: هما بازيان يصيدان ما بين الفيل والعندبيل. وقال جرير: أنا مدينة الشعر والفرزدق نبعته. وقال بلال بن جرير: قلت لأبي: يا أبت، إنك لم تهج قوما قط إلا وضعتهم إلا بني لجأ. قال: إني لم أجد شرفا فأضعه ولا بناء فأهدمه.
واختلف الناس في أشعر نصف بيت قالته العرب. فقال بعضهم: قول أبي ذؤيب الهذلي:
والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال بعضهم: قول حميد بن ثور الهلالي:
نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
وقال بعضهم قول زميل:
ومن يك رهنا للحوادث يغلق
وهذا ما لا تدرك غايته، ولا يوقف على حده. والشعر لا يفوت به أحد، ولا يأتي له بديع إلا أتى ما هو أبدع منه، ولله در القائل: أشعر الناس من أبدع في شعره. إلا ترى مروان بن أبي حفصة، على موضعه من الشعر وبعد صيته فيه، ومعرفته بغثه وسمينه، انشدوه لامرئ القيس فقال: هذا أشعر الناس.
وقد قالوا: إن لحسان بن ثابت أفخر بيت قالته العرب، وأحكم بيت قالته العرب. فأما أفخر بيت قالته العرب، فقوله:
وبيوم بدر إذ يرد وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد
وأما أحكم بيت قالته العرب، فقوله:
وإن امرأ أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد
وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول جرير:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك آسته وتمثل الأمثالا
ولما قال جرير هذا البيت قال: والله لقد هجوت بني تغلب ببيت لو طعنوا في أستاههم بالرماح ما حكوها.
ويقال: إن أبدع بيت قالته العرب قول أبي ذؤيب الهذلي:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
ويقال: إن أصدق بيت قالته العرب قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وذكر الشعر عند عبد الملك بن مروان فقال: إذا أردتم الشعر الجيد فعليكم بالزرق من بني قيس بن ثعلبة، وهم رهط أعشى بكر، وبأصحاب النخل من يثرب، يريد الأوس والخزرج، وأصحاب الشعف من هذيل، والشعف: رءوس الجبال.
فضائل الشعر
ومن الدليل على عظم الشعر عند العرب، وجليل خطبه في قلوبهم، أنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن المعجز نظمه، المحكم تأليفه، وأعجب قريشا ما سمعوا منه قالوا: ما هذا إلا سحر. وقالوا في النبي صلى الله عليه وسلم: " شاعر نتربص به ريب المنون " . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمرو بن الأهتم لما أعجبه كلامه: إن من البيان لسحرا.
لقد خشيت أن تكون ساحرا ... رواية مرا ومرا شاعرا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر لحكمة. وقال كعب الأحبار: إنا نجد قوما في التوراة أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة، وأظنهم الشعراء. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر، يقدمها في حاجاته، يستعطف بها قلب الكريم، ويستميل بها قلب اللئيم.

(2/307)

وقال الحجاج للمساور بن هند: ما لك تقول الشعر وقد بلغت من العمر ما بلغت؟ قال. أرعى به الكلأ، وأشرب به الماء، وتقضي لي به الحاجة، فإن كفيتني ذلك تركته. وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: روهم الشعر يمجدوا وينجدوا. وقالت عائشة: رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم. وبعث زياد بولده إلى معاوية، فكاشفه عن فنون من العلم، فوجده عالما بكل ما سأله عنه. ثم أستنشده الشعر، فقال: لم أرو منه شيئا. فكتب معاوية إلى زياد: ما منعك أن ترويه الشعر؟ فوالله إن كان العاق ليرويه فيبر، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل.
وكان علي رضي الله عنه إذا أراد المبارزة في الحرب أنشأ يقول:
أي يومي من الموت أفر ... يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجو الحذر
وقال المقداد بن الأسود: ما كنت أعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بشعر ولا فريضة من عائشة رضي الله عنها. وفي رواية الخشني عن أبي عاصم عن عبد الله بن لاحق عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة: رحم الله لبيدا كان يقول:
قض اللبانة لا أبالك وأذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيب
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فكيف لو أدرك زماننا هذا! ثم قالت: إني لأروي ألف بيت له، وإنه أقل ما أروي لغيره.
وقال الشعبي: ما أنا لشيء من العلم أقل مني رواية للشعر، ولو شئت أن أنشد شعرا شهرا لا أعيد بيتا لفعلت. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي تنشد شعر زهير بن جناب:
أرفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوما فتدركه عواقب ما جنى
يجزيك أو يثني عليك فإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق يا عائشة، لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
يزيد بن عمرو بن مسلم الخزاعي، عن أبيه عن جده قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ومنشد ينشده قول سويد بن عامر المصطلق:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... إن المنايا بجنبي كل إنسان
فاسلك طريقك تمشي غير مختشع ... حتى تلاقي الذي منى لك الماني
فكل ذي صاحب يوما مفارقه ... وكل زاد وإن أبقيته فاني
والخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أدرك هذا الإسلام لأسلم.
أبو حاتم، عن الأصمعي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك يا رسول الله؟ قال: نعم. فأنشده:
تركت القيان وعزف القيان ... وأدمنت تصلية وابتهالا
وكري المشقر في حومة ... وشني على المشركين القتالا
فيا رب لا أغبنن صفقتي ... فقد بعت مالي وأهلي بدالا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ربح البيع، ربح البيع. قدم أبو ليلى النابغة الجعدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانشده شعره الذي يقول فيه:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله بك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى الجنة إن شاء الله: فلما انتهى إلى قوله:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إن لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر اصدرا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يفضض الله فاك. فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنغض له ثنية.
سفيان الثوري عن ليث عن طاووس عن ابن عباس قال: إنها لكلمة نبي.
يعني قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأحبار من لم تزود
وسمع كعب قول الحطيئة:

(2/308)

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
قال: إنه في التوراة حرفا بحرف: يقول الله تعالى: " من يفعل الخير يجده عندي، لا يذهب الخير بيني وبين عبدي " .
وقال عبد الله بن عباس: أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم أبياتا لأمية بن أبي الصلت يذكر فيها حملة العرش، وهي:
رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... فجرا ويصبح لونها يتوقد
تبدو فما تبدو لهم في وقتها ... إلا معذبة وإلا تجلد
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم كالمصدق له.
ومن حديث ابن أبي شيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الشريد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تروي من شعر أمية بن أبي الصلت شيئا؟ قلت: نعم. قالت: فأنشدني. فأنشدته. فجعل يقول بين كل قافيتين: هيه، حتى أنشدته مائة قافية. فقال: هذا رجل آمن لسانه وكفر قلبه.
ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم جند يجنده رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين، يدل على ذلك قوله لحسان: شن الغطاريف على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام: وتحفظ ببيتي فيهم. قال: والذي بعثك بالحق نبيا لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين. ثم أخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه، وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيل لي أني لو وضعته على حجر لفلقه، أو على شعر لحلقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيد الله حسانا في هجوه بروح القدس. وقال ابن سيرين: بلغني أن دوسا إنما أسلمت فرقا من كعب بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول:
قضينا من تهامة كل نحب ... وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
نخبرها ولو نطقت لقالت ... قواضبهن دوسا أو ثقيفا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت لقد شكر الله لك قولك حيث تقول:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم الوسائل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك أنه قال لعبد الله بن رواحة: أخبرني ما الشعر يا عبد الله؟ قال: شيء يختلج في صدري فينطق به لساني. قال: فأنشدني فأنشده شعره الذي يقول فيه:
فثبت الله ما آتاك من حسن ... ففوت عيسى بإذن الله والقدر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وإياك ثبت الله، وإياك ثبت الله ومن ذلك ما رواه ابن إسحاق صاحب المغازي وابن هشام. قال ابن إسحاق: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء - قال ابن هشام: الاثيل - أمر عليا فضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف، صبرا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت أخته قتيلة بنت الحارث ترثيه:
يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني عليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضنء كريمة ... في قومنها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تمزق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا ... رسف المقيد وهو عان موثق
قال ابن هشام: قال النبي صلى الله عليه وسلم، لما بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبل قتله ما قتلته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:24 pm

من حديث زياد بن طارق الجشمي قال: حدثني أبو جرول الجشمي، وكان رئيس قومه، قال: أسرنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فبينما هو يميز الرجال من النساء إذ وثبت فوقفت بين يديه وأنشدته:
امنن علينا رسول الله في حرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على نشوة قد كنت ترضعها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر
إنا لنشكر للنعمى إذا كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فذكرته حين نشأ في هوازن وأرضعوه. فقال عليه الصلاة والسلام: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم. فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله. فردت الأنصار ما كان في أيهديها من الذراري والأموال.
فإذا كان هذا مقام الشعر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأي وسيلة تبلغه أو تعشره.
وكان الذي هاج فتح مكة أن عمرو بن مالك الخزاعي، أحد بني كعب، خرج من مكة حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكانت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهده وعقده، فلما انتقضت عليهم قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا، أقبل عمرو بن مالك الخزاعي بأبيات قالها. فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا ولدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك الموكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا ... فانصر هداك الله نصرا أيدا
وأدع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفا وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا
قال ابن هشام: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصرت يا عمرو بن مالك. ثم عرض عارض من السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة تستهل بنصر بني كعب. وقال عمر بن الخطاب: الشعر جزل من كلام العرب، يسكن به الغيظ، وتطفأ به الثائرة، ويتبلغ به القوم في ناديهم، ويعطى به السائل. وقال ابن عباس: الشعر علم العرب وديوانها فتعلموه، وعليكم بشعر الحجاز. فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز، وحض عليه، إذ لغتهم أوسط اللغات.
وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: يا بن أخي، إنك شهرت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء، فإنك تغر الشريفة في قومها، والعفيفة في نفسها؛ والهجاء، فإنك لا تعدو أن تعادي كريما أو تستثير به لئيما. ولكن افخر بمآثر قومك، وقل من الأمثال ما توقر به نفسك، وتؤدب به غيرك. وسئل مالك ابن أنس: من أين شاطر عمر بن الخطاب عماله؟ فقال أموال كثيرة ظهرت عليهم، وإن شاعرا كتب إليه يقول:
نحج إذا حجوا ونغزو إذا غزوا ... فأني لهم وفر ولسنا بذي وفر
إذا التاجر الهندي جاء بفارة ... من المسك راحت من مفارقهم تجري
فدونك مال الله حيث وجدته ... سيرضون إن شاطرتهم منك بالشطر
قال: فشاطرهم عمر أموالهم.
وأنشد عمر بن الخطاب قول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
فجعل يعجب بمعرفته بمقاطع الحقوق وتفصيلها وإنما أراد: مقطع الحقوق يمين أو حكومة أو بينة. وأنشد عمر قول عبدة بن الطبيب:
والعيش شح وإشفاق وتأميل
فقال: على هذا بنيت الدنيا.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهاجر أصحابه، مستهم وباء المدينة فمرض أبو بكر وبلال. قالت عائشة: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت، كيف تجدك؟ ويا بلال، كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله

(2/310)

وقالت: وكان بلال إذا أقلعت عنه يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة: وكان عامر بن فهيرة يقول:
وقد رأيت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كالثور يحمي جلده بروقه قالت عائشة: فجئت رسوله الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة وأشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وأنقل حماها فاجعلها بالجحفة.
ومن حديث البراء بن عازب، قال: لما كان يوم حنين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، والعباس وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهما آخذان بلجام بغلته، وهو يقول:
أنا النبي لا كذب، ... أنا ابن عبد المطلب
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لما دخل الغار نكب، فقال.
هل أنت إلا إصبع دميت، ... في سبيل الله ما لقيت
فهذا من المنثور الذي يوافق المنظوم، وإن لم يتعمد به قائله المنظوم. ومثل هذا من كلام الناس كثير يأخذه الوزن، مثل قول عبد مملوك لمواليه: اذهبوا بي إلى الطبيب، وقولوا قد اكتوى. ومثله كثير مما يأخذه الوزن ولا يراد به الشعر. ولا يسمى قول النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان موزونا، شعرا، لأنه لا يراد به الشعر. ومثله قي أي الكتاب: " ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم " ومنه: " وجفان كالجواب وقدور راسيات " ومثله " ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " ومنه: " فذلك الذي يدع اليتيم " . ولو تطلبت في رسائل الناس وكلامهم لوجدت فيه ما يحتمل الوزن كثيرا ولا يسمى شعرا. من ذلك قول القائل: من يشتري باذنجان. تقطيعه: مستفعلن مفعولات. وهذا كثير.
من قال الشعر من الصحابة والتابعين
والعلماء المشهورين
كان شعراء النبي صلى الله عليه وسلم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وقال سعيد بن المسيب: كان أبو بكر شاعرا، وعمر شاعرا، وعلي أشعر الثلاثة. ومن قول علي كرم الله وجهه بصفين:
لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما
يقدمها في الصف حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر السم والدما
جزى الله عني والجزاء بكفه ... ربيعة خيرا ما أعف وأكرما
وقال أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم: قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما في الأنصار بيت إلا وهو يقول الشعر. قيل له: وأنت أبا حمزة؟ قال: وأنا وقال عمرو بن العاص يوم صفين:
شبت الحرب فأعددت لها ... مفرع الحارك محبوك الثبج
يصل الشد بشد فإذا ... ونت الخيل عن الشد معج
جرشع أعظمه جفرته ... فإذا أبتل من الماء خرج
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص:
فلو شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفين يوما شاب منها الذوائب
عشية جا أهل العراق كأنهم ... سحاب ربيع زعزعتها الجنائب
وجئناهم نردي كأن صفوفنا ... من البحر مد موجه متراكب
إذا قلت قد ولوا سراعا بدت لنا ... كتائب منهم وأرجحنت كتائب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم ... سراة النهار ما توالى المناكب
وقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا ... عليا فقلنا بل نرى أن نضارب
من شعراء التابعين

(2/311)

عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد السبعة من فقهاء المدينة، وله يقول سعيد بن المسيب: أنت الفقيه الشاعر. فقال: لا بد للمصدور أن ينفث. يعني أنه من كان في صدره زكام فلا بد من أن ينفث زكمة صدره. يريد أن كل من أختلج في صدره شيء من شعر أو غيره، ظهر على لسانه.
وقال عمر بن عبد العزيز: وددت لو أن لي مجلسا من عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود بدينار. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: ما أحسن الحسنات في إثر السيآت، وأقبح السيآت في إثر الحسنات، وأحسن من هذا وأقبح من ذلك: الحسنات في إثر الحسنات، والسيآت في إثر السيآت.
ومن شعراء التابعين
عروة بن أذينة، وكان من ثقات أصحاب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يروي عنه مالك. وقال ابن شبرمة: أن عروة بن أذينة يخرج في الثلث الأخير من الليل إلى سكك البصرة فينادي: يأهل البصرة، " أفأمن أهل القرى أن لأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون " . الصلاة الصلاة.
من شعراء الفقهاء المبرزين
عبد الله بن المبارك صاحب الرقائق. وقال حبان: خرجنا مع ابن المبارك مرابطين إلى الشام، فلما نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا كل يوم التفت إلي وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وليال وأيام قطعناها في علم الخلية والبرية، وتركناها هنا أبواب الجنة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي وأنا معه في أزقة المصيصة إذ لقي سكران قد رفع عقيرته يتغنى ويقول:
أذلني الهوى فأنا الذليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
قال: فأخرج برنامجا من كمه، فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت. شعر سمعته من سكران؟ قال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة؟ قالوا: نعم. فهذه جوهرة في مزبلة. وبلغ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره فكتب إليه:
أتاني عنك هذا اليوم قول ... فضقت به وضاق به جوابي
أبا حفص فلا أدري أرغمي ... تريد بما تحاول أم عتابي
فإن تك عاتبا تعتب وإلا ... فما عودي إذا بيراع غاب
وقد فارقت أعظم منك رزءا ... وواريت الأحبة في التراب
وقد عزوا علي إذ اسلموني ... معا فلبست بعدهم ثيابي
وقد ذكرنا شعر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعروة بن أذينة في الباب الذي يتلو هذا الباب، وهو: قولهم في الغزل .
حدث فرج بن سلام قال: حدثنا عبد الله بن الحكم الواسطي عن بعض أشياخ أهل الشام قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب على نجران. فولاه الصلاة والحرب. ووجه راشد بن عبد ربه السلمي أميرا على القضاء والمظالم. فقال راشد بن عبد ربه:
صحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه ... وردت عليه ما بعته تماضر
وحكمه شيب القذال عن الصبا ... وللشيب عن بعض الغواية زاجر
فاقصر جهلي اليوم وأرتد باطلي ... عن اللهو لما ابيض مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعد صحوه ... بمعرض ذي الاجام عيس بواكر
ولما دنت من جانب الغوط أخصبت ... وحلت ولاقاها سليم وعامر
وخبرها الركبان أن ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر
فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
وكان عبد الله بن عمر يحب ولده سالما حبا مفرطا، فلامه الناس في ذلك فقال:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
وقال: إن ابني سالما ليحب الله حبا لو لم يخفه ما عصاه.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا برز إلى القتال أنشد:
أي يومي من الموت أفر ... يوم لا يقدر أم يوم قدر

(2/312)

يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجو الحذر
وكان إذا سار بأرض الكوفة يرتجز ويقول:
يا حبذا السير بأرض الكوفه ... أرض سواء سهلة معروفه
تعرفها جمالنا المعلوفه وكان عبد الله بن عباس في طريقه من البصرة إلى مكة يحدو الإبل ويقول:
أولى إلى أهلك يا رباب ... أولى فقد هان لك الإياب
وقال ابن عباس لما كف بصره
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
قولهم في الغزل
قال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغزل الرقيق ينشده الإنسان في المسجد، فسكت عنه حتى أقيمت الصلاة وتقدم إلى المحراب فالتفت إليه، فقال:
وتبرد برد رداء العرو ... س في الصيف رقرقت فيه العبيرا
وتسخن ليلة لا يستطيع ... نباحا بها الكلب إلا هريرا
ثم قال: الله أكبر.
وقال العجاج. دخلت المدينة فقصدت إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بأبي هريرة قد أكب الناس عليه يسألونه، فقلت: أفرجوا لي عن وجهه. فأفرج لي عنه. فقلت له: إني إنما أقول:
طاف الخيالان فهاجا سقما ... خيال أروى وخيال تكتما
تريك وجها ضاحكا ومعصما ... وساعدا عبلا وكعبا أدرما
فما تقوله فيه؟ قال: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشد مثل هذا في المسجد فلا ينكره.
ودخل كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الصبح فمثل بيت يديه، وأنشد:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول
ما إن تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول
ولا تمسك بالوعد الذي وعدت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
ولا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل
ثم خرج من هذا إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم. فكساه بردا، اشتراه منه معاوية بعشرين ألفا. ومن قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في الغزل:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم
ونم عليك الكاشحون وقبل ذا ... عليك الهوى قد تم لو نفع النم
فيامن لنفس لا تموت فينقضي ... عناها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثما ... ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
ومن شعر عروة بن أذينة، وهو من فقهاء المدينة وعبادها، وكان من أرق الناس تشبيبا:
قالت وأنبثتها وجدي وبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
ووقفت عليه امرأة، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت تقوله:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... غدوت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
والله ما قال هذا رجل صالح. وكذبت عدوة الله عليها لعنة الله، بل لم يكن مرائيا ولكنه كان مصدورا فنفث.
وقدم عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك في رجال من أهل المدينة، فلما دخلوا عليه ذكروا حوائجهم فقضاها، ثم التفت إلى عروة فقال له: ألست القائل:
لقد علمت وخير القول أصدقه ... بأن رزقي وإن لم آت يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني

(2/313)

قال: بلى. قال: فما أراك إلا قد سعيت له. قال: سأنظر في أمري يا أمير المؤمنين، وخرج عنه، فجعل وجهته إلى المدينة. وكشف عنه هشام بن عبد الملك، فقيل له: قد توجه إلى المدينة. فبعث إليه بألف دينار. فلما قدم عليه بها الرسول، قال له أبلغ أمير المؤمنين السلام، وقل له: أنا كما قلت، قد سعيت وعنيت في طلبه، وقعدت عنه فأتاني لا يعنيني.
ومن قول عبد الله بن المبارك، وكان فقيها ناسكا شاعرا رقيق النسيب، معجب التشبيب، حيث يقول:
زعموها سألت جارتها ... وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله لم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسدا حملنه من شأنها ... وقديما كان في الحب الحسد
وقال شريح القاضي، وكان من جملة التابعين، والعلماء المتقدمين، استقضاه علي رحمه الله ومعاوية، وكان تزوج امرأة من بني تميم تسمى زينب. فنقم عليها، فضربها ثم ندم، فقال:
رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلت يميني يوم أضرب زينبا
أأضربها في غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس أذنبا
فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا برزت تبد منهن كوكبا
قولهم في المدح
قال شراحيل بن معن بن زائدة: حج الرشيد وزميله أبو يوسف القاضي وكنت كثيرا ما أسايره: فبينما أنا أسايره إذ عرض له أعرابي من بني أسد فأنشده شعرا مدحه فيه وقرظه. فقال له الرشيد: ألم أنهك عن مثل هذا في شعرك يا أخا بني أسد؟ إذا أنت قلت فقل كما قال مروان بن أبي حفصة في أبي هذا، وأشار إلي، يقول:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابواو إن دعوا ... أجابواو إن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
وقال عتبة بن شماس يمدح عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
إن أولى بالحق في كل حق ... ثم أحرى بأن يكون حقيقا
من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جده الفاروقا
رد أموالنا علينا وكانت ... في ذرا شاهق تفوت الأنوقا
مدح عباس بن مرداس رسول الله صلى الله عليه وسلم فكساه حلة. ومدحه كعب بن زهير كساه بردا اشتراه منه معاوية بعشرين ألف درهم، وإن ذلك البرد لعند الخلفاء إلى اليوم.
وقال ابن عباس: قال لي عمر بن الخطاب: أنشدني قول زهير. فأنشدته قوله في هرم بن سنان بن حارثة حيث يقول:
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأفلاذ ما ولدوا
لو كان يعقد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
جن إذا فزعوا إنس إذا أمنوا ... مرزءون بهاليل إذا احتشدوا
محسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ماله حسدوا
فقال له عمر: ما كان أحب إلي لو كان هذا الشعر في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر إلى ضنانة عمر بالشعر، كيف ير أحدا يستحق مثل هذا المدح إلا أهل بيت محمد عليه الصلاة والسلام.
وأسمع رجل عبد الله بن عمر بيت الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد

(2/314)

فقال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم ير أحدا يستحق هذا المدح غير رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذن نصيب بن رباح على عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له، فقال: أعلموا أمير المؤمنين أني قلت شعرا، أوله الحمد لله. فأعلموه. فأذن له فأدخل عليه وهو يقول:
الحمد لله أما بعد يا عمر ... فقد أتتنا بك الحاجات والقدر
فأنت رأس قريش وابن سيدها ... والرأس فيه يكون السمع والبصر
فأمر له بحلية سيفه.
ومدحه جرير بشعره الذي يقول فيه:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
فأمر له بثلثمائة درهم. ومدحه دكين الراجز، فأمر له بخمس عشر ناقة. ومدح نصيب بن رباح عبد الله بن جعفر، فأمر له بمال كثير وكسوة ورواحل.
فقيل له: تفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود؟ فقال: أما والله لئن كان عبدا إن شعره لحر، وان كان أسود إن ثناءه لأبيض. وإنما أخذ مالا يفنى، وثيابا تبلى، ورواحل تنضى، فأعطى مديحا يروى، وثناءه يبقى.
ودخل ابن هرم بن سنان على عمر بن الخطاب، فقال له: من أنت؟ قال: أنا ابن هرم بن سنان. قال: صاحب زهير؟ قال: نعم. قال: أما إنه كان يقول فيكم فيحسن. قال: كذلك كنا نعطيه فنجزل. قال: ذهب ما أعطيتموه بقي ما أعطاكم.
وكان طريح الثقفي ناسكا شاعرا، فلما قال في أبي جعفر المنصور قوله:
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تعطف عليك الحني والولج
لو قلت للسيل دع طريقك والمو ... ج عليه كالليل يعتلج
لهم أو كاد أو لكان له ... في سائر الأرض عنك منعرج
طوبى لفرعيك من هنا وهنا ... طوبى لأعراقك التي تشج
قال أبو جعفر: بلغني عن هذا الرجل أنه يتأله، فكيف يقول للسيل: دع طريقك. فبلغ ذلك طريحا، فقال: الله يعلم أني إنما أردت: يا رب لو قلت للسيل دع طريقك.
وقال الحطيئة لما حبسه عمر بن الخطاب في هجائه للزبرقان بن بدر أبياتا يمدح فيها عمر ويستعطفه. فلما قرأها عمر عطف له، وأمر بإطلاقه وعفا عما سلف منه. والأبيات:
ماذا تقول لأفراح بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بها الإثر
ودخل ابن دارة على عدي بن حاتم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مدحتك. قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حسبه، فإني أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول، لي ألف شاة وألف درهم وثلاثة أعبد وثلاث إماء وفرسي هذا حبيس في سبيل الله، فامدحني على حسب ما أخبرتك. فقال:
تحن قلوصي في معد وإنما ... تلاقي الربيع في ديار بني ثعل
وأبقى الليالي من عدي بن حاتم ... حساما كنصل السيف سل من الخلل
أبوك جواد لا يشق غباره ... وأنت جواد ليس يعذر بالعلل
فإن تفعلوا شرا فمثلكم اتقى ... وإن تفعلوا خيرا فمثلكم فعل
قال عدي: أمسك لا يبلغ مالي إلى أكثر من هذا.
قولهم في الهجاء
قال الله تبارك وتعالى في هجو المشركين: " والشعراء يتبعهم الغاوون. آلم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " فأرخص الله للشعراء بهذه الآية في هجائهم لمن تعرض لهم

(2/315)

يزيد بن عمرو بن تميم الخزاعي عن أبيه عن جده: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال. يا رسول الله، إن أبا سفيان يهجوك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه هجاني وإني لا أقول الشعر، فاهجه عني. فقام إليه عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول الله، إيذن لي فيه. قال: أنت القائل:
قثبت الله ما آتاك من حسن.
قال: نعم. قال: وإياك فثبت الله. ثم قام إليه كعب بن مالك فقال: يا رسول الله، إيذن لي فيه. فقال: أنت القائل هممت ؟ قال: نعم. قال: لست له. ثم قام حسان بن ثابت فقال: يا رسول الله، إيذن لي فيه، وأخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه، وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيل لي أني لو وضعته على حجر لفلقه، أو على شعر لحلقه. فقال: أنت له، اذهب إلى أبي بكر يخبرك بمثالب القوم ثم اهجهم وجبريل معك. فقال يرد على أبي سفيان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء
هجوت محمدا وأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخير كما الفداء
أمن يهجو رسوله الله منكم ... ويطريه ويمدحه سواء
لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
فإن أبي ووالده وعرضى ... لعرض محمد منكم وقاء
وقال رجل من أهل اليمن: دخلت الكوفة فأتيت المسجد فإذا بعمار بن ياسر ورجل ينشده هجاء معاوية وعمرو بن العاص، وهو يقول: ألصق بالعجوزين. قلت له: سبحان الله!. أتقول هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إن شئت فاجلس وإن شئت فاذهب. فجلست، فقال. أتدري ما كان يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجانا أهل مكة؟ قلت: لا أدري. قال: كان يقول لنا: قولوا لهم مثل ما يقولون لكم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: لقد شكر الله لك بيتا قلته، وهو:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
وسألت هذيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل لها الزنا. فقال حسان في ذلك:
سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
وقال عبد الملك بن مروان: ما هجاني أحد بأوجع من بيت هجي به ابن الزبير وهو:
فإن تصبك من الأيام جائحة ... لم نبك منك على دنيا ولا دين
وقيل لعقيل بن علقة: ما لك لا تطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقال رجل من ثقيف لمحمد بن مناذر: ما بال هجائك أكثر من مدحك؟ قال: ذلك مما أغراني به قومك واضطرني إليه لؤمك. وقال أبو عمرو بن العلاء: قلت لجرير: إنك لعفيف الفرج كثير الصدقة فلم تسب الناس؟ قال: يبدءوني ثم لا أغفر لهم. وكان جرير يقول: لست بمبتدئ ولكنني معتد - يريد أنه يسرف في القصاص. ومثله قوله الشاعر:
بني عمنا لا تنطقوا الشعر بعدما ... دفنتم بأفناء العذيب القوافيا
فلسنا كمن قد كنتم تظلمونه ... فيقبل ضيما أو يحكم قاضيا
ولكن حكم الصيف فيكم مسلط ... فنرضى إذا ما اصبح السيف راضيا
فإن قلتم إنا ظلمنا فلم نكن ... ظلمنا ولكنا أسأنا التقاضيا
وكان عمر بن الخطاب يقول: واحدة بأخرى والبادي أظلم.
أبو الحسن المدائني قال: وفد جرير على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك للأخطل: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا جرير، قال الأخطل: والذي أعمى رأيك يا جرير ما عرفتك. قال له جرير: والذي أعمى بصيرتك وأدام خزيتك، لقد عرفتك، لسيماك سيما أهل النار.
ابن الأعرابي قال: دخل كثير عزة على عبد الملك فانشده، وعنده رجل لا يعرفه. فقال عبد الملك للرجل: كيف ترى هذا الشعر؟ قال. هذا شعر حجازي، دعني أضغمه لك ضغمه. قال كثير: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الأخطل. قال: فالتفت إليه فقال له: هل ضغمت الذي يقول:

(2/316)

والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك آسته وتمثل الأمثالا
تلقاهم حلماء عن أعدائهم ... وعلى الصديق تراهم جهالا
حدثنا يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن عبد الحكم بمصر، قال: كان رجل له صديق يقال له حصين، فولى موضعا يقال له السابين، فطلب إليه حاجة فاعتل عليه فيها، فكتب له:
لا أذهب إليك فإن ودك طالق ... مني وليس طلاق ذات البين
فإذا ارعويت فإنها تطليقة ... وتقيم ودك لي على ثنتين
وإذا أبيت شفعتها بمثالها ... فيكون تطليقان في حيضين
وإن الثلاث أتيك مني بتة ... لم تغن عنك ولاية السابين
لم أرض أن أهجو حصينا وحده ... حتى أسود وجه كل حصين
طلب دعبل بن علي حاجة إلى بعض الملوك فصرح بمنعه. فكتب إليه:
أحسبت أرض الله ضيقة ... عني فأرض الله لم تضق
وحسبتني فقعا بقرقرة ... فوطئتني وطئا على حنق
فإذا سألتك حاجة أبدا ... فاضرب بها قفلا على غلق
وأعد لي غلا وجامعة ... فاجمع يدي بها إلى عنقي
ثم ارم بي في قعر مظلمة ... إن عدت بعد اليوم في الحمق
ما أطول الدنيا وأوسعها ... وأدلني بمسالك الطرق
ومثل هذا قول أبي زبيدة:
ليتك أدبتني بواحدة ... تجعلها منك آخر الأبد
تحلف ألا تبرني أبدا ... فإن فيها بردا على كبدي
إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حية على رصد
وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشد علي من قول الشاعر:
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سمية ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش في الجماهير
سبحان من ملك عباد بقدرته ... لا يدفع الخلق محتوم المقادير
وقال بلال بن جرير: سألت أبي: أي شيء أشد عليك؟ قال: قول البعيث:
ألست كليبيا إذا سيم خطة ... أقر كإقرار الحليلة للبعل
وكل كليبي صحيفة وجهه ... أذل لأقدام الرجال من النعل
وكان بلال بن جرير شاعرا ابن شاعر ابن شاعر، لأن الخطفي جده كان شاعرا، وهو القائل:
ما زال عصياننا لله يسلمنا ... حتى دفعنا إلى يحيى ودينار
إلى عليجين لم تقطع ثمارهما قد طالما سجدا للشمس والنار ومن أخبث الهجاء قول جميل:
أبوك حباب شارق الضيف برده ... وجدي يا شماخ فارس شمرا
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء سوء يلقهم حيث سيرا
فإن تغضبوا من قسمة الله فيكم ... فلله إذ لم يرضكم كان أبصرا
وقال كثير في نصيب، وكان أسود ويكني أبا الحجناء:
رأيت أبا الحجناء في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم
يراه على ما لاحه من سواده ... وإن كان مظلوما له وجه ظالم
وكان يقال لسعد بن أبي وقاص: المستجاب؟ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة سعد. فقال رجل بالقادسية فيه:
ألم تر أن الله أنزل نصره ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فقال سعد: اللهم اكفني يده ولسانه. فخرس لسانه، وضربت يده فقطعت.
وذكر عند المبرد محمد بن يزيد النحوي رجل من الشعراء، فقال: لقد هجاني ببيتين أنضج بهما كبدي. فاستنشدوه. فأنشدهم هذين البيتين:
سألنا عن ثمالة كل حي ... فكل قد أجاب ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا الآن زدتهما جهاله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:25 pm

ولم يقل أحد في القبيح أحسن من قول أبي نواس:
وقائلة لها في وجه نصح ... علام قتلت هذا المستهاما
فكان جوابها في حسن ميس ... أأجمع وجه هذا والحراما
وكان جرير يقول: إذا هجوت فأضحك. وينشد له:
إذا سعلت فتاة بنى نمير ... تلقم باب عصرطها الترابا
ترى برصا بمجمع إسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا
وقوله أيضا:
وتقول إذ نزعوا الإزار عن استها ... هذي دواة معلم الكتاب
وقوله أيضا:
أحين صرت سماما يا بني لجأ ... وخاطرت بي عن أحسابها مضر
هيأتم عمرا يحمي دياركم ... كما يهيأ لاست الخارئ الحجر
وقال علي بن الجهم يهجو محمد بن عبد الملك الزيات وزير المتوكل:
أحسن من سبعين بيتا سدى ... جمعك إياهن في بيت
ما أحوج الملك إلى ديمة ... تغسل عنه وضر الزيت
وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول الطرماح بن حكيم:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت
ولو أن برغوثا على ظهر قملة ... رأته تميم يوم زحف لولت
ولو أن عصفورا يمد جناحه ... لقامت تميم تحته واستظلت
وقال بعضهم: قول جرير في بني تغلب:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك آسته وتمثل الأمثالا
ويقال: قوله:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
ومن أخبث الهجاء قول زياد الأعجم:
قالوا الأشاقر تهجوكم فقلت لهم ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا
وهم من الحسب الذاكي بمنزلة ... كطحلب الماء لا أصل ولا ورق
لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولو يبول عليهم ثعلب غرقوا
وقوله أيضا:
قضى الله خلق الناس ثم خلقتم ... بقية خلق الله آخر آخر
فلم تسمعوا إلا الذي كان قبلكم ... ولم تدركوا إلا مدق الحوافر
وقال فيهم:
قبيلة خيرها شرها ... وأصدقها الكاذب الآثم
وضيفهم وسط أبياتهم ... وان لم يكن صائما ضائم
ونظير هذا قول الطرماح:
وما خلقت تيم وزيد مناتها وضبة ... إلا بعد خلق القبائل
ومن أخبث الهجاء قول الطرماح في بني تميم:
لو حان ورد تميم ثم قيل لهم ... حوض الرسول عليه الأزد لم ترد
أو أنزل الله وحيا أن يعذبها ... إن لم تعد لقتال الأزد لم تعد
وكل لؤم أباد الله أثلته ... ولؤم ضبة لم ينقص ولم يزد
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد
قوم أقام بدار الذل أولهم ... كما أقامت عليه جذمة الوتد
ومثله قول المساور بن هند:
ما سرني أن قومي من بني أسد ... وأن ربي ينجيني من النار
وأنهم زوجوني من بناتهم ... وأن لي كل يوم ألف دينار
ومن أخبث الهجاء من غير إقذاع:
بلاد نأى عني الصديق وسبني ... بها عنزي ثم لم أتكلم
وقال عبيد:
يا أبا جعفر كتبتك سمحا ... فاستطال المداد فالميم لام
لا تلمني على الهجماء فلم يه ... جك إلا المداد والأقلام
وقال سليمان بن أبي شيخ: كان أبو سعيد الراني يماري أهل الكوفة ويفضل أهل المدينة، فهجاه رجل من أهل الكوفة وسماه شرشيرا. وقال: كلب في جهنم يسمى شرشيرا. فقال:
عندي مسائل لا شرشير يعرفها ... إن سيل عنها ولا أصحاب شرشير
وليس يعرف هذا الدين معرفة ... إلا حنيفية كوفية الدور

(2/318)

لا تسألن مدينيا فتكفره ... إلا عن البم والمثنى أو الزير
فكتب أبو سعيد إلى أهل المدينة: إنكم قد هجيتم فردوا. فرد عليه رجل من أهل المدينة يقول:
لقد عجبت لغاو ساقه قدر ... وكل أمر إذا ما حم مقدور
قالوا المدينة أرض لا يكون بها ... إلا الغناء وإلا البم والزير
لقد كذبت لعمر الله إن بها ... قبر النبي وخير الناس مقبور
قال: فما انتصر ولا انتصر به، فليته لم يقل شيئا.
وقال: فساور الوراق في أهل القياس:
كنا من الدين قبل اليوم في سعة ... حتى بلينا بأصحاب المقاييس
قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم ... فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبوس
أما العريب فأمسوا لا عطاء لهم ... وفي الموالي علامات المفاليس
قال: فلقيه أبو حنيفة، فقال له: هجوتنا، نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم، فكف عنه وقال:
إذا ما الناس يوما قايسونا ... بمسألة من الفتيا طريفه
أتيناهم بمقياس صحيح ... بديع من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه بها وعاها ... وأثبتها بحبر في صحيفه
ومن خبيث الهجاء قول الشاعر:
عجبت لعبدان هجوني سفاهة ... أن اصطبحوا من شائهم وتقيلوا
بجاد وريسان وفهر وغالب ... وعون وهدم وابن صفوة أخيل
فأما الذي يحصيهم فمكثر ... وأما الذي يطريهم فمقلل
وقال أبو العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
قال ابن معن وجلى نفسه ... على القرابات من الأهل
هل في جواري الحي من وائل ... جارية واحدة مثلي
أكنى أبا الفضل فيا من رأى ... جارية تكنى أبا الفضل
قد نقطت في خدها نقطة ... مخافة العين من الكحل
مداراة الشعراء وتقيتهم
أبو جعفر البغدادي قال: مدح قوم من الشعراء بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، فماطلهم بالجائزة، وكان الخليل بن أحمد صديقه، وكان وقت مدحهم إياه غائبا فلما قدم الخليل أتوه فأخبروه، واستعانوا به عليه، فكتب إليه:
لا تقبلن الشعر ثم تعقه ... وتنام والشعراء غير نيام
واعلم بأنهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكام
وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعقابهم باق على الأيام
فأجازهم وأحسن إليهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم، لما مدحه عباس بن مرداس: اقطعوا عني لسانه. قالوا: بماذا يا رسول الله؟ فأمر له بحلة قطع بها لسانه. ومدح ربيعة الرقي يزيد بن حاتم، وهو والي مصر فتشاغل عنه ببعض الأمور، واستبطأه ربيعة فشخص من مصر، وقال:
أراني ولا كفران لله راجعا ... بخفي حنين من نوال ابن حاتم
فبلغ قوله يزيد بن حاتم، فأرسل في طلبه ورده. فلما دخل عليه قال له: أنت القائل:
أراني ولا كفران لله راجعا ... بخفي حنين من نوال بن حاتم
قال: نعم. قال: هل قلت غير هذا؟ قال: لا. قال: والله لترجعن بخفي حنين مملوءتين مالا، فأمر بخلع خفيه، وأن تملا له مالا. ثم قال: أصلح ما أفسدت من قولك. فقال فيه، لما عزل من مصر وولي مكانه يزيد بن حاتم السلمي:
بكى أهل مصر بالدموع السواجم ... غداة غدا منها الأغر ابن حاتم
لشتان ما بيت اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
فهم الفتى القيسي إنفاق ماله ... وهم الفتى العبسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم

(2/319)

وأعلم أن تقية الشعراء من حفظ الأعراض التي أمر الله تعالى بحفظها. وقد وضعنا في هذا الكتاب بابا فيمن وضعه الهجاء، ومن رفعه المدح.
وكان لزياد عامل على الأهواز يقال له: تيم. فمدحه رجل من الشعراء فلم يعطه شيئا. فقال له الشاعر: أما إني لا أهجوك، ولكنني سأقول فيك ما هو شر عليك من الهجاء فدخل على زياد فأسمعه شعرا مدحه فيه، وقال في بعضه:
وكائن عند تيم من بدور ... إذا ما صفدت تدعو زيادا
دعته كي يجيب لها وشيكا ... وقد ملئت حناجرها صفادا
فقال زياد: لبيك يا بدور. ثم أرسل فيه، فأغرمه مائة ألف.
باب في رواة الشعر
قال الأصمعي: ما بلغت الحلم حتى رويت اثني عشر ألف أرجوزة للأعراب.
وكان خلف الأحمر أروى الناس للشعر وأعلمهم بجيده.
قال مروان بن أبي حفصة: لما مدحت المهدي بشعري الذي أوله:
طرقتك زائرة فحي خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها
أردت أن أعرضه على بصراء البصرة، فدخلت المسجد الجامع، فتصفحت الحلق، فلم أر حلقة أعظم من حلقة يونس النحوي، فجلست إليه، فقلت له: إني مدحت المهدي بشعر، وأردت ألا أرفعه حتى أعرضه على بصرائكم، وإني تصفحت الحلق فلم أر حلقة أحفل من حلقتك، فإن رأيت أن تسمعه مني فافعل. فقال: يا بن أخي، إن هاهنا خلفا ولا يمكن أحدنا أن يسمع شعرا حتى يحضر، فإذا حضر فأسمعه. فجلست حتى أقبل خلف الأحمر. فلما جلس جلست إليه، ثم قلت له ما قلت ليونس. فقال: أنشد يا بن أخي. فأنشدته حتى أتيت على آخره. فقال لي: أنت والله كأعشى بكر، بل أنت أشعر منه حيث يقول:
رحلت سمية غدوة أجمالها ... غضبى عليك فما تقول بدالها
وكان خلف مع روايته وحفظه يقول الشعر فيحسن، وينحله الشعراء. ويقال إن الشعر المنسوب إلى ابن أخت تأبط شرا، وهو:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطل
لخلف الأحمر، وإنه نحله إياه. وكذلك كان يفعل حماد الرواية، يخلط الشعر القديم بأبيات له. قال حماد: ما من شاعر إلا قد زدت في شعره أبياتا فجازت عليه إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت فأفسدت عليه الشعر. قيل له: وما البيت الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وقال حماد الراوية: أرسل إلي أبو مسلم ليلا فراعني ذلك، فلبست أكفاني ومضيت. فلما دخلت عليه تركني حتى سكن جأشي، ثم قال لي: ما شعر فيه أوتاد؟ قلت: من قائله أصلح الله الأمير؟ قال: لا أدري. قلت: فمن شعراء الجاهلية أم من شعراء الإسلام؟ قال: لا أدري. قال: فأطرقت حينا أفكر فيه، حتى بدر إلى وهمي شعر الأفوه الأودي حيث يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتني إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... يوما فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
فقلت: هو قول الأفوه الأودي أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات. فقال: صدقت، انصرف إذا شئت. فقمت، فلما خطوت الباب لحقني أعوان له معهم بدرة، فصحبوني إلى الباب. فلما أردت أن اقبضها منهم، قالوا: لا بد من إدخالها إلى موضع منامك. فدخلوا معي، فعرضت أن أعطيهم منها. فقالوا: لا نقدم على الأمير.
الأصمعي قال: أقبل فتيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا نتحدث إليك. قال: كذبتم يا خبثاء، ولكن قلتم: كبر الشيخ فهلم بنا عسى أن نأخذ عليه سقطة، قال: فأنشدهم لمائة شاعر كلهم اسمه عمرو.
وقال الأصمعي: فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نزد على أكثر من ثلاثين.
وقال الشعبي: لست لشيء من العلوم أقل رواية مني للشعر، ولو شئت لأنشدت شهرا ولا أعيد بيتا.
وكان الخليل بن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتا. وكذلك كان الأصمعي.

(2/320)

وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر؟ قال: نظري لجيده. وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا أجده؟ والذي أجده منه لا أريده.
وقيل لآخر: ما لك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: لأني كالمسن أشحذ ولا أقطع. وقال الحسن بن هانئ: رويت أربعة آلاف شعر، وقلت أربعة آلاف شعر، فما رزأت الشعراء شيئا.
القاسم بن محمد السلامي قال: حدثنا أحمد بن بشر الأطروش قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: أخبرني الأصمعي قال: تصرفت بي الأسباب إلى باب الرشيد مؤملا للظفر، بما كان في الهمة دفينا، أترقب به طالع سعد يكون على الدرك معينا. فاتصل بي ذلك إلى أن كنت للحرس مؤنسا بما استملت به مودتهم. فكنت كالضيف عند أهل المبرة. فطرقتهم متوجها بإتحافي. وطاولتني الغايات بما كدت أصير به إلى ملالة، غير أنني لم أزل محييا للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفترة، وقلت في ذلك:
وأي فتى أعير ثبات قلب ... وساع ما تضيق به المعاني
تجاذبه المواهب عن إباء ... ألا بل لا تواتيه الأماني
فرب معرس للناس أجلى ... عن الدرك الحميد لدى الرهان
وأي فتى أناف على سمو ... من الهمات ملتهب الجنان
بغير توسع في الصدرماض ... على العزمات كالعضب اليماني
فلم نبعد أن خرج علينا خادم في ليلة نثرت السعادة والتوفيق، وذلك أن الرشيد تربع الأرق بين عينيه، فقال: هل بالحضرة أحد يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، رب قيد مضيق قد فكه التيسير للإنعام. أنا صاحبك، إن كان صاحبك من طلب فأدمن، أو حفظ فأتقن. فأخذ بيدي، ثم قال: ادخل، إن يحتم الله لك بالإحسان لديه والتصويب، فلعلها تكون ليلة تعوض صاحبها الغنى. قلت: بشرك الله بالخير. قال: ودخلت فواجهت الرشيد في البهو جالسا كإنما ركبب البدر فوق أزراوه جمالا، والفضل بن يحيى إلى جانبه، والشمع يحدق به على قضب المنابر، والخدم فوق فرشه وقوف. فوقف بي الخادم حيث يسمع تسليمي، ثم قال: سلم. فسلمت. فرد، ثم قال: ينحى قليلا ليسكن روعه إن وجد للروعة حسا. فقعدت حتى سكن جأشي قليلا، ثم أقدمت، فقلت: يا أمير المؤمنين، إضاءة كرمك، وبهاء مجدك، مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذية له، أيسألني أمير المؤمنين فأجيب، أم أبتدئ فأصيب، بيمن أمير المؤمنين وفضله؟ قال: فتبسم إلي الفضل ثم قال: ما أحسن ما أستدعى الاختبار، وأسهل به المفاتحة، وأجدر به أن يكون محسنا. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدم مبرزا محسنا في استشهاده على براءته من الحيرة، وأرجو أن يكون ممتعا. قال: أرجو. ثم قال: ادن. فدنوت. فقال: أشاعر أم راوية؟ قلت: رواية يا أمير المؤمنين. قال: لمن؟ قلت: لذى جد وهزل، بعد أن يكون محسنا. قال: والله ما رأيت أوعى لعلم ولا أخير بمحاسن بيان قتقته الأذهان منك. ولئن صرت حامدا أثرك لتعرفن الإفضال متوجها إليك سريعا. قلت: أنا على الميدان يا أمير المؤمنين، فيطلق أمير المؤمنين من عقالي مجيبا فيما أحبه. قال: قد أنصف القارة من راماها. ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بديا؟ قلت: ذكرت العرب يا أمير المؤمنين أن التتابعة كانت لهم رماة لا تقع سهامهم في غير الحدق، وكانت تكون في الموكب الذي يكون فيه الملك على الجياد البلق، بأيديهم الأسورة، وفي أعناقهم الأطواق، تسميهم العرب القارة. فخرج من موكب الصغد فارس معلم بعذبات سود في قلنسوته، قد وضع نشابته في الوتر ثم صاح: أين رماة الحرب؟ قالوا: قد أنصف القارة من راماها. والملك أبو حسان إذ ذاك المضاف إليه. قال: أحسنت! أرويت للغجاج ورؤبة شيئا؟ قلت: هما يا أمير المؤمنين يتناشدان لك بالقوافي، وإن غابا عنك بالأشخاص. فمد يده فأخرج من تحت فراشه رقعة ينظر فيها، ثم قال: اسمعني:
ارقني طارق هم طرقا

(2/321)

فمضيت فيها مضي الجواد في سنن ميدانه، تهدر بها أشداقي، حتى إذا صرت إلى امتداح بني أمية ثنيت عنان اللسان إلى امتداحه المنصور في قوله.
قلت لزير لم تصله مريمه
قال: أعن حيرة أم عن عمد؟ قلت: بل عن عمد، تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنت بارك الله فيك، مثلك يؤمل لهذا الموقف. قال الرشيد: أرجع إلى أول هذا الشعر. فأخذت من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلت. فقال الفضل: ما لك تضيق علينا كل ما اتسع لنا من مساعدة السهر في ليلتنا هذه بذكر جمل أجرب؟ صر إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت، هي التي أخرجتك من دارك، وأزعجتك من قرارك، وسلبتك تاج ملكك ثم ماتت، فعملت جلودها سياطا يضرب بها قومك ضرب العبيد، ثم قهقه. ثم قال: لا تدع نفسك والتعرض لما تكره. فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب، والحمد لله. قال الرشيد: أخطأت في كلامك يرحمك الله، لو قلت: وأستغفر الله، قلت صوابا، وإنما يحمد الله على النعم. ثم صرف وجهه إلي، وقال: ما أحسن ما أديت في قدر ما سئلت؟ أسمعني كلمة عدي بن الرقاع في الوليد ابن يزيد بن عبد الملك:
عرف الديار توهما فاعتادها
فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، ألبستنا ثوب السهر ليلتنا هذه لاستماع الكذب، لم لا تأمره أن يسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك؟ قال: ويحك! إنه أدب ما يخطب أبكاره بالنسب، وقلما يعتاض عن مثله. ولأن أسمع الشعر ممن يخبره وشغلته العناية به عمره أحب إلي من أن تشافهني به الرسوم. وللممتدح بهذا الشعر حركات ترد عليها فلا تصدر من غير انتفاع بها. ولا أكون أول مستن طريقة ذكر لم تؤدها الرواية. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين شاركتك في الشوق، وأعنتك على التوق. ثم التفت إلي الفضل، فقال: أحد بنا ليلتك منشدا، هذا سيدي أمير المؤمنين قد أصغى إليك مستمعا، فمر ويحك في عنان الإنشاد، فهي ليلة دهرك لن تنصرف إلا غانما. قال الرشيد: أما إذا قطعت علي فأحلف لتشركني في الجزاء. فما كان لي في هذا شيء لم تقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت نفسي على ذلك متقدما فلا تجعلنه وعيدا. قال الرشيد: ولا أجعله وعيدا. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التيه على العرب كلها، إني أرى الخليفة والوزير وهما يتناظران في المواهب لي. فمررت في سنن الإنشاد، حتى إذا بلغت إلى قوله:
تزجي أغن كأن إبرة روقة ... قلم أصاب من الدواة مدادها
فاستوى جالسا، ثم قال: أتحفظ في هذا شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال الفرزدق: لما قال عدي:
تزجي أغن كأن إبرة روقة
قلت لجرير: أي شيء تراه يناسب هذا تشبيها؟ فقال جرير:
قلم أصاب من الدواة مدادها
فما رجع الجواب حتى قال عدي:
قلم أصاب من الدواة مدادها
فقلت لجرير: ويحك! لكأن سمعك مخبوء في فؤاده. فقال جرير: اسكت، شغلني سبك عن جيد الكلام. ثم قال الرشيد: مر في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أمة إصلاحها ورشادها
قال الفضل: كذب وما بر. قال الرشيد: ماذا صنع إذ سمع هذا البيت؟ قلت: ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: مر في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
تأتيه أسلاب الأعزة عنوة ... عصبا وتجمع للحروب عتادها
قال الرشيد: لقد وصفه بحزم وعزم، لا يعرض بينهما وكل ولا استذلال.
قال: فماذا صنع؟ قلت: يا أمير المؤمنين ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء الله. قال: أحسبك وهمت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أنت أولى بالهداية، فليردني أمير المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله:
ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أمة إصلاحها ورشادها
ثم قال: والله ما قلت هذا عن سمع، ولكنني أعلم أن الرجل لم يمكن يخطئ في مثل هذا. قال الأصمعي: وهو والله الصواب. ثم قال: مر في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:

(2/322)

وعلمت حتى لا أسائل واحدا ... عن حرف واحدة لكي أزدادها
وقال: وكان من خبرهم ماذا؟ قلت: ذكرت الرواة أن جريرا لما أنشد عدي هذا البيت، قال: بلى والله، وعشر مئين. قال عدي: وقر في سمعك أثفل من الرصاص. هذا والله يا أمير المؤمنين المديح المنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقي الكلام في مدحه وتشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين، لا يحسن عدي أن يقول:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
قال الرشيد: بلى. قد أحسن إذ يقول في الوليد:
للحمد فيه مذاهب ما تنتهي ... ومكارم يعلون كل مكارم
ثم التفت إلي فقال: ما حفظت له في هذا الشعر شيئا حين قال:
أطفأت نيران الحروب وأوقدت ... نار قدحت براحتيك زنادها
قلت: ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه حك يمينا بشمال مقتدحا بذلك، ثم قال: الحمد لله على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: أرويت لذي الرمة شيئا؟ قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله إني لا أسألك سؤال امتحان، وما كان هذا عليك، ولكنني أجعله سببا للمذاكرة، فإن وقع عن عرفانك شيء، فلا ضيق عليك بذلك عندي، فما ذا أراد بقوله:
ممر أمرت متنه أسدية ... يمانية حلالة بالمصانع
قلت: وصف يا أمير المؤمنين حمارا وحشيا أسمنه بقل روضة تشابكت فروعه، ثم تواشجت عروقه، من قطر سحابة كانت في نوء الأسد، ثم في الذراع منه. قال: أصبت. أفترى القوم علموا هذا من النجوم بنظرهم، إذ هو شيء قلما يستخرج بغير السبب الذي رويت لهم أصوله؟ أو أدتهم إليه الأوهام والظنون؟ فالله أعلم بذلك. قلت: يا أمير المؤمنين، هذا كثير في كلامهم، ولا أحسبه إلا عن أثر ألقي إليهم. قال: قلما أجد الأشياء لا تثيرها إلا الفكر في القلوب. فإن ذهبت إلى أنه هبة الله ذكرهم بها، ذهبت إلى ما أدتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويت للشماخ شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: يعجبني منه قوله:
إذا رد من ثني الزمام ثنت له ... جرانا كخوط الخيزران المموج
قلت: يا أمير المؤمنين، هي عروس كلامه. قال: فأيها الحسن ألان من كلامه؟ قلت: الرائية، وأنشدته أبياتا منها. قال: أمسك، ثم قال: أستغفر الله ثلاثا، أرح قليلا واجلس، فقد أمتعت منشدا، ووجدناك محسنا في أدبك، معبرا عن سرائر حفظك. ثم التفت إلى الفضل، فقال: لكلام هؤلاء، ومن تقدم من الشعراء، ديباج الكلام الخسرواني، يزيد على القدم جدة وحسنا. فإذا جاءك الكلام المزين بالبديع، جاءك الحرير الصيني المذهب، يبقى على المحادثة في أفواه الرواة. فإذا كان له رونق صواب، وعته الأسماع، ولذ في القلوب، ولكن في الأقل منه. ثم قال: يعجبني مثل قول مسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته، مفتخرا عليها بطول السرى في اكتساب المغانم، حيث قال:
أجدك هل تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر
صبرت لها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر

(2/323)

أفرأيت؟ ما ألطف ما جعلهما معدنا لكمال الصفات ومحاسنها؟ ثم التفت إلي، فقال: أجد ملالة، ولعل أبا العباس يكون لذلك أنشط، وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه، فأقم معه مسامرا له، ثم نهض. فتبادر الخدم، فأمسكوا بيده حتى نزل عن فرشه، ثم قدمت النعل، فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يسوي عقب النعل في رجله. فقال له: ارفق ويحك، حسبك قد عقرتني. قال الفضل: لله در العجم، ما أحكم صنعتهم، لو كانت سندية ما احتجت إلى هذه الكلفة. قال: هذه نعلي ونعل آبائي رحمة الله عليهم، وتلك نعلك ونعل آبائك. لا تزال تعارضني في الشيء، ولا أدعك بغير جواب يمضك، ثم قال: يا غلام، علي بصالح الخادم. فقالت: يؤمر بتعجيل ثلاثين ألف درهم في ليلته هذه. قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره لدعوت لك بمثل ما أمر به أمير المؤمنين. فدعا له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين إلا ألف درهم. وتصبح من غد فتلقى الخازن إن شاء الله. قال الأصمعي: فما صليت الظهر إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.
وقال دعبل بن علي الخزاعي:
يموت رديء الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله
وقال أيضا:
إني إذا قلت بيتا مات قائله ... ومن يقال له، والبيت لم يمت
باب من استعدى عليه من الشعراء
لما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر بالشعر الذي يقول فيه:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
إستعدى عليه عمر بن الخطاب، وأنشده البيت. فقال: ما أرى به بأسا. قال الزبرقان: والله يا أمير المؤمنين، ما هجيت ببيت قط أشد علي منه. فبعث إلى حسان بن ثابت وقال: انظر إن كان هجاه. فقال: ما هجاه، ولكن سلح عليه. ولم يكن عمر يجهل موضع الهجاء في هذا البيت، ولكنه كره أن يتعرض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله، وأمر بالحطيئة إلى الحبس، وقال: يا خبيث! لأشغلنك عن أعراض المسلمين. فكتب إليه من الحبس يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم قد كانت الإثر
فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألا يهجو رجلا مسلما.
ولما هجا النجاشي رهط تميم بن مقبل، استعدوا عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه هجانا. قال: وما قال فيكم؟ قالوا: قال:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني عجلان رهط ابن مقبل
قال عمر: هذا رجل دعا، فإن كان مظلوما استجيب له، وإن لم يكن مظلوما لم يستجب له. قالوا: فإنه قد قال بعد هذا:
قبيلته لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال عمر: ليت آل الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
قال: فإن ذلك أجم لهم وأمكن. قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
وما سمي العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
قال عمر: سيد القوم خادمهم، فما أرى بهذا بأسا.
ونظير هذا قول معاوية لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وكان دخل حماما فزحمه رجل، فرفع رجل يده فلطم بها أبا بردة فأثر في وجهه. فقال فيه عقيبة الأسدي:
لا يصرم الله اليمين التي لها ... بوجهك يابن الأشعري ندوب
قال: فاستعدى عليه معاوية وقال: إنه هجاني. قال: وما قال فيك؟ فأنشده البيت. قال معاوية: هذا رجل دعا ولم يقل إلا خيرا. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ فأنشده:
وأنت امرؤ في الأشعرين مقابل ... وفي البيت والبطحاء أنت غريب
قال معاوية: وإذا كنت مقابلا في قومك فما عليك ألا تكون مقابلا في غيرهم.
قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ قال قال:

(2/324)

وما أنا من حداث أمك بالضحى ... ولا من يزكيها بظهر مغيب
قال: إنما قال: ما أنا من حداث أمك، فلو قال: إنه من حداثها لكان ينبغي لك أن تغضب.
والذي قال لي أشد من هذا. قال: وما قال لك يا أمير المؤمنين؟ قال قال :
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد
أكلتم أرضنا وجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد
فهبنا أمة هلكت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد
أتطمع بالخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود
ذرواجور الخلافة واستقيموا ... وتأمير الأرازل والعبيد
قال: فما منعك يا أمير المؤمنين أن تبعث إليه من يضرب عنقه؟ قال: أو خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ نجتمع أنا وأنت فنرفع أيدينا إلى السماء وندعو عليه. فما زاد على أن أزرى به.
استعدى قوم زيادا على الفرزدق، وزعموا أنه هجاهم. فأرسل إليه وعرض له أن يعطيه. فهرب منه وأنشده:
دعاني زياد للعطاء ولم أكن ... لأقربه ما ساق ذو حسب وفرا
وعند زياد لو يريد عطاءهم ... رجال كثير قد يرى بهم فقرا
فلما خشيت أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا
نهضت إلى عنس تخون نيها ... سرى الليل واستعراضها البلد القفرا
يؤم بها الموماة من لا ترى له ... لدى ابن أبي سفيان جاها ولا عذرا
ثم لحق بسعيد بن العاص، وهو والي المدينة، فاستجار به وانشده شعره الذي يقول فيه:
إليك فررت منك ومن زياد ... ولم أحسب دمي لكما حلالا
فإن يكن الهجاء أحل قتلي ... فقد قلنا لشاعركم وقالا
ترى الغر السوابق من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا
قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلالا
ولما وقع التهاجي بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن أم الحكم أرسل يزيد بن معاوية إلى كعب بن جعيل، فقال له: إن عبد الرحمن بن حسان قد فضح عبد الرحمن بن أم الحكم، فاهج الأنصار. فقال: أرادي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان؟ لا أهجوا قوما نصروا رسول الله صلى الله عيه وسلم، ولكن أدلك على غلام منا نصراني. فدله على الأخطل. فأرسل إليه فهجا الأنصار، وقال فيهم:
ذهبت قريش بالمكارم كلها ... واللؤم تحت عمائم الأنصار
قوم إذا حضر العصير رأيتهم ... حمرا عيونهم من المسطار
وإذا نسبت ابن الفريعة خلته ... كالجحش بين حمارة وحمار
فدعوا المكارم لستم من أهلها ... وخذوا مساحيكم بني النجار
وكان مع معاوية النعمان بن بشير الأنصاري، فلما بلغه الشعر أقبل حتى دخل على معاوية، ثم حسر العمامة عن رأسه، وقال: يا معاوية، هل ترى من لؤم؟ قال: ما أرى إلا كرما. قال: فما الذي يقول فينا عبد الأراقم:
ذهبت قريش بالمكارم كلها ... واللؤم تحت عمائم الأنصار
قال: قد حكمتك فيه. قال: والله لا رضيت إلا بقطع لسانه. ثم قال:
معاوي إلا تعطنا الحق تعترف ... لحى الأزد مشدودا عليها العمائم
أيشتمنا عبد الأراقم ضلة ... وما ذا الذي تجدي عليك الأراقم
مالي ثأر دون قطع لسانه ... فدونك من ترضيه عنك الدراهم
قال معاوية: قد وهبتك لسانه. وبلغ الأخطل. فلجأ إلى يزيد بن معاوية. فركب يزيد إلى النعمان فاستوهبه إياه. فوهبه له.
ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أم الحكم:
وأما قولك الخلفاء منا ... فهم منعوا وريدك من وداجي
ولولاهم لطحت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داجي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:26 pm

وهم دعج وولد أبيك زرق ... كأن عيونهم قطع الزجاج
وقال يزيد لأبيه: إن عبد الرحمن بن حسان يشبب بابنتك رملة قال: وما يقول فيها؟ قال: يقول:
هي بيضاء مثل لؤلؤة الغو ... اص صيغت من لؤلؤ مكنون
قال: صدق. قال: ويقول:
إذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون
قال: صدق أيضا. قال: ويقول:
تجعل المسك واليلنجو ... ج صلاء لها على الكانون
قال: وصدق. قال: فإنه يقول:
ثم خاصرتها إلى القبة الخض ... راء تمشي في مرمر مسنون
قال: كذب. قال: ويقول:
قبة من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون
قال: ما في هذا شيء. قال: تبعث إليه من يأتيك برأسه. قال: يا بني، لو فعلت ذلك لكان أشد عليك؟ لأنه يكون سببا للخوض في ذكره، فيكثر مكثر ويزيد زائد، اضرب عن هذا صفحا، واطودونه كشحا.
ومن قول عبد الله بن قيس، المعروف بالرقيات. يشبب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية:
أعاتك يا بنت الخلائف عاتكا ... أنيلي فتى أمسى بحبك هالكا
تبدت وأتراب لها فقتلنني ... كذلك يقتلن الرجال كذلكا
يقلبن ألحاظا لهن فواترا ... ويحملن من فوق النعال السبائكا
إذا غفلت عنا العيون التي نرى ... سلكن بنا حيث اشتهين المسالكا
وقلن لنا لو نستطيع لزاركم ... طبيبان منا عالمان بدائكا
فهل من طبيب بالعراف لعله ... يداوي سقيما هالكا متهالكا
فلم يعرض له يزيد للذي تقدم من وصاية أبيه معاوية في رملة.
تحدثت الرواة أن الحجاج، رأى محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، وكان يشبب بزينب بنت يوسف أخت الحجاج، فارتاع من نظر الحجاج إليه. فدعا به. فلما وقف بين يديه قال:
فداك أبي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوفت كل مكان
وإن كنت بالعنقاء أو بتخومها ... ظننتك إلا أن تصد تراني
فقال له: لا عليك، فوالله إن قلت إلا خيرا، إنما قلت هذا الشعر:
يخبئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن وسط الليل معتجرات
ولكن اخبرني عن قولك:
ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات
في كم كنت؟ قال: والله إن كنت إلا على حمار هزيل، معي رفيق على اتان مثله. قال: فتبسم الحجاج ولم يعرض له. والأبيات التي قالها ابن نمير في زينب بنت يوسف:
ولم تر عيني مثل سرب رأيته ... خرجن من التنعيم معتمرات
مررن بفخ ثم رحن عشية ... يلبين لرحمن مؤتجرات
تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة خفرات
ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات
دعت نسوة شم بدنا ... نواضر لا شعثا ولا غبرات
فأدنين لما قمن يحجبن دونها ... حجابا من القسي والحبرات
أجل الذي فوق السموات عرشه ... أوانس بالبطحاء معتجرات
يخبئن أطراف البنان من التقي ... ويخرجن وسط الليل مختمرات
وكان الفرزدق قد عرض بهشام بن عبد الملك في شعره. والبيت الذي عرض به فيه قوله:
يقلب عينا لم تكن لخليفة ... مشوهة حولاء جما عيوبها
فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القسري عامله على العراق يأمره بحبسه، فحبسه حتى دخل جرير على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد أن تبسط يدك على بادي مضر وحاضرها فأطلق لها شاعرها وسيدها الفرزدق. فقال له هشام: أو ما يسرك ما أخزاه الله؟ قال: ما أريد أن يخزيه الله إلا على يدي. فأمر بإطلاقه.
أي بيت تقوله العرب أشعر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:37 pm

قيل لأبي عمرو بن العلاء: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي إذا سمعه سامعه سولت له نفسه أن يقول مثله، ولأن يخدش أنفه بظفر كلب أهون عليه من أن يقول مثله.
وقيل للأصمعي: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: الذي يسابق لفظه معناه.
وقيل لخليل: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته. وقيل لغيره: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي لا يحجبه عن القلب شيء.
وأحسن من هذا كله قول زهير:
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
أحسن ما يجتلب به الشعر
قالت الحكماء: لم يستدع شارد الشعر بأحسن من الماء الجاري، والمكان الخالي، والشرف العالي. وتأول بعضهم الحالي بالحاء. يريد الحالي بالنوار، يعني الرياض، وهو توجيه حسن ولقي أبو العتاهية الحسن بن هانئ، فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تؤتى بالرياحين والزهور فتوضع بين يديك؟ قال: وكيف ينبغي للشعر أن يقال إلا على هكذا؟ قال: أما إني أقوله على الكنيف. قال: ولذلك توجد فيه الرائحة.
وقال عبد الملك بن مروان لأرطاة بن سهية: هل تقول الآن شعرا؟ قال: ما أشرب ولا أطرب ولا أضرب، فلا يقال الشعر إلا بواحدة من هذه.
وقيل للحطيئة: من أشعر الناس؟ فأخرج لسانا رقيقا، كأنه لسان حية وقال: هذا إذا طمع.
وقيل لكثير عزة: لم تركت الشعر؟ قال: ذهب الشباب فما أعجب، وماتت عزة فما أطرب، ومات ابن أبي ليلى فما أرغب. يريد عبد العزيز بن مروان وقالوا: أشعر الناس النابغة إذا هب، وزهير إذا غضب، وجرير إذا رغب.
وقال عمرو بن هند لعبيد بن الأبرص، ولقيه في يوم بؤسه: أنشدني من شعرك. قال: حال الجريض دون القريض.
وقد يمتنع الشعر على قائله ولا يسلس حتى يبعثه خاطر يطربه، أو صوت حمامة.
وقال الفرزدق: أنا أشعر الناس عند اليأس، وقد يأتي علي الحين وقلع ضرس عندي أهون من قول بيت شعر. وقال الراجز:
إنما الشعر بناء ... يبتنيه المتنونا
فإذا ما نسقوه ... كان غثا أو سمينا
ربما وأتاك حينا ... ثم يستصعب حينا
واسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكرى، وأول النهار قبل الغداء، وعند مفاجأة النفس واجتماع الفكر. وأقوى ما يكون الشعر عندي على قدر قوة أسباب الرغبة أو الرهبة.
قيل للخريمي: ما بال مدائحك لمحمد من منصور بن زياد أحسن من مراثيك؟ قال: كنا حينئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون بعيد.
والدليل على صحة هذا المعنى وصدق هذا القياس، أن كثير عزة والكميت ابن زيد كانا شيعيين غاليين في التشيع، وكانت مدائحهما في بني أمية أشرف وأجود منها في بني هاشم، وما لذلك علة إلا قوة أسباب الطمع.
وقيل لكثير عزة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة، والرياض المعشبة، فإن نفرت عنك القوافي، وأعيت عليك المعاني، فروح قلبك، وأجم ذهنك، وارتصد لقولك فراغ بالك وسعة ذهنك فإنك تجد في تلك الساعة ما يمتنع عليك يومك الأطول، وليلك الأجمع.
من رفعه المدح ووضعه الهجاء
قال بلال بن جرير: سألت أبي جريرا فقلت له: إنك لم تهج قوما قط إلا وضعتهم، غير بني لجأ؟ قال: يا بني، إني لم أجد شرفا فأضعه، ولا بناء فأهدمه.
وقد يكون الشيء مدحا فيجعله الشعر ذما، ويكون ذما فيجعله الشعر مدحا. قال حبيب الطائي في هذا المعنى:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
ترى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضي بما يقضي به وهو ظالم
ألا ترى إلى بني عبد المدان الحارثيين كانوا يفخرون بطول أجسامهم وقديم شرفهم، حتى قال فيهم حسان بن ثابت:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام الصافير
فقالوا له: والله يا أبا الوليد لقد تركتنا ونحن نستحي من ذكر أجسامنا بعد أن كنا نفخر بها. فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت، فقال فيهم:

(2/327)

وقد كنا نقول إذا رأينا ... لذي جسم يعد وذي بيان
كأنك أيها المعطى لسانا ... وجسما من بني عبد المدان
وكان بنو حنظلة بن قريع بن عوف بن كعب يقال لهم: بنو أنف الناقة، يسبون بهذا الاسم في الجاهلية. وسبب ذلك أن أباهم نحر جزورا وقسم اللحم فجاء حنظلة، وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبيا، فجعل يجره. فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلقب به، وكانوا يغضبون منه حتى قال فيهم الحطيئة:
سيري أمام فإن الأكثرين حصى ... والأكرمين إذا ما ينسبون أبا
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فعاد هذا الاسم فخرا لهم وشرفا فيهم.
وكان بنو نمير أشراف قيس وذوائبها حتى قال جرير فيهم:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فما بقي نميري إلا طأطأ رأسه. وقال حبيب الطائي: وقد كان المحلق بن حنتم بن شداد خاملا لا يذكر، حتى طرقه الأعشى في فتية وليس عنده إلا ناقة. فأتى أمه، فقال: إن فتية طرقونا الليلة، فإن رأيت أن تأذني في نحر الناقة؟ قالت: نعم يا بني. فنحرها واشترى لهم ببعض لحمها شرابا وشوى لهم بعض لحمها. فأصبح الأعشى ومن معه غادين. فلم يشعر المحلق حتى أتته القصيدة التي أولها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
وفيها يقول:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدى أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرق
ترى الجود يسري سائلا فوق وجهه ... كما زان متن الهندواني رونق
فلما أتته القصيدة جعلت الأشراف تخطب إليه، ويقول القاتل:
وبات على النار الندى والمحلق
وقوله تقاسما بأسحم داج . يقول: تحالقا على الرماد، وهذا شيء تفعله الفرس لئلا يفترقوا أبدا. والعرض: الدهر.
ما يعاب من الشعر وليس بعيب
قال الأصمعي: سمعت حمادا الراوية، وأنشده رجل بيت حسان:
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
فقال: ما يعرف هذا إلا في كلاب الحانات. وأنشده آخر قول الشاعر:
لمن منزل بين المذانب والجسر
فقال: ما يعرف هذا إلا دار الماسيديين.
ومما يعاب من الشعر وليس بعيب قول الفرزدق:
أيابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا بنت ذي البردين والفرس الورد
فقال من جهل المعنى ولم يعرف الخبر: ما في هذا من المدح أن يمدح رجل بلباس بردين، وركوب فرس ورد. وإنما معناه: ما قال أبو عبيدة: إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان، فأخرج إليهم بردي محرق. وقاد لهم: ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما. فقال عامر بن أحيمر بن بهدلة، فائترز بأحدهما وتردى بالآخر. فقال له النعمان: بم أنت أعز العرب قبيلة؟ قال: العز والعدد من العرب في معد، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني، فسكت الناس. فقال النعمان: هذه عشيرتك فكيف أنت كما تزعم، في نفسك وأهل بيتك؟ فقال: أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة، وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وضع قدمه في الأرض، وقال: من أزالها فله مائة من الإبل. فلم يتعاط ذلك أحد. فذهب بالبردين. فسمي: ذا البردين، وفيه يقول الفرزدق:
فما تم في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما سيل لم يتبهدل
لهم وهب النعمان بردي محرق ... بمجد معد والعديد المحصل
ومما يعاب من الشعر وليس بعيب قول الأعشى في فرس النعمان، وكان يسمى اليحموم:
ويأمر لليحموم كل عشية ... بقت وتعليق فقد كاد يسنق

(2/328)

فقالوا ما هذا مما يمدح به أحد من السوقة فضلا عن الملوك. إنه يقوم بفوس ويأمر له بالعلف حتى كاد يسنق. وليس هذا معناه، وإنما المعنى فيه ما قال أبو عبيدة: إن ملوك العرب بلغ من حزمها ونظرها في العواقب أن أحدهم لا يبيت إلا وفرسه موقوف بسرجه، ولجامه بين يديه، قريبا منه، مخافة عدو يفجؤه، أو حال تنقلب عليه: فكان للنعمان فرس يقال له اليحموم، يتعاهده كل عشية. وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأفنية البيوت.
ومما عابوه، وليس بعيب، قول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرياح والديم
فنفى ثم حقق في معنى واحد. فنقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره، لأنه زعم أن الديار لم يعفها القدم. ثم إن انتبه من مرقده، فقال: بلى عفاها وغيرها أيضا الأرياح والديم. وليس هذا معناه الذي ذهب إليه، وإنما معناه: أن الديار لم تعف في عينه، من طريق محبته لها وشغفه بمن كان فيها.
وقال غيره في هذا المعنى ما هو أبين من هذا، وهو قوله:
ألا ليت المنازل قد بلينا ... فلا يرمين عن شزر حزينا
فقوله ألا ليت المنازل قد بلينا أي بلي ذكرها، ولكنها تتجدد على طول البلى بتجدد ذكرها. وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى، فلخصه وأوضحه، وشنفه وقرطه، حيث يقول:
لمن دمن تزداد طيب نسيم ... على طول ما أقوت وحسن رسوم
تجافى البلى عنهن حتى كأنما ... لبسن على الإقواء ثوب نعيم
ومما عيب من الشعر وليس بعيب، ما يروى عن مروان بن الحكم أنه قال لخالد بن يزيد بن معاوية، وقد أستنشده من شعره، فأنشده:
فلو بقيت خلائف آل حرب ... ولم يلبسهم الدهر المنونا
لأصبح ماء أهل الأرض عذبا ... وأصبح لحم دنياهم سمينا
فقال له مروان: منونا وسمينا، والله إنها لقافية ما اضطرك إليها إلا العجز. وهذا مما لا عجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر، وما أرى العيب فيه إلا على من رآه عيبا؟ لأن الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كلها، قديمها وحديثها. وقال عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
ومثله من المحدثين:
أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير
ومما عيب من الشعر وليس بعيب، قول ذي الأمة:
رأيت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا
ولما أنشدوا هذا الشعر بلال بن أبي بردة، قال: يا غلام مر لصيدح بقت من علف، فإنها هي انتجعتنا. وهذا من التعنت الذي لا إنصاف معه، لأن قوله انتجعي بلالا إنما أراد نفسه. ومثله في كتاب الله تعالى: " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " . وإنما أراد أهل القرية وأهل العير.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في بعض ما يرتجز به من شعر:
إليك تعدو قلقا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها
فجعل الدين للناقة، وإنما أراد صاحب الناقة. ولم تزل الشعراء في مدائحها تصف النوق وزيارتها لمن تمدحه، ولكن من طلب تعنتا وجده، أو تجنيا على الشاعر أدركه عليه، كما فعل صريع الغواني بالحسن بن هانئ حين لقيه، فقال له: ما يسلم لك بيت عندي من سقط. قال: فأي بيت أسقطت فيه؟ قال: أنشدني أي بيت شئت. فأنشده:
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا ... وأمله ديك الصباح صياحا
فقال له: قد ناقضت في قولك، كيف يمله ديك الصباح صياحا، وإنما يبشره بالصبوح الذي ارتاح له. فقال له الحسن: فأنشدني أنت من قولك. فأنشده:
عاصى العزاء فراح غير مفند ... وأقام بين عزيمة وتجلد
قال له: قد ناقضت في قولك، إنك قلت:
عاصى العزاء فراح غير مفند
ثم قلت:
وأقام بين عزيمة وتجلد

(2/329)

فجعلته رائحا مقيما في مقام واحد، والرائح غير المقيم. والبيتان جميعا مؤتلفان. ولكن من طلب عيبا وجده. ومما عابه ابن قتيبة وليس بعيب، قول المرقش الأصغر:
صحا قلبه عنها على أن ذكرها ... إذا ذكرت دارت به الأرض قائما
فقال له: كيف يصحو من كانت هذه صفته؟ والمعنى صحيح، وإنما ذهب إلى أن حاله هذه، على ما تقدم من سوء حاله، حال صحو عنده. ومثل هذا في الشعر كثير، لأن بعض الشر أهون من بعض.
وقال النبي صلى الله عيه وسلم في عمه أبي طالب: إنه أخف الناس عذابا يوم القيامة، يحذى نعلين من نار يغلي منها دماغه. وهذا من العذاب الشديد، وإنما صار خفيفا عندما هو أشد منه، فزعم المرقش أنه عند نفسه صاح، إذ تبدل حاله أسهل مما كان فيه. وقد عاب الناس على الحسن بن هانئ قوله:
واخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق
فقالوا: كيف تخافه النطف التي لم تخلق؟ ومجاز هذا قريب، إذا لحظ أن كل من خاف شيئا خافه بجوارحه وسمعه وبصره ولحمه ودمه، والنطف داخلة في هذه الجملة، فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النطف التي في أصلابها.
وقال الشاعر:
ألا ترثي لمكتئب ... يحبك لحمه ودمه
وقال المكفوف:
أحبكم حبا على الله أجره ... تضمنه الأحشاء واللحم والدم
ولقى العتابي منصورا النمري فسأله عن حاله. فقال: إني لمدهوش، وذلك أني تركت امرأتي وقد عسر عليها ولادها. فقال له العتابي: ألا أدلك على ما يسهل عليها. قال: وما هو؟ قال: اكتب على رحمها هارون. قال: وما معناك في هذا؟ قال: ألست القائل فيه:
إن أخلف القطر لم تخلف مواهبه ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
فقال: أبا لخلفاء تعرض، وفيهم تقع، وإياهم تعيب. فيقال: إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العتابي. فكتب إلى عبد الصمد عمه يأمره بقتله. فكتب إليه عبد الصمد يشفع له. فوهبه إياه.
تقبيح الحسن وتحسين القبيح
سئل بعض علماء الشعر: من أشعر الناس؟ قال الذي يصور الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، بلطف معناه، ورقة فطنته، فيقبح الحسن الذي لا أحسن منه، ويحسن القبيح الذي لا أقبح منه.
فمن تحسين القبيح قول الحارث بن هشام يعتذر من فراره يوم بدر:
الله أعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصرفت عنهم والأحبة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
وهذا الذي سمعه صاحب الهند رتبيل، فقال: يا معشر العرب، حسنتم كل شيء فحسن حتى حسنتم الفرار. ومن تقبيح الحسن: قول بشار العقيلي في سليمان بن علي، وكان وصل رجلا وأحسن إليه:
يا سوأة يكثر الشيطان ما ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا
لا تعجبن لخير زل عن يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا
وقال غيره في تحسين القبيح:
يقولون لي إني بخيل بنائلي ... وللبخل خير من سؤال بخيل
وقال المتلمس في تقبيح الحسن:
وحبس المال خير من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقال محمود الوراق في تحسين القبيح:
يا عائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكبر لو تعتبر
من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى إن صح منك النظر
أنك تعصي كي تنال الغنى ... وليس تعصي الله كي تفتقر
ومن تحسين القبيح، أنه قيل لجذيمة الأبرش: ما هذا الوضح الذي بك؟ قال: سيف الله جلاه. وقال ابن حبناء، وكان به برص:
لا تحسبن بياضا في منقصة ... إن اللهاميم في أقرابها بلق
وقال محمود الوراق يمدح الشيب:
وعائب عابني بشيبي ... لم يعد لما ألم وقته

(2/330)

فقلت للعائبي بشيبي ... يا عائب الشيب لا بلغته
وقال آخر:
يقولون هل بعد الثلاثين ملعب ... فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب
لقد جل قدر الشيب إن كان كلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب
وقال أعرابي في عجوز:
أبى القلب إلا أم عمرو وحبها ... عجوزا ومن يحبب عجوزا يفند
كثوب يمان قد تقادم عهده ... ورقعته ماشيت في العين واليد
قال بشار العقبلي في سوداء:
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده
الاستعارة
لم تزل الاستعارة قديمة تستعمل في المنظوم والمنثور. وأحسن ما تكون أن يستعار المنثور من المنظوم، والمنظوم من المنثور. وهذه الاستعارة خفية لا يؤبه بها، لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال. وأكثر ما يجتلبه الشعراء ويتصرف فيه البلغاء فإنما يجري فيه الآخر على سنن الأول. وقل ما يأتي لهم معنى لم يسبق إليه أحد، إما في منظوم وإما في منثور؟ لأن الكلام بعضه من بعض، ولذلك قالوا في الأمثال: ما ترك الأول للآخر شيئا. ألا ترى أن كعب بن زهير، وهو في الرعيل الأول والصدر المتقدم، قد قال في شعره:
ما أرانا نقول إلا معارا ... أو معادا من قولنا مكرورا
ولكن في قولهم إن الآخر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يحسنه ويقربه ويوضحه، فهو أولى به من الأول، وذلك كقول الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانئ فحسنه وقربه إذ قال:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
وقال القطامي:
والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
أخذه من قول المرقش:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقال قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
أخذه بعض المحدثين فقال:
فشبهتها بدرا بدا منه شقه ... وقد سترت خدا فأبدت لنا خدا
وأذرت على الخدين دمعا كأنه ... تناثر در أو ندى واقع الوردا
وأخذه آخر فقال:
يا قمرا للنصف من شهره ... أبدى ضياء لثمان بقين
وأخذه بشار فقال:
ضنت بخد وجلت عن خد ... ثم انثنت كالنفس المرتد
فلم يفسد الآخر قول الأول، ولم يكن الأول أولى بالمعنى من الآخر.
وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله، وهو قولي:
كأن التي يوم الوداع تعرضت ... هلال بدا محقا على أنه تم
وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم، ومن المنظوم في المنثور، فإنها أحسن استعارة.
دخل سهل بن هارون على الرشيد وهو يضاحك ابنه المأمون، فقال سهل: يدعو للمأمون: اللهم زده من الخيرات، وابسط له من البركات، حتى يكون كل يوم من أيامه موفيا على أمسه، مقصرا عن غده. فقال له الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أفصحه، ومن الحديث أوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه القول؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحدا سبقني إلى هذا المعنى. قال: بلي. سبقك أعشى همدان، حيث يقول:
رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الضعف خيرا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
وقد يكون مثل هذا وما أشبهه عن موافقة.
وقد سئل الأصمعي عن الشاعرين يتفقان في المعنى الواحد ولم يسمع أحدهما قول صاحبه. فقال: عقول الرجال توافت على ألسنتها.
اختلاف الشعراء في المعنى الواحد
وقد تختلف الشعراء في الواحد، وكل واحد منهم محسن في مذهبه، جار في توجيهه، وإن كان بعضه أحسن من بعض.
ألا ترى أن الشماخ بن ضرار يقول في ناقته:

(2/331)

إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
وقال الحسن بن هانئ في ضد هذا المعنى ما هو أحسن منه في محمد الأمين:
فإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام
وقال أيضا:
أقول لناقتي إذ أبلغتني ... لقد صبحت مني باليمين
فلم أجعلك للغربان نحلا ... ولا قلت اشرقي بدم الوتين
فقد عاب بعض الرواة قول الشماخ واحتجوا في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصارية المأسورة التي نجت على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت يا رسول الله إن نجا بي الله عليها أن أنحرها قال: بئسما جزيتيها. ولا نذر لأحد في ملك غيره.
وقد قالت الشعراء فلم تزل تمدح حسن الهيئة وطيب الرائحة وإسبال الثوب.
قال الفرزدق:
بنو دارم قومي ترى حجزاتهم ... عتاقا حواشيها رقاقا نعالها
يجرون هداب اليماني كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها
وأول من سبق إلى هذا المعنى النابغة الذبياني في قوله:
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
وقال طرفة:
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفين الأرض هداب الأزر
وقال كثير عزة في إسبال الذيول يمدح بعض بني أمية:
أشم من الغادين في كل حلة ... يميسون في صبغ من العصب متقن
هم أزر حمر الحواشي بطونها ... بأقدامهم في الحضرمي الملسن
وقال فيه أيضا:
إذا حلل العصب اليماني أجادها ... أكف أساتيذ على النسج درب
أتاهم بها الجابي فراحوا عليهم ... تمائم من فضفاضهن المكعب
لها طرز تحت البنائق أدنيت ... إلى مرهفات الحضرمي المعقرب
وقال آخر:
معي كل فضفاض القميص كأنه ... إذا ما سرت فيه المدام فنيق
وخالفهم فيه صريع الغواني فقال:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
وقال دريد بن الصمة يرثي أخاه عبد الله بن الصمة ويصفه بتشمير الثوب:
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... بعيد عن السوات طلاع أنجد
مثل قول الحجاج:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وقد يحمل معناهم في تشمير الثوب وسحبه واختلافهم فيه على وجهين: أحدهما أن يستحسن بعضهم ما يستقبح بعض. والوجه الثاني، وهو أشبه، أن يكون لتشمير الثوب موضع ولسحبه موضع، كما قال عمرو بن معد يكرب:
فيوما ترانا في الخزوز نجرها ... ويوما ترانا في الحديد عوابسا
ويوما ترانا في الثريد ندسه ... ويوما ترانا نكسر الكعك يابسا
وقال أعشى بكر لعمر بن معد يكرب:
وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... شهباء يجتنب الكماة نزالها
كتب المقدم غير لابس جنة ... بالسيف تضرب معلما أبطالها
وقال مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد خلاف هذا كله، وهو:
تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
ولما أنشده يزيد بن مزيد، قال له: ألا قلت كما قال الأعشى؟ وأنشده البيتين.
فقال: قولي أحسن من قوله، إنه وصفه بالخرق، وأنا وصفتك بالحزم.
وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسدي: ما أحسن شيء مدحت به؟ قال: قول الشاعر:
أسيلم ذا كم لا خفا بمكانه ... لعين ترجي أو لأذن تسمع
من النفر الشم الذين إذا اعتزوا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا
جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدهان رأسه فهو أنزع
إذا النفر السود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أدقوا وأوسعوا
فقال عبد الملك: أحسن من هذا قول أبي قيس بن الأسلت:

(2/332)

قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع
أسعى على جل بني مالك ... كل امرئ في شأنه ساعي
وقال بعضهم:
سألت المحبين الذين تحملوا ... تباريح هذا الحب في سالف الدهر
فقالوا شفاء الحب حب يزيله ... لأخرى وطول للتمادي على الهجر
وقال الحمدوني ما هو أحسن من هذا المعنى في ضده؟ وهو قوله:
زعموا أن من تشاغل بالح ... ب سلا عن حبيبه وأفاقا
كذبوا ما كذا بلونا ولكن ... لم يكونوا فيما أرى عشاقا
كيف أسلو بلذة عنك والل ... ذات يحدثن لي إليك اشتياقا
كلما رمت سلوة تذهب الحرقة ... زادت قلبي عليك احتراقا
وقال كثير عزة:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
وقال بعض الناس: إن كان يحبها فلماذا يحب أن ينسى ذكرها؟ ألا قال كما قال مجنون بني عامر:
فلا خفف الرحمن ما بي من الهوى ... ولا قطع الرحمن عن حبها قلبي
فما سرني أني خلي من الهوى ... ولو أن لي ما بين شرق إلى غرب
وذهب أكثرهم إلى أن بعد العهد يسلي المحب عن حبيبه، وقالوا فيه:
إذ ما شئت أن تسلو حبيبا ... فأكثر دونه عدد الليالي
وقال العباس بن الأحنف:
إذا كنت لا يسليك عمن تحبه ... تناء ولا يشفيك طول تلاقي
فما أنت إلا مستعير حشاشة ... لمهجة نفس آذنت بفراق
وقال كثير عزة:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
ومثله قول بشار:
ومن حبها أتمنى أن يلاقيني ... من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول فراق لا لقاء له ... وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها
وهذه المذاهب كلها خارجة من معناها، حائرة في مجراها.
وقال عبد الله بن جندب:
ألا يا عباد الله هذا أخوكم ... قتيلا فهل منكم له اليوم واتر
خذوا بدمي إن مت كل خريدة ... مريضة جفن العين والطرف ساهر
وقال صريع الغواني في ضد هذا:
أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي
وقول عبد الله بن جندب أحسن في هذا المعنى، لأنه إنما أراد أن يدل على موضع ثأره واسم قاتله، ولم يرد الطلب بالثأر لأنه لا ثأر له.
وقد قال عبد الله بن عباس، ونظر إلى رجل مدنف عشقا:
هذا قتيل الحب لا عقل ولا قود
وقال الفرزدق، وأراد مذهب ابن جندب فلم توانه رقة الطبع، فخرج إلى أجف القول وأقبحه، فقال:
يا أخت ناجية بن سامة إنني ... أخشى عليك بني إن طلبوا دمي
لن يتركوك وقد قتلت أباهم ... ولو ارتقيت إلى السماء بسلم
وقال ابن أخت تأبط شرا يرثي خاله، وقتلته هذيل:
شامس في القر حتى إذا ما ... ذكت الشعرى فبرد وظل
ظاعن بالحزم حتى إذا ما ... حل حل الحزم حيث يحل
أخذ معنى البيت الأول أعرابي فسهل معناه وحسن ديباجته، فقال:
إذا نزل الشتاء فأنت شمس ... وإن نزل المصيف فأنت ظل
وأخذ معنى البيت الثاني الحسن بن هانئ فقال في الخصيب:
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
وقالوا في الخيال فحيوه بالسلام ورحبوا به؛ فمن ذلك قول مروان ابن أبي حفصة:
طرقتك زائرة فحي خيالها
وقال آخر:
طرق الخيال فحيه بسلام
وعلى هذا بنيت أشعارهم، وخالفهم جرير فطرد الخيال، فقال:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
وأول من طرد الخيال طرفة فقال:
فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها فإني واصل من وصل
وأعجب من هذا قول الراعي الذي هجا الخيال فقال:

(2/333)

طاف الخيال بأصحابي فقلت لهم ... أم شذرة زارتني أم الغول
لا مرحبا بابنة الأقيال إذ طرقت ... كأن محجرها بالقار مكحول
وقد يختلف معنى الشاعر أيضا في شعر واحد يقوله، ألا ترى أن امرأ القيس قال في شعره:
وإن تك قد ساءتك مني خليفة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
توصف نفسه بالصبر والجلد والقوة على التهالك، ثم أدركته الرقة والاشتياق فقال في البيت الذي بعده:
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
مستدركا قوله في البيت الأول:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
ولم يزل من تقدم من الشعراء وغيرهم مجمعين على ذم الغراب والتشاؤم به، وكأن اسمه مشتق من الغربة، فسموه غراب البين، وزعموا أنه إذا صاح في الديار أقوت من أهلها. وخالفهم أبو الشيص، فقال ما هو أحسن من هذا، وأصدق من ذلك كله، وهو قوله:
ما فرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل
والناس يلحون غرا ... ب البين لما جهلوا
وما إذا صاح غرا ... ب في الديار احتملوا
وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل
وما غراب البين إل ... لا ناقة أو جمل
وقال آخر في هذا المعنى وذكر الإبل:
لهن الوجى إذ كن عونا على النوى ... ولا زال منها ظالع وكسير
وما الشؤم في نعب الغراب ونعقه ... وما الشؤم إلا ناقة وبعير
ومن قولنا في هذا المعنى:
نعب الغراب فقلت أكذب طائر ... إن لم يصدقه رغاء بعير
رد الجمال هو المحقق للنوى ... بل شر أحلاس لهن وكور
وقد يأتي من الشعر ما هو خارج عن طبقة الشعراء، منفرد في غرائبه وبديع صنعته ولطيف تشبيهه، كقول جعفر بن جدار، كاتب ابن طولون:
كم بين باري وبين بما ... وبين بون إلى دمما
من رشأ أبيض التراقي ... أغيد ذي غنة أحما
وطفلة رخصة المداري ... ليست تحلى ولا تسمى
إلا بسلك من اللآلى ... يعجز من يخرج المعمى
صغرى وكبرى إلى ثلاث ... مثل التعاليل أو أتما
وكم ببم وأرض بم ... وكم برم وأرض رما
من طفلة بضة لعوب ... تلقاك بالحسن مستتما
منهن ريا وكيف ريا ... ريا إذا لاقت المشما
لو شمها طائر بدو ... لخر في الترب أولهما
تسحب ثوبين من خلوق ... قد أفنيا زعفران قما
كأنما جليا عليها ... من طيب ما باشرا وشما
فألفيا زعفران قم ... فانغمسا فيه واستحما
فهي نظير اسمها المعلى ... يقوح لامرطها المدما
هيهات يا أخت آل بم ... غلطت في الاسم والمسمى
لو كان هذا وقيل سم ... مات إذا من يقول سما
قد قلت إذ أقبلت تهادى ... كطلعة البدر أو أتما
تومي بأسروعة وتخفي ... بالبرد مثل القداح حما
لو كنت ممن لكنت مما ... لكنني قد كبرت عما
عاتبني الدهر في عذاري ... بأحرف فارعويت لما
قوس ما كان مستقيما ... وأبيض ما كان مدلهما
وكيف تصبو الدمى إلى من ... كان أخا ثم صار عما
بي عنك يا أخت أهل بم ... شغل بما قد دنا مهما
فلست من وجهك المفدى ... ولست من قدك المحمى
أذهلني عنك خوف يوم ... يحيا له كل من ألما
ما كسبته يداي وهنا ... خيرا وشرا أصبت ثما
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:38 pm

تحشر فيه الجنان زفا ... وتحشر النار فيه زما
تقول هذي لطالبيها ... هيت وهذي لهم هلما
نفسي أولى بأن أذما ... من أمرها كل ما استذما
يا نفس كم تخدعين عما ... بلبس داج وأكل لما
رعيت من ذي الحطام مرعى ... جمعت أكلا له وذما
ويحك فاستيقظي ليوم ... يحيا له كم من أرما
ألم تري يونس بن عبدال ... أعلى غدا صامتا فصما
في حفرة ما يحير حرفا ... قد دك من فوقها وطما
والمزني الذي إليه ... نعشو إذا دهرنا ادلهما
أخفى فؤادي له عزائي ... لكن زفيري عليه نما
كأنما خوفا فخافا ... أو حذرا كاساهما فصما
أقبل سهم من الرزايا ... فخص أعلامنا وعما
دكدك منا ذرا جبال ... شامخة في السماء شما
وحصنا دون من عليها ... وزاد هما بنا وغما
قد قرب الموت يا بن أما ... فبادر الموت يا بن أما
واعلم بأن من عصاك جهلا ... من التقى لم يطعك هما
هو الهدى والردى فإما ... أتيت آتى الردى وإما
ها أنذا فاعتبر بحالي ... في طبق موصد معمى
قد أسكنتني الذنوب بيتا ... يخاله الإلف مستحما
فهل إلى توبة سبيل ... تكون فيها الهموم هما
فنشكر الله لا سواه ... لعل نعماه أن تتما
يا نفس جدي ولا تميلي ... فأفضل البر ما استتما
أو ابحثي عن فل بن فل ... تريه تحت التراب رما
لبئس عبد يروح بغيا ... مع المساوي تراه دوما
في غمرة العيش لا يبالي ... أحمده الجار أم أذما
كم بين هذا وبين عبد ... يغدو خميص الحشى هضما
يقطع آناءه صلاة ... ودهره بالصلاح صوما
إن بهذا الكلام نصحا ... إن لم يواف القلوب صما
يا رب لي ألف ذنب ... إن تعف يا رب فاعف جما
فأبرد بعفو غليل قلب كأن فيه رسيس حمى وقال الغزال:
لعمري ما ملكت مقودي الصبا ... فأمطو للذات في السهل والوعر
ولا أنا ممن يؤثر اللهو قلبه ... فأمسي في سكر وأصبح في سكر
ولا قارع باب اليهودي موهنا ... وقد هجع النوام من شهوة الخمر
وأوتغه الشيطان حتى أصاره ... من الغي في بحر أضل من البحر
أغذ السرى فيها إذا الشرب أنكروا ... ورهني عند العلج ثوبي من الفجر
كأني لم أسمع كتاب محمد ... وما جاء في التنزيل فيه من الزجر
كفاني من كل الذي أعجبوا به ... قليلة ماء تستقى لي من النهر
ففيها شرابي إن عطشت وكل ما ... يريد عيالي للعجين وللقدر
بخبز وبقل ليس لحما وإنني ... عليه كثير الحمد لله والشكر
فيا صاحب اللحمان والخمر هل ترى ... بوجهي إذا عاينت وجهي من ضر
وبالله لو عمرت تسعين حجة ... إلى مثلها ما اشتقت فيها إلى خمر
ولا طربت نفسي إلا مزهر ولا ... تحنن قلبي نحو عود ولا زمر
وقد حدثوني أن فيها مرارة ... وما حاجة الإنسان في الشرب للمر
أخي عد ما قاسيته وتقلبت ... عليك به الدنيا من الخير والشر
فهل لك في الدنيا سوى الساعة التي ... تكون بها السراء أو حاضر الضر

(2/335)

فما ساق منها لا يحس ولا يرى ... وما لم يكن منها عمي عن الفكر
فطوبى لعبد أخرج الله روحه ... إليه من الدنيا على عمل البر
ولكنني حدثت أن نفوسهم ... هنالك في جاه جليل وفي قدر
وأجسادهم لا يأكل الترب لحمها ... هنالك لا تبلى إلى آخر الدهر
ففرق الدهر شملا كان ملتئما ... منا وجمع شملا غير ملتئم
ما زلت أرعى نجوم الليل طالعة ... أرجو السلو بها إذ غبت عن نجمي
نجم من الحسن ما يجرى به فلك ... كأنه الدر والياقوت في النظم
ذاك الذي حاز حسنا لا نظير له ... كالبدر نورا علا في منزل النعم
وقد تناظر واليرجيس في شرف ... وقارن الزهرة البيضاء في توم
فذاك يشبهه في حسن صورته ... وذا يزيد بحظ الشعر والقلم
أشكو إلى الله ما ألقى لفرقته ... شكوى محب سقيم حافظ الذمم
لو كنت أشكو إلى صم الهضاب إذا ... تفطرت للذي أبديه من ألم
يا غادرا لم يزل بالغدر مرتديا ... أين الوفاء ابن لي غير محتشم
إن غاب جسمك عن عيني وعن نظري ... فما يغيب عن الأسرار والوهم
إني سأبكيك ما ناحت مطوقة ... تبكي أليفا على فرع من النشم
ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلام
قال أبو حاتم: أبيح للشاعر ما لم يبح للمتكلم، من قصر الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك، وصرف ما لا ينصرف، وحذف الكلمة ما لم تلتبس بأخرى، كقولهم: فل من فلان، وحم من حمام .
قال الشاعر:
وجاءت حوادث من مثلها ... يقال لمثلك: ويها فل
وقال مسلم بن الوليد:
سل الناس إني سائل الله وحده ... وصائن وجهي عن فلان وعن فل
وقال آخر:
دعاء حمامات تجاوبها حم
ومن المحذوف أيضا قول الشاعر:
لها أشارير مات لحم تتمره ... من الثعالي ووخز من أرانيها
يريد من الثعالب. ومثله قول الشاعر:
ولضفادي جمه نقانق
يريد الضفادع. ومن المحذوف قول كعب بن زهير:
ويلمها خلة لو أنها صدقت ... في وعدها أو لو أن النصح مقبول
يريد ويل لأمها.
ومنه قولهم: لاه أبوك يريدون: لله أبوك. وقال الشاعر:
لاه ابن عمك لا يخا ... ف المبديات من العواقب
وكذلك الزيادة أيضا إذا احتاجوا إليها في الشعر، فمن ذلك قول زهير:
ثم استمروا وقالوا إن موعدكم ... ماء بشرقي سلمى فيد أوركك
قال الأصمعي: سألت بجنبات فيد عن ركك. فقيل: ماء هاهنا يسمى ركا. فعلمت أن زهيرا احتاج فضعف: ومنه قول القطامى.
وقول المرء ينفذ بعد حين ... مواضع ليس ينفذها الإبار
ومثله قولهم: كلكال، من كلكل. ونظر هذا كثير في الشعر لمن تتبعه.
وأما قصرهم الممدود فجائز في أشعارهم، ومد المقصور عندهم قبيح. وقد يستجاد في الشعر على قبحه، مثل قوله حسان بن ثابت:
قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمك خير من المنذر
وأنشد أبو عبيدة:
يالك من تمر ومن شيشاء ... ينشب في الحلق وفي اللهاء
فمد اللهى، هو جمع لهاة: كما قالوا: قطاة وقطى، ونواة ونوى.
أما تحريك الساكن وتسكين المتحرك، فمن ذلك قول لبيد بن ربيعة:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
ومثله قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
وقال أمية بن أبي الصلت:
تأبى فما تطلع لهم في وقتها ... إلا معذبة وإلا تجلد
ومن قولهم في تحريك الساكن:

(2/336)

اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس
وأما صرف مالا ينصرف عندهم فكثير، والقبيح عندهم ألا يصرف المنصرف، وقد يستجاد في الشعر على قبحه. قال عباس بن مرداس:
وما كان بدر ولا حابس ... يفوق مرداس في المجمع
ومن قولهم في تسكين المتحرك، وقد استشهد به سيبويه في كتابه:
عجب الناس وقالوا ... شعر وضاح اليماني
إنما شعري قند ... قد خلط بجلجلان
ولو حرك خلط اجتمع خمس حركات.
باب ما أدرك على الشعراء
قال أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أدركت العلماء بالشعر على امرئ القيس قوله:
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وانك مهما تأمري القلب يفعل
وقالوا: إذا لم يغر هذا فما الذي يغر؟ ومعناه في هذا البيت يناقض البيت الذي قبله، حيث يقول:
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلى ثيابي من ثيابك تنسل
لأنه ادعى في هذا البيت فضلا للتجلد وقوة الصبر بقوله:
فسلى ثيابي من ثيابك تنسل
وزعم في البيت الثاني أنه لا تحمل فيه للصبر، ولا قوة على التمالك، بقوله:
وإنك مهما تأمري القلب يفعل
وأقبح من هذا عندي قوله:
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
ومما أدرك على زهير قوله في الضفادع:
يخرجن من شريات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغم والغرقا
وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافة الغم والغرق، وإنما ذلك لأنهن يبتن في الشطوط.
ومما أدرك على النابغة قوله يصف الثور:
تحيد عن أستن سود أسافله ... مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما
قال الأصمعي: إنما توصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرواح لا بالغدو، لأنهن يجئن بالحطب إذا رحن؟ قال الأخنس التغلبي:
تظل بها ربد النعام كأنها ... إماء يرحن. بالعشي حواطب
وأخذ عليه في وصف السيف قوله:
يقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقد بالصفاح نار الحباحب
فزعم أنه يقد الدرع المضاعفة والفارس والفرس، ثم يقع في الأرض فيقدح النار من الحجارة، وهذا من الإفراط القبيح. وأقبح عندي من هذا في وصف المرأة قوله:
ليست من السود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بأعلى مكة البرما
ومما أخذ عليه قوله:
خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع
فشبه نفسه بالدلو، وشبه النعمان بخطاطيف حجن، يريد خطاطيف معوجة تمد بها الدلو. وكان الأصمعي يكثر التعجب من قوله:
وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل علي بأن أخشاك من عار
ومما أدبك على المتلمس قوله:
وقد أتناسى الهم عند احتقاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم
والصيعرية: سمة للنوق، فجعلها صفة للفحل. وسمعه طرفة وهو صبي ينشد هذا البيت، فقال: استنوق الجمل. فضحك الناس، وصارت مثلا. وأخذ عليه أيضا قوله.
أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمس دم دما
وهذا من الكذب المحال.
ومما أدرك على طرفة قوله:
أسد غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
فذكر أنهم يعطون إذا سكروا، ولم يشترط لهم ذلك إذا صحوا، كما قال عنترة:
وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
ومما أدرك على عدي بن زيد قوله في صفة الفرس:
فضاف يعري جلة عن سراته ... يبد الجياد فارها متتابعا
ولا يقال للفرس: فاره، وإنما يقال له: جواد وعتيق. ويقال للكودن والبغل والحمار: فاره.

(2/337)

ومما أدرك عليه وصفه الخمر بالخضرة، ولا نعلم أحدا وصفها بذلك، فقال:
المشرف الهندي يسقى به ... أخضر مطموثا بماء الخريص
ومما أدرك على أعشى بكر قوله:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول
وهذه الألفاظ الأربعة في معنى واحد. ومما أدرك على لبيد قوله:
ومقام ضيق فرجته ... بمقامي ولساني وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل
فظن أن الفيال أقوى الناس، كما أن الفيل أقوى البهائم.
ومما أدرك على عمرو بن أحمر الباهلي قوله يصف المرأة:
لم تدر ما نسج اليرندج قبلها ... ودراس أعوص دارس متجدد
اليرندج: جلود سود. فظن أنه شيء ينسج. ودراس أعوص، يريد أنها لم تدارس الناس عويص الكلام الذي يخفي أحيانا ويتبين أحيانا.
وقد أتى ابن أحمر في شعره بأربعة ألفاظ لم تعرف في كلام العرب، منها: أنه سمى الناعر ماموسة، ولا يعرف ذلك فقال:
كما تطايح عن ماموسة الشرر
وسمى حوار الناقة بابوسا، ولا يعرف ذلك، فقال:
حنت قلوصي إلى بابولسها جزعا ... فما حنينك أم ما أنت والذكر
وفي بيت آخر يذكر فيه البقرة:
وبنس عنها فرقد خصر
أي تأخر، ولا يعرف التبنس. وقال.
وتقنع الحرباء أرنته
يريد ما لف على الرأس. ولا تعرف الأرنة إلا في شعره.
ومما أدرك على نصيب بن رباح قوله:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي
تلهف على من يهيم بها بعده.
ومما أدرك على الراعي قوله في المرأة:
تكسو المفارق واللبات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور دراج
أراد المسك. فجعله من قصب. والقصب: المعى. فجعل المسك من قصب دابة تعتلف الكافور فيتولد عنه المسك. ومما أدرك على جرير قوله في بني الفدوكس رهط الأخطل:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطبنا
القطين، في هذا الموضع: العبيد والإماء. وقيل له: أبا حزرة، ما وجدت في تميم شيئا تفخر به عليهم حتى فخرت بالخلافة، لا والله ما صنعت في هجائهم شيئا. ومما أدرك على الفرزدق قوله:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف
وقد أكثر النحويون الاحتيال لهذا البيت، ولم يأتوا فيه بشيء يرضي. ومثل ذلك قوله:
غداة أحلت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف والخمر
كان حصين بن أصرم قد حلف ألا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يدرك ثأره، فأدركه في هذا اليوم الذي ذكره. فقال " عبيطات السدائف. فنصب عبيطات السدائف ورفع الخمر هانما هي معطوفة عليها، وكان وجهها النصب، فكأنه أراد: وحلت له الخمر.
ومما أدرك على الأخطل قوله في عبد الملك بن مروان:
وقد جعل الله الخلافة منهم ... لأبيض لا عاري الخوان ولا جدب
وهذا مما لا يمدح به خليفة.
وأخذ عليه قوله في رجل من بني أسد يمدحه، وكان يعرف بالقين ولم يكن قينا، فقال فيه:
نعم المجير سماك من بني أسد ... بالمرج إذ قتلت جيرانها مضر
قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فالآن طير عن أثوابه الشرر
وهذا مدح كالهجاء.
ومما أدرك على ذي الرمة:
تصغي إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
وسمعه أعرابي ينشده فقالت: صرع والله الرجل، ألا قلت كما قال عمك الراعي:
وواضعة خدها للزما ... م فالخد منها له أصعر
ولا تعجل المرء قبل الركو ... ب وهي بركبته أبصر
وهي إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر
ومما أدرك عليه قوله:
حتى إذا دومت في الأرض راجعة ... كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب

(2/338)

قالوا: التدويم: إنما يكون في الجو، يقال: دوم الطائر في السماء، إذا حلق واستدار؟ ودوم في الأرض، إذا استدار فيها.
وما أدرك على أبي الطمحان القيني قوله:
لما تحملت الحمول حسبتها ... دوما بأثلة ناعما مكموما
الدوم: شجر المقل، وهو لا يكم وإنما يكم النخل.
ومما أخذ على العجاج قوله:
كأن عينيه من الغؤور ... قلتان أو حوجلتا قارور
صيرتا بالنضح والتصيير ... صلاصل الزيت إلى الشطور
الحوجلتان: القارورتان. جعل الزجاج ينضح ويرشح. ومما أدرك على رؤبة قوله:
كنتم كمن أدخل في جحر يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا
جعل الأفعى دون الأسود، وهي فوقه في المضرة.
وأخذ عليه في وصف الظليم قوله:
وكل زجاج سخام الخمل ... تبري له في زعلات خطل
فجعل للظليم عدة إناث، كما يكون للحمار، وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
وأخذ عليه قوله يصف الرامي:
لا يلتوي من عاطس ولا نغق
إنما هو النغيق والنغاق، وإنما يصف الرامي. وأدرك عليه قول:
أقفرت الوعثاء والعثاعث ... من أهلها والبرق البرارث
إنما هي البراث: جمع برث. وهي الأرض اللينة.
وأدرك عليه قوله: يا ليتنا والدهر جري السمة إنما يقال: ذهب السهمي أي في الباطل وأخذ عليه قوله
أو فضة أو ذهب كبريت
قال: سمع بالكبريت أنه أحمر فظن أنه ذهب.
مما يستقبح من تشبيهه قوله في النساء:
يلبسن من لين الثياب نيما
والنيم: الفرو المغشى. وأخذ عليه قوله في قوائم الفرس:
يردبن شتى وبقعن وفقا
وأنشده مسلم بن قتيبة، فقال له: أخطأت يا أبا الجحاف. جعلته مقيدا.
قال له رؤبة: أدنني من ذنب البعير.
ومما أدرك على أبي نخيلة الراجز قوله في وصف المرأة:
مرية لم تلبس المرققا ... ولم تذق من البقول الفستقا
فجعل الفستق من البقول، وإنما هو شجر.
ومما أدرك على أبي النجم قوله في وصف الفرس:
يسبح أخراه ويطفو أوله
قال الأصمعي: إذا كان كذلك فحمار الكساح أسرع منه، لأن اضطراب مؤخره قبيح. وإنما الوجه فيه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الأعور السلمي:
مر كلمع البرق سام ناظره ... يسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمس الأرض منه حافره
وأخذ عليه في الورود قوله:
جاءت تسامى في الرعيل الأول ... والظل عن أخفافها لم يفضل
فوصف أنها وردت في الهاجرة. وإنما خير الورود غلسا، والماء بارد. كما قال الآخر:
فوردت قبل الصباح الفاتق
وكقول لبيد بن ربيعة العامري:
إن من وردي لتغليس النهل
وقال آخر:
فوردن قبل تبين الألوان
وأنشد بشار الأعمى قول كثير عزة:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين
فقال: لله أبو صخر! جعلها عصا خيزرانة. فوالله لو جعلها عصا زيد لهجنها بالعصا، ألا قال كما قلت:
وبيضاء المحاجر من معد ... كأن حديثها قطع الجمان
إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
ودخل العتابي على الرشيد فأنشده في وصف الفرس:
كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلما محرفا
فعلم الناس أنه لحن، ولم يهتد أحد منهم إلى إصلاح البيت غير الرشيد، فإنه قال: قل:
تخال أذنيه إذا تشوفا
والراجز وإن كان لحن فإنه أصاب التشبيه. حدث أبو عبد الله بن محمد بن عرفة بواسط، قال: حدثني أحمد بن محمد أبن يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عياش السمدي عن السائب، راوية كثير عزة، قال: قال لي كثير عزة يوما: قم بنا ابن أبي عتيق نتحدث عنده. قال: فجئنا فوجدنا عنده ابن معاذ المغني. فلما رأى كثيرا قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك بشعر كثير عزة؟ قال: بلى فغناه:

(2/339)

أبائنة سعدى نعم ستبين ... كما انبت من حبل القرين قرين
أأن زم أجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البين أنت حزين
كأنك لم تسمع ولم تر قبلها ... تفرق ألاف لهن حنين
فأخلفن ميعادي وخن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين
فالتفت ابن أبي عتيق إلى كثير، فقال: أوللدين صحبتهن يا بن أبي جمعة؟ ذلك والله أشبه بهن، وأدعى للقلوب إليهن؟ وإنما يوصفن بالبخل والامتناع، وليس بالوفاء والأمانة. وذو الرقيات أشعر منك حيث يقول:
حبذا الإدلال والغنج ... والتي في طرفها دعج
والتي إن حدثت كذبت ... والتي في ثغرها فلج
خبروني هل على رجل ... عاشق في قبلة حرج
فقال كثير: قم بنا من عند هذا، ومضى.
عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: إني بباب المأمون إذ خرج عبد الله ابن أبي السمط، فقال لي: علمت أن أمير المؤمنين على كماله لا يعرف الشعر.
قلت له: وبم علمت ذلك؟ قال: أسمعته الساعة بيتا لو شاطرني ملكه عليه لكان قليلا. فنظر إلي نظرا شزرا كاد يصطلمني. قلت له: وما البيت؟ فأنشد:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
قلت له: والله لقد حلم عليك إذ لم يؤدبك عليه. ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبر أمرها؟ ألا قلت كما قال جدي في عبد العزيز بن مروان:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاعل
فقال: الآن علمت أنني أخطأت.
الهيثم بن عدي قال: دخل رجل من أصحاب الوليد بن عبد الملك عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت ببابك جماعة من الشعراء لا أحسبهم اجتمعوا بباب أحد من الخلفاء، فلو أذنت لهم حتى ينشدوك؟ فأذن لهم فأنشدوه وكان فيهم الفرزدق، وجرير، والأخطل، والأشهب بن رميلة. وترك البعيث فلم يأذن له. فقال الرجل المستأذن لهم: لو أذنت للبعيث يا أمير المؤمنين، إنه لشاعر. فقال: إنه ليس كهؤلاء إنما قال من الشعر يسيرا. قال: والله يا أمير المؤمنين إنه لشاعر. فأذن له فلما مثل بين يديه، قال: يا أمير المؤمنين، إن هؤلاء ومن ببابك قد ظنوا أنك إنما أذنت لهم دوني لفضل لهم علي. قال: أولست تعلم ذلك؟ قال: لا والله، ولا علمه الله لي. قال: فأنشدني من شعرك. قال: أما والله حتى أنشدك من شعر كل رجل منهم ما يفضحه فأقبل على الفرزدق، فقال: قال هذا للشيخ الأحمق لعبد بني كليب:
بأي رشاء يا جرير وماتح ... تدليت في حومات تلك القماقم
فجعله يتدلى عليه وعلى قومه من عل، وإنما يأتيه من تحته لو كان يعقل. وقد قال هذا، كلب بني كليب:
لقومي أحمى للحقيقة منكم ... وأضرب للجبار والنقع ساطع
وأوثق عند المردفات عشية ... لحاقا إذا ما جرد السيف لامع
فجعل نساءه لا يثقن بلحاقه إلا عشية، وقد نكحن وفضحن. وقال هذا النصراني، ومدح رجلا يسمى قينا فهجاه، ولم يشعر، فقال:
قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فالآن طير عن أثوابه الشرر
وقال ابن رميلة ودفع أخاه إلى مالك بن ربعي بن سلمي فقتل، فقال:
مددنا وكان ضلة من حلومنا ... بثدي إلى أولاد ضمرة أقطعا
فمن يرجو خيره وقد فعل بأخيه ما فعل. فجعل الوليد يعجب من حفظه لمثالب القوم وقوة قلبه، وقال له: قد كشفت عن مساوئ القوم، فأنشدني من شعرك. فأنشده فاستحسن قوله ووصله وأجزل له.
ومما عيب على الحسن بن هانئ قوله في بعض بني العباس:
كيف لا يدينك من أمل ... من رسول الله من نفره
فقالوا: إن حق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضاف إليه ولا يضاف هو إلى غيره. ولو اتسع فأجازه لكان له مجاز حسن. وذلك أن يقول القائل من بني هاشم لغيره من أفناء قريش: منا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يريد أنه من القبيلة التي نحن منها، كما قال حسان بن ثابت:

(2/340)

وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا ترام ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير
فقال: منهم، كما قال هذا: من نفر.
ومما أدرك عليه قوله في البعير:
أخنس في مثل الكظام مخطمه
والأخنس: القصير المشافر، وهو عيب له، وإنما توصف المشافر بالسبوطة. ومما أدرك على أبي ذؤيب قوله في وصف الدرة:
فجاء بها ما شئت من لطمية ... يدور الفرات فوقها وتموج
قالوا: والدرة لا تكون في الماء الفرات، إنما تكون في الماء المالح.
واجتمع جرير بن الخطفي وعمر بن لجأ التيمي عند المهاجر بن عبد الله والي اليمامة، فانشده عمر بن لجأ أرجوزته التي يقول فيها:
تصطك ألحيها على دلائها ... تلاطم الأزد على عطائها
حتى انتهى إلى قوله:
تجر بالأهون من إدنائها ... جر العجوز الثني من خفائها
فقال جرير: ألا قلت:
جر الفتاة طرفي ردائها
فقال: والله ما أردت إلا ضعف العجوز. وقد قلت أنت أعجب من هذا، وهو قولك:
وأوثق عند المردفات عشية ... لحاقا إذا ما جرد السيف لامع
والله لئن لم يلحقن إلا عشية ما لحقن حتى نكحن وأحبلن. ووقع الشر بينهما.
وقدم عمر بن أبي ربيعة المدينة، فأقبل إليه الأحوص ونصيب، فجعلوا يتحدثون. ثم سألهما عمر عن كثير عزة، فقالوا: هو هاهنا قريب. قال: فلو أرسلنا إليه؟ قالا: هو أشد بأوا من ذلك. قال: فاذهبا بنا إليه. فقاموا نحوه، فألفوه جالسا في خيمة له. فوالله ما قام للقرشي، ولا وسع له. فجعلوا يتحدثون ساعة. فالتفت إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال له: إنك لشاعر لولا أنك تشبب بالمرأة، ثم تدعها وتشبب بنفسك. أخبرني عن قولك:
ثم اسبطرت تشتد في أثري ... تسأل أهل الطواف عن عمر
والله لو وصفت بهذا هرة أهلك لكان كثيرا! ألا قلت كما قال هذا، يعني الأحوص:
أدور ولولا أن أرى أم جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى ... وإن لم يزر لا بد أن سيزور
قال: فانكسرت نخوة عمر بن أبي ربيعة ودخلت الأحوص زهوة ثم ألتفت إلى الأحوص، فقالت: أخبرني عن قولك:
فإن تصلي أصلك وإن تبينيبهجرك بعد وصلك، ما أبالي أما والله لو كنت حرا لباليت ولو كسر أنفك. ألا قلت كما قال هذا الأسود، وأشار إلى نصيب:
بزينب المم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
قال: فانكسر الأحوص ودخلت نصيبا زهوة. ثم التفت إلى نصيب، فقال له: أخبرني عن قولك:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي
أهمك ويحك من يفعل بها بعدك. فقال القوم: الله أكبر استوت الفرق قوموا بنا من عند هذا.
ودخل كثير عزة على سكينة بنت الحسين عليه السلام، فقالت له: يا بن أبي جمعة، أخبرني عن قولك في عزة:
وما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
ويحك! وهل على الأرض زنجية منتنة الإبطين، توقد بالمندل الرطب نارها إلا طاب ريحها. ألا قلت كما قال عمك امرؤ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
سمر عبد الملك بن مروان ذات ليلة وعنده كثير عزة، فقال له: أنشدني بعض ما قلت في عزة. فأنشده، حتى إذا أتى على هذا البيت:
هممت وهمت ثم هابت وهبتها ... حياء ومثلي بالحياء حقيق
قال له عبد الملك: أما والله لولا بيت أنشدتنيه قبل هذا لحرمتك جائزتك.
قال: لم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك شركتها معك في الهيبة، ثم استأثرت بالحياء دونها. قال: فأي بيت عفوت به يا أمير المؤمنين؟ قال قولك:

(2/341)

دعوني لا أريد بها سواها ... دعوني هائما فيمن يهيم
ومما أدرك على الحسن بن هانئ قوله في وصف الأسد، حيث يقول:
كأنما عينه إذا التفتت ... بارزة الجفن عين مخنوق
وإنما يوصف الأسد بغؤور العينين، كما قال العجاج:
كأن عينيه من الغؤور ... قلتان أو حوجلتا قارور
وقال أبو زبيد:
كأن عينيه نقباوان في حجر
ومن قولنا في وصف الأسد ما هو أشبه به من هذا:
ولرب خافقة الذوائب قد غدت ... معقودة بلوائه المنصور
يرمي بها الآفاق كل شر نبث ... كفاه غير مقلم الأظفور
ليث تطير له القلوب مخافة ... من بين همهمة له وزئير
وكأنما يومي إليك بطرفة ... عن جمرتين بجلمد منقور
باب من أخبار الشعراء
حدث دعبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشيص وأبو نواس في مجلس، فقال لهم أبو نواس: إن مجلسنا هذا قد شهر باجتماعنا فيه، ولهذا اليوم ما بعده، فليأت كل واحد منكم بأحسن ما قال، فلينشده. فأنشد أبو الشيص، فقال:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم
وأهنتني فأهنت نفسيصاغرا ... ما من يهون عليك ممن أكرم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
قال: فجعل أبو نواس يعجب من حسن الشعر حتى ما كاد ينقضي عجبه. ثم أنشد مسلم أبياتا من شعره الذي يقول فيه:
فاقسم أنسى الداعيات إلى الصبا ... وقد فاجأتها العين والستر واقع
فغطت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأسرى أثقلتها الجوامع
قال دعبل: فقال لي أبو نواس: هات أبا علي، وكأني بك قد جئتنا بأم القلادة. فقلت: يا سيدي، ومن يباهيك، بها غيري. فنشدته:
أين الشباب وأية سلكا ... أم أين يطلب ضل أم هلكا
يا ليت شعري كيف صبركما ... يا صاحبي إذا دمي سفكا
لا تطلبا بظلامتي أحدا ... قلبي وطرفي لا دمي اشتركا
ثم سألناه أن ينشد. فأنشد أبو نواس:
لا تبك هندا ولا تطرب إلى دعد ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها ... وجدت حمرتها في العين والخد
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة ... في كف جارية ممشوقة القد
تسقيك من عينها خمرا ومن يدها ... خمرا فما لك من سكرين من بد
لي نشوتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
فقاموا كلهم فسجدوا له. فقال: أفعلتموها أعجمية، لا كلمتكم ثلاثا ولا ثلاثا ولا ثلاثا. ثم قال: تسعة أيام في هجر الإخوان كثير، وفي هجر بعض يوم استصلاح للفساد وعقوبة على الهفوة. ثم التفت إلينا فقال: أعلمتم أن حكيما عتب على حكيم فكتب المعتوب عليه إلى العاتب: يا أخي، إن أيام العمر أقل من أن تحتمل الهجر، محمد بن الحسن المديني، قال: أخبرني الزبير بن أبي بكرة، قال: دخلت على المعتز بالله أمير المؤمنين فسلمت عليه، فقال: يا أبا عبد الله، إني قد قلت في ليلتي هذه أبياتا وقد أعيا علي إجازة بعضها. قلت: أنشدني. فأنشدني، وكان محموما:
إني عرفت علاج القلب من وجع ... وما عرفت علاج الحب والخدع
جزعت للحب والحمى صبرت لها ... إني لأعجب من صبري ومن جزعي
من كان يشغله عن حبه وجع ... فليس يشغلني عن حبكم وجعي
قال أبو عبد الله: فقلت:
وما أمل حبيبي ليلة أبدا ... مع الحبيب ويا ليت الحبيب معي
فأمر لي على البيت بألف دينار.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:39 pm

اجتمع الحسن بن هانئ وصريع الغواني وأبو العتاهية في مجلس بالكوفة، فقيل لأبي العتاهية: أنشدنا. فأنشد:
أسيدتي هاتي فديتك ما جرمي ... فانزل فيما تشتهين من الحكم
كفاك بحق الله ما قد ظلمتني ... فهذا مقام المستجير من الظلم
وقيل لصريع الغواني: أنشدنا. فأنشأ يقول:
قد اطلعت على سري وإعلاني ... فاذهب لشانك ليس الجهل من شاني
إن التي كنت أنحو قصد شرتها ... أعطت رضا وأطاعت بعد عصيان
ثم قيل للحسن بن هانئ: أنشدنا، فأنشد:
يا بنة الشيخ اصبحينا ... ما الذي تنتظرينا
قد جرى في عوده الما ... ء فأجري الخمر فينا
قيل: هذا الهزل، فهات الجد. فأنشأ:
لمن طلل عاري المحل دفين ... عفا عهده إلا روائم جون
كما افترقت عند المبيت حمائم ... غريبات ممسى ما لهن وكون
ديار التي أما جنى رشفاتها ... فحلو وأما مسها فيلين
وما أنصفت أما الشحوبفظاهر ... بوجهي وأما وجهها فمصون
فقام صريع الغواني يجر ذيله وخرج وهو يقول: إن هذا مجلس ما جلسته أبدا.
هشام بن عبد الملك الخزاعي قال: كنا بالرقة مع هارون الرشيد فكتب إليه صاحب الخبر بموت الكسائي وإبراهيم الموصلي والعباس ابن الأحنف في وقت واحد. فقال لابنه المأمون: اخرج فصل عليهم. فخرج المأمون في وجوه قواده وأهل خاصته، وقد صفوا له. فقالوا له: من ترى أن يقدم؟ قال: الذي يقول:
يا بعيد الدار عن وطنه ... هائما يبكي على شجنه
كلما جد البكاء به ... زادت الأسقام في بدنه
قيل له: هذا، وأشاروا إلى العباس بن الأحنف. فقال: قدموه، فقدم عليهم.
أبو عمرو بن العلاء قال: نزل جرير، وهو مقبل من عند هشام بن عبد الملك، فبات عندي إلى الصبح، فلما أصبح شخص وخرجت معه أشيعه. فلما خرجنا عن أطناب البيوت التفت إلي فقال: أنشدني من قول مجنون بني عامر قيس ابن الملوح، فأنشدته:
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح
فقال: والله لولا أنه لا يحسن لشيخ مثلي الصراخ لصرخت صرخة يسمعها هشام على سريره. وهذا من أرق الشعر كله وألطفه، لولا التضمين الذي فيه. والتضمين أن يكون البيت معلقا بالبيت الثاني لا يتم معناه إلا به. وإنما يحمد البيت إذا كان قائما بنفسه.
وقال العباس بن الأحنف نظير قول المجنون بلا تضمين، وهو قوله:
أشكو الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني بالهوى رقدوا
وقال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد، فوجدته منغمسا في الفراش فقال: ما أبطأ بك يا أصمعي؟ قلت: احتجمت يا أمير المؤمنين. قال: فما أكلت عليها؟ قلت: سكباجة وطباهجة قال: رميتها بحجرها. أتشرب؟ فقلت: نعم، وقلت:
اسقنى حتى تراني مائلا ... وترى عمران ديني قد خرب
قال: يا مسرور، أي شيء معك؟ قال: ألف درهم. قال: ادفعها للأصمعي.
وكان يصحب علي بن داود الهاشمي يهودي ظريف مؤنس أديب شاعر أريب، فلما أراد الحج أراد أن يستصحبه، فكتب إليه اليهودأي يقول:
إني أعوذ بداود وحفرته ... من أن أحج بكره يا بن داود
نبئت أن طريق الحج مصردة ... عن النبيذ وما عيشي بتصريد
والله ما في من أجر فتطلبه ... فيما علمت ولا ديني بمحمود
أما أبوك فذاك الجود يعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود
كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا تعصب في أثوابه السود

(2/343)

حدث أبو إسحاق يحيى بن محمد الحواري، قال: سمعت شيخا من أهل البصرة يقول: قال إبراهيم السويقي، مولى المهالبة: تتابعت علي سنون ضيقة، وألح علي العسر وكثرة العيال وقلة ذات اليد، وكنت مشتهرا بالشعر أقصد به الإخوان وأهل الأقدار وغيرهم، حتى جفاني كل صديق، وملني من كنت أقصده، فأضرني ذلك جدا. فبينما أنا ذات يوم جالس مع امرأتي في يوم شديد البرد، إذ قالت: يا هذا، قد طال علينا الفقر وأضر بنا الجهد، وقد بقيت في بيتي كأنك زمن، هذا مع كثرة الولد، فاخرج عني واكفني نفسك ودعني مع هؤلاء الصبيان أقوم بهم مرة وأقعد بهم أخرى. وألحت علي في الخصومة، وقالت لي: يا مشؤوم، تعلمت صناعة لا تجدي عليك شيئا. فضجرت منها ومن قولها وخرجت على وجهي في ذلك البرد والريح، وليس علي إلا فرو خلق ليس فوقه دثار ولا تحته شعار، وعلى عنقي إزار، ثم جاءت ريح شديدة فذهبت به عن بدني، وتفرقت أجزاؤه عني، من بلاه وكثرة رقاعه. وعلى عنقي طيلسان ليس علي منه إلا رسمه. فخرجت والله متحيرا لا أدري أين أقصد ولا حيث أذهب. فبينما أنا أجيل الفكرة إذ اخذتني سماء بقطر متدارك. فدفعت إلى دار على بابها روشن مطل ودكان نظيف وليس عليه أحد، فقلت: أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر. فقصدت قصد الدار. فاذا بجارية قاعدة قد لزمت باب الدار كالحافظة عليه، فقالت لي: إليك يا شيخ عن بابنا. فقلت لها: ويحك، لست بسائل، ولا أنا ممن تتخوف ناحيته. فجلست على الدكان. فلما سكنت نفسي سمعت نغمة رخيمة من وراء الباب تدل على نغمة امرأة. فأصغيت، فإذا بكلام يدل على عتاب. ثم سمعت نغمة أخرى مثل ذلك، وهي تقول: فعلت وفعلت. والأخرى تقول: بل أنت فعلت وفعلت. إلى أن قالت إحداهما: أنا، جعلت فداك إن كنت أسأت فاغفري واحفظي عنه أشعار ظريفة. فأنشدتها تقول:
هبيني يا معذبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت
فأين الفضل منك فدتك نفسي ... علي إذا أسأت كما أسأت
فقالت: تها. ثم قالت: يا أبا إسحاق، ما لي أراك بهذه الهيئة الرثة والبزة الخلقة؟ فقلت: يا مولاتي، تعدى علي الدهر، ولم ينصفني الزمان، وجفاني الإخوان، وكسدت بضاعتي. فقالت: عز علي ذلك. وأومأت إلى الأخرى، فضربت بيدها على كمها. فسلت دملجا من ساعدها، ثم ثنت باليد الأخرى، فسلت منها دملجا آخر. فقالت: يا أبا إسحاق، خذ هذا واقعد على الباب مكانك وانتظر الجارية تأتيك. ثم قالت: يا جارية، سكن المطر؟ قالت: نعم. فقامتا وخرجتا وقعدت مكاني. فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسة أثواب وصرة فيها ألف درهم، وقالت لي: تقول مولاتي: أنفق هذه، فإن احتجت فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله. فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي: إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي قالت: هذا لبناتي، وكابرتني عليهما. فدخلت السوق فبعتهما بخمسين دينارا، وأقبلت. فلما فتحت الباب صاحب امرأتي، وقالت: قد جئت أيضا بشؤمك! فطرحت الدنانير والدراهم بين يديها والثياب، فقالت: من أين هذا؟ قلت: من الذي تشاءمت به وزعمت بضاعتي التي لا تجدي. فقالت: قد كانت عندي في غاية الشؤم، وهي اليوم في غاية البركة.
نوادر من الشعر
وقال المأمون لمحمد بن الجهم: أنشدني بيتا أوله ذم وآخره مدح أولك له كورة فأنشده:
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لحسن المخبر
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
فولاه الدينور. وقال هارون الرشيد للمفضل الضبي: أنشدنا بيتا أوله أعرابي في شملته، هب من نومته، وآخره مدني رقيق، غذي بماء العقيق. قال المفضل: هولت علي يا أمير المؤمنين، فليت شعري، بأي مهر تفتض عروس هذا الخدر؟ قال هارون: هو بيت جميل حيث يقول:
ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... أسائلكم هل يقتل الرجل الحب

(2/344)

فقال له المفضل: فأخبرني يا أمير المؤمنين عن بيت أوله أكثم بن صيفي في إصابة الرأي، وآخره بقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء؟ قال له هارون: ما هو؟ قال: هو بيت الحسن بن هانئ حيث يقول:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الدواء
قال: صدقت. وقال الربيع: خرجنا مع المنصور منصرفنا من الحج، فنزلنا الرضمة، ثم راح المنصور ورحنا معه في يوم شديد الحر، وقد قابلته الشمس، وعليه جبة وشي. فالتفت إلينا، وقال: إني أقول بيتا من الشعر، فمن أجازه منكم فله جبتي هذه قلنا: يقول أمير المؤمنين. فقال:
وهاجرة نصبت لها جبيني ... يقطع حرها ظهر العظايه
فبدره بشار الأعمى فقال:
وقفت بها القلوص ففاض دمعي ... على خدي وأسعد واعظايه
فخرج له من الجبة. فلقيته بعد ذلك، فقلت له: ما فعلت بالجبة؟ قال: بعتها بأربعة آلاف درهم. خرج رسول عائشة بنت المهدي، وكانت شاعرة، إلى الشعراء وفيهم صريع الغواني، فقال: تقرئكم سيدتي السلام وتقول لكم: من أجاز هذا البيت فله مائة دينار. فقالوا: هاته. فأنشدهم:
أنيلي نولا وجودي لنا ... فقد بلغت نفسي الترقوه
فقال صريع:
وإني كالدلو في حبكم ... هويت إذا انقطعت عرقوه
قال الحسن: صدقت. ثم أقبل إليه رجل آخر، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في الرجل يشك في الشخص يبدو له فيقول: والله هذا فلان، ثم لا يكون هو، ما ترى في يمينه؟ فقال الفرزدق: وقد قلت أنا في مثل هذا. قال: الحسن، وما قلت؟ قال: قلت:
ولست بمأخوذ بقول تقوله ... إذا لم تعنه عاقدات العزائم
قال الحسن: صدقت. فأخذ المائة الدينار.
وكان الفرزدق يجلس إلى الحسن البصري، وجرير يجلس إلى ابن سيرين، لتباعد ما بين الرجلين، وكان موتهما في عام واحد، وذلك سنة عشر ومائة. فبينما الفرزدق جالس عند الحسن إذ جاءه رجل فقال: يا أبا سعيد: إنا نكون في هذه البعوث والسر أيا فنصيب المرأة من العدو وهي ذات زوج، أفتحل لنا من غير أن يطلقها زوجها؟ قالت الفرزدق: قد قلت أنا في مثل هذا في شعري. قال له الحسن: وما قلت؟ قال: قلت:
وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلالا لمن يبني بها لم تطلق
واستعدت امرأة على زوجها عباد بن منصور وزعمت أنه لا ينفق عليها.
فقال لرؤبة: احكم بينهما. فقال:
فطلق إذا ما كنت لست بمنفق ... فما الناس إلا منفق أو مطلق
وكان رجل يدعي الشعر ويستبرده قومه، فقال لهم: إنما تستبردونني من طريق الحسد. قالوا: فبيننا وبينك بشار العقيلي. فارتفعوا إليه. فقال له: أنشدني. فأنشده فلما فرغ، قال له بشار: إني لأظنك من أهل بيت النبوة؟ قال له: وما ذلك؟ قال: إن الله تعالى يقول: وما علمناه الشعر وما ينبغي له فضحك القوم وخرجوا عنه. وقال أبو دلف:
أنا أبو دلف المبدي بقافية ... جوابها يهلك الداهي من الغيظ
من زاد فيها له رحلي وراحلتي ... وخاتمي والمدى فيها إلى القيظ
فأجابه ابن عبد ربه.
قد زدت فيها وإن أضحى أبو دلف ... والنفس قد أشرفت منه على الفيظ
سمر الفرزدق والأخطل وجرير عند سليمان بن عبد الملك ليلة، فبينما هم حوله إذ خفق. فقالوا: نعس أمير المؤمنين، وهموا بالقيام. فقال لهم سليمان: لا تقوموا حتى تقولوا في هذا شعرا. فقال الأخطل:
رماه الكرى في رأسه فكأنه ... صريع تروى بين أصحابه خمرا
فقال له: ويحك! سكران جعلتني ثم قال جرير بن الخطفي:
رماه الكرى في رأسه فكأنما ... يرى في سواد الليل قنبرة حمرا
فقال له: ويحك! أجعلتني أعمى. ثم قال الفرزدق بعد هذا:
رماه الكرى في رأسه فكأنما ... أميم جلاميد تركن به وقرا
قال له: ويحك! جعلتني مشجوجا. ثم أذن لهم فانقلبوا، فحياهم وأعطاهم.

(2/345)

كان عمر بن أبي ربيعة القرشي غزلا مشببا بالنساء الحواج رقيق الغزل، وكان الأصمعي يقول في شعره: الفستق المقشر الذي لا يشبع منه. وكان جرير يستبرده، ويقول: شعر حجازي لو أنجد في تموز لوجد البرد فيه. فلما أنشد:
فلما تلاقينا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
فقال: ما زال يهذي حتى قال الشعر.
وقالت العلماء: ما عصي الله بشعر ما عصي بشعر عمر بن أبي ربيعة. وولد عمر بن أي ربيعة، يوم مات عمر بن الخطاب فسمي باسمه، فقالت العلماء. أي خير رفع، وأي شر وضع. ثم إنه تاب في آخر أيامه وتنسك ونذر لله أن يعتق رقبة بكل بيت يقوله، وإنه حج، فبينما هو يطوف بالبيت إذ نظر إلى فتى من نمير يلاحظ جارية في الطواف، فلما رأى ذلك منه مرارا أتاه، فقال له: يا فتى، أما رأيت ما تصنع؟ فقال له الفتى: يا أبا الخطاب، لا تعجل علي، فإن هذه ابنة عمي، وقد سميت لي ولست أقدر على صداقها، ولا أظفر منها بأكثر مما ترى، وأنا فلان بن فلان، وهذه فلانة بنت فلان. فعرفهما عمر، فقال له: أقعد يا بن أخي عند هذه الجارية حتى يأتيك رسولي. ثم ركب دابته حتى أتى منزل عم الفتى، فقرع الباب، فخرج إليه الرجل، فقال: ما جاء بك يا أبا الخطاب في مثل هذه الساعة؟ قال: حاجة عرضت قبلك في هذه الساعة. قال: هي مقضية. قال عمر: كائنة ما كانت؟ قال: نعم. قال: فإني قد زوجت ابنتك فلانة من ابن أخيك فلان. قبل: فإني قد أجزت ذلك. فنزل عمر عن دابته، ثم أرسل غلاما إلى داره، فأتاه بألف درهم، فساقها عن الفتى، ثم أرسل إلى الفتى فأتاه، فقال لأبي الجارية: أقسمت عليك إلا ما ابتني بها هذه الليلة. قال له: نعم. فلما أدخلت على الفتى انصرف عمر إلى داره مسرورا بما صنع، فرمى بنفسه على فراشه وجعل يتململ، ووليدة له عند رأسه، فقالت له: يا سيدي، أرقت هذه الليلة أرقا لا أدري ما دهمك؟ فأنشأ يقول:
تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أقصرت حينا
أراك اليوم قد أحدثت شوقا ... وهاج لك الهوى داء دفينا
وكنت زعمت وإن تعزي ... مشوق حين يلقي العاشقينا
ثم ذكر يمينه فاستغفر الله وأعتق رقبة لكل بيت.
دعا الأعور بن بنان التغلبي الأخطل الشاعر إلى منزله، فأدخله بيتا قد نجد بالفرش الشريفة والوطاء العجيب، وله امرأة تسمى برة، في غاية الحسن والجمال، فقال له: أبا مالك، إنك رجل تدخل على الملوك في مجالسهم فهل ترى في بيتي عيبا؟ فقال له ما أرى في بيتك عيبا غيرك. فقال له: إنما أعجب من نفسي أذ كنت أدخل مثلك بيتي، اخرج عليك لعنة الله. فخرج الأخطل وهو يقول:
وكيف يداويني الطبيب من الجوى ... وبرة عند الأعور بن بنان
ويلصق بطنا منتن الريح مجرزا ... إلى بطن خود دائم الخفقان
باب من الشعر يخرج معناه في المدح والهجاء
قال الشاعر في خياط أعور يسمى عمرا:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فاسأل الناس جميعا ... أمديح أم هجاء
ومثله قول حبيب في مرثية بني حميد، حيث يقول:
لو خر سيف من العيوق منصلتا ... ما كان إلا على هاماتهم يقع
فلو هجي بهذا رجل على أنه أنجس خلق الله لجاز فيه، ولو مدح به على مذهب قول الشاعر:
وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرة ما تذوقها
وقول الآخر:
ونحن أناس ما نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد السيوف دماؤنا ... وليس على غير السيوف تسيل
لجاز ذلك. ومثله لحبيب:
انظر فحيث ترى السيوف لوامعا ... أبدا ففوق رؤوسهم تتألق
ما قالوه في تثنية الواحد

(2/346)

وجمع الاثنين والواحد وإفراد الجمع والاثنين
وقال الفرزدق في تثنية الواحد:
وعندي حساما سيفه وحمائله
وقال جرير:
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
وإنما هو دير الوليد، معروف بالشام، وأراد بالدجاج: الديكة.
وقال قيس بن الخطيم في الدرع:
مضاعفة يغشى الأنامل ريعها ... كأن قتيريها عيون الجنادب
يريد: قتيرها. وقال آخر:
وقال لبوابيه لا تدخلنه ... وسدا خصاص الباب عن كل منظر
وقال أهل التفسير في قول الله عز وجل: " ألقيا في جهنم كل كفار عنيد " إنه إنما أراد واحدا فثناه. وكذلك قول معاوية للجلواز الذي كان وكله بروح بن زنباع، لما اعتذر إليه روح واستعطفه: خليا عنه.
قولهم في جمع الاثنين والواحد
قال الله تبارك وتعالى: " فإن كان له إخوة فلأمه السدس " . يريد أخوين فصاعدا. وقوله: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " وإنما ناداه رجل من بني تميم، وقوله: " وألقى الألواح " وإنما هما لوحان.
وقال الشاعر:
لو الرجاء لأمر ليس يعلمه ... خلق سواك لما ذلت لكم عنقي
ومثل هذا كثير في الشعر القديم والمحدث.
وأما قولهم في إفراد الجمع فهو أقل من هذا الذي ذكرنا.
وكذلك في إفراد الاثنين. فمن ذلك قول الله تعالى: " ثم يخرجكم طفلا " وقوله: " فأتياه فقولا إنا رسول رب العالمين " وقوله: " فما منكم من أحد عنه حاجزين " وقال جرير:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وقال آخر:
وكأن بالعينين حب قرنفل ... أو فلفل كحلت به فانهلت
ولم يقل: فانهلتا. وقال مسلم بن الوليد:
ألا أنف الكواعب عن وصالي ... غداة بدا لها شيب القذال
وقال جرير:
وقلنا للنساء به أقيمي
قولهم في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر
قال مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري في شعره الذي أوله:
حبذا ليلنا بتل بونا
ومررنا بنسوة عطرات ... وسماع وقرقف فنزلنا
ما لهم لا يبارك الله فيهم ... حين يسألن منحنا ما فعلنا
وقال آخر: وقد استشهد به سيبويه في كتابه.
فلا ديمة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
فذكر الأرض. وقال نصيب:
أن السماحة والمروءة ضمنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح
وقالت أعرابية:
قامت تبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار وحشية ... قد ذل من ليس له ناصر
وقال أبو نواس:
كمن الشنآن فيه لنا ... ككمون النار في حجره
وإنما ذكرت هذا الباب في كتاب الشعر، لاحتياج الشاعر إليه في شعره واتساعه فيه
باب ما غلط فيه على الشعراء
وأكثر ما أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن، ولكن أصحاب اللغة لا ينصفونهم، وربما غلطوا عليهم، وتأولوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها. فمن ذلك قول سيبويه، واستشهد ببيت في كتابه في إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وأخطأ فيه:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
كذا رواه سيبويه على النصب، وزعم أن إعرابه على معنى الخبر الذي في ليس. وإنما قاله الشاعر على الخفض، والشعر كله مخفوض، فما كان يضطره أن ينصب هذا البيت ويحتال على إعرابه بهذه الحيلة الضعيفة، وإنما الشعر:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد
أكلتم أرضنا فجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد
أتطمع في الخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود
فهبنا أمة هلكت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد

(2/347)

ونظير هذا البيت، ما ذكره في كتابه أيضا واحتج به في باب النون الخفيفة:
نبتم نبات الخيزراني في الثرى ... حديثا متى ما يأتك الخير ينفعا
وهذا البيت للنجاشي. وقد ذكره عمرو بن بحر الجاحظ في فخر قحطان على عدنان. في شعر كله مخفوض، وهو:
أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... بني عامر عني يزيد بن صعصع
نبتم نبات الخيزراني في الثرى ... حديثا متى ما يأتك الخير ينفع
ومثله: قول محمد بن يزيد النحوي المعروف بالمبرد، في كتاب الروضة، وأدرك.
على الحسن بن هانئ قوله:
وما لبكر بن وائل عصم ... إلا بحمقائها وكاذبها
فزعم أنه أراد بحمقائها هبنقة القيسي. ولا يقال في الرجل حمقاء. وإنما أراد دغة العجلية، وعجل في بكر، وبها يضرب المثل في الحمق.
باب من مقاطع الشعر ومخارجه
اعلم بأنك متى ما نظرت بعين الإنصاف، وقطعت بحجة العقل، علمت أن لكل ذي فضل فضله. ولا ينفع المتقدم تقدمه، ولا يضر المتأخر تأخره. فأما من أساء النظم ولم يحسن التأليف فكثير، كقول القائل:
شر يوميها وأغواه لها ... ركبت عنز بحدج جملا
شر يوميها نصب على المحل. وإنما معناه ركبت عنز جملا بحدج في شر يوميها. وكقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
معناه: ما مثل هذا الممدوح في الناس إلا الخليفة الذي هو خاله، فقال: أبو أمه حي أبوه يقاربه. فبعد المعنى القريب، ووعر الطريق السهل، ولبس المعنى بتوعر اللفظ وقبح البنية، حتى ما يكاد يفهم. ومثل هذا، إلا أنه أقرب منه إلى الفهم، قول القائل:
بينما ظل ظليل ناعم ... طلعت شمس عليه فاضمحل
يريد: حتى طلعت شمس عليه. . ومثله قول الآخر:
إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتكل
يريد: على من يتكل عليه. ولله در الأعشى حيث قال في المخبأة:
لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ... ولم تر الشمس إلا دونها الكلل
وأبين منه قول النابغة:
ليست من السود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بأعلى مكة البرما
وقد حذا على مثال قول النابغة بعض المبرزين من أهل العصر، فقال:
ليست من الرمص أشفارا إذا نظرت ... ولا تبيع بفوق الصخرة الرغفا
فقيل له: ما معناك في هذا؟ قال: هو مثل قول النابغة، وأنشد البيت، وقال: ما الفرق بين أن تبيع البرم أو تبيع الرغف، وبين أن تكون رمضاء العينين أو سوداء العقبين. وانظر إلى سهولة معنى الحسن بن هانئ وعذوبة ألفاظه في قوله:
حذر امرئ ضربت يداه على العدا ... كالدهر فيه شراسة وليان
وإلى خشونة ألفاظ حبيب الطائي في هذا المعنى حيث يقول:
شرست بل لنت بل قابلت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهل والجبل
وقد يأتي من الشعر ما لا فائدة له ولا معنى كقول القائل:
الليل ليل والنهار نهار ... والأرض فيها الماء والأشجار
وقال الأعشى:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضى مهلا
وقال إبراهيم الشيباني الكاتب: قد تكون الكلمة إذا كانت مفردة حوشية بشعة، حتى إذا وضعت في موضعها وقرنت مع إخواتها حسنت، كقول الحسن بن هانئ:
ذو حصر أفلت من كر القبل
والكر: كلمة خسيسة، ولاسيما في الرقيق والغزل والنسيب، غير أنها لما وضعت في موضعها حسنت، وكذلك الكلمة الرقيقة العذبة ربما عقبت ونفرت إذا لم توضع في موضعها، مثل قول الشاعر:
رأت رائحا جونا فقامت غريرة ... بمسحاتها جنح الظلام تبادره
فأوقع الجافي الجلف هذه اللفظة غير موضعها، وبخسها حقها حين جعلها في غير مكانها حقا، لأن المساحي لا تصلح للفرائز.

(2/348)

واعلم أنه لا يصلح لك شيء من المنثور والمنظوم إلا أن يجري منه على عرق، وأن يتمسك منه بسبب، فأما إن كان غير مناسب لطبيعتك، وغير ملائم لقريحتك. فلا تنض مطيتك في التماسه، ولا تتعب نفسك في ابتغائه، باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم، فأن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك، ما لم تكن الصناعة ممازجة لذهنك، وملتحمة بطبعك.
واعلم أن من كان مرجعه اغتصاب نظم من تقدمه، واستضاءته بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم تكن معه أداة تولد له من بنات ذهنه ونتائج فكره، الكلام الجزل، والمعنى الحفل، لم يكن من الصناعة في عير ولا نفير، ولا ورد ولا صدر، على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين، ودرس رسائل المتقدمين، هو على كل حال ما يفتق اللسان، ويقوي البيان، ويحد الذهن، ويشحذ الطبع، إن كانت فيه بقية، وهناك خيية.
واعلم أن العلماء شبهت المعاني بالأرواح، والألفاظ بالأجساد واللباب. فإذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزل، وكساه لفظا حسنا، وأعاره مخرجا سهلا، ومنحه دلا مونقا، كان في القلب أحلى، وللصدر أملا. ولكنه بقي عليه أن يؤلفه مع شقائقه وقرنائه، ويجتمع بينه وبين أشباهه ونظائره، وينظمه في سلكه كالجوهر المنثور، الذي إذا تولى نظمه الناظم الحاذق، وتعاطى تأليفه الجوهري العالم، اظهر له بإحكام الصنعة، ولطيف الحكمة، حسنا هو فيه، وكشاه ومنحه بهجة هي له. وكذلك كلما احلولى الكلام، وعذب وراق، وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشد اتصالا بالقلوب، وأخف على الأفواه، لا سيما إذا كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف، لم يسمه التكلف بميسمه، ولم يفسده التعقيد باستهلاكه، كقول ابن أبي كريمة:
قفاه وجه والذي وجهه ... مثل قفاه يشبه الشمسا
فهجن المعنى بتعقيد مخارج الألفاظ. وأخذه الحسن بن هانئ فأوضحه وسهله حيث قال:
بأبي أنت من غزال غرير ... بز حسن الوجوه حسن قفاكا
وكلاهما أخذه من حسان بن ثابت حيث يقول:
قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمك خير من المنذر "
وقد يأتي من الشعر في طريق المدح ما الذم أولى به من المدح، ولكنه يحمل على محمل ما قبله وما بعده، ومثله قول حبيب:
لو خر سيف من العيوق منصلتا ... ما كان إلا على هاماتهم يقع
وهذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح، وإنما يجوز في الذم والنحس، لأنك لو وصفت رجلا بأنه أنحس الخلق لم تصفه بأكثر من هذا. وليس للشجاعة فيه وجه، لأن قولهم: لو خر سيف من السماء لم يقع إلا على رأسه هذا رأس كل نحس.
قولهم في رقة التشبيب
ومن الشعر المطبوع الذي يجري مع النفس رقة، ويؤدي عن الضمير إبانة، مثل قول العباس بن الأحنف:
وليلة ما مثلها ليلة ... صاحبها بالنحس مفجوع
ليلة جئناها على موعد ... نسري وداعي الشوق متبوع
لما خبت نيرانها وانكفأ الس ... امر عنها وهو مصروع
قامت تثنى وهي مرعوبة ... تود أن الشمل مجموع
حتى إذا ما حاولت خطوة ... والصدر بالأرداف مدفوع
بكى وشاحاها على متنها ... وإنما أبكاهما الجوع
فانتبه الهادون من أهلها ... وصار للموعود مرجوع
يا ذا الذي نم علينا لقد ... قلت ومنك القول مسموع
لا تشغليني أبدا بعدها ... إلا ونمامك منزوع
ما بال خلخالك ذا خرسة ... لسان خلخالك مقطوع
عاذلتي في حبها أقصري ... هذا لعمري عنك موضوع
وفي معناه لبشار بن برد:
سيدي لا تأت في قمر ... لحديث وارقب الدرعا
وتوق الطيب ليلتنا ... إنه واش إذا سطعا
وله أيضا:
يقولان لو غربت قلبك لا رعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب

(2/349)

الأصمعي قال: سمع كثير عزة منشدا ينشد شعر جميل بن معمر، الذي يقول فيه:
ما أنت والوعد الذي تعدينني ... إلا كبرق سحابة لم تمطر
تقضى الديون وليس يقضى عاجلا ... هذا الغريم ولست فيه بمعسر
يا ليتني ألقى المنية بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر
يهواك ما عشت الفؤاد وإن أمت ... يتبع صداي صداك بين الأقبر
فقال كثير: هذا والله الشعر المطبوع، ما قال أحد مثل قول جميل، وما كنت إلا راوية لجميل، ولقد أبقى للشعراء مثالا يحتذى عليه.
وسمع الفرزدق رجلا ينشد شعر عمر بن أبي ربيعة الذي يقول فيه:
فقالت وأرخت جانب الستر إنما ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها مالي بهم من ترقب ... ولكن سري ليس يحمله مثلي
حتى انتهى إلى قوله:
فلما تواقفنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
فقال الفرزدق: هذا والله الذي أرادت الشعراء أن تقوله فأخطأته، وبكت على الطلول. وإنما عارض بهذا الشعر جميلا في شعره الذي يقول فيه:
خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
فلم يصنع عمر مع جميل شيئا.
ومن قولنا في رقة النسيب والشعر المطبوع، الذي ليس بدون ما تقدم ذكره:
صحا القلب إلا خطرة تبعث الأسى ... لها زفرة موصولة بحنين
بلى ربما حلت عرى عزماته ... سوالف آرام وأعين عين
لواقط حبات القلوب إذا رنت ... ثمار صدور لا ثمار غصون
برود كأنوار الربيع لسنها ... ثياب تصاب في ثياب مجون
قرين أديم الليل عن نور أوجه ... تجن بها الألباب أي جنون
وجوه جرى فيها النعيم فكللت ... بورد خدود يجتنى بعيون
سألبس للأيام درعا من العزا ... وإن لم يكن عند اللقا بحصين
فكيف ولي قلب إذا هبت الصبا ... أهاب بشوق في الضلوع دفين
ويهتاج منه كل ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم يبت بوكون
وإن ارتياحي من بكاء حمامة ... كذي شجن داويته بشجون
كأن حمام ألأيك حين تجاوبت ... حزين بكى من رحمة لحزين
ومما عارضت به صريع الغواني في قوله:
أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي
فيا حزني أني أموت صبابة ... ولكن على من يحل له قتلي
فديت التي صدت وقالت لتربها ... دعيه، الثريا منه أقرب من وصلي
فقلت على رويه:
أتقتلني ظلما وتجحدني قتلي ... وقد قام من عينيك لي شاهدا عدل
أطلاب ذحلي ليس بي غير شادن ... بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلي
أغار على قلبي فلما أتيته ... أطالبه فيه أغار على عقلي
بنفسي التي ضنت برد سلامها ... ولو سألت قتلي وهبت لها قتلي
إذا جئتها صدت حياء بوجهها ... فتهجرني هجرا ألذ من الوصل
وإن حكمت جارت علي بحكمها ... ولكن ذاك الجور أشهى من العدل
كتمت الهوى جهدي فجرده الأسى ... بماء البكا هذا يخط وذا يملي
وأحببت فيها العذل حبا لذكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذل
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت العز فاصبر على الذل
برأيك لا رأيي تعرضت للهوى ... وأمرك لا أمري وفعلك لا فعلي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سرى الزغاليل
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
مشرفة منتدى السيرة النبويــة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم
سرى الزغاليل


عدد المساهمات : 817
تاريخ التسجيل : 19/08/2012
الموقــــع : موطني العالم الاسلامي

الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي   الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي - صفحة 4 I_icon_minitimeالإثنين ديسمبر 17, 2012 8:41 pm

وجدت الهوى نصلا من الموت مغمدا ... فجردته ثم اتكأت على النصل
فإن كنت مقتولا على غير ريبة ... فأنت التي عرضت نفسي للقتل
فمن نظر إلى سهولة هذا الشعر مع بديع معناه ورقة طبعه، لم يفضله شعر صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم ولا سيما إذا قرن قوله في هذا الشعر:
كتمت الذي ألقى من الحب عاذلي ... فلم يدر ما بي فاسترحت من العذل
يقولي في هذا الشعر:
وأحببت فيها العذل حبا لذكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذل
كتمت الهوى جهدي فجرده الأسى ... بماء البكا هذا يخط وذا يملي
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت فاصبر على الذل
ومن قولنا في رقة النسيب وحسن التشبيب:
كم سوسن لطف الحياء بلونه ... فأصاره وردا على وجناته
ومثله:
يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا ... ورشا بتقطيع القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درا يعود من الحياء عقيقا
ونظير هذا من قولنا في رقة التشبيب وحسن التشبيه البديع الذي لا نظير له، والغريب الذي لم يسبق إليه:
حوارء داعبها الهوى في حور ... حكمت لواحظها على المقدور
نظرت إلي بمقلتي أدمانة ... وتلفتت بسوالف اليعفور
فكأنما غاض الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ منثور
ونظير هذا من قولنا:
أدعو إليك فلا دعاء يسمع ... يا من يضر بناظريه وينفع
للورد حين ليس يطلع دونه ... والورد عندك كل حين يطلع
لم تنصدع كبدي عليك لضعفها ... لكنها ذابت فما تتصدع
من لي بأحور ما يبين لسانه ... خجلا وسيف جفونه ما يقطع
منع الكلام سوى إشارة مقلة ... فبها يكلمني وعنها يسمع
ومثله:
جمال يفوت الوهم في غاية الفكر ... وطرف إذا ما فاه ينطق بالسحر
ووجه أعار البدر حلة حاسد ... فمنه الذي يسود في صفحة البدر
وقال بشار بن برد:
ويح قلبي في حبها مما يجن ... ضاق من كتمانه حتى علن
لا تلم فيها وحسن حبها ... كل ما قرت به العين حسن
وله:
كأنها روضة منورة ... تنفست في أواخر السحر
ولبشار، وهو أشعر بيت قاله المولدون في الغزل:
أنا والله أشتهي سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق
وله:
حوراء إن نظرت إلي ... ك سقتك بالعينين خمرا
وكأنها برد الشرا ... ب صفا ووافق منك فطرا
ولأبي نواس:
وذات خد مورد ... قوهية المتجرد
تأمل العين منها ... محاسنا ليس تنفد
فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولد
وكلما عدت فيه ... يكون في العود أحمد
وله أيضا:
ضعيفة كر الطرف تحسب أنها ... قريبة عهد في الإفاقة من سقم
قولهم في النحول
قال عمر بن أبي ربيعة القرشي يصف نحول جسمه وشحوب لونه في شعره الذي يقول فيه:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر
قليلا على ظهر المطية شخصه ... خلا ما نفى عنه الرداء المحبر
وفي هذا الشعر يقول:
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبت بالعشاء وأنؤر
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروح رعيان ونوم سمر

(2/351)

وخفض في الصوت أقبلت مشية ال ... حباب وركني خيفة القوم أزور
فحييت إذ فاجأتها فتلهفت ... وكادت بمكتوم التحية تجهر
وقالت وعضت بالبنان فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك إذ هنا عليك ألم تخف ... رقيبا وحولي من عدوك حضر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجة ... سرت بك أم قد نام من كنت تحذر
فقلت لها بل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عين من الناس تنظر
فيالك من ليل تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
ويا لك من ملهى هناك ومجلس ... لنا لم يكدره علينا مكدر
يمج ذكي المسك منها مفلج ... رقيق الحواشي ذو غروب مؤشر
يرف إذا تفتر عنه كأنه ... حصى برد أو أقحوان منور
وترنو بعينيها إلي كما رنا ... إلى ربرب وسط الخميلة جؤذر
فلما تقضى الليل إلا أقله ... وكادت توالي نجمه تتغور
أشارت بأن الحي قد حان منهم ... هبوب ولكن موعد لك عزور
فما راعني إلا مناد برحلة ... وقد لاح مفتوق من الصبح أشقر
فلما رأت من قد تنور منهم ... وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
فقلت أباديهم فإما أفوتهم ... وإما ينال السيف ثأرا فيثأر
فقالت أتحقيقا لما قال كاشح ... علينا وتصديقا لما كان يؤثر
فإن كان ما لا بد منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقص على أختي بدء حديثنا ... ومالي من أن يعلما متأخر
لعلهما أن يبغيا لك مخرجا ... وأن يرحبا صدرا بما كنت أحصر
فقالت لأختيها أعينا على فتى ... أتى زائرا والأمر للأمر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا ... أقلي عليك اللوم فالخطب أيسر
يقوم فيمشي بيننا متنكرا ... فلا سرنا يفشو ولا هو يبصر
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي ... ألم تتق الأعداء والليل مقمر
وقلن أهذا دأبك الدهر سادرا ... أما تستحي أم ترعوي أم تفكر
ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة اعترض الناس، فمر به رجل من أهل الشام معه ترس قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشام، مجن ابن أبي ربيعة كان أحسن من مجنك هذا - يريد قول عمر ابن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
وقال أعرابي في النحول "
ولو أن ما أبقيت مني معلق ... بعود ثمام ما تأود عودها
وقال آخر:
إن تسألوني عن تباريح الهوى ... فأنا الهوى وأبو الهوى وأخوه
فانظر إلى رجل أضر به الأسى ... لولا تقلب طرفه دفنوه
وقال مجنون بني عامي في النحول:
ألا إنما غادرت يا أم مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
وللحسن بن هانئ:
كما لا ينقضي الأرب ... كذا لا يفتر الطلب
ولم يبق الهوى إلا ... أقلي وهو محتسب
وسوى أني إلى الحيوا ... ن بالحركات أنتسب
وقال آخر، وهو خالد الكاتب:
هذا محبك نضو لا حراك به ... لم يبق من جسمه إلا توهمه
ومن قولنا في هذا المعنى:
سبيل الحب أوله اغترار ... وآخره هموم وادكار
وتلقى العاشقين لهم جسوم ... براها الشوق لو نفخوا لطاروا
ومثله من قولنا:

(2/352)

لم يبق من جثمانه ... إلا حشاشة مبتئس
قد رق حتى ما يرى ... بل ذاب حتى ما يحس
وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى فأربى على الأولين والآخرين:
يا من تموت عمدا ... فكان للعين أملى
وفي الشعوثة أربى ... فكان أشهى وأحلى
أردت أن تزديك ال ... عيون هيهات كلا
يا عاقد القلب مني ... هلا تذكرت حلا
تركت مني قليلا ... من القليل أقلا
يكاد لا يتجزا ... أقل في اللفظ من لا
ولأبي العتاهية:
تلاعبت بي يا عتب ثم حملتني ... على مركب بي المنية والسقم
ألا في سبيل الله جسمي وقوتي ... ألا مسعد حتى أنوح على جسمي
وله:
ولم تبق مني إلا القليل وما ... أحسبها تترك الذي بقيا
قولهم في التوديع
قال لسعيد بن حميد الكاتب، وكان على الخراج بالرقة: ودعت جارية لي تسمى شفيع، وأنا أضحك وهي تبكي، وأقول لها: إنما هي أيام قلائل. قال: إن كنت تقدر أن تخلف مثل شفيع فنعم. فلما طال بي السفر واتصلت بي الأيام كتبت إليها كتابا وفي أسفله:
ودعتها والدمع يقطر بيننا ... وكذاك كل ملذع بفراق
شغلت بتغييض الدموع شمالها ... ويمينها مشغولة بعناقي
قال: فكتبت إلي في طومار كبير ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم وفي آخره: يا كذاب - وسائر الكتاب أبيض. قال: فوجهت الكتب إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل، وكتبت إليها كتابا على نحو ما كتبت، ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وفي آخره أقول:
فودعتها يوم التفرق ضاحكا ... إليها ولم أعلم بأن لا تلاقيا
فلو كنت أدري أنه آخر اللقا ... بكيت وأبكيت الحبيب المصافيا
قال: فكتبت إلي كتابا آخر ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم في أوله، وفي آخره: أعيذك بالله أن يكون ذلك. فوجهته إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل، فأشخصني إلى بغداد وصيرني إلى ديوان الضياع.
محمد بن يزيد الربعي عن الزبير عن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير المتوكل قال: إنه لما نفاه المتوكل إلى جزيرة أقريطش، فطال مقامه بها، تمتع بجارية رائعة الجمال، بارعة الكمال، فأنسته ما كان فيه من رونق الخلافة وتدبيرها. وكان قبل ذلك متيما بجارية خلفها بالعراق، فسلا عنها. فبينما هو مع الأقريطشية في سرور وحبور يحلف لها أنه لا يفارق البلد ما عاش، إذ قدم عليه كتاب جاريته من العراق، وفيه مكتوب:
كيف بعدي لا ذقتم النوم أنتم ... خبروني مذ بنت عنكم وبنتم
بمراض الجفون من خرد الع ... ين وورد الخدود بعدي فتنتم
يا أخلاي إن قلبي وإن با ... ن من الشوق عندكم حيث كنتم
فإذا ما أبى الإله اجتماعا ... فالمنايا علي وحدي وعشتم
أخذت هذا المعنى من قول حاتم:
إذا ما أتى يوم يفرق بيننا ... بموت فكن أنت الذي تتأخر
فلم يباشر لذة بعد كتابها، حتى رضي عنه المتوكل وصرفه إلى أحسن حالاته. الزبيري قال: حدثني ابن رجاء الكاتب قالت: أخذ مني الخليفة المعتز جارية كنت أحبها وتحبني، فشربا معا في بعض الليالي، فسكر قبلها وبقيت وحدها ولم تبرح من المجلس هيبة له، فذكرت ما كنا فيه من أيامنا، فأخذت العود فغنت عليها صوتا حزينا من قلب قريح، وهي تقول:
لا كان يوم الفراق يوما ... لم يبق للمقلتين نوما
شتت مني ومنك شملا ... فسر قوما وساء قوما
يا قوم من لي بوجد قلب ... يسومني في العذاب سوما
ما لامني الناس فيه إلا بكيت ... كيما أزاد لوما

(2/353)

فلما فرغت من صوتها، رفع المعتز رأسه إليها والدمع يجري على خديها كالفريد انقطع سلكه، فسألها عن الخبر وحلف لها أن يبلغها أملها. فأعلمته القصة. فردها إلي وأحسن إليها وألحقني في ندمائه وخاصته.
وكان لأبي أحمد، صاحب حرب المعتمد، جارية، فكتبت إليه وهو مقيم على العلوي بالبصرة، تقول:
لنا عبرات بعدكم تبعث الأسى ... وأنفاس حزن جمة وزفير
ألا ليت شعري بعدنا هل بكيتم ... فأما بكائي بعدكم فكثير
قال أبو أحمد: فلم يكن لي هم غيرها حتى قفلت من غزاتي.
وكتب مروان بن محمد، وهو منهزم نحو مصر، إلى جارية له خلفها بالرملة:
وما زال يدعوني إلى الصد ما أرى ... فأنأى ويثنيني الذي لك في صدري
وكان عزيزا أن بيني وبينها ... حجابا فقد أمسيت منك على عشر
وأنكاهما والله للقلب فاعلمي ... إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
وأعظم من هذين والله أنني ... أخاف بألا نلتقي آخر الدهر
سأبكيك لا مستبقيا فيض عبرة ... ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر
الزبير بن بكار قال: رأيت رجلا بالثغر وعليه ذلة واستكانة وخضوع، وكان يكثر التنفس، ويخفي الشكوى، وحركات الحب لا تخفى، فسألته وقد خلوت به، فقال وقد تحدر دمعه:
أنا في أمري رشاد ... بين غزو وجهاد
بدني يغزو الأعادي ... والهوى يغزو فؤادي
يا عليما بالعباد ... رد إلفي ورقادي
وقال أعرابي يصف البين:
أدمت أناملها عضا على البين ... لما انثنت فرأتني مع العين
وردعتني إيماء وما نطقت ... إلا بسبابة منها وعينين
وجدي كوجدك بل أضعافه فإذا ... عني تواريت قاب الرمح واحيني
وان سمعت بموتي فاطلبي بدمي ... هواك والبين واستعدي على البين
وقال الآخر،
مالت تودعني والدمع يغلبها ... كما يميل نسيم الريح بالغصن
ثم استمرت وقالت وهي باكية ... يا ليت معرفتي إياك لم تكن
وقال آخر:
أنين فاقد إلف أن في الغلس ... حتى تضايق منه مخرج النفس
فكلما أن من شوق أجال يدا ... على فؤاد له بالبين مختلس
وقال آخر:
أمبتكر للبين أم أنت رائح ... وقلبك ملهوف ودمعك سافح
أالآن تبكي والنوى مطمئنة ... فكيف إذا بارحت من لا تبارح
فإنك لم تبرح ولا شطت النوى ... ولكن صبري عن فؤادي نازح
وقال آخر:
إذا انفتحت قيود البين عني ... وقيل أتيح للنائي سراح
أبت حلقاته إلا انقفالا ... ويأبى الله والقدر المتاح
ومن لي بالبقاء وكل يوم ... لسهم البين في كبدي جراح
وقال محمد بن أبي أمية الكاتب:
يا غريبا يبكي لكل غريب ... لم يذق قبلها فراق حبيب
عزه البين فاستراح إلى الدم ... ع وفي الدمع راحة للقلوب
ختلته حوادث الدهر حتى ... أقصدته منها بسهم مصيب
أي يوم أراك فيه كما كن ... ت قريبا فأشتكي من قريب
وقال أبو الطيامير:
أقول له يوم ودعته ... وكل بعبرته مبلس
لئن رجعت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس
وقال أبو العتاهية:
أبيت مسهدا قلقا وسادي ... أروح بالدموع عن الفؤاد
فراقك كان آخر عهد نومي ... وأول عهد عيني بالسهاد
فلم أر مثل ما سليته نفسي ... وما رجعت به من سوء زادي
وقال محمد بن يزيد التستري:

(2/354)

رفعت جانبا إليك من الكل ... لة قد قابلته طرفا كحيلا
نظرت نظرة الصبابة لا تم ... لك للبين دمعها أن يجولا
ثم ولت وقد تغير ذاك الصب ... ح من خدها فعاد أصيلا
وقال يزيد بن عثمان:
دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب على الخد الأسيل
وجفون تنفث السح ... رمن الطرف الكحيل
إنما يفتضح العا ... شق في يوم الرحيل
وقال علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد الن ... نازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا
يقول في نأيه وغربته ... عدل من الله كل ما صنعا
وقال آخر:
بانو فأضحى الجسم من بعدهم ... ما تبصر العين له فيا
يا أسفي منهم ومن قولهم ... ما ضرك الفقد لنا شيا
بأي وجه أتلقاهم ... إن وجدوني بعدهم حيا
وقال آخر:
أترحل عن حبيبك ثم تبكي ... عليه فمن دعاك إلى الفراق
وقال هدبة العذري:
ألا ليت الرياح مسخرات ... بحاجتنا تباكر أو تؤوب
فتخبرنا الشمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنا الجنوب
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك غان ... ويأتي أهله النائي الغريب
وقال آخر:
لا بارك الله في الفراق ولا ... بارك في الهجر ما أمرهما
لو ذبح الهجر والفراق كما ... يذبح ظبي لما رحمتهما
شربت كأس الفراق مترعة ... فطار عن مقلتي نومهما
يا سيدي والذي أؤمله ... ناشدتك الله أن تذوقهما
وقال حبيب الطائي:
الموت عندي والفرا ... ق كلاهما ما لا يطاق
يتعاونان على النفو ... س فذا الحمام وذا السياق
لو لم يكن هذا كذا ... ما قيل موت أو فراق
وقال آخر:
شتان ما قبلة التلاق ... وقبلة ساعة الفراق
هذي حياة وتلك موت ... بينهما راحة العناق
وقال سعيد بن حميد:
موقف البن مأتم العاشقينا ... لا ترى العين فيه إلا حزينا
إن في البين فرحتين فأما ... فرحتي بالوداع للظاعنينا
فاعتناق لمن أحب وتقبي ... ل ولمس بمحضر الكاشحينا
ثم لي فرحة إذا قدم الن ... ناس لتسليمهم على القادمينا
وقال أعرابي:
ليل الشجي على الخلي قصير ... وبلا المحب على الحبيب يسير
بان الذين أحبهم فتحملوا ... وفراق من تهوى عليك عسير
فلأبعثن نياحة لفراقهم ... فيها تلطم أوجه وصدور
ولألبسن مدارعا مسودة ... لبس الثواكل إذ دهاك مسير
ولأذكرنك بعد موتي خاليا ... في القبر عندي منكر ونكير
ولأطلبنك في القيامة جاهدا ... بين الخلائق والعباد نشور
فبجنة إن صرت صرت بجنة ... ولئن حواك سعيرها فسعير
والمستهام بكل ذاك جديد ... والذنب يغفر والإله شكور
ومن قولنا في البين:
هيج البين دواعي سقمي ... وكسا جسمي ثوب الألم
أيها البين أقلني مرة ... فإذا عدت فقد حل دمي
يا خلي الذرع نم في غبطة ... إن من فارقته لم ينم
ولقد هاج لقلبي سقما ... ذكر من لو شاء داوى سقمي
ومن قولنا في المعنى:

(2/355)

ودعتني بزفرة واعتناق ... ثم نادت متى يكون التلاق
وتصدت فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني مت قبل يوم الفراق
ومن قولنا فيه:
فررت من اللقاء إلى الفراق ... فحسبي ما لقيت وما ألاقي
سقاني البين كأس الموت صرفا ... وما ظني أموت بكف ساقي
فيا برد اللقاء على فؤادي ... أجرني اليوم من حر الفراق
وقال مجنون بني عامر:
وإني لمفن دمع عيني من البكا ... حذارا لأمر لم يكن وهو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفي إلا أن ما حان حائن
وقال أبو هشام الباهلي:
خليلي غدا لا شك فيه مودع ... فوالله ما أدرى غدا كيف أصنع
فواحزني إن لم أودعه غدوة ... ويا أسفا إن كنت فيمن يودع
فإن لم أودعه غدا مت بعده ... سريعا وإن ودعت فالموت أسرع
أنا اليوم أبكيه فكيف به غدا ... أنا في غد والله أبكى وأجزع
لقد سخنت عيني وجلت مصيبتي ... غداة غد إن كان ما أتوقع
فيا يوم لا أدبرت هل لك محبسويا غد لا أقبلت هل لك مدفع
وقال بشار بن برد:
نبت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
أقول وليلتي تزداد طولا ... أما لليل بعدكم نهار
وقال المعتصم، لما دخل مصر وذكر جارية له:
غريب في قرى مصر ... يقاسي الهم والسقما
لليل كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما
وقال آخر:
وداعك مثل وداع الربيع ... وفقدك مثل افتقاد الديم
عليك سلام فكم من ندى ... ففدناه منك وكم من كرم
قولهم في الحمام
قال أبو الحسن الأخفش: قالت جحدر العكلي، وكان لصا:
وقدما هاجني فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على عودين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير داني
وقال آخر:
وتفرقوا بعد الجميع لأنه ... لا بد أن يتفرق الجيران
لا تصبر الإبل الجلاد تفرقت ... بعد الجميع ويصبر الإنسان
وقال آخر:
فهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب
وإذا رجعت الإبل الحنين كان ذلك أحسن صوت يهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لصوت الحمام. وقال عوف بن محلم:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح
وكل مطوقة عند العرب حمامة، كالدبسي والقمري والورشان، وما أشبه ذلك، وجمعها حمام، ويقال حمامة، للذكر والأثنى، كما يقال بطة، للذكر والأنثى. ولا يقال حمام إلا في الجمع. والحمامة تبكي وتغني وتنوح وتغرد وتسجع وتقرقر وتترنم، وإنما لها أصوات سجع لا تفهم فيجعله الحزين بكاء ويجعله المسرور غناء. وقال حميد بن ثور:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وترنما
مطوقة خطباء تسجع كلما ... دنا الصيف وانزاح الربيع فأنجما
تغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في نوحها متلوما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما
وقال مجنون بني عامر في الحمام:
ألا يا حمامات اللوى عدن عودة ... فإني إلى أصواتكن حزين

(2/356)

فعدن فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأشجاني لهن أبين
لم تر عيني مثلهن بواكيا ... بكين فلم تذرف لهن عيون
وقال حبيب في هذا المعنى:
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام
وقال:
كما كاد ينسى عهد ظمياء باللوى ... ولكن أملته علي الحمائم
بعثن الهوى في قلب من ليس هائما ... فقل في فؤاد رعنه وهو هائم
لها نغم ليست دموعا فإن علت ... مضت حيث لا تمضي الدموع السواحم
ومن قولنا في الحمام:
فكيف ولي قلب إذا هبت الصبا ... أهاب بشوق في الضلوع مكين
ويهتاج منه كلما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون
وكان ارتياحي من بكاء حمامة ... كذي شجن داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت ... حزين بكى من رحمة لحزين
ومن قولنا في المعنى:
ونائح في غصون الأيك أرقني ... وما عنيت بشيء ظل يعنيه
مطوق بخضاب ما يزايله ... حتى تفارقه إحدى تراقيه
قد بات يبكي بشجو ما دريت به ... وبت أبكي بشجو ليس يدريه
ومن قولنا فيه:
أناحت حمامات اللوى أم تغنت ... فأبدت دواعي قلبه ما أجنت
فديت التي كانت ولا شيء غيرها ... منى النفس لو يقضى لها ما تمنت
ومن قولنا:
لقد سجعت في جنح ليل حمامة ... فأي أسى هاجت على الهائم الصب
لك الويل كم هيجت شجوا بلا جوى ... وشكوى بلا شكوى وكربا بلا كرب
وأسكبت دمعا من جفون مسهد ... وما رقرقت منك المدامع بالسكب
وقال ذو الرمة:
رأيت غرابا ناعبا فوق بانة ... من القضب لم ينبت لها ورق نضر
فقلت غراب لاغتراب وبانة ... لبين النوى هذي العيافة والزجر
قولهم في طيب الحديث
قال عدي بن زيد العبادي:
في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذي مشار
وقال القطامي:
فهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
وقال جران العود:
فنلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل أو أبكار كرم تقطف
وقال آخر:
وإنا ليجري بيننا حين نلتقي ... حديث له وشي كوشي المطارف
وقال بشار:
وكأن نشر حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا
وله:
لئن عشقت أذني كلاما سمعته ... رخيما فقلبي إذا لا شك باللحظ أعشق
وكيف تناسى من كأن كلامه ... بأذني ولو عريت قرط معلق
وقال بشار أيضا:
وبكر كنوار الربيع حديثها ... يروق بوجه واضح وقوام
وقال آخر:
كأنما عسل رجعان منطقها ... إن كان رجع كلام يشبه العسلا
وقال آخر:
وحديث كأنه زهر الرو ... ض وفيه الصفراء والحمراء
قولهم في الرياض
أنشد أحمد بن جدار للمعلى الطائي:
كأن عيون الروض يذرفن بالندى ... عيون يراسلن الدموع على عذل
وقال البحتري:
شقائق يحملن الندى فكأنه ... دموع التصابي في خدود الخرائد
ومن لؤلؤ كالأقحوان منضد ... على نكت مصفرة كالفرائد
وقال أيضا:
وقد نبه النيروز في غلس الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها برد الندى فكأنه ... ينث حديثا كان قبل مكتما

(2/357)

ومن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيا منمنما
وقال أعشى بكر:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
وأنشد ابن أبي طاهر لنفسه:
فتقت جيوب الروض منها ديمة ... حلت عزاليها صبا وقبول
ولها عيون كالعيون نواظر ... تبدو فمنها أمره وكحيل
وقال الأخطل الصغير:
خلع الربيع على الثرى من وشيه ... حللا يظل بها الثرى يتخيل
نور إذا مرت الصبا فيه الندى ... خلت الزبرجد بالفريد يفصل
فكأنها طورا عيون كحل ... وكأنها طورا عيون همل
وقال أبو نواس:
يوم تقاصر واستتب نعيمه ... في ظل ملتف الحدائق أخضرا
وإذا الرياح تنسمت في روضة ... نثرت به مسكا عليه وعنبرا
وأنشد ابن مسهر لابن أبي زرعة الدمشقي يقول:
وقد لبست زهر الرياض حليها ... وتجللت الأرض الفضاء الزخارف
لجين وعقبان ودر وجوهر ... تؤلفه أيدي الربيع اللطائف
وأنشد البحتري لنفسه:
قطرات من السحاب وروض ... نثرت وردها عليها الخدود
فكأن الحوذان والأقحوان ال ... غض نظمان لؤلؤ وفريد
وأنشد ابن جدار للمعلى:
ترى للندى فيه مجالا كأنما ... نثرت عليه لؤلؤ فتبددا
وأنشد ابن الحارثي لنفسه:
وما روضة علوية أسدية ... منمنة زهراء ذات ثرى جعد
سقاها الندى في عقب جنح من الدجى ... فنوارها يهتز بالكوكب السعد
بأحسن من حر تضمن حاجة ... لحر فأوفى بالنجاح مع الوعد
وأنشد محمد بن عمار للحسن بن وهب، يقول:
طلعت أوائل للربيع فبشرت ... نور الرياض بجدة وشباب
وغدا السحاب مكللا جو الثرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب
فترى السماء إذا أجد ربابها ... فكأنما التحفت جناح غراب
وترى الغصون إذا الرياح تناوحت ... ملتفة كتعانق الأحباب
وقال حبيب بن أوس الطائي:
الروض ما بين مغبوق ومصطبح ... من ريق مكتفلات بالثرى دلح
وطف إذا وكفت في روضة طفقت ... عيون نوارها تبكي من الفرح
وأنشد البحتري في دمشق:
إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا
يمسي السحاب على أجبالها فرقا ... ويصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفا خضلا ... أو يانعا خضرا أو طائرا غردا
كأنما القيظ ولى بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا
أنشد ابن أبي طاهر لأشجع:
بين الكنائس والأرواح مطرد ... للعين يلعب فيه الطرف والبصر
في رقعة من رقاع الأرض يعمرها ... قوم على أبويهم أجمعت مضر
وأنشد علي بن الحمم لعلي بن الخليل:
وروضة في ظلال دسكرة ... جداول الماء في جوانبها
تستن في روضة منورة ... يغرد الطير في مشاربها
كأن فيها الحلي والحلل ال ... يمنة تهدى إلى مرازبها
وقال إبراهيم بن العباس الكاتب:
تأمل سماء أطلت علي ... ك فيها مصابحها تزهر
وأرضا تقابلها كالعرو ... س والموج بينهما جعفر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الكتاب : العقد الفريد المؤلف : ابن عبد ربه الأندلسي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 4 من اصل 5انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» كيف تختارين زوج المستقبل وفق الكتاب والسنة
» الكتاب : من روائع حضارتنا مصطفى السباعي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ياسمين الشام :: ياسمين الشام الاسلامــــــــيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة :: المنتدى الاسلامي العام-
انتقل الى: